يُعد الإجراء المتكرر للانتخابات المنتظمة والتعددية مؤشرًا على الاستجابة لعملية التحول الديمقراطي؛ إلا أنه لا يضمن دائمًا إقامة دولة ديمقراطية حقيقية، كما هو الحال في القارة الإفريقية.
جمهورية الكونغو الديمقراطية الواقعة في نطاق البحيرات العظمى وسط القارة، أجرت الانتخابات الرئاسية الرابعة بالتزامن مع الانتخابات البرلمانية واختيار ممثلي المناطق، ولأول مرة أعضاء المجالس البلدية (مجالس المدن) في 20 ديسمبر 2023م، وهي واحدة من البلدان الإفريقية التي علقت في الانتقال الديمقراطي، بعد عملية التحول التي شهدتها في الفترة 2003: 2006م.
وفي حين لم تدفع التجارب الانتخابية الثلاث السابقة نحو عملية تحوُّل جادّ، وسط تشكيك محلي ودولي في نزاهتها، أجريت انتخابات ديسمبر 2023م في سياق سياسي واجتماعي وأمني معقّد؛ يتَّسم بعدم التوافق بين أصحاب المصلحة، وهشاشة النظام الحزبي منذ إعادة تشكيل الأغلبية البرلمانية في 2021م، عزّز ذلك انعدام الأمن في مناطق شرق البلاد التي لم تُجْرَ بها الانتخابات، مع تنافس عشرات الجماعات المسلحة للسيطرة على المنطقة التي تزخر بمعظم الثروات المعدنية، إلى جانب تصاعد الانقسامات الإثنية، واندلاع احتجاجات عنيفة قبل وأثناء الانتخابات.
تساهم التجربة الانتخابية الكونغولية في فَهْم العديد من التجارب الإفريقية المماثلة، والتي ظلت لعقود خاضعة تحت نُظُم استبدادية، وتعاني في الوقت ذاته من نزاعات وصراعات إثنية وقَبَلية امتدت تأثيراتها إلى دول الجوار، وكانت سببًا في تهديد السلم والأمن الإقليمي.
تسعى هذه الورقة إلى تقديم قراءة في الانتخابات الكونغولية باعتبارها واحدة من إشكاليات عملية التحول في البلاد، كما يُنظَر إلى انتخابات ديسمبر 2023م على أنها اختبار للديمقراطية، وهل يمكن التعويل عليها في تحقيق إصلاح ديمقراطي حقيقي؟ أم أن الانتخابات تمثل مشكلة للديمقراطية -في البلدان الإفريقية عمومًا- وتكرس الانقسامات بدلاً من تعزيز قِيَم الديمقراطية نفسها؟ مع محاولة الإجابة عن التساؤلات التالية:
- ما جذور التحول الديمقراطي في جمهورية الكونغو الديمقراطية؟
- ما النظام الانتخابي المعمول به والعوامل المؤثرة فيه؟
- ما المؤشرات الانتخابية لقياس الأداء الديمقراطي؟
- كيف يمكن ترجمة نتائج انتخابات 2023م؟
- ما عوامل واحتمالات الاستقرار الديمقراطي في ظل انتخابات 2023م؟
أولاً: جذور التحول في جمهورية الكونغو الديمقراطية
منذ السنوات الأولى لاستقلالها عن بلجيكا عام 1960م، تعاني جمهورية الكونغو الديمقراطية من حالة عدم استقرار سياسي واجتماعي، ففي عام 1965م استولى القائد العسكري جوزيف موبوتو على السلطة بعد انقلاب عسكري، وغيَّر لاحقًا اسم البلاد إلى زائير، واسمه إلى موبوتو سيسي سيكو.
وعلى مدار 32 عامًا احتفظ موبوتو بمنصبه في السلطة عبر انتخابات صورية، بَيْد أن الحرب الأهلية التي اندلعت في الجارتين رواندا وبوروندي عام 1996م مهَّدت للإطاحة بحكمه عام 1997م عبر انقلاب عسكري دعمته رواندا وأوغندا، كان قائده لوران كابيلا الذي أعاد تسمية البلاد إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية، وواجَه كابيلا بعد عام واحد تمردًا عسكريًّا ثانيًا دعمته رواندا وأوغندا أيضًا، فيما تدخلت قوات من أنجولا وتشاد وناميبيا والسودان وزيمبابوي لدعم نظامه.
