في عام 2013، وصفت مجلة الإيكونومست الخلاف بين الرئيس سلفا كير ونائبه رييك مشار بعبارة “فيلان يطآن بأقدامهما العشب”، في إشارة إلى كيف أدى الصراع على السلطة بين هذين الزعيمين إلى سحق المدنيين ومستقبل السلام في جنوب السودان.
واليوم تقف جنوب السودان مرة أخرى عند مفترق طرق خطير، إذ يواجه نائب رئيسها الأول، وزعيم المعارضة العتيد، تهم القتل وخيانة الوطن وجرائم ضد الإنسانية.
فقد وُضِع رياك مشار تحت الإقامة الجبرية منذ مارس، ويتهمه القضاء بالتورط في هجوم قامت به ميليشيا الجيش الأبيض والتي يعتقد أنها مرتبطة به، وأسفر ذلك الهجوم عن مقتل 250 جندياً.
وعلى الرغم من أن فصيل مشار يرفض ذلك بوصفه “مكايدة سياسية”، يؤكد الرئيس والحكومة أن هذه المحاكمة تظهر أن لا أحد فوق القانون.
ومع حشد الدبابات حول مقر إقامته في جوبا واعتقال حلفائه الرئيسيين، تتزايد المخاوف من أن ينهار السلام الهشّ الذي تحقق عام 2018 بعد حرب أهلية دامية استمرت خمس سنوات وأسفرت عن مقتل نحو 400 ألف شخص وشقّت أركان الدولة الوليدة على أسس عرقية.
وبينما يضع هذا المسار القضائي النظام القانوني في جنوب السودان تحت أنظار المجتمع الدولي، تهدد التهم الموجهة إلى مشار بعرقلة مسيرة الديمقراطية الناشئة وإشعال العنف الذي كان من المفترض أن يتم التخلص منه بعد الاستقلال عام 2011.
ولا يخفى أن تصاعد الصراع في بلدة الناصر الواقعة في ولاية أعالي النيل في 4 مارس 2025 يعكس تصدّعات هيكلية في النظام السياسي لجنوب السودان. إذ تُعدّ هذه الأحداث دليلاً على فشل أوسع في الحوكمة والثقة والمساءلة. كما يُشير تجدد العنف في الناصر إلى أن المبادئ الأساسية لاتفاقية عام 2018 لحل النزاع في جنوب السودان لم تُحترم أو تُنفّذ بحسن نية.
ولذلك نجد أن عسكرة الدولة للفضاء السياسي، والانهيار الاقتصادي الذي يُحفّز العنف، والطبيعة الإقصائية للحوار الوطني، قد خلقت بيئةً مُهيّئةً للتمرد المحلي وزعزعة الاستقرار الإقليمي. وتُعدّ الناصر بؤرةً اشتعال، لكنها أيضًا مرآةً تعكس حالة التدهور العامي.
ماذا حدث في الناصر؟
تبدأ القصة مع الجيش الأبيض وهو ميليشيا شبابية من النوير ذات تنظيم فضفاض، ظهرت لأول مرة عام 1991 خلال الحرب الأهلية السودانية الثانية، وتم تعبئتها في البداية كقوة دفاع مجتمعية.
ومع مرور الوقت، تطورت إلى جهة فاعلة متقلبة، غالبًا ما تصطف على أسس عرقية وسياسية. في السنوات الأخيرة، عملت بالتنسيق مع الحركة الشعبية لتحرير السودان المعارضة، وهي جماعة المعارضة المسلحة الرئيسية بقيادة رياك مشار.
وقد تشكلت حركة مشار عام 2013 عقب اندلاع الحرب الأهلية، وهي تُصوّر نفسها كحركة تُمثل التطلعات الإصلاحية والمجتمعات المهمشة في المشهد السياسي المنقسم في جنوب السودان.
في 4 مارس 2024، شنّت قوات مشتركة من الحركة الشعبية لتحرير السودان (المعارضة) والجيش الأبيض هجومًا مُنسّقًا على حامية حكومية مما أسفر عن مقتل العشرات من الجنود، بمن فيهم قائدهم الفريق ديفيد ماجور داك.
