تمهيد:
أعلنت القوات المسلحة في مدغشقر توليها السلطة، في خطوة وُصفت بأنها تتويج لأسابيع من الاضطرابات الشعبية والانشقاقات داخل الجيش. وجاء التحرك العسكري بعد فرار الرئيس أندري راجولينا إلى الخارج إثر تصاعد الاحتجاجات التي قادها شباب من جيل زد ضد تدهور المعيشة والفساد وسوء الإدارة. ومع تفاقم الأزمة، انضم عدد من الوحدات العسكرية إلى صفوف المتظاهرين ورفضت تنفيذ أوامر القمع، ما أفقد النظام توازنه السياسي والأمني. وأعلن الكولونيل مايكل راندريانيرينا، أن الجيش حلّ جميع مؤسسات الدولة باستثناء مجلس النواب، الذي صوّت بدوره على عزل الرئيس[1].
هذا التطور يضع البلاد عند مفترق طرق تاريخي، بين احتمال انزلاقها إلى فراغ سياسي أو فتح الباب أمام نظام جديد أكثر استجابة لمطالب الشعب الغاضب من عقود من الفقر والتهميش، لا سيما في ظل ما تشهده البلاد بعد تصاعد موجة احتجاجات شبابية غير مسبوقة، تحولت من مطالب خدمية إلى انتفاضة سياسية شاملة ضد الفساد وتدهور المعيشة وانعدام الثقة في مؤسسات الدولة، وتآكلت شرعية السلطة مع اتساع رقعة الغضب الشعبي؛ حيث تعكس هذه التطورات عمق الأزمة وتؤكد أن مدغشقر تقف عند مفترق طرق بين انهيار الدولة وإمكانية ولادة نظام جديد أكثر شرعية واستجابة لتطلعات شعبها[2].
خروج الرئيس أندري راجولينا من البلاد وسط تصاعد الاحتجاجات يفتح المشهد على أزمة دولة مكتملة الأركان، لا مجرد اضطراب عابر. النقطة الجوهرية هنا أن مغادرة رأس السلطة كانت ردّ فعل مباشر على فقدان السيطرة في الشارع وفي داخل المؤسسة العسكرية على حدّ سواء، ما يحوّل الاحتجاجات من ملف أمني إلى حدث سياسي مؤسِّس يعيد صياغة قواعد اللعبة. المشهد لم يتبلور فجأة؛ تراكمات سنوات من تدهور الخدمات الأساسية وتآكل الثقة في الدولة هي التي حرّكت الكتلة الشبابية ووسّعت قاعدتها الاجتماعية. الخطاب الرئاسي الذي تحدّث عن “موقع آمن” ورفض الاستقالة يزيد الالتباس حول طبيعة السلطة الفعلية: هل هي سلطة دستورية ما زالت قائمة أم سلطة مُعلّقة تبحث عن حامل جديد؟ في كل الأحوال، الخروج الجغرافي للرئيس عن العاصمة، ثم عن البلاد وفق روايات متعددة، يترجم خروجًا سياسيًا عن مركز التحكم، ويجعل أي حديث عن “عودة سريعة للاستقرار” مجرّد تمنيات ما لم يُعالج أصل العقدة: شرعية الحكم وآليات تداول السلطة[3].
الاحتجاجات التي بدأت بسبب انقطاعات الكهرباء والمياه تحوّلت خلال أيام إلى حركة مطلبية أوسع تنطق بلسان “جيل زد” وتستبطن سردية ظلَم اجتماعي واقتصادي طويل. هذا التحول النوعي مهم لأنه يغيّر طبيعة الضغط من مطالب خدمية قابلة للاحتواء إلى مساءلة شاملة للمنظومة الحاكمة: الفساد، المحاباة، وتوزيع الثروة والفرص. انخراط وحدات من الجيش—خاصة “كابسات” ذات الثقل الرمزي منذ 2009—جعل كلفة القمع أعلى، ورفع منسوب الجرأة لدى الشارع، وفرض على بقية الأجهزة الأمنية اختبار ولائها في العلن. عند هذه النقطة، لم يعد السؤال: كيف نعيد تشغيل محطات الكهرباء؟ بل كيف نعيد تشغيل العقد الاجتماعي؟ هذه ديناميكا لا تُهدَّأ بوعود ترقيعية أو تغييرات شكلية في الحكومة، لأنها تتغذى من فجوة ثقة هائلة بين الشباب والدولة، وتتسارع مع كل تناقض رسمي أو ارتباك مؤسسي[4].
تفكك الحزام الأمني حول الرئاسة وانقسام الهرم العسكري يضع مؤسسات الدولة أمام اختبار شرعية وإجراءات في آنٍ واحد. دستوريًا، الحديث عن انتقال مؤقت عبر رئاسة مجلس الشيوخ يرسم مسارًا نظريًا، لكنه يصطدم بواقع قوة الأمر الواقع في الشارع والسلاح: من يمتلك القدرة على فرض الأمن ومن يملك الاعتراف الشعبي؟ أي انتقال لن يصمد إنْ كان محض نص على الورق لا يسنده توافق واسع بين الجيش، والفاعلين المدنيين، والكتلة الشبابية التي فرضت إيقاع اللحظة. هنا تتقدّم ثلاثة مخاطر: فراغ سلطوي يفتح المجال لزعامات ظرفية، عسكرة السياسة بما يبدّد فرصة بناء عقد مدني جديد، وتدويل الأزمة عبر تدخلات ناعمة تحت عنوان “الحفاظ على النظام الدستوري”. تفادي هذه الفخاخ يتطلب خارطة طريق قصيرة المدى، واضحة، قابلة للقياس: حماية الحق في التظاهر، وقف العنف، إطلاق حوار مُلزِم بمواعيد انتخابات وشفافية رقابية حقيقية[5].
