تمهيد:
تُظهر نتائج الانتخابات الرئاسية في ساحل العاج لعام 2025 مشهدًا سياسيًا معقدًا تتقاطع فيه الشرعية الدستورية مع التحديات الديمقراطية. ففوز الرئيس الحاكم الحسن واتارا بولاية رابعة بنسبة كاسحة جاء وسط مناخ من الجدل حول نزاهة العملية الانتخابية وإقصاء أبرز المنافسين. هذه النتيجة تُعيد طرح الأسئلة القديمة حول حدود التمديد في الحكم في القارة الإفريقية، ومدى قدرة الأنظمة القائمة على تجديد شرعيتها من خلال صناديق الاقتراع بدلًا من الاعتماد على القوة السياسية والمؤسسية. ويبدو أن هذا الفوز، رغم قوته الرقمية، يعكس هشاشة سياسية داخلية أكثر من كونه تعبيرًا عن إجماع شعبي حقيقي، في ظلّ غياب المنافسة الفعلية واحتقان شعبي تجاه استمرار نفس النخبة في السلطة منذ أكثر من عقد.[1]
أظهرت الأرقام الرسمية التي أعلنتها اللجنة الانتخابية المستقلة أن الرئيس الحسن واتارا فاز بنسبة 89.77% من الأصوات، متقدمًا بفارق شاسع عن منافسيه الأربعة، فقد حصل المرشح جان-لويس بيلون على 3.09%، وجاءت سيمون غباغبو، زوجة الرئيس الأسبق، في المرتبة الثالثة بنسبة 2.42%، بينما نالت المرشحتان هنرييت لاغو أجووا وأهوا دون ميلو نسبًا هامشية لا تتجاوز الواحد في المئة. ورغم مشاركة نحو 50% من الناخبين المسجلين، فإن هذه الأرقام تعكس فوزًا شكليًا أكثر منه تنافسيًا، إذ حُرم من الترشح كل من الرئيس الأسبق لوران غباغبو ورجل الأعمال البارز تيدجان تيام، ما أفقد السباق الانتخابي مضمونه الديمقراطي، وترك الساحة مفتوحة أمام واتارا لتجديد ولايته دون تحدٍّ جاد.[2]
من الناحية السياسية، يمثل هذا الفوز استمرارًا لنهج واتارا في ترسيخ حكمه القائم منذ عام 2011، والذي يعتمد على مزيج من التنمية الاقتصادية والاستقرار الأمني من جهة، وضبط المعارضة وإضعافها من جهة أخرى. فبينما يشير أنصاره إلى إنجازات اقتصادية لافتة، من تحسين البنية التحتية إلى جذب الاستثمارات الأجنبية، فإن معارضيه يرون أن تلك النجاحات لم تنعكس بعد على حياة المواطنين اليومية. البطالة بين الشباب وارتفاع تكاليف المعيشة وتزايد الفوارق الطبقية تُشكل مظاهر متزايدة لعدم الرضا الشعبي، ما يجعل من فوز واتارا الكبير في صناديق الاقتراع فوزًا محاطًا بشكوك اجتماعية عميقة حول مدى تمثيله الحقيقي للإرادة الشعبية.
