في عالم تتسارع فيه التوترات الدولية، يبرز التهديد الأمريكي الأخير بالتدخل العسكري في نيجيريا كتضارب بين المصالح الإستراتيجية والإنسانية، وتُعتبر نيجيريا دولة تعجّ بالتنوع الثقافي والديني، وهي أكبر اقتصاد في إفريقيا وأكثرها نفطًا، وفجأة أصبحت مُهدَّدة بشبح التدخل العسكري الأمريكي؛ فقد أعلن الرئيس دونالد ترامب في أواخر شهر أكتوبر الماضي أنه أمر وزارة الحرب بالاستعداد لعملية عسكرية “سريعة” في نيجيريا، مُهدِّدًا بنشر قوات أو تنفيذ ضربات جوية؛ إذا لم تُوقِف الحكومة ما وصفه بـ”القتل المنهجي للمسيحيين” على يد “الإرهابيين” مثل بوكو حرام وداعش.
هذا التصعيد لم يأتِ من فراغ؛ فقد أدرجت واشنطن نيجيريا على قائمة “الدول المثيرة للقلق الخاص” بشأن حرية الدين، مستندة إلى تقارير عن هجمات عنيفة أودت بحياة آلاف في الشمال؛ حيث يُقتل المسيحيون بأعداد قياسية؛ بحسب الرواية الأمريكية.
لكنّ نيجيريا نفت وجود “إبادة جماعية” دينية، مؤكدة أن الإرهاب يستهدف الجميع دون تمييز، ورحبت بالمساعدة الأمريكية شريطة احترام سيادتها. هذا التهديد ليس مجرد ردّ فِعْل عابر؛ إنه يعكس توازنًا دقيقًا بين الضغط الإنساني والأهداف الجيوسياسية، وسط مخاوف من أن يؤدي إلى زعزعة الاستقرار في غرب إفريقيا؛ حيث يعتمد العالم على نفط نيجيريا بما يقرب من 2 مليون برميل يوميًّا.
يأتي هذا التصعيد في توقيتٍ حساس، مع تصاعد التوترات العالمية بعد الانتخابات الأمريكية، ويثير تساؤلات عميقة: هل هو دفاع عن الأقليات الدينية، أم خطوة لتعزيز الهيمنة الأمريكية في القارة الإفريقية؟ أم أنه سَعْي للوصول إلى موارد نيجيريا كتحقيق لأهداف اقتصادية أمريكية في المنطقة؟ أم أن الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك، ويمتد إلى حرب نفوذ داخل القارة الإفريقية؟
الدوافع الأمريكية للتدخل العسكري في نيجيريا:
ترتبط الولايات المتحدة مع نيجيريا بعلاقات تعاونية منذ حصول نيجيريا على استقلالها في ستينيات القرن الماضي، وقد شهدت العلاقة بين البلدين تفعيل التعاون الاقتصادي والسياسي والأمني، لا سيما في مجال مكافحة الإرهاب؛ إلا أن العلاقة بين البلدين مُهدّدة بالتحول من علاقات تعاونية إلى تدخُّل عسكري أمريكي في نيجيريا.
ويمكن تقسيم الدوافع الأمريكية إلى معلنة وغير معلنة كالآتي:
1– دوافع الولايات المتحدة المعلنة للتدخل العسكري في نيجيريا
صنّف ترامب نيجيريا بأنها دولة مثيرة للقلق؛ حيث يُطلق هذا التصنيف على الدول المتورطة في انتهاكات جسيمة للحريات الدينية، وقد صرح بأن المسيحية في نيجيريا تُواجه تهديدات وجودية نتيجة تقاعس الحكومة النيجيرية عن توفير الحماية للمسيحيين من الهجمات الإرهابية التي يُنظّمها تنظيم بوكو حرام، وتنظيم الدولة في غرب إفريقيا.