اقتصاديًا وجيوسياسيًا، الأزمة أكبر من العاصمة. بلد شابّ، فقير، يعتمد على صادرات حساسة كالفانيليا والنيكل والنسيج، لا يحتمل اهتزازًا مطوّلًا في سلاسل الإنتاج والتصدير. أي توقف في الموانئ أو اضطراب أمني حول مواقع التعدين سيُترجم سريعًا في ميزان المدفوعات والعملة وفرص العمل، ما يغذّي بدوره الاحتجاجات في دائرة مفرغة. خارجيًا، الاتهامات والتكهنات بشأن دور أطراف دولية—فرنسا حاضرة بحكم التاريخ والمصالح—تضيف طبقة توتر على المشهد، وقد تدفع الفاعلين المحليين إلى خطاب شعبوي يرفع السقف بلا بدائل واقعية. الخروج من هذا النفق يتطلب مقاربة مزدوجة: إجراءات طوارئ اجتماعية فورية تخفف كلفة المعيشة وتعيد الخدمات الأساسية، وإطارًا سياسيًا انتقاليًا بضمانات داخلية ودولية يضع جدولًا انتخابيًا حقيقيًا ويؤسس لرقابة على المال العام. بدون ذلك، ستبقى “مغادرة الرئيس” مجرد حلقة افتتاحية في مسلسل أطول من الفوضى، بدل أن تكون لحظة فاصلة لفتح باب إعادة التأسيس[6].
وفي ضوء ذلك، ومع إعلان الجيش توليه السلطة وفرار الرئيس راجولينا، تدخل مدغشقر مرحلة غير مسبوقة تطرح سؤالًا جوهريًا:
هل يشكّل التحرك العسكري مخرجًا مؤقتًا من الفوضى أم بوابةً إلى عهد جديد من الحكم العسكري؟ سؤال تتقاطع فيه الشرعية الشعبية مع سطوة السلاح.
المحور الأول: جذور الأزمة الاجتماعية والاقتصادية
تشهد مدغشقر واحدة من أعقد أزماتها منذ الاستقلال، إذ تتشابك فيها المظالم الاجتماعية مع الانهيارات الاقتصادية في مشهد واحد من التوتر المتراكم. فقد تحولت الضغوط المعيشية اليومية، من انقطاع المياه والكهرباء وارتفاع الأسعار، إلى غضب شعبي متفجر عبّر عنه جيل جديد لم يعد يثق في الدولة ولا في الوعود السياسية القديمة. خلف هذا الغضب، تمتد جذور عميقة من سوء الإدارة، والفساد المستشري، وتراكم الديون، وانكماش فرص العمل، ما جعل الفقر ليس حالة مؤقتة بل نظامًا اجتماعيًا راسخًا. ومع انسداد الأفق أمام الشباب، تحوّل الشعور بالعجز إلى وعي جمعي بالمطالبة بالتغيير. هذه البيئة المتوترة وفّرت التربة الخصبة لانفجار الغضب الذي أطاح في النهاية باستقرار النظام القائم. وتتمحور جذور الأزمة الاجتماعية والاقتصادية في عدة نقاط رئيسية[7]:
- تفاقم الفقر واتساع فجوة الدخل: تُعدّ مدغشقر من أفقر دول العالم، إذ يعيش نحو ثلاثة أرباع سكانها تحت خط الفقر. خلال العقدين الأخيرين، زادت الفوارق الطبقية بشكل صارخ، حيث تراكمت الثروة في أيدي قلة مرتبطة بالسلطة، بينما تدهورت قدرة المواطنين على تلبية أبسط احتياجاتهم. هذا التفاوت خلق شعورًا بالظلم الاجتماعي العميق، خصوصًا لدى الجيل الشاب الذي يرى أن الفقر ليس قدرًا بل نتيجة مباشرة لسياسات فاشلة واحتكار اقتصادي. مع الوقت، لم تعد الأزمة اقتصادية فقط، بل تحولت إلى قضية عدالة اجتماعية تطالب بإعادة توزيع الفرص والثروة وإصلاح النظام القائم على الامتيازات لا الكفاءة.
- انهيار البنية التحتية والخدمات العامة: من المياه إلى الكهرباء والنقل، تعاني مدغشقر من تآكل ممنهج في بنيتها التحتية بسبب الإهمال والفساد وضعف الاستثمار الحكومي. المدن الكبرى، بما فيها العاصمة، تعيش على انقطاعات يومية تجعل الحياة شبه مشلولة. هذا الفشل في تأمين الخدمات الأساسية لم يعد يُفسَّر بالعجز المالي، بل بعدم الإرادة السياسية وغياب الرؤية التنموية. ومع تراكم الإحباط، بات المواطن يرى في كل انقطاع كهرباء دليلاً جديدًا على فساد النظام. هنا بدأ الغضب الشعبي يتحول إلى حركة منظمة تقودها الفئة الأكثر تضررًا: الشباب الحضري الذي يعيش يوميًا نتائج هذا الانهيار في بيئته وواقعه المعيشي[8].
