روضة علي عبد الغفار
صحفية متخصصة في الشأن الإفريقي
لطالما شكَّلت إفريقيا بُعدًا إستراتيجيًّا لمعظم القوى الدولية، وخطة بديلة وساحة صراع محتدم، وطرفًا ثالثًا تجري على أرضه حروب خفية، وخزينة مليئة بالموارد، والوجهة الأمثل لمن يريد نفوذًا أكبر؛ لهذا تتأثر معادلات القوى داخل إفريقيا بأيّ حرب أو اشتباكات هنا أو هناك.
ومن هنا كانت لإفريقيا قوة الاختيار كطرفٍ مُتنازَع عليه، مُحاولةً استغلال تضارب المصالح بين القوى الدولية للخروج بمكاسب أكثر، لكنّ دولة مثل إيران تختلف عن غيرها أيديولوجيًّا وإستراتيجيًّا، وهو ما قد يُعرقل تقدُّمها في إفريقيا… لكن الآن تغيَّرت الصورة إلى حدّ كبير، وأصبحت الأفكار المناهضة للغرب شديدة الوضوح في القارة السمراء، وزاد عليها الأحداث القائمة في الشرق الأوسط والحرب الإسرائيلية الأخيرة على إيران.
فما تداعيات هذه الحرب على العلاقات الإيرانية الإفريقية؟ ولماذا إفريقيا مهمة بالنسبة لطهران؟ وما الذي قد يمنع إيران من التقدُّم داخل إفريقيا؟
هذا وأكثر تتعرَّض له “قراءات إفريقية” في هذا التحقيق.
إيران اللاعب القديم الجديد:
بدأت علاقة إيران بالقارة الإفريقية قديمًا قبل الثورة الإيرانية 1979م، وتركَّزت العلاقات حينها على المصالح الاقتصادية والسياسية، لكن بعد الثورة تحوَّلت العلاقات لتأخذ طابعًا أيديولوجيًّا وثوريًّا؛ حيث سعت إيران إلى نشر أفكار “الثورة”، ودعم حركات المقاومة، كما بدأت بتوسيع وجودها الثقافي والاقتصادي وبناء مراكز دينية وتعليمية، خصوصًا في دول الساحل وغرب إفريقيا.
ثم في عهد الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد (2005- 2013م)، شهدت إفريقيا طفرة في الدبلوماسية الإيرانية، وتم إبرام العديد من الاتفاقيات في مجالات الطاقة والبنية التحتية والتعليم والصحة والدفاع، وبدأت تنظر إيران لإفريقيا على أنها وسيلة لكسر العزلة الدولية المفروضة عليها.
وفي عهد حسن روحاني (2013- 2021م) تم خفض الخطاب الأيديولوجي والتركيز على الجانب الاقتصادي والدبلوماسي، وحاولت إيران تحسين علاقتها بنيجيريا وجنوب إفريقيا، وأخيرًا اتسم عهد إبراهيم رئيسي (2021- 2024م) بمواجهة التغلغل الإسرائيلي والخليجي في القارة، وفتح أسواق جديدة أمام إيران في ظل استمرار العقوبات الغربية، وقام “رئيسي” بجولة إفريقية نادرة شملت: كينيا، أوغندا، زيمبابوي.
في حديثه مع “قراءات إفريقية” يرى أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة فلوريدا الأمريكية، الدكتور إريك لوب، أنه رغم بَدْء العلاقات الإيرانية الإفريقية قديمًا إلا أن الطريقة التي تنظر بها إيران إلى إفريقيا ليست واحدة؛ حيث إن مكونات الدولة والمجتمع داخل إيران تتباين في نظرتها لإفريقيا، لكنَّ هذه العلاقة اختلفت بعض الشيء بعد العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران؛ لأنها وجدت في إفريقيا فرصة لكسر العزلة الدولية، وساعدها على ذلك الأرضية المشتركة بينها وبين كثير من الدول الإفريقية مثل المواقف ضد الاستعمار.
وأشار “لوب” إلى طبيعة تفاعل إيران مع المنطقة، وأنه تفاعل محدود لعدة أسباب؛ أولها اللاعبون المنافسون لإيران في إفريقيا، سواء الإقليميون مثل دول الخليج وإسرائيل، أو الدوليون مثل أمريكا. وثانيًا: الطبيعة الديموغرافية للقارة؛ حيث تتشكل إفريقيا غالبًا من مسلمين سُنَّة ومسيحيين.
