أ. عثمان سيسي- باحث من مالي
تضاربت الأخبار حول مالي، وكثرت التحليلات لهول المفاجأة وسرعة الأحداث بعد أن أقدم المجلس العسكري على اعتقال كل من السيد باه نداو رئيس الجمهورية والسيد مختار وان رئيس وزرائه، وكان الاعتقال بعد أن أعلن السيد مختار وان في 24/5/2021م حكومة جديدة استبعد فيها كل من الجنرال ساجو كمارا وزير الدفاع والجنرال موديبو كوني وزير الأمن الداخلي، وهو ما أثار حفيظة العسكر، وشعروا بالخيانة من باه نداو ورئيس وزرائه بعد أن أتوا بهم من بيوتهم لقيادة المرحلة الانتقالية، ويبدو أن مثال سانغو قائد الانقلاب على الرئيس الراحل أمادو توماني توري 2012م كان حاضرًا في أذهان العسكر؛ إذ تمت تنحيته وتقديمه للمحاكمة ومطاردته من قبل المدنيين الذين لم ينجزوا شيئًا بعد ذلك سوى المماحكات السياسية رغم سوء وخطورة ما قام به سانغو آنذاك.
إذًا هناك تخوُّف عسكري كبير من شيوخ السياسة في القصر وأهدافهم, وأُتبع هذا التخوف بتحوُّط وسرعة في اتخاذ القرار بعزلهم وتجريدهم من صلاحياتهم القانونية التي تستند على الوثيقة الدستورية هذه الوثيقة التي يتجاوزها الطرفان دائمًا ويتحاكمان إليها في نفس الوقت عند الضرورة.
من ناحية الحكمة وتقدير الظروف والقدرة على الحكم أبدى الرئيس باه نداو فشلاً وقصورًا كبيرًا وعدم مسؤولية؛ إذ كيف له أن يقيل أهم شخصين في الحكومة، واللذين قادا الانقلاب الذي جاء به؟! فضلاً عن أن الانقلاب على كيتا اكتسب شرعية لا بأس بها من الشارع المالي ومن كثير من القوى السياسية في البلاد، ورغم تحفظاتنا على سلوك العسكر السلطوي واستنكارنا المبدئي لأي انقلاب إلا أنهم كانوا أكثر تماسكًا وانضباطًا من القوى السياسية التي ظلت تتصارع على الوزارات والمناصب السياسية.
هل بقاء هذين الشخصين إلى أن يأتي رئيس منتخب بعد المرحلة الانتقالية أفضل لمالي واستقرارها السياسي والأمني أم محاولة إقصائهم بهذه الطريقة؟
لسنا بصدد ثقة مفرطة، وترجيح كفة أحد على أحد. لكن حجة العسكر كانت أقوى وأكثر إقناعًا من الرئيس الذي يحاول أن يصوّر لنا نفسه بأنه مستقل القرار، ولا يمكن أن يكون رئيسًا صوريًّا بيد العسكر، وهو الذي أبدى وحكومته ضعفًا شديدًا في إدارة الدولة في التسعة الأشهر الماضية، وهي تمثل ما يقارب 50% من مدة الفترة الانتقالية عنوانها الأبرز الفشل على جميع الأصعدة حتى من الجانب العسكري الذي يتشدق بحفظ الأمن؛ إذ شاهدنا اغتيال شخصية سياسية كبيرة في باماكو في وضح النهار (اغتيال سيدي إبراهيم ولد ساداتي).
ناهيك عن الاختراقات الأمنية المستمرة من الجماعات المسلحة المختلفة التي لم تسلم منها حتى باماكو المدينة التي تحتضن هذا الصراع الدياركي (الدياركية كلمة يونانية تختصر الطابع الثنائي للحكم بين المدنيين والعسكريين) على الحكم.
ولا مناص من القول:
إن حدة الخلافات بين العسكر والرئيس باه نداو ورئيس وزرائه زادت بعد عودة الأخير من باريس فتأسَّس على ضوء ذلك رأي كثير من الناشطين السياسيين الماليين وغيرهم، والذي يرى أن استقالة مختار وان (رئيس الوزراء)، ورفضها مِن قبل الرئيس ثم تشكيل الحكومة على عَجَل يوحي بضغوط خارجية بالأخص فرنسا، وأنها تريد استبدال كمارا وكوني بالتحديد المحسوبين على المستوى النظري على قوى دولية أخرى غير الأوروبية بقيادة فرنسا وتحديدًا روسيا كما هو متداول.
ولا أظن أن باه نداو لا يعلم أنه جاء نتيجة لانقلاب العسكر الناعم بقيادة كل من ساجو كمارا وموديبو كوني ومالك دياو وأسيمي غويتا الذي يراه البعض ليس بأهمية كمارا وكوني المهندسَيْن الحقيقيَيْنِ للانقلاب، وأن العسكر يسيطرون على مفاصل الدولة.