تنقسم نيجيريا إلى شمال ذي أغلبية مسلمة، وجنوب ذي أغلبية مسيحية؛ حيث يبلغ عدد سكان نيجيريا في 2025م نحو 273 مليون نسمة (50% منهم مسلمون و40 % مسيحيون و10% ديانات أخرى)، ونتيجة لتلك النسب المتقاربة لا يمكن وصف المسحيين في نيجيريا بالأقلية أو الفئة المضطهدة دينيًّا؛ حيث يمثل عددهم نسبة مقاربة للمسلمين.
ظهر الإرهاب في شمال نيجيريا على يد تنظيم بوكو حرام؛ نتيجةً للفقر والتهميش السياسي مقارنةً بالجنوب الغني بالنفط، مما أدى إلى ترسيخ التنظيمات الإرهابية بشمال نيجيريا؛ نتيجة لذلك تعرَّض الشمال النيجيري ذي الأغلبية المسلمة إلى العديد من الهجمات الإرهابية، خاصةً عمليات الاختطاف مقابل الحصول على الفدية. وقد رصد (ACLED) عدد القتلى ما بين عامي 2015 إلى 2023م نحو 13 ألف مسيحي، بينما عدد القتلى الإجمالي لنفس الفترة يصل إلى 50 ألف قتيل بما يعكس تعرُّض كلتا الطائفتين للهجمات الإرهابية على حد سواء.
وتُظهر أبحاث مركز (بيانات مواقع وأحداث الصراعات المسلحة) أنه من بين 1923 هجومًا على مدنيين في نيجيريا حتى الآن هذا العام، بلغ عدد الهجمات التي استهدفت مسيحيين بسبب دينهم 50 هجومًا. وتتعدى الهجمات في نيجيريا الهجمات الإرهابية وصولاً إلى الهجمات بين الرعاة المسلمين في غالبيتهم والمزارعين المسيحيين في غالبيتهم، وينبع ذلك الصراع من خلافات على مصادر المياه ومناطق الرعي، ولا علاقة لتلك الخلافات بالمعتقدات الدينية([1]).
2– دوافع الولايات المتحدة غير المعلنة للتدخل العسكري في نيجيريا
رغم أن الإدارة الأمريكية تُبرّر تهديدها بالتدخل العسكري في نيجيريا بدعوى أنها تحمي الأقليات الدينية خاصةً المسيحية وتكافح الإرهاب، إلا أن التحليلات تكشف عن دوافع ترتبط بالمصالح الاقتصادية والإستراتيجية، هذه الأسباب غير معلنة رسميًّا لتجنُّب الاتهامات بالاستعمار الجديد، يأتي من أبرزها:
أ- السيطرة على الموارد النفطية والطاقة: نيجيريا تُنتج أكثر من 2 مليون برميل نفط يوميًّا مما يجعلها ثاني أكبر مُنتِج في إفريقيا. الولايات المتحدة تريد ضمان تدفق مستقر لهذا النفط خاصةً مع ارتفاع الأسعار العالمية في 2025م بسبب التوترات في الشرق الأوسط. التدخل يمكن أن يحمي الاستثمارات الأمريكية في حقول نيجيريا (مثل تلك التابعة لـChevron وExxonMobil)، ويمنع أي اضطرابات قد تؤثر على الأسواق العالمية.
ب- مواجهة النفوذ الصيني والروسي المتزايد: الصين استثمرت مليارات في نيجيريا عبر “مبادرة الحزام والطريق”، بما في ذلك بناء موانئ وشق طرق، بينما روسيا تقدم أسلحة ودعمًا عسكريًّا للحكومة. واشنطن ترى في التدخل فرصة لإعادة توازن القوى مستخدمة الإرهاب كذريعة لتعزيز التحالفات الأمريكية وإضعاف الشركاء المنافسين، كما حدث في أنغولا سابقًا.
ﺠ- الضغط الاقتصادي والسيطرة على الديون: نيجيريا مدينة بأكثر من 100 مليار دولار، جزء كبير من هذه الديون لمؤسسات أمريكية مثل البنك الدولي وصندوق النقد. التهديد بالتدخل يمكن أن يكون أداة لفرض إصلاحات اقتصادية مواتية لأمريكا، مثل خصخصة الموارد أو تسهيل الاستثمارات الأجنبية، وسط مخاوف من انهيار العملة النيجيرية (النايرا).