والمحدد الأخير بحسب “لوب” هو المحدد الاقتصادي؛ فكثير من الدول الإفريقية تنظر لإيران على أنها اقتصاد نفطي غنيّ سيساعدهم على الاستثمار، لكنّ إيران بسبب العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها تقوم بعروض الشراكات مع الدول الإفريقية والمراسم والمؤتمرات، لكنها لا تتابع هذه المشاريع، وبناءً عليه لا تُترجَم هذه الشراكات إلى واقع، وهذا يُصيب بعض الدول الإفريقية بالإحباط تجاه الجانب الإيراني.
في أحضان إيران!
رغم محدودية الدور الإيراني في إفريقيا مقارنةً بالقوى الأخرى كما ذكرنا؛ يرى الكثيرون أن تراجع النفوذ الغربي في إفريقيا، وخاصةً الانسحاب الفرنسي من غرب القارة، يفتح الطريق واسعًا أمام إيران لبسط نفوذها، كما أنها قد تبدو بديلًا جيدًا للأفارقة.
على سبيل المثال، وقّعت إيران والنيجر اتفاقية تعاون في أبريل 2025م، مما يُوحي بأن إيران ترغب في استغلال طرد فرنسا من مستعمراتها السابقة، بوركينا فاسو وتشاد والنيجر، ومع ذلك لا يمكن الجزم بهذه الطموحات؛ نظرًا لعدم صدور أيّ بيانات رسمية.([1])
وتتبنَّى إيران نهجين من العمل لتطبيق رؤيتها مع إفريقيا؛ أولهما نهج تعتمد فيه على الدولة ومؤسساتها الرسمية، والنهج الآخر تعتمد فيه على الجماعات الشيعية والحركات شبه العسكرية، فأما عن أولويات مؤسسات الدولة فتتلخص في تقوية الحضور الأمني والعسكري في شرق القارة مع التركيز على القرن الإفريقي.
حيث تعمل إيران على توسيع وجودها العسكري من خلال التركيز الأمني والاستخباري بالمقام الأول، وذلك بدعم أذرعها العسكرية مثل جماعة الحوثي في اليمن، وقد بدأ يظهر حضور الناقلات والسفن الإيرانية في موانئ مصوع وعصب الإريترية وفي بورتسودان من أجل تقديم شحنات عسكرية تساعدها في تلبية احتياجاتها العسكرية والأمنية الداخلية والإقليمية.
ويأتي في المقام الثاني تقديم الدعم العسكري للدول الهشَّة أمنيًّا، خاصةً التي تُواجِه تمرُّدات مسلَّحة، ومن الأمثلة البارزة: ما قدَّمته إيران لإثيوبيا خلال الصراع الدائر في منطقة تيغراي شمال إثيوبيا صيف 2021م، وذلك بتزويد حكومة “آبي أحمد” بطائرات بدون طيار، وتحديدًا طائرات “مهاجر6”.([2])
وتجدر الإشارة لدولة جنوب إفريقيا التي يمكن وَصْفها بالشريك الدفاعي المحتمل؛ حيث سعت طهران إلى الاستفادة من علاقتها الطويلة مع جنوب إفريقيا لتوسيع الحضور البحري خارج الشرق الأوسط، كما وَقَّعت إيران وجنوب إفريقيا اتفاقيات تعاون عسكري من شأنها تحقيق شراكة إستراتيجية.
من هنا، يرى رئيس اتحاد الصحفيين السودانيين، الصادق الرزيقي، أن علاقات الدول الإفريقية مع إيران ستتقدم مع تراجع النفوذ الغربي، خاصةً في الدول الناطقة بالفرنسية القريبة من روسيا والصين؛ بسبب شعور القادة الأفارقة بحالة من الصدمة من الإدارة الأمريكية الحالية ونظرتها للقارة السمراء.
وأردف أن هؤلاء القادة لن يقبلوا الإملاءات والضغوط الأمريكية كما كان في السابق، وسوف يسعون لإحداث توازن في علاقات بلادهم مع بقية دول العالم ومنها إيران، هذا بجانب تأثير دول إفريقية حليفة لإيران، مثل الجزائر وجنوب إفريقيا، على كثير من البلدان الإفريقية للمُضِيّ قُدمًا في العلاقات مع طهران.
