تكشف المتابعة اللصيقة للميديا الغربية، وتناولها للتدهور الأمني الحالي في إفريقيا؛ تكثيف إلقاء الضوء على دور روسيا في تعميق هشاشة الأمن في إفريقيا، على نحوٍ قاد إلى مزيد من التآكل في العديد من الدول الإفريقية، ولا سيما في الساحل الإفريقي وجمهورية إفريقيا الوسطى (حيث يتمركز الوجود العسكري الروسي عبر “فيالق إفريقيا”).
وبطبيعة الحال يجب فَهْم توجُّه الميديا الغربية في ضوء الحرب الإعلامية المتبادلة بين الغرب وروسيا، على خلفية استمرار الحرب في أوكرانيا والصراع على النفوذ في إفريقيا.
يتناول المقال الأول دور روسيا في إدارة مصالحها في إقليم الساحل وإفريقيا عبر توظيف الحرب الإعلامية بأدواتها الحديثة نسبيًّا في عنوان لافت حول “الدُّبّ ومزرعة البوتات” Bots Farm في إشارة للتنكولوجيا الحديثة وتجلياتها في وسائل التواصل الاجتماعي.
أما المقال الثاني فيتعرض لمسألة دور المرتزقة الروس في إفريقيا في انتهاك قواعد العمل الدولي متمثلةً هنا في “معاهدات السلاح الدولية”.
ويأتي المقال الثالث في السياق نفسه متعمدًا على تحليلٍ بثّه موقع “دويتش فيله” الألماني لاختراق المرتزقة الروس لقواعد هذه المعاهدات المذكورة، وتحليل تقرير صادر عن المبادرة العالمية ضد الجريمة المنظمة الدولية Global Initiative Against Transnational Organized Crime (GI-TOC) بهذا الخصوص.
الدُّبّ ومزرعة “البوتات”: مواجهة الحرب الروسية الهجين في إفريقيا([1])
تدفّق بمرور الوقت آلاف العملاء الروس ووكلاؤهم وصحفيو المنافذ الإعلامية التي يهيمن عليها الكرملين والصحفيون المنحازون والمؤثرون المأجورون لنَسْج حكاية مفروضة عن إفريقيا.
وفي هذه الفانتازيا تم تصوير روسيا على أنها بطلة الحرية والسيادة والكرامة الإفريقية. كما تُظْهِر فلاديمير بوتين كتفًا بكتف مع القادة الثوريين، تمامًا كما فعل قادة الاتحاد السوفييتي السابق. وتم تصوير الجنود الروس على أنهم رفاق صناديد يقاتلون إلى جانب القوات الإفريقية ضد المتمردين الذين يُموّلهم الغرب. وكذلك تُصوَّر أوكرانيا على أنها دولة فاشية مقيتة؛ فيما يتم تصوير روسيا على أنها القوة التي تدعم غيرها، وتقاوم النظام الدولي النيوكولونيالي الذي يعمل على إبقاء إفريقيا ضعيفة ومعتمدة على المعونات.
وتبدو هذه السردية أكثر وضوحًا من أيّ مكان في العالم في بوركينا فاسو. وقد بات الرئيس البوركيني إبراهيم تراوري، -منذ استيلائه على السلطة في سبتمبر 2022م، وهو في عمر السابعة والثلاثين-، الزعيم الرمز في إفريقيا والغرب.
ويُظْهِر المحتوى على تيك توك، وإنستجرام، ويوتيوب بوركينا فاسو وهي تُطوِّر “أول سيارة كهربائية محلية الصنع في إفريقيا”، وتقيم مصرفًا مركزيًّا، وتتخلّص من ديون صندوق النقد الدولي، وتقوم بنهضة صناعية، فيما أن أيًّا من ذلك ليس حقيقيًّا. وتثير البروباغندا المزيفة ادعاءات أن “تراوري” قد رفض دعوة الرئيس دونالد ترامب له لزيارة واشنطن، وتُروِّج لأن فرنسا والولايات المتحدة تسعيان “للقضاء” عليه.
كما يبدو أن الرئيس الشاب قد تلقَّى إشادات مولدة بالذكاء الاصطناعي من شخصيات مثل البابا ليو الرابع عشر، وريحانا، وامينيم وبيونسيه، بينما استُخدمت خطابات تراوري المولدة بالذكاء الاصطناعي كذخيرة سياسية في أماكن بعيدة أشد البعد عن بلاده، مثل بابوا نيو غينيا وجزر سولومون. وفي الوقت نفسه فإن مؤثرين أجانب نشروا فيديوهات سياحية لمالي.