- تفشي الفساد وضعف المؤسسات الرقابية: الفساد في مدغشقر ليس سلوكًا هامشيًا بل جزء من بنية السلطة، حيث تُدار الموارد عبر شبكات محسوبيات تضمن الولاء السياسي أكثر مما تضمن الكفاءة. تتسرب المساعدات الخارجية والمشروعات التنموية إلى جيوب النخبة، فيما تغيب الشفافية والمساءلة تمامًا. هذه الممارسات أضعفت الثقة في الدولة، وخلقت حالة من اللامبالاة المؤسسية تجاه الصالح العام. ومع انكشاف الفضائح المتكررة، أدرك المواطنون أن التغيير لم يعد ممكنًا من داخل المنظومة، فانتقل الغضب من الصمت إلى الفعل الجماعي. الفساد هنا لم يدمّر الاقتصاد فحسب، بل دمّر فكرة العدالة التي يقوم عليها أي عقد اجتماعي مستقر.
- البطالة وانسداد الأفق أمام الشباب: يشكل الشباب الغالبية في مدغشقر، لكنهم أيضًا الفئة الأكثر تهميشًا في سوق العمل. ضعف التصنيع وقلة الاستثمارات المحلية أدّيا إلى ارتفاع معدلات البطالة، خاصة بين خريجي الجامعات. ومع غياب فرص التشغيل، ظهرت أزمة هوية اقتصادية لجيل كامل لا يرى مكانه في المستقبل. هذا الفراغ المهني تحوّل إلى مساحة سياسية جديدة، إذ بدأ الشباب بتنظيم أنفسهم في حركات احتجاجية تعبر عن وعي جماعي جديد يرى أن الفقر ليس فشلًا فرديًا بل خللاً بنيويًا. وهكذا تحولت البطالة من قضية اقتصادية إلى محفّز سياسي يقوّض استقرار السلطة القائمة.
- التبعية الاقتصادية للخارج وتراجع الإنتاج المحلي: اقتصاد مدغشقر قائم على تصدير مواد أولية كالفانيليا والنيكل، مما جعل البلاد رهينة لتقلبات الأسواق العالمية. ومع ضعف التصنيع، تراجعت القدرة الإنتاجية الداخلية، فازداد اعتماد البلاد على الواردات والدعم الخارجي. هذه التبعية أضعفت السيادة الاقتصادية وجعلت الحكومة أكثر خضوعًا لشروط المانحين الدوليين، ما زاد الغضب الشعبي. المواطن العادي يرى أن قرارات بلاده تُتخذ في الخارج، بينما تتدهور معيشته في الداخل. التبعية هنا لم تعد مجرد علاقة تجارية، بل أصبحت رمزًا لفقدان الإرادة الوطنية، وهو ما غذّى شعورًا عامًا بضرورة استعادة القرار الاقتصادي والسياسي من قبضة الخارج[9].
- ضعف الثقة في النخبة السياسية واستمرار الوجوه ذاتها: منذ أكثر من عقدين، تعاقبت على السلطة نفس الوجوه السياسية التي تدور في فلك المصالح الشخصية والتحالفات الضيقة. غياب التجديد في النخبة الحاكمة خلق شعورًا بالجمود واللا جدوى سياسية، خصوصًا بين الأجيال الشابة التي ترى أن الانتخابات لا تغير شيئًا. هذه الأزمة في التمثيل السياسي فتحت الباب أمام احتجاجات تتجاوز الأحزاب التقليدية وتعبّر عن رفض شامل للنظام القائم. ومع انهيار الثقة في الوسائط السياسية، أصبحت الشوارع والساحات البديل الواقعي للمؤسسات، وهو ما يفسر الطابع المفاجئ والمنظم في آنٍ واحد لانتفاضة جيل زد في مدغشقر.
- الأزمة البيئية وتداعياتها على الحياة المعيشية: مدغشقر من أكثر الدول تأثرًا بتغير المناخ، حيث تتكرر موجات الجفاف والفيضانات التي تدمر المحاصيل وتفاقم انعدام الأمن الغذائي. ومع غياب سياسات بيئية فعالة، تدهورت الزراعة، المصدر الرئيسي للرزق، ما زاد من معدلات النزوح الداخلي والفقر الريفي. تجاهل الحكومة لهذه الأزمة جعلها تبدو منفصلة عن معاناة الناس، خصوصًا في المناطق النائية. النتيجة كانت تآكل الثقة في قدرة الدولة على حماية مواطنيها من أخطار الحياة الأساسية. البيئة هنا لم تعد ملفًا هامشيًا، بل عاملًا مركزيًا في تفجّر الغضب الاجتماعي، إذ أدرك الناس أن بقائهم المعيشي مهدد على كل المستويات، من الطبيعة إلى السياسة[10].
المحور الثاني: فقدان النظام السيطرة وتصدّع المؤسسة العسكرية
تعمّقت أزمة النظام في مدغشقر عندما فقد الرئيس أندري راجولينا السيطرة على مؤسسات القوة التي كانت تشكل درع حكمه. فقد تحوّل الجيش، الذي كان أداة النظام الأساسية منذ 2009، إلى مصدر تهديد داخلي بعدما انشقت وحدات مؤثرة عن القيادة المركزية وانحازت إلى الشارع الغاضب. كان مشهد وحدة “كابسات” وهي ترفض تنفيذ أوامر بإطلاق النار على المتظاهرين نقطة الانكسار الفاصلة، إذ عرّى هشاشة الدولة وكشف تآكل الولاء داخل المؤسسة العسكرية. هذا التحول لم يكن نتيجة قرار لحظي، بل حصيلة تراكمية لسنوات من التسييس المفرط للجيش وتجاهل أوضاع أفراده، فكانت النتيجة أن القوة التي حمت النظام في الماضي أصبحت أول من سحب منه الغطاء.[11]
تاريخ العلاقة بين السلطة والجيش في مدغشقر قائم على تبادل المنافع لا على الانضباط المهني، وهو ما جعل الولاء فيها هشًا ومشروطًا بالامتيازات لا بالقَسَم. ومع تصاعد الغضب الشعبي، تزعزعت هذه المعادلة، خصوصًا عندما شاهد الضباط الصغار زملاءهم في الشارع يحتجون على ظروف معيشية مشابهة لتلك التي يعيشونها. هذا التشابه الاجتماعي بين القواعد العسكرية والمواطنين العاديين خلق تضامنًا غير مسبوق، وفتح ثغرة في جدار السلطة يصعب ترميمها. عند هذه النقطة، لم يعد الجيش كتلة واحدة بل مجموع ولاءات متصارعة، وأصبح كل جناح يتحرك وفق تقديره للمشهد، مما أضعف مركز القرار وأفقد النظام تماسكه السياسي والأمني في آنٍ واحد.