وفي يناير 2001م اغتيل كابيلا، وتولى ابنه جوزيف إدارة البلاد، وفي أواخر 2002م تم الاتفاق على انسحاب القوات الرواندية التي غزت واحتلت شرق بلاده، وبعدها بشهرين تم التوقيع على اتفاق بريتوريا مِن قِبَل جميع الأطراف المتحاربة لإنهاء القتال مع تشكيل حكومة وحدة وطنية، ليستمر كابيلا الابن في قيادة المرحلة الانتقالية([1]).
وفي عام 2006م، فاز جوزيف كابيلا بعد جولة ثانية في أول انتخابات تعدُّدية، أُجريت بدعم دولي، شهدت البلاد خلالها أعمال عنف وترهيب ضد المعارضة، خاصةً أنصار خصمه الرئيسي جان بيير بيمبا، والأخير كان أحد نواب كابيلا الأربعة خلال المرحلة الانتقالية([2]). ومع ذلك كان لهذه الانتخابات الفضل في تخطّي البلاد المرحلة الانتقالية، وإعادة توحيد البلاد التي كانت مهدَّدة بالبَلْقَنة، كما أنها أتاحت إمكانية إنشاء إدارة رسمية تعمل على تنظيم الانتخابات في البلاد.
أما الانتخابات التعددية الثانية التي أُجريت عام 2011م، فقد أسفرت عن إعادة انتخاب كابيلا لولاية ثانية، وسط تشكيك في نزاهة العملية التي واجهت تحديات فنية ولوجستية كبيرة، وفي حين منع دستور البلاد الرئيس كابيلا من الترشح لولاية ثالثة، أخَّرت حكومته الانتخابات إلى ديسمبر 2018م، بعد أن كان من المقرّر إجراؤها في نوفمبر 2016م، وقد أدَّى الفشل في إجراء الانتخابات في الموعد المقرر إلى اضطرابات أمنية وسياسية.
وأُجريت الانتخابات في ديسمبر 2018م ليتم الإعلان عن فوز مرشح المعارضة فيليكس تشيسكيدي، في أول انتقال سلمي (نسبيًّا) للسلطة إلى مرشح مُعارض دون حدوث أعمال عنف أو انقلاب عسكري منذ استقلال الكونغو الديمقراطية، وسط مزاعم بحدوث تزوير في الانتخابات، وإبرام صفقة بين تشيسيكيدي وكابيلا.
وبعد تخطّي البلاد العديد من المعوقات الأمنية والسياسية واللوجستية، تمكَّن تشيسيكيدي من الفوز بولاية ثانية في الانتخابات الرابعة بعد التحول الديمقراطي، والتي أجريت في 20 ديسمبر 2023م، متقدمًا بفارق كبير عن أبرز منافسيه رجل الأعمال البارز وقطب التعدين مويس كاتومبي، ومارتن فايولو الذي كان يعقد آماله لاستعادة ما كان يصفه بـ”فوز مسروق” في الانتخابات الرئاسية 2018م.
ثانيًا: النظام الانتخابي والعوامل المؤثرة
ثمة مجموعة من العوامل المؤثرة على العملية الانتخابية، يمكن الاستدلال بها في مسألة انتخابات جمهورية الكونغو الديمقراطية، والتي لديها مجموعة متنوعة من الأنظمة الانتخابية على مختلف المقاعد والمستويات. ستُركّز الورقة على العوامل التالية:
1- المعادلة الانتخابية
جدول (1) الانتخابات الرئاسية والتشريعية 2023/ 2024م في جمهورية الكونغو الديمقراطية (من إعداد الباحث)
تُصنّف جمهورية الكونغو الديمقراطية جمهورية شبه رئاسية، وفي الانتخابات الرئاسية([3]) يتم انتخاب الرئيس الذي يكون له صلاحيات موسّعة عبر الاقتراع العام السري المباشر؛ من خلال نظام الأغلبية البسيطة (الفائز الأول FPTP) لمدة 5 سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة فقط.
ويشترط في المرشح للرئاسة أن تكون جنسيته الأصلية كونغولية، وألَّا يقل عمره عن 30 عامًا، وأن يكون متمتعًا بكامل الحقوق المدنية والسياسية، وألَّا يكون خاضعًا لإحدى حالات الاستبعاد التي يقرّها قانون الانتخابات. على أن تدعو اللجنة الانتخابية الوطنية المستقلة إلى إجراء الاقتراع لانتخاب رئيس الجمهورية قبل تسعين يومًا من انتهاء ولاية الرئيس الحالي، ويتم تعيين رئيس الوزراء مِن قِبَل الرئيس، وعادةً يتم اختياره من حزب/ ائتلاف الأغلبية في الجمعية الوطنية.