وتبدو بصمات أصابع روسيا، على نحوٍ لا يثير الدهشة، واضحةً في هذه الحملة. وقد أظهرت صحيفة لوموند الفرنسية، في أواخر العام 2023م، أن عملاء روسيا قد تغلغلوا في جهاز الاستخبارات في بوركينا فاسو لمساعدة المجلس العسكري في مراقبة المناوئين، وإدارة عمليات تأثير وتدريب رجال بروباغندا من بوركينا فاسو نفسها على مثل هذه الأنشطة. كما قام تراوري من جانبه بتقارب غير مسبوق مع روسيا التي بدأت في العام 2024م في نشر عناصر عسكرية في بلاده.
وبينما بارك مراقبون سذج ابتعاد بوركينا فاسو الملحوظ عن الغرب، فإن الحقيقة على الأرض كانت مكشوفة. إذ كان تراوري يعاني في سبيل السيطرة على الأراضي المحيطة بالمراكز العمرانية الرئيسة، وما وراءها، وبات الآن كثير من المحللين الأفارقة والأوروبيين يخشون من إمكان سقوط (العاصمة) واغادوغو في أيدي جماعات مسلحة.
بينما يُحذّر آخرون من سيناريو التقسيم أو السيناريو الصومالي؛ حيث يقتصر نفوذ الحكومة على العاصمة المنيعة فحسب. وثمة تقارير أسبوعية عن الخسائر العسكرية الثقيلة والحالة المعنوية المتدهورة بين صفوف القوات البوركينية، مما يرسم صورة دولة على حافة الانهيار.
وتقع بوركينا فاسو (حاليًّا) في فجوة بين الخيال والحقيقة هي الأوسع؛ لكن في كل دولة إفريقية، حيث تدخلت روسيا أو تولت دور الضامن الأمني؛ فإن الأزمات شهدت تعميقًا ملحوظًا. فالأسلحة التي تُقدّمها موسكو دون شروط تكون في الغالب أسلحة رديئة. كما أن الدعم الاقتصادي ضئيل للغاية، ونادرًا ما تصل المعونات الغذائية. فقد خدع عملاء روسيا الآلاف من المواطنين في استرقاق فِعْلي سواء عبر القتال على الخطوط الأمامية في أوكرانيا أو العمل في الذخيرة أو مصانع المُسيَّرات. وفي الوقت نفسه فإن عمليات التشويه الإعلامي واسع النطاق تقوم بإعادة تشكيل الخطاب العام وتحجيم عقود من التقدم الديمقراطي الذي تم نَيْله بصعوبة بالغة.
إن هدف موسكو بسيط للغاية: فرض ضغوط على الحكومات –بشكل صريح أو غير صريح-؛ لتغيير ساساتها الخارجية، والحثّ على انقلابات على هوى مصالح موسكو وبَذْر التشوش بين الأفارقة في الشتات في الغرب؛ “إنهم يريدون مزيدًا من النُّظُم العَمِيلة في الدول الإفريقية الأخرى، ولا يمانعون في دعم الانقلابات للوصول على هناك”؛ حسبما قال أحد وزراء الخارجية الأفارقة.
المرتزقة الروس في إفريقيا يضاعفون من أزمة التحكم في السلاح([2]) :
تُهدّد الدول التي تبيع أسلحة لدول إفريقية تعمل فيها الشركات الروسية العسكرية الخاصة (PMCs) بانتهاك قواعد التحكم في الأسلحة العالمية، كما كشف تقرير إخباري صادر عن المبادرة العالمية ضد الجريمة المنظمة الدولية Global Initiative Against Transnational Organized Crime (GI-TOC).
وأبرزت نتائج التقرير وجود فجوة في نظم مراقبة الأسلحة العالمية، والتي تفتقر لنظم تضع يدها على الخط المشوش بين شركات الأمن الخاصة والجيوش الوطنية، وكذلك الفارق المضطرب بين الصراع والجريمة المنظمة. وتتيح تلك النقطة العمياء للمرتزقة الاستيلاء على الأسلحة من مستهلكيها المستهدفين، واستخدامها في ارتكاب جرائم حرب حسب تقرير “المبادرة العالمية”.