انضمام قوات من الدرك الوطني (Gendarmerie) إلى صفوف المتظاهرين كان لحظة مفصلية نقلت الاحتجاجات من كونها تحديًا شعبيًا إلى أزمة دولة شاملة. هذا التحوّل منح الحراك قوة رمزية كبيرة، إذ بدا وكأن مؤسسات النظام نفسها تعلن انحيازها إلى الشارع ضد رأس السلطة. في المقابل، فقدت الحكومة قدرتها على الرد، إذ لم يعد القمع خيارًا متاحًا من دون إشعال حرب أهلية داخل الأجهزة. ومع غياب الانضباط داخل القوات، تحوّلت العاصمة إلى مسرح لولاءات متبدلة، تتوزع بين من يسعى لحماية المدنيين ومن يفضّل انتظار انهيار كامل للنظام لتشكيل سلطة جديدة. بهذا الشكل، انكشفت الدولة من الداخل، وأصبح انهيارها مسألة وقت لا احتمال.[12]
في ظل هذا التفكك الأمني، وجد الرئيس نفسه معزولًا تمامًا، لا يملك سوى خيار الرحيل لتجنّب مصير دموي أو إذلال سياسي. مغادرته البلاد لم تكن هروبًا فحسب، بل إقرارًا بانتهاء مرحلة حكم استندت إلى القوة العسكرية بدل الشرعية الشعبية. فالجيش الذي صنع وصوله إلى السلطة عام 2009 هو نفسه الذي أطاح بقدرته على البقاء عام 2025. هذه المفارقة تختصر مأزق السلطة في مدغشقر: أن الاعتماد على القوة من دون عقد اجتماعي متين لا يصنع استقرارًا بل يؤجل الانفجار. ومع رحيل راجولينا، تترك البلاد خلفها فراغًا مزدوجًا — فراغًا في القيادة، وفراغًا في الثقة — يفتح الباب أمام صراع جديد حول من يملك حق إعادة بناء الدولة المنهارة.
المحور الثالث: التدخلات الخارجية والحسابات الجيوسياسية
شكّل البعد الخارجي في أزمة مدغشقر الحالية عاملًا حاسمًا في تعقيد المشهد الداخلي، إذ لم تعد الاحتجاجات شأنًا وطنيًا محضًا، بل تقاطع فيها المحلي بالإقليمي والدولي. فالرئيس أندري راجولينا، الذي وصل إلى السلطة بدعم عسكري عام 2009 ثم أعاد تثبيت حكمه عبر شبكة من التحالفات الخارجية، وجد نفسه هذه المرة محاصرًا بشبهات تبعية وتورط أجنبي. خطابه عن “تآمر قوى خارجية” لم يكن مجرد محاولة لتبرير فشل الحكومة، بل يعكس خوف النظام من فقدان السيطرة على رواية الأحداث. ومع تضارب المواقف الدولية، أصبح واضحًا أن الأزمة تجاوزت إطار الاحتجاجات إلى صراع نفوذ أوسع، يُستخدم فيه الشارع كأداة ضغط داخل لعبة إقليمية على الموارد والموقع الجغرافي الاستراتيجي للبلاد[13].
الدور الفرنسي ظل الأكثر إثارة للجدل في هذه المعادلة، نظرًا للتاريخ الاستعماري ولتشابك المصالح الاقتصادية بين باريس وأنتاناناريفو، فبينما أكدت تقارير أن الرئيس غادر البلاد على متن طائرة عسكرية فرنسية، حاولت فرنسا النأي بنفسها عن الاتهامات المباشرة بالتدخل. لكن هذا الإنكار لم يُقنع الشعب، الذي يرى في باريس رمزًا لاستمرار السيطرة غير المباشرة على مقدّراته. فالقضية القديمة حول “الجزر المتناثرة” أعادت إنتاج مشاعر الغضب القومي، وجعلت فرنسا متهمة بتقويض السيادة الوطنية، خاصة مع تصاعد الاحتجاجات المناهضة للنفوذ الأجنبي. هذا البعد الاستعماري الكامن جعل أي موقف فرنسي – مهما بدا دبلوماسيًا – يُفسَّر على أنه امتداد للهيمنة القديمة[14].