أما على الصعيد الإقليمي، فإن فوز واتارا في انتخابات تفتقر إلى التنافسية يعيد طرح مسألة الاستقرار مقابل الديمقراطية في غرب إفريقيا. فبينما تُشيد بعض القوى الدولية باستمرار النمو الاقتصادي واستتباب الأمن في ساحل العاج، تحذر منظمات حقوقية ومحللون من أن تهميش المعارضة واحتكار السلطة سيقودان إلى أزمات مؤجلة. ومع تصاعد التهديدات الأمنية القادمة من منطقة الساحل وتزايد التململ الداخلي، يبدو أن الرئيس العجوز البالغ من العمر 83 عامًا يواجه تحديًا مزدوجًا: الحفاظ على الاستقرار في ظل نظام سياسي يفتقر إلى الانفتاح، وتأمين انتقال سلمي للسلطة في المستقبل القريب لتفادي تكرار سيناريوهات الفوضى التي عاشتها البلاد بعد انتخابات 2010.[3]
تثير نتائج انتخابات ساحل العاج لعام 2025 تساؤلات جوهرية حول مستقبل الديمقراطية في البلاد، إذ يبدو أن العملية الانتخابية تحولت من أداة لتجديد الشرعية السياسية إلى وسيلة لترسيخ حكم الفرد والحزب المهيمن. فالإقصاء الممنهج للمعارضين البارزين مثل لوران غباغبو وتيدجان تيام، واعتقال المئات من أنصار المعارضة، يعكس اتجاها متناميًا نحو إغلاق المجال السياسي وتضييق مساحة المشاركة العامة. هذا المشهد يعزز الشعور الشعبي بأن العملية الديمقراطية في ساحل العاج باتت شكلية، تخضع لإدارة مؤسساتية محسوبة أكثر من كونها تنافسًا حقيقيًا على السلطة. وبالرغم من محاولات واتارا تبرير استمراره في الحكم بـ«الاستقرار والتنمية»، فإن التاريخ السياسي للبلاد يُظهر أن تهميش الأصوات المعارضة يؤدي غالبًا إلى انفجارات اجتماعية مفاجئة، خصوصًا في مجتمع شاب يعاني البطالة واللامساواة. ومن ثم، فإن شرعية النظام القادم قد تبقى معلقة على قدرته في تحقيق مصالحة وطنية حقيقية، لا على نسب الفوز الانتخابي وحدها.
المحور الاول: المشهد الانتخابي في البلاد
عكست الانتخابات الرئاسية في ساحل العاج لعام 2025 مشهدًا سياسيًا متناقضًا بين الهدوء التنظيمي والاحتقان السياسي الكامن تحت السطح. فقد جرت العملية الانتخابية في أجواء ظاهرها الانضباط والأمن، لكنها حملت في طياتها شعورًا عامًا بعدم الحماس واللامبالاة السياسية. أحكمت السلطات سيطرتها الميدانية، فغابت الاحتجاجات الواسعة وحضرت القيود الصارمة على النشاطات المعارضة، ما جعل يوم الاقتراع يمرّ بسلاسة تقنية، لكنه افتقر إلى الحيوية الديمقراطية الحقيقية. نسبة المشاركة التي لم تتجاوز 50 في المئة كشفت عن عزوف واضح لدى الناخبين، خصوصًا في المناطق الحضرية الكبرى، نتيجة فقدان الثقة في جدوى التصويت أمام مشهد سياسي مغلق. وهكذا عكست الانتخابات لحظة استقرار شكلي تغلّفه مظاهر الانضباط الأمني، لكنها في جوهرها كشفت أزمة ثقة عميقة بين المواطن والنظام السياسي القائم.[4]
أثناء سير العملية الانتخابية، بدا المشهد منضبطًا تقنيًا لكنه محدود سياسيًا، إذ لم يُسجل عنف واسع كما في الدورات السابقة، غير أن غياب المنافسة الفعلية أفرغ الاقتراع من مضمونه. الحسن واتارا، البالغ من العمر 83 عامًا، دخل السباق في مواجهة أربعة مرشحين لم يملك أيٌّ منهم دعمًا حزبيًا قويًا أو قاعدة شعبية واسعة. ومع استبعاد أبرز شخصيات المعارضة، أصبحت العملية أقرب إلى استفتاء على بقائه في السلطة. المراكز الانتخابية فتحت أبوابها في ظل حضور أمني كثيف، وتغطية إعلامية رسمية متحكم بها، بينما شكا مراقبون محليون من محدودية الشفافية في فرز الأصوات وإعلان النتائج الجزئية. ومع ذلك، سارعت اللجنة الانتخابية إلى إعلان فوز واتارا بنسبة 89.77%، وهي نتيجة لم تفاجئ أحدًا بقدر ما أكدت طغيان البنية السلطوية على جوهر العملية الديمقراطية.[5]
ردود الفعل الداخلية عقب إعلان النتائج انقسمت بين احتفال رسمي بالنصر واستنكار معارض يشكك في شرعية العملية. فالمعسكر الحاكم قدّم الفوز بوصفه “تفويضًا شعبيًا جديدًا للاستقرار والتنمية”، بينما وصفه خصومه بأنه “انقلاب مدني مغلف بالدستور”. المعارضة التي كانت مشتتة قبل الانتخابات حاولت بعد إعلان النتائج توحيد خطابها تحت راية “رفض الاعتراف بالنتائج”، معتبرة أن إقصاء المرشحين الكبار وتقييد الحملات الانتخابية أفرغا التصويت من مضمونه. وفي الشارع، بدت ردة الفعل باردة، إذ لم تشهد البلاد احتجاجات واسعة، ما يعكس تراجع ثقة المواطنين في جدوى الاعتراض السياسي، أو ربما خوفهم من العودة إلى مشاهد العنف التي أعقبت انتخابات 2010 و2020.