وأكد “الرزيقي” لـ“قراءات إفريقية” أن إفريقيا لها مصالح واضحة مع إيران؛ فهي شريك اقتصادي وداعم بالنفط لعدد من البلدان، كما نجد استثمارات إيرانية في بلدان إفريقية كبيرة مثل كينيا وإثيوبيا والسنغال وجنوب إفريقيا والنيجر وتنزانيا ونيجيريا، وغيرهم.
وقال: إن هذه المصالح تتوسع لتشمل مجالات سياسية وعسكرية، خاصةً في مجالات الصناعات الدفاعية، وأن الحرب الإسرائيلية الأخيرة أظهرت قدرات إيران الصاروخية ومنتجات عسكرية أخرى تحتاجها البلدان الإفريقية.
على الجانب الآخر يعتقد د. إريك لوب أنه يصعب علينا القول: إن النفوذ الغربي يتضاءل في إفريقيا وبناءً عليه ستعزز إيران نفوذها في القارة؛ لأن هذا الأمر تحكمه ديناميكيات معقّدة؛ فهناك منافسون أقوياء لإيران داخل القارة مثل روسيا والصين، وهما أقدر على الحضور وليس لديهم أزمات وقيود مالية مثل إيران.
وأردف أن روسيا والصين يرون أنفسهم شركاء أكثر خبرة من إيران، وأنه ليس شرطًا أن تتوافق مصالح إيران مع روسيا والصين دائمًا، فقد تتضارب هذه المصالح.
اتخاذ معاداة الغرب طريقًا للتشيُّع:
تحرص إيران على تعزيز العلاقات الدينية مع المجتمعات الشيعية وتوظيف المشاعر المشتركة المعادية للغرب، وقد عملت على تشجيع المسلمين في جميع أنحاء القارة على التشيُّع من خلال مراكز ثقافية وتعليمية شيعية، خاصة في دول غرب إفريقيا.
أحد الأمثلة على ذلك: “منظمة الثقافة والاتصال الإسلامية”، والتي لها دور كبير في نشر التشيُّع حول العالم، وهي منظمة تابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي في إيران، وتعمل في خمس دول إفريقية: (نيجيريا، وغانا، وجنوب إفريقيا، وأوغندا، وكينيا)([3]). وتشارك وزارات ومؤسسات وجامعات مختلفة في تنفيذ هذه السياسات، وهي جزء من إستراتيجية إيران لزيادة نفوذها في إفريقيا من خلال الشبكات الثقافية والأكاديمية والدينية.
إن منهجية “تصدير الثورة” التي تبنتها إيران في إفريقيا مثَّلت عنصر جذب للشباب في مواجهة القوى الاستعمارية في إفريقيا، لكنَّها في الوقت نفسه قُوبِلَت بامتعاضٍ مِن قِبَل عددٍ من الدول والأنظمة السياسية الإفريقية.
وتوجد الآن مجموعات تتبع المذهب الشيعي بأعداد كبيرة في إفريقيا: (نيجيريا وحدها يوجد بها ما يقارب خمسة ملايين من أتباع المذهب الشيعي، والسنغال، وسيراليون، وغانا، وليبيريا، وساحل العاج، ومالي، وغينيا بيساو، وغينيا كوناكري)، وفي شرق القارة وجنوبها (كينيا، وتنزانيا، وجنوب إفريقيا).
يعتقد الصادق الرزيقي أن نفوذ إيران في إفريقيا سيزيد لعدة أسباب؛ من أهمها: تزايد عدد الأفارقة المنتسبين للمذهب الشيعي في غرب إفريقيا وشرقها وجنوبها ووجود جاليات عربية شيعية ذات تأثير كبير في القارة، وهذه عوامل فعَّالة تهتم بها إيران خاصةً بعد الذي جرى في المنطقة العربية وأثَّر كثيرًا على محور المقاومة.
ما بعد الحرب الإسرائيلية على إيران:
في 13 يونيو الماضي شنَّت إسرائيل هجومًا واسعًا على إيران بهدف تدمير قدرات إيران النووية وأنظمتها الصاروخية، كما تم استهداف القيادات البارزة في الحرس الثوري والقوات المسلحة، وقد ردت إيران بإطلاق أكثر من 150 صاروخًا بالستيًّا على مواقع عسكرية وسكنية في إسرائيل.
قد تُغيِّر هذه الحرب، وما سبقها من التوترات في الشرق الأوسط وحرب إسرائيل على غزة معادلات القوى والتحالفات الإستراتيجية، فإيران الآن أمام واقع جديد قد يَدفعها بقوة لتعزيز روابطها الإفريقية.