في المقابل، أظهرت مواقف القوى الإقليمية في الاتحاد الإفريقي ومجموعة التنمية للجنوب الإفريقي (SADC) حرصًا على تجنّب تصعيد الصراع نحو تدخل عسكري أو انهيار مؤسسات الدولة. بيانات هذه المنظمات ركزت على الدعوة إلى الحوار وضبط النفس، لكنها بدت عاجزة عن التأثير الفعلي في مجريات الأحداث. هذه الحيادية المفرطة أثارت تساؤلات حول فعالية المنظومات الإفريقية في إدارة الأزمات السياسية، خاصة حين يكون الشباب هم القوة الدافعة للتغيير. فالاحتجاجات في البلاد عكست مأزقًا يتكرر في القارة: نخب حاكمة فقدت شرعيتها، ومنظمات إقليمية تخشى التغيير خشية العدوى السياسية. بذلك، تحولت مدغشقر إلى ساحة اختبار حقيقية لقدرة إفريقيا على التعامل مع موجة الاحتجاجات الجيلية الجديدة[15].
أما الموقف الدولي الأوسع فقد اتسم بالازدواجية؛ فبينما دعت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى حماية حقوق الإنسان والتحقيق في الانتهاكات، حافظت العواصم الكبرى على لهجة حذرة تراعي مصالحها الاقتصادية. فمدغشقر تمثل محورًا مهمًا في سلاسل توريد المعادن الحيوية مثل النيكل والكوبالت، وهما عنصران أساسيان في صناعة البطاريات والتقنيات الخضراء. هذا البعد الاقتصادي جعل مواقف الغرب تميل إلى “الاستقرار أولًا”، حتى ولو على حساب مطالب التغيير الشعبي. في المقابل، استخدمت الحكومة خطاب “المؤامرة الأجنبية” لتبرير قمعها الداخلي، متهمة قوى خارجية بالسعي للسيطرة على الثروات الوطنية. هكذا، تحولت الشعارات الاقتصادية إلى أدوات تعبئة متبادلة بين الداخل والخارج، يغلفها صراع على النفوذ أكثر من كونه تضامنًا مع الشعب.
وفي هذا الصدد، يمكن القول أن الأزمة قد أظهرت حالة التداخل بين المحلي والدولي لم يعد مجرد خلفية سياسية، بل أصبح جزءًا جوهريًا من صناعة الأزمات في الدول الإفريقية. فغياب مشروع وطني متماسك جعل مدغشقر ساحة مفتوحة للمنافسات الجيوسياسية، حيث تتقاطع مصالح فرنسا والصين والدول الغربية في استغلال الموارد، بينما تُترك الحكومة والشعب عالقين بين الوعود والاتهامات. ومع فقدان الثقة في النخب الحاكمة، صار الجيل الجديد ينظر إلى هذه التدخلات كعقبة أمام استقلال القرار الوطني. من هنا تبرز المعضلة: كيف يمكن لبلد فقير، غني بالموارد وممزق بالتحالفات، أن يحقق توازنًا بين حاجته إلى الدعم الخارجي وحقه في السيادة؟ سؤال يظل معلقًا، يعكس جوهر مأزق الدولة الإفريقية الحديثة[16].
المحور الرابع: التداعيات المحتملة تجاه مستقبل الحكم والانتقال السياسي في مدغشقر
تبدو مدغشقر اليوم عند نقطة مفصلية تتجاوز حدود الاحتجاجات وظروفها المباشرة، لتطرح سؤالًا أكبر حول مستقبل الحكم والانتقال السياسي في البلاد. فبعد انهيار العلاقة بين السلطة والشارع، وانقسام المؤسسة العسكرية، وتزايد الشكوك حول النفوذ الخارجي، أصبحت الأزمة في مدغشقر أمام امتحان الشرعية من جديد: من يمتلك حق تمثيل الدولة؟ وهل يمكن بناء نظام سياسي جديد قادر على استيعاب جيل غاضب وواعٍ تجاوز حدود اللعبة التقليدية؟ الأزمة لم تعد بين حكومة ومعارضة، بل بين نظام سياسي هرِم وشعب يبحث عن معنى جديد للسلطة والمواطنة. في هذا السياق، يبرز مستقبل الحكم في مدغشقر كعملية معقدة متعددة المستويات، تتداخل فيها الضرورات الأمنية مع المطالب الديمقراطية، ويصطدم فيها الطموح الشعبي بمصالح النخب القديمة. ولعل أبرز هذه التداعيات ما يلي[17]:
- مرحلة انتقالية يتولى الجيش مقاليد الحكم: تتجه مدغشقر نحو مرحلة انتقالية غامضة بعد أن أعلن الكولونيل مايكل راندريانيرينا توليه مقاليد الحكم، في تجاوز واضح للمسار الدستوري الذي ينص على أن يتولى رئيس مجلس الشيوخ السلطة مؤقتًا. هذا التحول يعكس صعود المؤسسة العسكرية كلاعب سياسي رئيسي بعد انهيار شرعية النظام المدني وتراجع ثقة الشارع في النخب السياسية. ورغم أن راندريانيرينا قدم استيلاء الجيش على الحكم بوصفه استجابة “لإرادة الشعب”، فإن التجارب السابقة في البلاد تثير مخاوف من أن يؤدي الحكم العسكري إلى تركيز السلطة وتقويض فرص التحول الديمقراطي. ومع غياب خارطة طريق واضحة، تبدو مدغشقر أمام اختبار صعب بين الاستقرار القسري أو عودة دوامة الأزمات.