على الصعيد الدولي، جاءت ردود الفعل حذرة ومتوازنة، إذ رحبت بعض العواصم الإفريقية بفوز واتارا معتبرة أن “الانتخابات جرت في أجواء سلمية”، في حين أعربت منظمات حقوقية غربية وإقليمية عن قلقها من “انحسار التعددية السياسية” و“الاستعمال المفرط للقانون لإقصاء المنافسين”. الاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوروبي اكتفيا بالدعوة إلى “التهدئة واحترام نتائج المؤسسات”، بينما شددت منظمات مراقبة الانتخابات مثل الاتحاد من أجل الديمقراطية في إفريقيا على أن “الهدوء لا يعني الشرعية”. وهكذا بدت الانتخابات الإيفوارية وكأنها تُرضي الخارج شكليًا بحفاظها على الاستقرار، لكنها داخليًا تُعمّق أزمة الثقة السياسية وتؤسس لمرحلة من الجمود الديمقراطي تحت غطاء الشرعية القانونية.[6]
بعد إعلان النتائج، دخلت ساحل العاج مرحلة ما بعد الانتخابات وهي تتأرجح بين استمرارية الحكم ومخاوف التآكل السياسي. فالرئيس واتارا يواجه الآن اختبارًا أصعب من الفوز نفسه: كيف يدير بلداً منقسمًا على شرعية حكمه؟ الخطاب الرسمي ركّز على المصالحة والإصلاح الاقتصادي، لكن غياب الثقة بين السلطة والمعارضة يجعل هذه الوعود أقرب إلى شعارات تهدئة منها إلى برامج تنفيذية. في المقابل، يتزايد التململ الاجتماعي، خصوصًا بين فئة الشباب التي ترى أن الاستقرار الاقتصادي لم يتحول إلى فرص عمل أو تحسين في مستوى المعيشة. وفي ظل غياب إصلاحات سياسية حقيقية تفتح الباب أمام التناوب السلمي، تبقى نتائج انتخابات 2025 نقطة مفصلية تُحدد ما إذا كانت ساحل العاج ستستمر في دورة “الاستقرار السلطوي”، أم ستبدأ مسارًا بطيئًا نحو استعادة ثقة مواطنيها بالعملية الديمقراطية.
المحور الثاني: فشل المعارضة في الإجماع على مرشح واحد
أحد العوامل الحاسمة التي مهدت الطريق لفوز الرئيس الحسن واتارا بولاية رابعة هو فشل قوى المعارضة في توحيد صفوفها خلف مرشح توافقي قادر على مجابهة هيمنة الحزب الحاكم. هذا التشرذم السياسي كشف عمق الانقسامات الأيديولوجية والشخصية داخل المعسكر المعارض، وأضعف من قدرته على خوض معركة انتخابية منظمة وفعالة. فبدل أن تقدم المعارضة بديلاً مقنعًا ومشروعًا سياسيًا جامعًا، دخلت الانتخابات مشتتة الأصوات والقيادات، مما منح واتارا مساحة واسعة لتعبئة قاعدته السياسية بأقل مقاومة. ولعل أبرز هذه الأسباب ما يلي: [7]
- تضارب المصالح الشخصية والطموحات القيادية: أبرز ما أعاق المعارضة هو تضارب الطموحات الفردية لزعمائها، إذ سعى كل طرف لتصدر المشهد دون تقديم تنازلات من أجل بناء تحالف وطني قوي. هذه النزعة الذاتية جعلت من الصعب الاتفاق على مرشح يمثل الجميع. فالشخصيات السياسية البارزة مثل لوران غباغبو وتيجان تيام وجان-لويس بيلون، رغم إدراكها لضرورة الوحدة، لم تتمكن من تجاوز الخلافات حول الزعامة والمكاسب المستقبلية. هذا الصراع على القيادة قاد إلى انقسام الأصوات المعارضة وتراجع فاعليتها في مواجهة الرئيس واتارا الذي استفاد من ضعف التنسيق ليظهر بمظهر الخيار المستقر.