وحتى عام 2018م لم تشهد جمهورية الكونغو الديمقراطية تصويتًا خارج البلاد؛ لضعف القدرات الاقتصادية واللوجستية، بينما في انتخابات ديسمبر 2023م أُجريت انتخابات في خمس دول هي بلجيكا وكندا وفرنسا وجنوب إفريقيا والولايات المتحدة، شارَك الناخبون الكونغوليون في هذه الدول في الانتخابات الرئاسية فحسب([4]).
وفي الانتخابات البرلمانية([5])، يتم انتخاب 108 أعضاء في مجلس الشيوخ (الغرفة العليا) بشكل غير مباشر مِن قِبَل مجالس المقاطعات (26 مقاطعة)؛ من خلال نظام التمثيل النسبي بقائمة مفتوحة لفترة ولاية مدتها 5 سنوات، كما يُعتبر رؤساء الجمهورية السابقون أعضاءً في مجلس الشيوخ مدى الحياة.
أما الجمعية الوطنية (الغرفة الدنيا)، فيمثلها 500 عضو يتم انتخاب 62 منهم في دوائر انتخابية فردية -أي ما يعادل 12.4% من إجمالي المقاعد-، و438 في دوائر انتخابية متعددة الأعضاء، وفي الدوائر الانتخابية ذات العضو الواحد يتم تحديد الفائز بالأغلبية البسيطة عبر نظام الفائز الأول، وفي الدوائر الانتخابية متعددة الأعضاء (مقعدين أو أكثر) يتم الإدلاء بصوت واحد لقوائم التمثيل النسبي المفتوحة، على أن يخدم جميع أعضاء الجمعية الوطنية لمدة 5 سنوات.
وثمة انتقادات لنظام الفائز الأول في الانتخابات الرئاسية بجمهورية الكونغو الديمقراطية؛ إذ إنه عادة ما يطيح بكتلة كبيرة من أصوات الناخبين، مع توصيات بإعادة تفعيل نظام جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية التي كان معمولاً بها في انتخابات 2006م.
أما نظام التمثيل النسبي فهو نظام معقّد للغاية، وقد يُربك كلاً مِن المرشحين والناخبين، بالنظر إلى الحاجة لبعض الحسابات الدقيقة لتحديد القائمة أو الحزب الذي حصل على أكبر عدد من الأصوات والمرشح المعيّن المنتخب في القائمة، ومع ذلك فإن ميزة التمثيل النسبي الرئيسية هي السماح بانعكاس أفضل لإرادة الناخبين؛ حيث يتم تمثيل الأحزاب الصغيرة أيضًا في المجالس التشريعية.
كما أن عضوية كل رئيس سابق مدى الحياة في مجلس الشيوخ تمنحه حصانة برلمانية، وقد تمنحه فرصة الهروب من العدالة إذا ما تعرَّض لملاحقات قضائية.
2- عتبة التمثيل
في يوليو 2022م، أصدر الرئيس تشيسيكيدي قرارًا بقانون بتعديل قانون الانتخابات، بشأن “عتبة التمثيل للقوائم المقدمة من حزب/ ائتلاف سياسي، على أن يتم استبعادها في حالاتٍ منها: عدم قبول قوائم الأحزاب/ المجموعات السياسية التي لم تصل إلى عتبة تمثيل بنسبة 60% من المقاعد المتنافَس عليها في انتخابات الجمعية الوطنية ونواب المحافظات والبلديات([6]).
وتم اشتراط “عتبة التمثيل” لترشيحات الجمعية الوطنية بمقدار 290 مرشحًا لكل قائمة حزب/ مجموعة سياسية، بعد إعلان إلغاء المنافسة الانتخابية على 16 مقعدًا في ثلاث مناطق متضررة من انعدام الأمن، أي أن تأهيل كل قائمة في انتخابات ديسمبر 2023م تطلَّب 290 مقعدًا على الأقل (على ألا تقل نسبة تمثيل المرأة عن 50%)([7])، وذلك حسب معطيات المعادلة التالية: عدد المقاعد المراد شغلها مضروبًا في 60، وقسمة الناتج على مائة.