إفريقيا أيضًا لها نظرتها لهذا الصراع المتنامي؛ حيث ترى أن حرب إسرائيل على غزة معركة تحرير مشابهة لحروب إفريقيا المناهضة للاستعمار، وقد تضاءلت هيبة إسرائيل ونفوذها في إفريقيا نتيجة هذه الحرب، فقد توجهت جنوب إفريقيا في 2023م إلى محكمة العدل الدولية بدعوى ضد إسرائيل لارتكابها إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني.([4])
من جهته يرى الصادق الرزيقي أن الحرب بين إيران وإسرائيل، وما انتهت عليه ألقت بظلال كثيفة على علاقة طهران بالقارة الإفريقية، فقد ظهرت إيران لاعبًا إقليميًّا بما فرضته من واقع جديد في المنطقة وتعاملاتها المباشرة مع واشنطن وقُدرتها على الرد.
كما يعتقد “الرزيقي” بحسب التعاطي الإفريقي مع الحرب وتعليقات الخبراء واتجاهات الرأي العام في العديد من البلدان الإفريقية؛ فإن إيران ستعود أكثر قوة إلى القارة الإفريقية، وستُعزّز علاقاتها مع بلدان القارة كقوة إقليمية وعسكرية، وقد كانت قبل ذلك محصورة في نطاق ضيِّق.
وأشار إلى الضغوط التي كانت تُمارَس على الحكومات الإفريقية بعدم إقامة علاقات دبلوماسية مع طهران، وأن إيران ستستفيد من تغيُّر البيئة الإقليمية بعد المصالحة مع السعودية في 2023م، والحوار الأمريكي الإيراني، وقال: إنه لا توجد عقبات تَحُول دون إعادة ترتيب مسار العلاقة مع طهران بحسب مراقبين للأوضاع في إفريقيا؛ خاصةً أن إسرائيل خلال الحرب الأخيرة ظهرت أنها مجرد وَهْم بدون الدعم الأمريكي، ولم تَعُد في نظر الأفارقة ذلك الكيان صاحب الشوكة.
في حين يعتقد الدكتور إيرك لوب أنه ليس شرطًا أن تُحدث الحرب الإسرائيلية تغييرًا في العلاقات الإيرانية الإفريقية؛ لكن يمكن لإيران أن تنظر إلى إفريقيا كفرصة لكَسْر عزلتها الدولية، ولتحسين موقفها في الأمم المتحدة من ناحية كَسْب الأصوات، وتعويض شركائها المتأثرين بحرب 7 أكتوبر في غزة ولبنان؛ إذ ربما تجد في إفريقيا بديلًا.
وأضاف أن إفريقيا يمكن أن تمنح إيران طرقًا للبحرية الإيرانية، وتُسهِم في دعم سيطرتها على القرن الإفريقي في ظل وجود الحوثي، بالإضافة إلى المعادن والموارد وتوفير سوق للسلاح الإيراني، وقد تجد فرصة لدعم الزراعة في إفريقيا.
وأكد “لوب” أن إفريقيا ليست الطرف الضعيف كما يعتقد كثير من الباحثين؛ لأن إفريقيا تمارس حسابات إستراتيجية من خلال ترجيح طرف على الآخر، مثل أيام الحرب الباردة والترجيح بين الاتحاد السوفييتي وأمريكا، وهذا يعني أن الدول الإفريقية تملك نقطة قوة في إمكانية اختيارها لطرف دون آخر.
وختامًا..
قد يبدو أن الدول الإفريقية لها مصالح مع الجمهورية الإيرانية كغيرها من القوى الدولية، لكنّ الواقع هو أن طهران هي التي تحتاج إلى الدول الإفريقية، بل وفي أشد الاحتياج لشراكتها لتضميد جراحها بعد الحرب مع إسرائيل، فهل نرى إيران في ثوب جديد داخل إفريقيا أم تكون لها وجهة أخرى؟
…………………………..
[1] https://www.tehrantimes.com/news/512450/Iran-Niger-sign-joint-cooperation-agreement?utm_source=chatgpt.com
[2] https://www.aa.com.tr/en/americas/us-iran-sent-ethiopia-military-drones-in-2021-in-violation-of-un-resolution-/2714908
[3] https://en.icro.ir/About-Us-National
[4] https://www.aljazeera.com/news/2024/1/9/which-countries-back-south-africas-genocide-case-against-israel-at-icj?utm_source=chatgpt.com