- غياب رؤية سياسية موحدة وبرنامج مشترك: لم تطرح المعارضة رؤية سياسية أو برنامجًا جامعًا يُقنع الناخب الإيفواري بأن التغيير ممكن ومفيد. فالأحزاب المعارضة دخلت السباق بخطابات متناقضة، بعضها يركز على تصحيح المسار الديمقراطي، وأخرى ترفع شعارات اقتصادية واجتماعية ضبابية. هذا الغموض في المضمون جعل الناخبين يفقدون الثقة بقدرة المعارضة على إدارة الدولة في حال فوزها. على النقيض، نجح واتارا في تسويق نفسه كرمز للاستقرار والنمو، بينما فشلت المعارضة في تقديم بديل متماسك يربط بين الديمقراطية والتنمية، مما أفقدها القدرة على اجتذاب القاعدة الوسطى.
- الانقسام التاريخي بين التيارات الحزبية: التجربة السياسية في ساحل العاج أظهرت أن المعارضة ما زالت أسيرة لخلافات تاريخية بين رموزها وأحزابها، خصوصًا بين أنصار غباغبو ومنافسيه داخل الجبهة الشعبية الإيفوارية، إضافة إلى الانقسام بين التيار اليساري والقومي والليبرالي. هذه الانقسامات المتجذرة، الموروثة منذ أزمات التسعينيات والحرب الأهلية، منعت أي تقارب حقيقي في المواقف. وبدل أن تتوحد الجهود في معركة ديمقراطية واحدة، تمسكت كل جهة برؤيتها الخاصة للسلطة والهوية الوطنية، وهو ما سهّل على النظام القائم تفكيك صفوفهم واستغلال التناقضات لصالحه.
- ضعف البنية التنظيمية للأحزاب المعارضة: العديد من أحزاب المعارضة تعاني من ضعف مؤسسي واضح، فهي تفتقر إلى الموارد المالية والتنظيمية القادرة على تحريك الشارع أو خوض حملة انتخابية فعالة. كما أن غياب الهياكل المحلية الفاعلة والمكاتب الميدانية قلل من قدرتها على الوصول إلى القرى والمناطق الريفية، حيث يحظى واتارا بدعم قوي. في المقابل، اعتمد الحزب الحاكم على شبكة تنظيمية متماسكة تمتد في جميع أنحاء البلاد. هذا التفاوت في البنية التنظيمية جعل المعارضة تبدو غير قادرة على المنافسة الحقيقية، رغم الخطاب الإعلامي الحاد الذي ترفعه.
- تشتت القاعدة الشعبية المعارضة بين الولاءات القديمة: ظلت القواعد الشعبية للمعارضة موزعة بين رموز تاريخية فقدت بريقها السياسي وأجيال جديدة تبحث عن خطاب مختلف. فأنصار غباغبو ما زالوا يرفضون التحالف مع من يعتبرونهم مسؤولين عن إقصائه، في حين لا يثق بعض الشباب في القيادات القديمة المتهمة بالفساد أو الفشل. هذا الانقسام بين الأجيال والتيارات جعل من المستحيل تكوين كتلة انتخابية متجانسة قادرة على مضاهاة نفوذ الحزب الحاكم، خصوصًا في ظل ضعف أدوات التواصل الحديثة لدى المعارضة.