ولطالما اتُّهمت مجموعة فاغنر بارتكاب مذابح وتعذيب واغتصاب ضد المدنيين منذ تدخلها بدايةً في مالي بناء على طلب المجلس العسكري الحاكم، وكذلك نهب مجتمعات وابتزاز صناعات مثل قطاع تعدين الذهب المربح في الإقليم. وبعد نشر مجموعة المرتزقة، تضاعف عدد الضحايا من المدنيين في مالي بين عامي 2021 و2024م مقارنةً بالسنوات السابقة.
ولم يصل المرتزقة الروس إلى البلاد بكامل عتادهم. ووفقًا لصور ومقابلات مفتوحة المصدر أجرتها “المبادرة العالمية” مع مصادر في مالي؛ فإن مجموعة فاغنر استحوذت على أسلحة عبر القتال والسرقة من مخازن القوات المسلحة المالية الرسمية. وأتاح ذلك لفاغنر العمل على نحو أكثر تحفظًا وبتعاون وثيق مع القوات المسلحة المالية، بينما وفَّرت أموال موسكو حسبما قالت جوليا ستانيارد J. Stanyard، كبيرة محللي بالمبادرة العالمية لموسكو تايمز.
“لقد عمل المرتزقة على توسيع نفوذ روسيا في إفريقيا مع عدد صغير من الجنود والمعدات”، مضيفة أن ذلك يعكس حقيقة أنهم لا يعملون على نحو يمكن لأيّ فاعل دولي آخر في إفريقيا العمل على نَسَقه.
ويشمل ذلك عربات مسلحة تُقدّمها كلّ من الصين والإمارات ونيجيريا وفرنسا، وأسلحة محمولة على عربات من الصين؛ بل وأكَّدت تقارير العثور على مسيرات بيرقدار التركية الهجومية في قواعد فاغنر. وقالت وزارة الدفاع التركية: إن أيّ تقارير باستخدام طرف ثالث للبيرقدار غير قائمة على “بيان رسمي أو أدلة واضحة”؛ يجب ألا تُعدّ ذات مصداقية تُذْكَر.
ووفقًا لباحثين فإن اختيار هذه المعدات يمكن أن يُمثِّل انتهاكًا لمعاهدة تجارة الأسلحة Arms Trade Treaty التي تتطلب من مُصدِّري السلاح وعملائهم اتخاذ إجراءات لضمان أن أسلحتهم لن تُستخدَم ضد مدنيين أو في ارتكاب جرائم حرب.
وقد صادقت مالي والصين ونيجيريا وفرنسا على هذه المعاهدة، لكنّ الإمارات وتركيا لم تُصادقا عليها بعدُ، مما يعني اعتمادهما على إجراءات السيطرة على السلاح محليًّا لمراقبة صادرات الأسلحة. وقد سبقت الكثير من عمليات نقل السلاح تاريخ وصول فاغنر إلى مالي. لكنّ الصين وتركيا والإمارات باعت جميعها معدات عسكرية لمالي بعد وصول فاغنر، وثَمَّ شواهد ظهرت الآن على استخدامها هذه الأسلحة.
وأكّد باحثون في “المبادرة العالمية” أنه ثمة معلومات علنية كافية في وقت هذه الشحنات بأن المُصدِّرين قد “قاموا بتقييم كافٍ” أنه ثمة تهديد باستخدام المرتزقة للأسلحة التي صدّروها (لمالي). وأعلنت فاغنر في يونيو 2025م أنها ستنسحب من مالي؛ لأنها “أكملت مهمتها في تلك الدولة”، وحل محلها فيالق إفريقيا
Africa Corps التي تشرف عليها وزارة الدفاع الروسية مباشرة.
ويسمح ذلك للكرملين بوضع قوة قتالية تُدِرّ أرباحًا تحت سيطرة لصيقة مع الاحتفاظ بقوة عملها؛ إذ إن 70- 80% من عناصر فيالق إفريقيا انتموا سابقًا لمجموعة فاغنر. وقال التقرير: إنه من المُبكّر للغاية تحديد حجم حصة فيالق إفريقيا من الأسلحة التي تم بيعها للقوات المسلحة المالية. لكنّ المجموعة نشرت عددًا من العربات المسلحة والطائرات التي كانت روسيا قد نقلتها لمالي في العام 2025م.