- من الناحية الدستورية من المفترض أن يتولى رئيس مجلس الشيوخ بالإنابة، جان أندري ندرمانجاري، مقاليد الحكم مؤقتًا إلى حين تنظيم انتخابات جديدة، وهو ما يبدو على الورق انتقالًا منظمًا يضمن استمرارية الدولة. غير أن الواقع السياسي في مدغشقر أكثر تعقيدًا؛ فغياب قيادة واضحة داخل حركة الاحتجاجات، وتنامي نفوذ المؤسسة العسكرية بعد انحياز وحداتها للشارع، يجعلان هذا السيناريو الدستوري هشًّا وقابلًا للالتفاف. احتمال أن يتولى ضابط عسكري مقاليد السلطة بات مطروحًا بقوة، خاصة في ظل تآكل الثقة في السياسيين المدنيين. هذا المسار، إن تحقق، قد يمنح البلاد استقرارًا مؤقتًا، لكنه يهدد بإعادة إنتاج نمط الحكم العسكري الذي جرّبته مدغشقر من قبل، وانتهى بانهيار اقتصادي ومؤسسي عميق.
- التحول من شرعية القوة إلى شرعية المشاركة: سقوط التحالف بين السلطة والجيش كشف هشاشة النظام القائم على منطق القوة، وأعاد طرح ضرورة الانتقال نحو شرعية المشاركة الشعبية. فجيل الشباب الذي قاد الاحتجاجات أثبت أنه لم يعد يقبل حكمًا يقوم على التفويض الصامت، بل يسعى إلى نموذج جديد من الديمقراطية المباشرة القائمة على المساءلة المستمرة. هذا التحول يتطلب إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع، بحيث تكون المؤسسات انعكاسًا لإرادة المواطنين لا واجهات للسلطة. نجاح أي انتقال سياسي مشروط بقدرة النخبة على استيعاب هذا التحول الفكري والاجتماعي، والتخلي عن فكرة أن السلطة تُمنح من الأعلى. إنها لحظة اختبار حقيقية لإرادة الإصلاح مقابل ثقافة الاستئثار[18].
- ضرورة تأسيس عقد اجتماعي جديد: غياب الثقة بين المواطن والدولة جعل فكرة إعادة بناء العقد الاجتماعي ضرورة لا ترفًا. الأزمة الراهنة أثبتت أن البنية السياسية القديمة، التي تربط الولاء بالمصالح، لم تعد قادرة على الصمود أمام وعيٍ شعبي يتشكّل رقمياً وثقافياً خارج حدود المؤسسات. العقد الجديد يجب أن يعيد تعريف دور الدولة بوصفها ضامنة للحقوق لا مجرد سلطة تنفيذية. ويتطلب ذلك إصلاحًا دستوريًا يُعيد توزيع الصلاحيات بين الرئاسة والبرلمان، ويضمن استقلال القضاء والمؤسسات الرقابية. من دون هذا التأسيس الجديد، ستبقى كل انتخابات قادمة مجرد إعادة تدوير للأزمة نفسها، لأن المشكلة ليست في الوجوه بل في القواعد التي تنظّم اللعبة السياسية.
- دور الجيش في المرحلة الانتقالية: يبقى موقف الجيش العامل الأكثر حساسية في مستقبل الحكم، إذ إن استقراره أو انقسامه سيحدد مآلات الانتقال. فالجيش في مدغشقر لطالما كان صانع الملوك، وهو اليوم مطالب بأن يتحوّل من فاعل سياسي إلى ضامن للنظام الدستوري. أي دور سياسي مباشر سيعيد إنتاج دائرة الانقلابات التي أعاقت التطور الديمقراطي منذ 2009. المطلوب هو بناء آلية توازن مدني–عسكري مؤسسية تُبقي المؤسسة الدفاعية خارج الصراع الحزبي، مع إخضاعها لرقابة برلمانية حقيقية. إذا استطاعت القيادة العسكرية أن تتبنّى الحياد الإيجابي، فقد تشكّل عامل استقرار، أما إذا انجرت وراء التحالفات السياسية، فإن البلاد قد تنزلق مجددًا إلى فوضى لا مخرج منها[19].
- الحاجة إلى وساطة وطنية ودعم إقليمي: تجارب مدغشقر السابقة تُظهر أن أي انتقال سياسي ناجح يحتاج إلى مظلة توافق وطني ودعم خارجي متوازن. الكنائس، والنقابات، ومنظمات المجتمع المدني قادرة على لعب دور الوسيط بين الشارع والنظام، بشرط ألا تُختطف من قبل النخب التقليدية. وفي المقابل، على المنظمات الإقليمية، خصوصًا الاتحاد الإفريقي ومجموعة التنمية للجنوب الإفريقي، أن تبتعد عن الحياد السلبي وأن ترعى مسارًا واضحًا للحوار يضمن التزام جميع الأطراف بالانتخابات الحرة. فغياب آلية مراقبة إقليمية جادة قد يسمح بعودة النزعة الانقلابية أو بالتدخل الأجنبي. إن الوساطة هنا ليست تدخلاً، بل وسيلة لإنقاذ عملية الانتقال من الانهيار وإعادة الثقة في إمكانية الحل السلمي.
- ملامح النظام السياسي المقبل: المستقبل السياسي لمدغشقر سيتوقف على قدرة النخب الجديدة على بناء نظام هجين يوازن بين الطموح الشعبي والواقع الاقتصادي. من المرجح أن يتجه المسار نحو نموذج شبه برلماني يقلص سلطات الرئيس ويعزز الرقابة التشريعية، استجابة لمطالب الشارع بإنهاء الحكم الفردي. كما يتوقع أن يبرز جيل جديد من القادة القادمين من رحم الحركات الاحتجاجية، يعبّر عن الثقافة الرقمية والشبكية لجيل زد. نجاح هذا التحول مرهون بقدرتهم على تحويل الزخم الثوري إلى مشروع مؤسساتي يضمن الاستقرار ويعالج الأزمات الاجتماعية العميقة. فإذا تحقق ذلك، يمكن أن تكون تجربة مدغشقر نموذجًا لإعادة تعريف الحكم في إفريقيا المعاصرة؛ وإذا فشلت، فستظل دائرة الغضب تدور بلا نهاية[20].
