هيئة تحرير الموقع :
أطلق المتظاهرون في شوارع كينيا هذا الأسبوع، الذين تحدوا هراوات الشرطة ومدافع المياه والرصاص من حين لآخر، هتافا حاشدا من المرجح أن يثير حفيظة الرئيس المحاصر وليام روتو: “روتو وانتام” أو روتو لولاية واحدة.
وسقط خلال هذه التظاهرات ما يقارب من 11 قتيلا وعشرات الجرحى ، بحسب بيانات للشرطة الكينية ، وقد اتسعت رقعة الاحتجاجات فلم تقتصر على العاصمة نيروبي بل شملت عدد من المدن الكينية ، مما يشير لاتساع الاحتجاجات .
وأعلنت اللجنة الوطنية الكينية لحقوق الإنسان، ، وهي هيئة مراقبة حقوقية مستقلة تمولها الحكومة ، مقتل 31 شخصا، وإصابة أكثر من 107، إلى جانب حالتي إخفاء قسري وتوقيف أكثر من 500 محتج.
واتهمت اللجنة ، في بيان شديد اللهجة ، الشرطة باستخدام القوة المفرطة، كما حدث في كثير من الأحيان خلال موجة الاحتجاجات الحالية.
أعربت الأمم المتحدة عن “قلق بالغ” إزاء عدد القتلى الذي أُعلن قبل يوم، مشيرة إلى أن “القانون الدولي يجيز استخدام القوة المميتة فقط في حالات الضرورة القصوى لحماية الأرواح من خطر وشيك “.
وتشهد كينيا منذ شهور واحدة من أقوى موجات الاحتجاجات الشعبية في تاريخها الحديث، عُرفت باسم “سابا سابا”. برزت هذه الاحتجاجات كرد فعل على سياسات الحكومة بقيادة الرئيس ويليام روتو، وتحديدًا بعد تمرير سلسلة من القوانين الضريبية الجديدة التي أثقلت كاهل المواطنين. اتخذت الاحتجاجات طابعًا وطنيًا شارك فيه طيف واسع من فئات المجتمع، لا سيما الشباب من جيل زد، وترافقت مع موجة غضب شعبي عارمة أثارت مخاوف حقيقية بشأن الاستقرار السياسي ومستقبل الحكم في البلاد.
وتزايدت التوترات في البلاد منذ وفاة المدون ألبرت أوجوانج أثناء احتجازه لدى الشرطة الشهر الماضي، مما أعاد الناس إلى الشوارع، بعد عام من اقتحام المتظاهرين الشباب للبرلمان غاضبين من موجة زيادات الضرائب.
كشفت صحيفة ستار أن عدد قتلى الاحتجاجات وصل إلى 140 شخصا منذ 2023، مشيرة إلى ما وصفته بـ”عودة فرقة القتل كينوتي”، في إشارة إلى وحدة أمنية سبق أن تورطت في عمليات قتل خارج نطاق القانون، وكان روتو وعد بحلها فور انتخابه .
وكان روتو قد وصل إلى السلطة قبل نحو ثلاث سنوات متعهدا بحماية الفقراء وإنهاء عنف الشرطة، ولكنه يواجه استياء شعبيا متزايدا بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة والفساد ووحشية الشرطة التي قد تحدد مصيره كزعيم “مطلوب”.
الجذور والخلفيات
لم تكن أحداث “سابا سابا” وليدة لحظتها، بل جاءت نتيجة تراكمات عديدة، منها:
تصاعد حدة البطالة، خاصة بين صفوف الشباب: بالرغم من وعود الحكومة بخلق فرص عمل وتمكين الشباب، ظلت معدلات البطالة مرتفعة، بحسب تقارير البنك الدولي.
تدهور مستوى المعيشة: ارتفاع الأسعار وتكاليف الحياة مع تباطؤ النمو الاقتصادي عقب جائحة كورونا وما تبعها من أزمات عالمية.
سياسات ضريبية قاسية: قانون المالية الأخير لسنة 2024 تضمّن ضرائب جديدة على الوقود والبضائع الأساسية، سببه الرئيسي سعي الحكومة لسد العجز المتفاقم في الميزانية.
تراجع الثقة في السلطة: شيوع قضايا فساد وصراعات سياسية داخل أروقة الحكم زعزعت العلاقة بين الشارع والسلطة.
جذور تاريخية لسابا سابا:
مصطلح “سابا سابا” يعني “سبعة سبعة” بالسواحيلية، في إشارة إلى 7 يوليو، اليوم الذي شهد انطلاق أولى الاحتجاجات الديمقراطية في عام 1990 للمطالبة بالتعددية السياسية، ولهذا اكتسبت الاحتجاجات زخمًا رمزيًا هذا العام.
وينظم نشطاء احتجاجات سنوياً في السابع من يوليو إحياء لذكرى محاولات أطلقها معارضون للرئيس آنذاك دانيال أراب موي عام 1990 لتحويل البلاد إلى ديمقراطية متعددة الأحزاب.