أما على المستوى الإجرائي فلا يمكننا الجزم بأن كمارا وكوني يريدان توجيه دفة البلاد نحو المعسكر الروسي؛ إذ لا أجد دليلاً كافيًا لذلك سوى بعض التحليلات التي ترجّح هذا الرأي بسبب أنهم تلقوا تدريبات في روسيا مؤخرًا، ومع ذلك لا ننفي الاحتمال.
وتجدر الإشارة إلى أن روسيا تنشط بقوة في إفريقيا، وتهدد مصالح فرنسا بوضوح في كل من غينيا الاستوائية وافريقيا الوسطى التي سُحِبَت فعلاً من تحت الهيمنة الفرنسية، ناهيك عن المحاولات المستمرة والصراعات الدائرة في كلٍّ من الكاميرون ومدغشقر وموزمبيق وغيرها.
فيما يبرر أنصار الرئيس وفرنسا بحجج قانونية كثيرة، وأن ما فعلاه هو ممارسة لسلطتيهما وهو إجراء روتيني عادي يحصل في أيّ مكان. ومالي ليست كأيّ مكان بالضرورة، وهذه الأعذار تصطدم بواقع الحال وهشاشة الوضع السياسي والأمني الذي يحتاج منه الحكمة وعدم التهور للعبور بالمرحلة الانتقالية بأقل الأضرار خصوصًا أنه لم يتبقَّ منها سوى بضعة أشهر.
ماذا عن الحكومة المُشَكَّلة يوم 24/5/2021؟
جاءت الحكومة التي تضم 25 حقيبة وزارية متأخرة جدًّا، وهي نظريًّا كانت أكثر تنوعًا وإشراكًا للطبقة السياسية والمجتمع المدني بما فيهم حركة M5 الحركة التي قادت الحراك الشعبي الذي أسقط كيتا، كما راعت إشراك بعض من عناصر الحركات المسلحة المتمردة وأكثر انفتاحًا على الجميع.
وكـأن مختار وان بدأ يستفيق من سباته، ويعي أهمية الانحياز الى المجتمع المدني والقوى السياسية المختلفة، وبحسب الخبير السياسي إدريس آيات فإن الجيش بعد اعتقاله للرئيس ورئيس الوزراء سعى لاستمالة القوى المدنية على عجل بنفس الطريقة التي قام بها الرئيس والوزير الأول، وأن يهرول الطرفان لاسترضاء المجتمع المدني والقوى السياسية؛ فهذا يوحي بأن الجميع بات يراهن على الجماهير أكثر من رهانه على الخارج، وهذا تطور محمود وجيد في المشهد السياسي المالي يُمَكِّن الشعب مستقبلاً من إلزام الجميع بقانون ودستور يحفظ استقرار البلاد، وليس مصالح سياسية وأجندات خارجية ينفّذها الساسة أو استحواذ عسكري يرفع البندقية كلما لم يعجبه شخص ما في السلطة.
استنادًا لما سبق، وبطبيعة الحال، يمكن بسهولة معرفة لماذا لم يتحرك الشعب خطوة مع أو ضد؟ وأجيب على هذا السؤال بسؤال أكثر موضوعية: لماذا يدعم الشعب أشخاصًا لم ينتخبهم ولا يثق في غالبيتهم؟
ففقدان الثقة في الساسة والعسكر على السواء هو العنوان الأبرز لموقف الشعب المالي الذي بات طرفًا ثالثًا يراقب ولا يتفاعل مع أي طرف، وإن كانت الكفة تميل للعسكر أكثر من السياسيين.
وخلاصة القول:
يمكننا الاستقراء من تاريخ مالي منذ الاستقلال إلى الآن أن العسكريين كانوا أسوأ من حكم مالي، وأن استفرادهم بالسلطة يعني مزيدًا من المعاناة للشعب، وأن مالي إذا وجدت قائدًا شريفًا ونخبة سياسية جيدة ولو صغيرة تؤمن وتثق بالشعب وتجعله سندًا لها يمكن لَجْم مطامع العسكر السلطوية، وتوجيه الزخم الشعبي نحو البناء والديمقراطية الحقيقية، وهذا ما حصل ولو بشكل طفيف جدًّا في التسعينيات في بواكير 1992م؛ حيث قفز دخل الفرد من 300 دولار إلى ما يقارب 1000 دولار بنسبة نمو 4.5، ولا تعنينا الأرقام كثيرًا بقدر ما يعنينا الهدوء والبيئة الصالحة للنهضة جراء ذلك.