السيناريوهات المحتملة:
تدخل مدغشقر مرحلة غموض سياسي غير مسبوقة، حيث تداخلت الشرعية الدستورية مع شرعية الشارع، وبرزت المؤسسة العسكرية كفاعل مركزي في معادلة السلطة. الأزمة تجاوزت حدود الاحتجاجات إلى إعادة تشكيل ميزان القوى داخل الدولة، ما يجعل مستقبلها مفتوحًا على مسارات متعددة. فالمشهد الحالي يجمع بين عناصر الانتقال والانفجار: رئيس غادر البلاد، جيش منقسم، شارع متحفّز، واقتصاد يترنح. في مثل هذا السياق، لا يمكن الجزم بمسار واحد، لكن يمكن رسم أربعة سيناريوهات رئيسية تُحدِّد ملامح المستقبل القريب، تتراوح بين الانتقال المنظّم نحو الشرعية، والانزلاق نحو الحكم العسكري، أو الفوضى، أو حتى إعادة إنتاج النظام القديم بصيغة جديدة. وهناك عدة سيناريوهات مستقبلية للأوضاع، تتمثل في التالي:
- السيناريو الأول ترسيخ الحكم العسكري المؤقت: يتجه هذا السيناريو إلى تثبيت سلطة الكولونيل مايكل راندريانيرينا ومجلس عسكري انتقالي يبرر سيطرته بأنها “مرحلة إنقاذ وطني”. قد يفرض الجيش حالة طوارئ ويشكل حكومة تكنوقراط تحت إشرافه، مع وعود بإعادة الأمن وتنظيم انتخابات لاحقة. في المدى القصير، يمكن أن يحقق استقرارًا نسبيًا ويعيد الخدمات الأساسية، ما يهدئ الشارع مؤقتًا. لكن على المدى البعيد، سيؤدي تركيز السلطة في يد العسكريين إلى تآكل الهامش الديمقراطي وتعطيل الإصلاحات السياسية. هذا السيناريو يُبقي مدغشقر في حلقة مألوفة من “الاستقرار مقابل الحرية”، ويعيد إنتاج أنماط الحكم السابقة التي انتهت إلى الانهيار المؤسسي والاقتصادي.
- السيناريو الثاني انتقال تفاوضي بقيادة الجيش نحو حكومة مدنية: في هذا السيناريو، يدرك راندريانيرينا أن الشرعية الشعبية لا تُكتسب بالقوة وحدها، فيسعى إلى تشكيل حكومة انتقالية تضم ممثلين عن الحراك الشبابي والمجتمع المدني، بإشراف عسكري محدود. يهدف هذا الترتيب إلى امتصاص الغضب الشعبي وكسب دعم المجتمع الدولي. إذا وُضعت خارطة طريق واضحة بجدول زمني للانتخابات وضمانات للشفافية، فقد يشكّل هذا المسار نموذجًا انتقاليًا ناجحًا. غير أن هشاشته تكمن في توازن القوى: أي انقسام داخل الجيش أو محاولة من النخب القديمة للعودة قد ينسف العملية برمتها ويعيد البلاد إلى المربع الأول من الفوضى والانقسامات.
- السيناريو الثالث انزلاق نحو سلطة عسكرية مطلقة: يُحتمل أن يستغل الجناح المتشدد في المؤسسة العسكرية حالة الفراغ لتثبيت نظام تسلطي جديد، يقوم على القمع وإسكات المعارضة تحت شعار “حماية الدولة”. في هذا السيناريو، يتم تهميش الحراك الشبابي واحتواء المجتمع المدني عبر أدوات أمنية وإعلامية. على المدى القصير، قد يحقق النظام قبضة قوية ويمنع الفوضى، لكن هذا “الاستقرار القسري” سيولد مقاومة جديدة مع تراكم الانتهاكات وانهيار الاقتصاد تحت العقوبات والعزلة الدولية. التجربة ستتحول إلى تكرار لدورة الانقلابات في مدغشقر: استقرار ظاهري ينهار عند أول اختبار اجتماعي أو اقتصادي جدي.
- السيناريو الرابع انتقال ديمقراطي مضطرب بضغط شعبي ودولي: قد ينجح الشارع، مدعومًا بضغط إقليمي ودولي، في فرض انتقال حقيقي نحو حكومة مدنية منتخبة، لكن مناخ عدم الثقة والانقسامات سيجعل المسار هشًا ومتقلبًا. سيضطر الجيش إلى التراجع التدريجي عن السياسة مقابل ضمانات بعدم ملاحقة قادته، فيما تتشكل حكومة مؤقتة تقود انتخابات بإشراف مراقبين دوليين. ومع ذلك، يبقى الخطر في ضعف البنية الحزبية والانقسامات الاجتماعية، ما قد يعيد إنتاج الفوضى بعد الانتخابات. نجاح هذا السيناريو يتوقف على قدرة النخب الجديدة على ترجمة مطالب الشارع إلى مؤسسات دائمة، لا إلى لحظة رمزية سرعان ما تتبدد.