- القيود القانونية والإقصاء السياسي الذي زاد الانقسام: إقصاء شخصيات مؤثرة مثل لوران غباغبو وتيجان تيام من الترشح زاد من حدة الانقسام داخل المعارضة بدل أن يوحدها. فبدلاً من التوافق على مرشح بديل يمثل الجميع، دخلت بقية الشخصيات سباقًا محسومًا في ظل تشتت الصفوف. كما أن التضييق الحكومي والاعتقالات قبل الانتخابات أدت إلى غياب التنسيق، حيث ركزت القوى المعارضة على النجاة السياسية أكثر من بناء تحالف انتخابي. وهكذا، لعبت القيود القانونية والسياسية دورًا مضاعفًا في تفكيك صف المعارضة وتعزيز موقع واتارا الانتخابي.
المحور الثالث: التحديات التي ستواجه الرئيس في ولايته الجديدة
يدخل الرئيس الحسن واتارا ولايته الرابعة وسط بيئة سياسية وأمنية واقتصادية بالغة التعقيد، تُختبر فيها قدرته على تحويل النصر الانتخابي إلى تفويضٍ فعليٍّ ومستقرٍّ. فرغم أن نتائج الاقتراع أظهرت تفوقًا ساحقًا، فإن شرعية هذا الفوز لا تخلو من الجدل بسبب مقاطعة المعارضة وإقصاء أبرز رموزها، ما يفرض على الرئيس مهمة صعبة في استعادة الثقة الوطنية وتبديد الانقسامات القديمة. كما يواجه واتارا تحدياتٍ عميقة تتعلق بتنامي المخاطر الأمنية القادمة من منطقة الساحل، وضغوط اقتصادية متزايدة، وملفات اجتماعية ملحّة تمس حياة المواطنين اليومية. لذا، فإن المرحلة المقبلة ستكون اختبارًا حقيقيًّا لقدرة النظام على موازنة الاستقرار مع الإصلاح، وضمان انتقال سياسي آمن في المستقبل.[8]
- أزمة الشرعية السياسية وتآكل الثقة الشعبية: أولى التحديات تتمثل في استعادة الثقة المفقودة بين السلطة والمجتمع. فالإقصاء الذي طال شخصيات المعارضة وتراجع نسبة المشاركة الانتخابية جعلا جزءًا من المواطنين ينظر إلى العملية السياسية بوصفها مغلقة أمام التغيير. واتارا مطالب اليوم بإعادة بناء الشرعية عبر مبادرات حوار وطني شاملة تُعيد المعارضة إلى الحقل السياسي وتمنح المجتمع المدني دورًا أوسع. إن فشل النظام في ذلك قد يؤدي إلى تراكم الإحباط الشعبي، بما ينعكس على استقرار النظام ذاته ويضعف قدرته على تنفيذ أجندته التنموية.
- تصاعد المخاطر الأمنية على الحدود الشمالية: تمثل التهديدات الأمنية المتزايدة من الجماعات المسلحة في مالي وبوركينا فاسو تحديًا وجوديًّا. فتمدّد نشاط تنظيمات مثل “نصرة الإسلام والمسلمين” و“داعش في الصحراء الكبرى” نحو شمال ساحل العاج يفرض ضغطًا مضاعفًا على الجيش والموارد. ورغم تعزيز الإنفاق الدفاعي وتوسيع التعاون الإقليمي، إلا أن الحل الأمني وحده لا يكفي. تحتاج الحكومة إلى مقاربة شاملة تربط الأمن بالتنمية المحلية في المناطق الحدودية، من خلال تحسين الخدمات والبنية التحتية وتوفير فرص العمل للشباب، لتجفيف منابع التطرف وتحويل الشمال من منطقة هشاشة إلى جدار استقرار.