د- تعزيز السيطرة الأمنية الإقليمية: بتدخلها تسعى أمريكا إلى إنشاء قواعد عسكرية دائمة في غرب إفريقيا مشابهة لتلك في جيبوتي؛ لمراقبة الإرهاب عبر الصحراء الكبرى. وهذا يمنع انتشار الجماعات المتطرفة إلى دول أخرى مثل مالي أو النيجر، ويحمي طرق التجارة البحرية في خليج غينيا، الذي يشهد قرصنة متزايدة تكلف الاقتصاد العالمي مليارات.
ھ -الاعتبارات الداخلية الأمريكية في فترة رئاسة ترامب الثانية يُستخدم هذا التهديد لتعزيز الصورة الانتخابية كـ”مدافع عن المسيحيين”؛ مما يجذب دعم اليمين المسيحي داخل أمريكا، خاصةً مع الانتخابات النصفية القادمة.
دلالات اختيار توقيت تهديد أمريكا بالتدخل العسكري في نيجيريا:
تصنّف الولايات المتحدة نيجيريا دولةً مثيرةً للقلق تجاه انتهاكات للحريات الدينية منذ 2021م؛ إلا أن الرئيس ترامب هدَّد بتدخل عسكري ضد الدولة النيجيرية في 2025م؛ أي: بعد ما يقرب من أربع سنوات، فما هي دوافع ترامب لاختيار ذلك التوقيت؟
سعى ترامب عن طريق السيناتور الجمهوري “تيد كروز” بالضغط على الكونجرس من خلال الأعضاء المسيحيين للحصول عل موافقة تسمح له بالتدخل العسكري في نيجيريا؛ للحصول على تأييد المسيحيين لترامب بعد تدني المؤشرات المؤيدة له نتيجة السياسة الخارجية التي تنتهجها الولايات المتحدة في أثناء الفترة الثانية للرئيس ترامب([2]).
السيناريوهات المحتملة للتدخل العسكري الأمريكي في نيجيريا:
1– السيناريو الأول: التهديد فقط باستخدام القوة العسكرية
ويعتبر هذا السيناريو هو الأقرب للواقع؛ حيث بدأ الرئيس ترامب منذ توليه لفترة رئاسته الثانية للولايات المتحدة الاعتماد على التهديد باستخدام القوة العسكرية كأداة ضغط سياسي لتحقيق مكاسب إستراتيجية واقتصادية، ولا تتم على أرض الواقع؛ فقد هدَّد الرئيس ترامب كوريا الشمالية بالنار والغضب إذا ما استمرت في اتخاذ سياسات من شأنها تهديد مصالح الولايات المتحدة، وأيضًا قام بتهديد فنزويلا بتدخل عسكري لحل الأزمة السياسية، وقد هدَّد العديد من المرات لغزة إذا لم يتم عودة الأسرى ولم يُنفّذ ترامب أيًّا من تلك التهديدات؛ رغم عدم انصياع الدول المُهدَّدة للشروط التي يضعها ترامب للتدخل العسكري.
وبعد تهديد ترامب لنيجيريا واتخاذ نيجيريا لسياسية التهدئة من المتوقع أن تبحث نيجيريا عن مخرج لتلك الأزمة؛ من خلال إرسال رسائل طمأنة تضمن معالجة أبرز المشكلات التي تشغل الجانب الأمريكي، وعلى رأسها ضمان استمرار تدفق النفط للولايات المتحدة، والحفاظ على المصالح الاقتصادية الأمريكية، مع الإعلان عن إجراءات داخلية من شأنها توفير الحماية للمسيحيين من الهجمات الإرهابية من خلال المزج بين إجراءات أمنية وسياسية.