من هم جيل زد الذي يقود المشهد؟
جيل زد في كينيا ـ كبقية العالم ـ هم الشباب الذين وُلدوا تقريباً بين عامي 1997 و2012. يتميّزون بقدراتهم العالية على الانخراط الرقمي، وحسهم النقدي تجاه الخطاب السياسي والاقتصادي التقليدي. وبفضل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحوا أسرع في التنظيم والتعبئة من الأجيال السابقة، وأكثر جرأة في التعبير عن غضبهم ومطالبهم بالعدالة والشفافية والفرص الاقتصادية.
خيارات روتو في التعامل مع أزمة “سابا سابا”
الاحتواء عبر الحوار والتنازلات : يتمثل الخيار الأول في فتح قنوات حوار حقيقي مع الشباب والاعتراف بمشروعية مطالبهم. يمكن لروتو أن يعلن عن خطط واضحة لمراجعة السياسات الضريبية القاسية، ويعد بإجراء إصلاحات اقتصادية تُشرك الشباب بشكل أكبر في عملية رسم السياسات. وهذا الخيار سيساهم في امتصاص جزء من الغضب الشعبي، استعادة شيء من الثقة، وتجنب مزيد من التصعيد والعنف.
لكن يمكن صعوبة هذا الخيار في تفسير البعض له بأنه يعتبر تراجع مما يفسر على أنه ضعف من الحكومة، ويدفع أطرافاً أخرى لاستغلال الموقف لمطالب إضافية.
الخيار الأمني والتصعيد : الخيار الثاني هو التعامل الأمني الحاد، عبر تشديد الإجراءات الأمنية، وفرض حظر التجوّل، واستخدام القوة لتفريق المتظاهرين، وربما تقييد حرية الإنترنت والإعلام وهذا الخيار يوفر سيطرة مؤقتة سريعة على الشارع، ويمنع توسّع الاحتجاجات في المدى القصير ، لكنه يحمل مخاطر عالية، فالعنف ضد جيل زد سرعان ما ينتشر عالمياً عبر السوشال ميديا، مما قد يؤدي إلى إدانات دولية، وتفاقم الغضب الشعبي، وزيادة الضغوط على حكومة روتو داخلياً وخارجياً.
احتواء الأزمة عبر الوسطاء والمجتمع المدني : يمكن لروتو إشراك شخصيات محايدة أو مؤسسات المجتمع المدني، مثل الكنائس والنقابات والجامعات، لقيادة حوار وطني يُطمئن الشارع. ويعطي هذا الخيار العملية صفة النزاهة والوطنية، ويُشرك أصحاب المصلحة الحقيقيين في الحل لكنه يتسم بالبطء ولا يواكب وتيرة تطورات الشارع، كما أن فقدان الثقة ربما وصل لمستوى يصعب ترميمه سريعاً.
تعليق السياسات المثيرة للجدل مؤقتاً : من الخيارات الوسطية، أن يعلّق روتو مؤقتاً تطبيق القوانين المسيرة للجدل مثل قانون الضريبية ويعيدها للنقاش البرلماني أو لنقاش مجتمعي أوسع وهذا الخيار يمنح فرصة للتقييم، ويخفف الاحتقان لكنه لا يقدّم حلاً جذرياً، وربما يُنظر إليه كخطوة تكتيكية.
وختاما:
تقف كينيا اليوم على مفترق طرق حساس بين احتواء الغضب الشبابي والتجديد السياسي، وبين المخاطرة بالاستمرار في نهج المواجهة الأمنية وما سيجرّه من عزلة اقتصادية وضغوط شعبية محتملة. الرئيس روتو، برغم تفوقه العددي وضعف معارضيه، يواجه تحدياً أخلاقياً وسياسياً جديداً فرضته حيوية جيل زد وقدرته على التأثير السريع.
السنوات الثلاث القادمة حتى انتخابات 2027 ستحدد بشكل حاسم ملامح القيادة في كينيا ونوعية العلاقة بين السلطة والشباب ومعايير الحكم الرشيد، وبين خطاب الأمن وخطاب التصالح. النجاح في التحول إلى خطاب جامع ومنفتح قد يكون الضمانة لإنجاح التجربة الديمقراطية، أما المضي في التشدد فقد يحمل معه مخاطر طويلة الأمد على كينيا ومكانتها الإقليمية.
للاطلاع على مزيد:
- الموت إكلينيكيًّا… هل انتهت ثورة الجيل زد في كينيا؟
- إرهاصات جيل ما بعد الألفيّة: قراءة في موجة الاحتجاجات الشعبيّة في كينيا وأوغندا ونيجيريا.
- الغضب يصل إلى الذروة..جيل “زِد” والربيع الإفريقي
- مأزق روتو بين اتهامات الخيانة ومُطالبات الرحيل..كيف يبدو المَشهد الكيني عقب سَحب قانون زيادة الضرائب؟