- إدارة الاقتصاد وتضخم الديون وتفاوت التنمية: تُواجه ساحل العاج تحديًا اقتصاديًا كبيرًا يتمثل في ارتفاع الدين العام إلى نحو 60% من الناتج المحلي، وتراجع أثر النمو على الفئات الضعيفة. ورغم الإنجازات في البنية التحتية والاستثمار الأجنبي، إلا أن التفاوت الجهوي والاجتماعي ما زال حادًا. ويُنتظر من واتارا خلال ولايته الجديدة إعادة توجيه السياسات الاقتصادية نحو النمو الشامل، عبر تنويع مصادر الدخل، وتشجيع الصناعات المحلية، وتعزيز شبكات الأمان الاجتماعي. فاستمرار الاعتماد على النمو غير المتوازن قد يخلق احتقانًا اجتماعيًا ويقوّض الاستقرار الذي يفاخر به النظام.
- الانقسام السياسي وضرورة المصالحة الوطنية: لا يمكن لأي استقرار أن يستمر في ظل انقسام النخب السياسية واحتقان الشارع. فالأزمة بين معسكري واتارا وغباغبو ما زالت تُلقي بظلالها على المشهد العام. تحتاج البلاد إلى عملية مصالحة وطنية حقيقية تتجاوز الشعارات وتستند إلى اعتراف متبادل بالأخطاء، وإصلاح منظومة العدالة الانتقالية. ففتح قنوات الحوار مع التيارات المعارضة المعتدلة، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وتضميد الجراح القديمة، سيشكل حجر الزاوية في بناء ثقة جديدة بين الدولة والمجتمع. من دون هذه المصالحة، ستظل البلاد تعيش تحت طيف الماضي.
- تحدي الإصلاح المؤسسي وضمان حياد المؤسسات: تُعد مسألة استقلال القضاء ونزاهة اللجنة الانتخابية من أبرز التحديات أمام واتارا. فاتهامات “تسييس المؤسسات” أضعفت صورة النظام أمام الداخل والخارج. على الرئيس أن يُثبت جديته في فصل السلطات وتفعيل الرقابة البرلمانية وتعزيز الشفافية في التعيينات والإجراءات الحكومية. إصلاح هذه المنظومة لا يهدف فقط إلى تحسين سمعة الدولة، بل إلى تأسيس شرعية مؤسساتية مستدامة تُجنّب البلاد الأزمات المتكررة في كل استحقاق انتخابي. فكل تأجيل في هذا الملف يُضعف الثقة العامة ويغذي دعوات التغيير خارج الأطر الديمقراطية.
- ضغوط الشباب والبطالة المتصاعدة: يشكل الشباب أكثر من نصف سكان ساحل العاج، إلا أن معدلات البطالة بينهم مرتفعة بشكل خطير. الإحباط الاقتصادي يولّد شعورًا بالإقصاء، ويدفع بعضهم إلى الهجرة أو الانضمام إلى جماعات احتجاجية وربما متطرفة. أمام واتارا فرصة لإعادة توجيه سياسات التعليم والتدريب نحو سوق العمل، وتشجيع ريادة الأعمال والمشاريع الصغيرة. كما أن إدماج الشباب في الحياة السياسية والاقتصادية يُعد ركيزة أساسية لتثبيت الاستقرار الاجتماعي. فالمستقبل السياسي والاقتصادي للبلاد مرتبط بمدى استجابة السلطة لتطلعات هذه الفئة الصاعدة.
- إدارة العلاقات الإقليمية والدولية في بيئة متغيرة: يأتي فوز واتارا في مرحلة تشهد فيها المنطقة تحولات جذرية، خصوصًا مع انسحاب فرنسا وإعادة رسم التحالفات الأمنية في غرب إفريقيا. على الرئيس أن يوازن بين الشراكات التقليدية مع الغرب والانفتاح على قوى جديدة كالصين وتركيا وروسيا دون الإضرار بمصالح بلاده. كما أن دوره الإقليمي كفاعل في مكافحة الإرهاب وتثبيت الاستقرار في الساحل سيحدد مكانة ساحل العاج في المعادلة الإفريقية الجديدة. إدارة هذه العلاقات بحكمة ستعزز مكانة أبيدجان كقوة استقرار إقليمية، بينما أي انحياز مفرط قد يعرّضها لضغوط سياسية واقتصادية.