وتكمن أهمية عتبة التمثيل، وهي أمر شائع في النظم الانتخابية النسبية التي تميل للتعددية الحزبية، في كونها تعمل على تمكين توازن أفضل بين القدرة على الحكم والتمثيل النيابي؛ من خلال تشكيل أغلبية برلمانية مستقرة تتجنّب التفتيت المفرط داخل الهيئة التشريعية، بما يؤثر أيضًا على استقرار الحكومة المنتخبة، مع تقليل احتمالية تمثيل الأحزاب المتطرفة التي عادةً ما تبدأ كأحزاب صغيرة.
ومع ذلك تُعيق “العتبة الانتخابية” في جمهورية الكونغو الديمقراطية تمثيل الأحزاب الإقليمية والأقليات العرقية واللغوية والدينية، وغيرها، إضافةً إلى أن الحزب/ الائتلاف الحاكم كثيرًا ما يقوم بمناورات قانونية لتخطّي العتبات التمثيلية، في ضوء غياب الإلزام القانوني بعدم تغيير صفة الناخب الحزبية بعد فوزه بمقعد تشريعيّ.
كما أن عتبة التمثيل العالية تُطيح بكتل تصويتية كبيرة، في بلدٍ يعاني من انقسامات إثنية كبيرة، وبحاجة إلى تشجيع مختلف الإثنيات والجماعات على التمثيل التشريعي، بما يعزز من فرص الاندماج الوطني.
3- حجم الدوائر الانتخابية
حجم الدوائر الانتخابية لا تتعلق تأثيراته بعدد الناخبين المقيمين ضمن حدود الدائرة الواحدة، بل يعكس حجم الدائرة عدد المقاعد التشريعية المخصصة لكل دائرة.
شكل (2) حجم الدوائر الانتخابية في انتخابات ديسمبر 2023م (الجمعية الوطنية) بجمهورية الكونغو الديمقراطية([8]).
وفي انتخابات ديسمبر 2023م، راعَى قانون الانتخابات عددًا من العوامل الديموغرافية والأمنية والتقنية، بعد تأثر عملية توزيع المقاعد بسبب الانفلات الأمني في عدد من الدوائر([9])، مع ذلك يؤثر حجم الدوائر بصورة كبيرة على نتائج الانتخابات، بالنظر إلى الفارق الضئيل بين أعلى المرشحين حصولاً على الأصوات طبقًا لنظام الفائز الأول.
وبالنسبة لانتخابات الجمعية الوطنية، هناك 182 دائرة لانتخاب 500 عضو، ويتم حساب حجم الدائرة الانتخابية باستخدام المعامل الانتخابي الذي يتم الحصول عليه من إجمالي عدد الناخبين المسجلين في البلاد مقسومًا على عدد المقاعد المطلوب شغلها في الجمعية الوطنية، مع الأخذ في الاعتبار عدد المقاعد التي تم الاحتفاظ بها في الدوائر الانتخابية التي تعاني انعدام الأمن (16 مقعدًا)، منها مقعد واحد لكواماث (مقاطعة ماي ندومبي)، و8 مقاعد لماسيسي، و7 لروتشورو (مقاطعة شمال كيفو)، وبالتالي فإن عدد المقاعد التي تخصيصها في الانتخابات أصبح 484.
وبالتالي فإن المعامل الانتخابي لحساب حجم الدائرة في انتخابات الجمعية الوطني في الكونغو قدّر بـ90585 ناخبًا، وهو حصيلة قسمة (عدد الناخبين المسجلين في عموم البلاد مطروحًا منه عدد الناخبين في المناطق المتضررة) على (عدد المقاعد الإجمالية مطروحًا منه عدد مقاعد المناطق المتضررة). وعدد المقاعد المطلوب شَغْلها في كلّ مقاطعة يساوي إجمالي عدد الناخبين المسجلين في تلك المقاطعة مقسومًا على المعامل الانتخابي([10]).
تحديد عدد الدوائر الانتخابية داخل كل مقاطعة في انتخابات ديسمبر 2023م، لم يختلف كثيرًا عن انتخابات 2018م؛ إذ يتبين من الشكل السابق (شكل رقم 2) أن عدد الدوائر يختلف بشكل كبير بين المقاطعات الـ26، ممَّا أدَّى إلى تفاوت واسع في عدد الناخبين لكل دائرة انتخابية في الجمعية الوطنية؛ حيث يتراوح من الحد الأدنى البالغ 540,169 ناخبًا (مقاطعة أويلي السفلى) إلى الحد الأقصى 5062991 ناخبًا (العاصمة كينشاسا) لكل مقعد.