ردًا على ذلك، شنّت القوات الحكومية غارات جوية انتقامية، حيث زعمت تقارير محلية استخدام ذخائر حارقة. وفي خضمّ القتال، أُسقطت مروحية تابعة لبعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان كانت في مهمة إنسانية لإجلاء جنود حكوميين محاصرين في الناصر، على الرغم من الضمانات المسبقة بالمرور الآمن.
ولا شك أن هذه التطورات تكشف عن حجم وتعقيد الأزمة في الناصر. إذ تقع المنطقة ضمن ممرٍّ متقلب يربط أعالي النيل وجونقلي والحدود الإثيوبية، وهي منطقةٌ متنازعٌ عليها تاريخيًا، شكّلتها التجارة عبر الحدود والتعبئة المسلحة والتشرذم السياسي.
والأدهى من ذلك أن الصراع في الناصر يمتد إلى الدول المجاورة، ويساهم في زعزعة الاستقرار الإقليمي. في الوقت نفسه، أصبح الفضاء الرقمي ساحةً موازيةً للصراع، حيث يُرسّخ خطاب الكراهية والسرديات القومية العرقية والتضليل الإعلامي الانقسامات ويُقوّض آفاق المصالحة.
البدايات الخاطئة:
كما يذكرنا الاشتراكي الفرنسي رينية ديموند أن آفة إفريقيا عموما تكمن في البدايات الخاطئة فإن ذلك ينطبق بالتأكيد على حالة جنوب السودان.
يعني ذلك أهمية العودة إلى البدايات لفهم المآلات التي سلكها المسار التاريخي لتكوين دولة جنوب السودان ودورات السلام الفاشلة المتكررة.
منذ استقلاله، شهد جنوب السودان انهيارات سياسية متعددة كشفت عن الانقسامات العرقية وعمّقتها، وتآكلت الثقة المؤسسية، ورسخت الحكم العسكري.
لقد اندلع صراع عام 2013 بعد أن تحول نزاع سياسي داخل حزب الحركة الشعبية لتحرير السودان الحاكم إلى عنف، مما وضع القوات الموالية للرئيس سلفا كير في مواجهة القوات المتحالفة مع نائبه آنذاك ريك مشار. تطور هذا الصراع بسرعة إلى صراع عرقي، لا سيما بين قبيلتي الدينكا والنوير، مما أدى إلى مقتل عشرات الآلاف وتشريد أكثر من مليوني شخص.
وفي أعقاب ذلك، وُقِّعت اتفاقية حل النزاع في جنوب السودان لعام 2015. إلا أنها قوّضت بسبب سوء تصميمها، وانعدام آليات الرقابة، وغياب حكومة وحدة وطنية فاعلة.
ومع عودة الأعمال العدائية في عام 2016 مع تجدد القتال في جوبا تبخرت آمال المصالحة. وأدى نفي مشار وانهيار اتفاقية حل النزاع إلى موجة عنف متجددة زادت من تجزئة البلاد.
ورغم أن اتفاقية حل النزاع الثانية لعام 2018 كانت تهدف إلى إعادة إطلاق عملية السلام، إلا أنها أبقت على نفس هيكل تقاسم السلطة المعيب دون مساءلة جادة أو إشراك شعبي.
وأصبحت الاتفاقية بمثابة ميثاق نخبوي آخر اتسم بالتشرذم والتأخير والإقصاء. والأهم من ذلك، لم تعالج أيٌّ من هاتين الاتفاقيتين العوامل الهيكلية المحفزة للصراع، بما في ذلك الحكم العسكري، والاختلالات الإقليمية، وغياب عقد اجتماعي بين الدولة والمواطنين.
بدلاً من ذلك، تم تكريس نموذج سياسي قائم على الزبائنية السياسية، حيث تُكافأ النخب بالمناصب والموارد مقابل الولاء. وقد خاب أمل مجتمعات، مثل تلك الموجودة في الناصر، بهذه الدورات من المساومات النخبوية التي تفشل في تحقيق السلام أو التنمية.
وعليه فقد أدى مسار الصراع المتكرر والوعود المنقوصة إلى ترسيخ انعدام الثقة، والتعبئة المسلحة المحلية، ورفض السلطة الوطنية. وبالتالي، فإن صراع سلفا كير وريك مشار ليس انحرافًا؛ بل هو نتاج نموذج بناء سلام يُعطي الأولوية للمصلحة على التحول، وللشمول نظريًا على التمكين عمليًا. يعني ذلك ضرورة أن يُراعي السلام المستدام هذا الإرث من خلال تعزيز نموذج جديد قائم على العدالة والمساءلة والشرعية المحلية.