- السيناريو الخامس فراغ سياسي وفوضى مؤسسية ممتدة: إذا فشلت القوى السياسية والعسكرية في التوصل إلى تفاهم، قد تنزلق مدغشقر إلى مرحلة فراغ سياسي تتآكل فيها سلطة الدولة لصالح مراكز نفوذ محلية وجهوية. هذا السيناريو يُرجَّح في حال تصاعد الصراع بين أجنحة الجيش، أو تفكك الحكومة المؤقتة دون بديل واضح. في هذه الحالة، سيتراجع الاقتصاد بسرعة، وسترتفع معدلات الهجرة والنزوح الداخلي، ما يخلق بيئة خصبة لتنامي الجريمة والعنف السياسي. يمكن أن تتدخّل أطراف خارجية، سواء إقليمية أو دولية، بحجة “حماية الاستقرار”، مما يحول الأزمة الوطنية إلى وصاية مقنّعة. خطورة هذا السيناريو أنه لا ينهار دفعة واحدة، بل يتآكل تدريجيًا من الأطراف نحو المركز، حتى تفقد الدولة قدرتها على الفعل السياسي بالكامل.
ختامًا، وفي ضوء ما سبق، يمكن القول إن مدغشقر تقف أمام لحظة فارقة ستحدد شكل دولتها لعقود قادمة. فالتحرك العسكري، مهما بدا استجابة فورية للفوضى، لن يكون حلًا مستدامًا ما لم يُترجم إلى مسار سياسي يرسخ شرعية مدنية جديدة. الأزمة في جوهرها ليست صراعًا على السلطة بقدر ما هي اختبار لقدرة المجتمع على إعادة بناء الدولة من داخلها، بعد أن فقدت توازنها بين الشارع والمؤسسات. مصير التجربة سيتوقف على ما إذا كان الجيش سيكتفي بدور الحارس المؤقت أم سيغرق في إغراء الحكم. فإذا أُحسن استثمار اللحظة نحو انتقال منظم يشارك فيه الشباب والقوى الوطنية، قد تولد من رحم الأزمة فرصة لتجديد النظام السياسي. أما إذا استُبدل فراغ السلطة بقبضة عسكرية دائمة، فستظل مدغشقر تدور في دوامة الانقلابات التي عطّلت نهضتها منذ الاستقلال.
………………………….
[1] Lovasoa Rabary and Tim Cocks, Madagascar’s military takes power, says colonel, Reuters. https://www.reuters.com/world/asia-pacific/madagascars-president-dissolves-national-assembly-escalating-crisis-2025-10-14/
[2] Lovasoa Rabary, Tim Cocks & Giulia Paravicini, Madagascar’s president has left the country after Gen Z protests, officials say, Reuters (World / Africa) https://www.reuters.com/world/europe/scenting-victory-madagascar-youth-give-scant-thought-whats-next-2025-10-14/
[3] Manifestations : Les risques d’un basculement hors cadre, midi-madagasikara, 2 octobre 2025, https://bitl.to/59wZ
[4] Scenting victory, Madagascar youth give scant thought to what’s next, Reuters (World / Europe): https://www.reuters.com/world/europe/scenting-victory-madagascar-youth-give-scant-thought-whats-next-2025-10-14/ Reuters
[5] Crise politique : Andry Rajoelina évoque une « cyberattaque étrangère », Gen Z réplique avec virulence, madagascar-tribune, 4 octobre2025, https://bitl.to/59wc
[6] Madagascar’s president flees country on French plane amid student protests, ABC NEWS. https://www.abc.net.au/news/2025-10-14/madagascar-president-andry-rajoelina-flees-country/105888408
[7] Madagascar’s President Andry Rajoelina has left the country, French radio reports, FRANCE 24. https://www.france24.com/en/africa/20251013-madagascar-president-andry-rajoelina-leaves-country-weeks-of-protest
[8] Madagascar president refuses to step down as antigov’t protests continue, Aljazeera, 3 Oct 2025, https://bitl.to/59VX
[9] Madagascar president refuses to step down as antigov’t protests continue, Aljazeera, 3 Oct 2025, https://bitl.to/59VX
[10] Lovasoa Rabary, Tim Cocks and Giulia Paravicini, Madagascar’s president has left the country after Gen Z protests, officials say, Reuters. https://www.reuters.com/world/africa/madagascar-president-rajoelina-address-nation-monday-evening-2025-10-13/
[11]Manifestations à Madagascar : le président annonce renvoyer tout son gouvernement, lemonade, 29 septembre 2025, https://bitl.to/59Vt
[12] Manifestations : Les députés Firaisankina entrent en scene, midi-madagasikara, 3 octobre 2025, https://bitl.to/59wR
[13] BBC News Live: Madagascar / related live updates: https://www.bbc.com/news/live/cqxr3y3788pt
[14] Madagascar Security Forces Blame Protesters For Violence, barrons, Oct 05, 2025, https://bitl.to/59wV
[15] Crise à Madagascar : La communauté internationale appelle au calme et au dialogue, midi-madagasikara, 29 septembre 2025, https://bitl.to/59wQ
[16] Natasha Booty, Madagascar president hiding in ‘safe place’ as he warns of coup attempt, BBC. https://www.bbc.com/news/articles/cgkzyek0jxro
[17] Modification de la Constitution : L’opposition menace de descendre dans les rues, midi-madagasikara, https://bitl.to/59wq
[18] Madagascar president refuses to step down as antigov’t protests continue, Aljazeera, 3 Oct 2025, https://bitl.to/59VX
[19] Madagascar’s president has left the country after Gen Z protests, officials say, CNN. https://edition.cnn.com/2025/10/13/world/madagascar-president-leaves-country-gen-z-protests-intl
[20] Eromo Egbejule, Madagascar president says he fled country in fear for his life, the Guardian. https://www.theguardian.com/world/2025/oct/13/madagascar-president-andry-rajoelina-flees-country-capsat