كيف يستغل المرتزقة الروس في مالي المعدات العسكرية([3])؟
تشير دراسة جديدة إلى أن مرتزقة، على صلة بفيالق إفريقيا الروسية، قد استخدموا على الأرجح معدات عسكرية مالية انتهاكًا لمعاهدة أسلحة دولية.
وقيل: إن الصورة بأكثر من ألف كلمة؛ وتبرهن صورة نُشرت على التيليجرام في ديسمبر 2024م مدى صحة هذا التعبير في واقع الأمر.
وتظهر الصورة محل الإشارة هنا: لزوج من الأرجل في الظل على سجادة حمراء في وسط الصحراء مع علبة سجائر في المقدمة، تمامًا كأنها بطاقة بريدية من إقليم الساحل. لكن عند فحص أكبر في الصورة فإننا نجد ما هو أهم: إلى اليمين أدوات عسكرية مالية والأكثر لفتًا للانتباه الخلفية التي تُصوّر سيارة بيك آب 4×4 وعلى ظهرها بندقية آلية.
وقد تم نشر هذه الصورة على قناة تابعة لفاغنر، وهي الشركة العسكرية الخاصة الروسية التي تم حلها رسميًّا، والقدمان الظاهرتان في الصورة هما قدما مقاتل مرتزق.
الشيطان يكمن في التفاصيل
وتكشف نظرة أقرب أن العربة تشبه تلك العربات التي تعمل في الجيش المالي. والسلاح الموضوع على متن العربة هو بندقية ثقيلة من طراز W85 التي تُصنّعها شركة الأسلحة الصينية نورينكو NORINCO. ويُعدّ ذلك تفصيلًا مهمًّا لأن كلًّا من الصين ومالي مُوقّعتان على معاهدة تجارة الأسلحة Arms Trade Treaty (ATT) التي رعت التوصل لها الأمم المتحدة في العام 2013م، والتي تلزم مُصدِّري الأسلحة ومستورديها بالتزامات معقدة.
تقرير للأمم المتحدة: فاغنر تنتهك القواعد في جمهورية إفريقيا الوسطى
يحدد تقرير صادر عن “المبادرة العالمية” خمسة أسماء أنواع محددة استولت عليها فاغنر: اثنان من الإمارات العربية المتحدة، وواحدة من كل من الصين وفرنسا ونيجيريا. هذا إضافة إلى بنادق آلية من الصين ومسيرات من تركيا. وجميع هذه الدول، باستثناء الإمارات، مُوقِّعة على معاهدة الأسلحة الدولية؛ وفي حالة الإمارات هناك قوانين وطنية تتطلَّب ما يسمى بشهادة المستخدم الأخير، والتي تتعهَّد فيها الدولة المُتلقّية بأنها لن تنقل المعدات العسكرية التي تلقتها دون تصريح (من الإمارات).
على أيّ حال هناك شواهد إضافية تشير إلى حقيقة أن تسليح مرتزقة فاغنر لا يتَّسق دومًا مع هذه القواعد، مثل تقرير الأمم المتحدة في العام 2021م حول جمهورية إفريقيا الوسطى. فقد توصل كتاب هذه الوثيقة إلى أن جنود فاغنر قد نقلوا أسلحة سلمتها روسيا لاستخدامهم الخاص، رغم أنه لم يكن مرخصًا باستخدامها سوى لجنوب جمهورية إفريقيا الوسطى. وتَعتبر الأمم المتحدة ذلك انتهاكًا لضوابط المستخدم الأخير.
آثار حرب أوكرانيا في إفريقيا:
قالت إرينا فيلاتوفا Erina Filatova، وهي مُؤرّخة روسية مقيمة في جنوب إفريقيا: إن فاغنر قد تلقت من البداية شحنات أسلحة من روسيا من أجل عملياتها التي تعود إلى تكوينها في منتصف العام 2010م. على أيّ حال، وفي حالة مالي، فإنها أخبرت “دويتش فيله” أنه ليس لديها معلومات حول هذه الشحنات في مالي.
“ومع تعمق الحرب في أوكرانيا، ونقص موارد روسيا، فإنه سيكون منطقيًّا استخدام ما هو متاح، ولا سيما أن فاغنر وفيالق إفريقيا تُدرِّبان العناصر المحلية”؛ بحسب تأكيد فيلاتوفا.
………………………………….











