2– السيناريو الثاني: تنفيذ بعض الضربات الجوية
يعتمد السيناريو الثاني على تنفيذ تهديدات الرئيس ترامب؛ من خلال استهداف التنظيمات الإرهابية في نيجيريا بالضربات الجوية، من خلال استغلال القيادة الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم)، ويمكن أن تتم تلك الضربات باستخدام القاعدة الجوية الأمريكية الموجودة في النيجر، والتي تعد أقرب قاعدة جوية لنيجيريا، ولكن سيبقى أمام الولايات المتحدة تحدّي توفير المعلومات عن أماكن تمركز وتحركات تلك التنظيمات الإرهابية، والتي يوجد نقص واضح بها؛ بما يُصعّب رصد تحركات تلك التنظيمات، ويجعل الضربات الجوية غير مجدية؛ إلا أن الولايات المتحدة قد تضرب أهدافًا غير معلنة؛ بهدف حماية مصالحها، واستخدام تلك الضربات الجوية بهدف زيادة نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة وإثبات وجودها بالقوة العسكرية.
ومن المنتظر في ذلك السيناريو أن تقوم نيجيريا بالتنسيق مع الولايات المتحدة بشأن الضربات الجوية لاستهداف التنظيمات الإرهابية في أماكن تجمعها، أو تدريبها لتحقيق أقصى استفادة من الضربات الجوية الأمريكية، وإثبات سيادة الدولة على أرضها، وعدم التورط في مأزق سياسي مع الولايات المتحدة.
3– السيناريو الثالث: التدخل بقوات برية لمكافحة الإرهاب
يُعتبر هذا السيناريو هو الأبعد عن التنفيذ؛ حيث يمكن للولايات المتحدة التدخل بقوات برية لمكافحة الإرهاب في نيجيريا، وعادةً ما تتجنَّب الولايات المتحدة التدخل البري في حالات مكافحة الإرهاب؛ لتوفير الحماية لقواتها، وعدم وجود خبرة عملياتية لدى تلك القوات في مكافحة الإرهاب، وكذا عدم الدراية الكافية بطبيعة الأرض في أماكن الغابات التي يصعب معها نجدة أو إخلاء القوات التي قد تتعرض لهجمات إرهابية، وقد اكتفت الولايات المتحدة بالتنسيق الاستخباراتي والمعلوماتي بشأن التنظيمات الإرهابية.
فى حالة حدوث ذلك السيناريو ستتعامل نيجيريا مع ذلك التدخل العسكري بدبلوماسية؛ حيث يمكن أن ترحب الحكومة النيجيرية به، بل يصل الأمر للتعاون مع القوات الأمريكية في تنفيذ العمليات البرية ضد التنظيمات الإرهابية؛ لعدم انفراد الولايات المتحدة بالعمليات البرية في نيجيريا، والتأثير على سيادتها على أرضها.
فى النهاية، تجد نيجيريا نفسها أمام أزمة سياسية مع الولايات المتحدة التي تسعى لحماية مصالحها ومحاربة النفوذ الصيني والروسي المتنامي في القارة الإفريقية، بما يتطلب إدارة تلك الأزمة بدبلوماسية تُمكِّن الإدارة النيجيرية من انتهاج سياسية الخروج الآمِن من الأزمة دون المساس بسيادتها أو سياستها الخارجية التي تعتمد على أنها الدولة القائد لدول غرب إفريقيا، مع تفعيل إجراءات أمنية وسياسية من شأنها الحد من انتشار العمليات الإرهابية وتوفير الحماية لمواطنيها سواء من المسلمين أو المسيحيين.
…………………
[1] -الجزيرة مباشر، ترامب يأمر بالاستعداد لعمل عسكري محتمل في نيجيريا لوقف العنف ضد المسيحيين، على الرابط التالي: https://www.aljazeeramubasher.net/news/2025/11/2/%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D9%85%D8%A8-%D9%8A%D8%A3%D9%85%D8%B1-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B9%D8%AF%D8%A7%D8%AF-%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%84-%D8%B9%D8%B3%D9%83%D8%B1%D9%8A و
[2] – Andrea Shalal and Camillus Eboh , Trump threatens US military action in Nigeria over treatment of Christians , reuters , https://www.reuters.com/world/china/trump-says-christians-face-existential-threat-nigeria-adds-country-watch-list-2025-10-31/











