هذه الممارسة تجاهَلت المعايير الدولية للمساواة في الأصوات، بما يعزّز من عملية استبعاد وتهميش الأقليات والجماعات العرقية المختلفة، خاصةً في دوائر تعاني من الصراع والعنف والأوبئة والتي يُنْظَر إليها كمعاقل للمعارضة.
وينطوي ترسيم حدود الدوائر الانتخابية في جمهورية الكونغو الديمقراطية على تحديات فنية ومعضلات سياسية حساسة، مع بقاء الساحة السياسية خاضعة لهيمنة الأحزاب الحاكمة المسيطرة على الآليات البيروقراطية للدولة، مما يَحُدّ من مُراجَعة حدود الدوائر الانتخابية بشكل محايد، رغم وجود الأحكام الدستورية والقانونية التي تُكرّس المساواة في قوة التصويت كمعيار أساسي لترسيم حدود الدوائر الانتخابية([11]).
4- الجوانب الإدارية للعملية الانتخابية
يوضح الدستور وقانون الانتخابات طبيعة الجوانب الإدارية للعملية الانتخابية، بأن يتم التصويت إما عن طريق الاقتراع الورقي أو إلكترونيًّا أو الاثنين معًا، وتحدد المفوضية الوطنية المستقلة للانتخابات عدد مراكز الاقتراع في كل دائرة، وتحدّد اختصاصاتها والعاملين فيها.
وأدخلت الحكومة الكونغولوية تكنولوجيا التصويت لمواجهة التحديات اللوجستية التي أثرت على الانتخابات السابقة لـ2018م، ما أثار مخاوف مِن قِبَل المعارضة وجماعات المجتمع المدني من أن تؤدي آلات التصويت الإلكترونية إلى تزوير إرادة الناخبين في انتخابات 2023م؛ باعتبار أن نسبة الأمية تبلغ 65% من تعداد السكان (نحو 100 مليون نسمة)، ما يعني مواجهتهم صعوبات هائلة في استخدام هذه الآلات، لا سيما أنها مبرمجة باللغة الفرنسية، إضافةً إلى ضعف البنى التحتية وفي مقدمتها الكهرباء([12]).
تأكدت بعض هذه المخاوف من خلال تأخر العملية الانتخابية في انتخابات ديسمبر 2023م، خاصةً في عملية جمع النتائج، بعد مواجهة بعض التحديات اللوجستية، ومنها على سبيل المثال، احتراق في مستودعات الأجهزة الانتخابية بالكامل، بما في ذلك آلات التصويت الإلكترونية المخزنة، كما تم تعليق التصويت وتأخيره في بعض أنحاء البلاد.
ثالثًا: مؤشرات انتخابية لقياس الأداء الديمقراطي
رغم الإجراء المتكرر وشبه المنتظم للانتخابات في جمهورية الكونغو الديمقراطية؛ يتبين أن الأداء الديمقراطي لم يَرْقَ بعدُ إلى التجربة المأمولة، حسبما تُبيّن المؤشرات التالية:
المؤشر الأول: استمرار أو تغيير النظام
شكل (3) استمرار/ تغيير النظام عبر الانتخابات في الكونغو الديمقراطية (من إعداد الباحث)
بعد عام واحد من استفتاء دستوري، تم تمريره بأغلبية كبيرة؛ أُجريت الانتخابات الأولى بعد عملية التحول عام 2006م، في تجربة تعددية هي الأولى من نوعها في تاريخ البلاد، أفضت إلى استمرار القيادة الانتقالية بزعامة جوزيف كابيلا، بعد فوزه في جولة ثانية على منافسه جان بيير بيمبا.
وفي مطلع 2011م، تم تمرير مقترح حكومي بإعادة النظر في النظام الانتخابي المعمول به؛ بحيث يمكن انتخاب الرئيس عبر نظام الفائز الأول من جولة واحدة، بدلاً من نظام الأغلبية المطلقة (50%+ 1)، أما الانتخابات التعددية الثانية التي أجريت في ذات العام، فقد أسفرت عن إعادة انتخاب كابيلا لولاية ثانية بنسبة أصوات بلغت 48.95%([13])، طعن إتيان تشيسيكيدي وا مولومبا([14]) زعيم حزب الاتحاد من أجل الديمقراطية والتقدم (والد الرئيس الحالي فيليكس تشيسيكيدي) في نتائجها، بعد أن حصل على 32.33% من إجمالي الأصوات المعلنة من لجنة الانتخابات.