عوامل تجدد الصراع:
يمكن الحديث عن أربعة عوامل رئيسية:
أولًا: الزبائنية السياسية: إذ تكمن الجذور الهيكلية للصراع في جنوب السودان في تحوّل الاتفاقيات التي وُقّعت لتحقيق السلام إلى أدوات بقاء للنظام الحاكم. فبموجب اتفاقية “السلام الثانية، كان من المفترض أن تضمن تقاسم السلطة، بيد أنه جرى استخدامها لترسيخ قبضة الرئيس وتهميش خصومه، وتحولت أي معارضة سياسية إلى فعل ثوري يبرر القمع. هذا المنطق الاقصائي يعمّق الشكوك ويقوّض الثقة بين الأطراف، ما يجعل أي تفاوض مستقبلي أكثر تعقيداً وأقل جدوى.
ثانيًا: اقتصاد الحرب في جنوب السودان يعتمد على المكاسب قصيرة الأمد التي توفرها السيطرة على الممرات الحدودية ونقاط التفتيش. إذ لم يعد المقاتلون يتلقون مرتبات حكومية ثابتة، بل يكسبون من فرض رسوم على الشاحنات التجارية وابتزاز المساعدات الإنسانية.
هذا النموذج يعزّز الحوافز للعنف ويحوّل المناطق الريفية إلى أسواق مسلحة تتقاطع فيها الأهداف الاقتصادية مع الديناميات المسلحة، ما يجعل السلام المؤسسي بعيد المنال.
ثالثًا: سياسات الخلافة السياسية شهدت أقسى صورها عبر المراسيم الرئاسية المفاجئة التي أنهت مهام نواب الرئاسة الموالين للمعارضة وموظفي حزب مشار دون أي استشارة. هذه القرارات أحادية الجانب انتهكت روح الاتفاقات السلمية، إذ جرى استبدالهم بأشخاص موالين للحزب الحاكم. وهذه الممارسات تثير مخاوف من انتقال غير دستوري للسلطة وتقوّض أي تصور لحكم ديمقراطي يحترم مبدأ التداول السلمي.
رابعًا: ولعل أخطر عوامل الصراع يكمن في تآكل المؤسسات الرسمية الفاعلة وانغماسها في الفساد وضعف الأداء. فبعد عقود من الدعم الدولي لإقامة أجهزة دولة بيروقراطية، تبقى هذه المؤسسات على الورق فقط، فيما يملأ فراغ السلطة فاعلون غير رسميين وجماعات مسلحة.
المواطنون الذين يحرمون من الخدمات الأساسية ينفرون من المشاركة السياسية، ما يتيح للرأسماليين الجدد استغلال الفوضى لتعزيز مواقعهم، في مسلسل يتم فيه تضخيم أزمة الحكم على حساب بناء دولة مستقرة.
وختامًا يبدو أن مبدأ قدسية الحدود الموروثة عن العهد الاستعماري والذي حكم العلاقات الدولية الأفريقية في مرحلة ما بعد الاستقلال كان حكيما، وهو ما جعل الحروب الانفصالية في إفريقيا محدودة للغاية.
وتأتي خبرة كل من أرتريا منذ عام 1993 والتي غرقت في بحر من التيه بحيث أنها اكتسبت لقب كوريا الشمالية في إفريقيا وجنوب السودان التي ظلت منذ استقلالها عام 2011 تعاني من حلقة مفرغة من العنف وعدم الاستقرار السياسي ليؤكدا على عقم وعدم جدوى المحاولات الانفصالية.
وعوضا عن ذلك ينبغي التركيز على بيت الداء في إفريقيا وهو مهمة بناء الدولة الوطنية. وعليه لا ينبغي النظر إلى أزمة مشار وسلفا كير كحدث هامشي؛ بل هي تعبير واضح عن فشل منهجي. إنها تُسلّط الضوء بشدة على خلل صفقات النخبة، وتآكل شرعية الدولة، وحدود بناء السلام المتفاوض عليه من الخارج في حالة فصله عن السياق المحلي.