المحور الرابع: مستقبل المشهد السياسي خلال الولاية الجديدة
تبدو ملامح المرحلة المقبلة في ساحل العاج مرهونة بقدرة النظام السياسي على تحويل فوز الحسن واتارا إلى فرصة لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع. فبعد انتخابات مثيرة للجدل، يواجه النظام اختبارًا حقيقيًا بين خيارين متناقضين: إما ترسيخ نموذج “الاستقرار السلطوي” الذي يضمن السيطرة قصيرة المدى، أو الانفتاح التدريجي نحو إصلاح سياسي يضمن بقاء النظام على المدى الطويل. ويتوقف المسار المستقبلي على مدى استعداد السلطة لاستيعاب المعارضة في العملية السياسية، وإطلاق إصلاحات مؤسسية تُعيد التوازن بين الشرعية القانونية والشرعية الشعبية. وفي ظلّ بيئة إقليمية مضطربة ومطالب اجتماعية متزايدة، فإن السنوات المقبلة ستكون حاسمة في تحديد مستقبل الديمقراطية الإيفوارية. ولعل أبرز الملامح ما يلي:
- مشهد الاستقرار السلطوي واستمرار النهج القائم: السيناريو الأرجح هو استمرار نهج واتارا في ترسيخ نموذج “الاستقرار عبر السيطرة”، حيث يركّز النظام على حفظ الأمن والنمو الاقتصادي دون انفتاح سياسي حقيقي. هذا النموذج يمنح البلاد استقرارًا سطحيًا لكنه يحمل في طياته هشاشة طويلة المدى، إذ يُبقي التوترات مكبوتة ويُفاقم أزمة الثقة بين الحاكم والمحكوم. كما أن استمرارية الإقصاء السياسي وضعف الحريات العامة قد يفضيان إلى تراكم الغضب الشعبي، خصوصًا مع تفاقم البطالة وتزايد الفجوات الاجتماعية. نجاح هذا السيناريو مشروط بقدرة الدولة على ضبط التوازن بين القوة والشرعية، دون أن تنزلق إلى استبداد صريح أو احتجاجات مفاجئة.
- مشهد الإصلاح التدريجي والانفتاح السياسي: قد يختار واتارا في ولايته الأخيرة مسار “الإصلاح المتدرج”، سعيًا إلى تأمين إرث سياسي إيجابي وتخفيف الضغوط الداخلية والدولية. ويتضمن هذا السيناريو خطوات محسوبة نحو توسيع المشاركة السياسية، كإطلاق حوار وطني، وإشراك المعارضة المعتدلة في مؤسسات الحكم، وإجراء تعديلات قانونية تُعزّز الشفافية الانتخابية. ورغم أن هذه الإصلاحات ستكون محدودة في البداية، إلا أنها قد تفتح الباب أمام تحوّل تدريجي نحو انتقال سياسي منظم بعد انتهاء عهد واتارا. نجاح هذا المسار يعتمد على إرادة حقيقية من القيادة، وقدرتها على إقناع الأجهزة الأمنية والنخب الحزبية بجدوى الانفتاح كخيار لبقاء الدولة لا تهديد لها.
- مشهد الاحتقان والاضطراب السياسي المحتمل: إذا استمرت حالة الإقصاء السياسي وتجاهلت السلطة مطالب الإصلاح، فإن البلاد قد تواجه موجات احتجاجية جديدة، خاصة بين فئة الشباب المحبطة من انسداد الأفق. في هذا السيناريو، يمكن أن تتطور التظاهرات السلمية إلى مواجهات محدودة تُذكّر بأحداث 2010، خصوصًا إذا ترافق الغضب الداخلي مع أزمة اقتصادية أو اضطراب أمني على الحدود الشمالية. وقد تجد المعارضة في الشارع وسيلة للعودة إلى المشهد، مما يعيد البلاد إلى دوامة التوتر السياسي. لتجنّب هذا المصير، يحتاج النظام إلى إجراءات استباقية تفتح قنوات المشاركة وتمنح المواطنين شعورًا بأن صوتهم ما زال مؤثرًا في صناعة القرار.
- مشهد الانتقال المنظم لما بعد واتارا: بحكم تقدّمه في السن واحتمال عدم ترشحه مجددًا، سيُشكّل ملف الخلافة السياسية التحدي الأكبر خلال السنوات القادمة. فإدارة انتقال هادئ للسلطة داخل الحزب الحاكم أو عبر توافق وطني واسع ستكون حاسمة لتجنّب فراغ مؤسسي أو صراع داخلي. يمكن لواتارا أن يختار إعداد خلفٍ سياسي من داخل حزبه لضمان الاستمرارية، أو أن يفتح المجال لتداول سلمي حقيقي يرمم الثقة بالعملية الديمقراطية. نجاح هذا السيناريو سيحوّل الولاية الرابعة إلى مرحلة عبور آمن نحو نظام أكثر توازنًا، أما فشلها فسيعيد إنتاج الأزمة البنيوية التي لازمت السياسة الإيفوارية منذ مطلع الألفية.
ختامًا، وفي ضوء ما سبق، يمكن القول إن انتخابات ساحل العاج لعام 2025 لم تكن مجرد استحقاق سياسي عابر، بل محطة مفصلية ستحدد ملامح العقد القادم في البلاد. فالفوز الكاسح للرئيس الحسن واتارا يعكس توازنًا هشًا بين شرعية الإنجاز الاقتصادي وغياب التعددية السياسية، ويضع النظام أمام تحدي إثبات قدرته على التحول من سلطة مهيمنة إلى دولة مؤسسات. إن مستقبل الاستقرار الإيفواري لن يُقاس بنسبة الأصوات، بل بمدى قدرة السلطة على فتح المجال أمام المشاركة والإصلاح والمصالحة الوطنية. فإما أن تتحول الولاية الرابعة إلى جسر نحو انتقال سياسي منظم يكرّس الديمقراطية المستدامة، أو تبقى البلاد أسيرة نموذج “الاستقرار المقيد” الذي يؤجل الأزمات دون أن يعالج جذورها، في انتظار انفراجٍ سياسيٍ تفرضه ضغوط الداخل قبل الخارج.
……………………..
[1] Loucoumane Coulibaly and Ange Aboa, Ivory Coast’s Ouattara secures fourth term with landslide election win, reuters. https://www.reuters.com/world/africa/ivory-coast-president-ouattara-wins-re-election-provisional-results-say-2025-10-27/
[2] Wedaeli Chibelushi and Thomas Naadi,Ivory Coast president, 83, secures fourth term after two rivals barred, BBC. https://www.bbc.com/news/articles/cddrzl9nmm2o
[3] Saikou Jammeh, Ivory Coast President Secures 4th Term in Election Without Top Opponents, The New York Times. https://www.nytimes.com/2025/10/27/world/africa/ivory-coast-president-election-ouattara-wins.html
[4] Incumbent President Ouattara declared winner of Ivory Coast election, Al Jazeera Media Network. https://www.aljazeera.com/news/2025/10/27/incumbent-president-ouattara-declared-winner-of-ivory-coast-election
[5]Ivory Coast President Secures 4th Term in Election Without Top Opponents, ibid.
[6] Eromo Egbejule, Alassane Ouattara wins landslide fourth term as Ivory Coast’s president. https://www.theguardian.com/world/2025/oct/27/alassane-ouattara-wins-landslide-fourth-term-as-ivory-coasts-president
[7] Hadrien Degiorgi, Présidentielle : en Côte d’Ivoire, Alassane Ouattara l’emporte sans suspense et signe pour un quatrième mandat, lepoint. https://www.lepoint.fr/afrique/presidentielle-en-cote-d-ivoire-alassane-ouattara-l-emporte-sans-suspense-et-signe-pour-un-quatrieme-mandat-27-10-2025-2601887_3826.php
[8] هل تمثل الانتخابات الرئاسية في ساحل العاج فرصة التغيير؟، مركز تريندز للأبحاث. https://shorturl.at/QUk2G











