وفي حين منع الدستور الرئيس كابيلا من الترشح لولاية ثالثة، أخّرت حكومته الانتخابات التي كان من المقرر إجراؤها في في نوفمبر 2016م إلى ديسمبر 2018م، والتي فاز بها مرشح المعارضة فيليكس تشيسكيدي بعد منافسته 20 مرشحًا آخرين، في أول انتقال سلمي (نسبيًّا) للسلطة إلى مرشح معارض، وسط مزاعم بحدوث تزوير في الانتخابات، وإبرام صفقة بين تشيسيكيدي وكابيلا، واصل خلالها الأخيرة ممارسة نفوذه خلف الكواليس([15]).
وفي انتخابات 20 ديسمبر 2023م حصل تشيسيكيدي على أكثر من 73% من الأصوات، مقابل 18% تقريبًا لأقرب منافسيه، رجل الأعمال مويس كاتومبي، حسبما جاء في إعلان النتائج الرسمية المؤقتة.
إن الإجراء المتكرر وشبه المنتظم للانتخابات، لم يُمكِّن الكونغوليين من تغيير النظام الحاكم إلا في عام 2018م، حين أجبر الدستور الرئيس كابيلا على عدم الترشح لولاية ثالثة، كما أن نظام الحكم عادة ما يضع العوائق أمام أي منافسة انتخابية نزيهة في ضوء سيطرته على دواليب السلطة والآليات البيروقراطية التي تساهم في استمرار النظام.
المؤشر الثاني: الترتيب الحزبي في الهيئات التشريعية
التعددية السياسية يقرّها الدستور الكونغولي، ويحظر أيضًا قيام حزب واحد في البلاد، ويعتبر ذلك “جريمة خيانة عظمى”، ويحقّ لجميع الكونغوليين الذين يتمتعون بحقوقهم المدنية والسياسية إنشاء أو الانضمام لحزب سياسي، كما يحق للأحزاب الحصول على تمويلات رسمية لدعم برامجها الانتخابية([16]).
وبالنظر إلى الترتيب الحزبي للجماعات السياسية في الجمعية الوطنية التي أفرزتها الانتخابات الأولى بعد التحول حتى 2021م، يتبين سيطرة التحالف المؤيد للنظام الحاكم بمختلف مسمياته.
وفي انتخابات الجمعية الوطنية التي أجريت في يوليو 2006م، فاز 67 حزبًا/ تحالفًا، و63 مرشحًا مستقلاً بمقاعد في المجلس، حصل تحالف الرئيس على ما يقرب من 200 مقعد، بينها 111 مقعدًا فاز بها حزب الرئيس “الشعب للإعمار والديمقراطية”، من بين 500 مقعد هي مجموع مقاعد الجمعية الوطنية، فيما حصل تحالف الاتحاد من أجل الأمة، وهو ائتلاف آخر بقيادة زعيم المعارضة آنذاك جان بيير بيمبا على ما يقرب من 100 مقعد، بما في ذلك 64 مقعدًا فازت بها “حركة تحرير الكونغو” التي كان يتزعمها بيمبا، وهي جماعة متمردة (مدعومة من أوغندا) تحولت إلى حزب سياسي([17]).
شكل (4) الجماعات السياسية في الجمعية الوطنية 2006: 2011م (من إعداد الباحث)
لم يصل أيّ من التحالفين الرئيسيين -الأغلبية الرئاسية/ كابيلا، وتحالف المعارضة/ بيمبا- إلى هدف 251 نائبًا المطلوب للحصول على الأغلبية البرلمانية، بيد أنه بعد انقضاء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، حسبما يبيّن الشكل السابق، انضم العديد من الأحزاب التي دعمت كابيلا في جولة الإعادة إلى تحالف الأغلبية، ما عزز من قوة التحالف برلمانيًّا؛ إذ تخطى عدد نوابه 300 عضو قبل انعقاد الجمعية الوطنية المنتخبة أواخر ديسمبر 2006م([18]).
وفي يناير 2007م، أجريت انتخابات غير مباشرة لمجلس الشيوخ المؤلف من 108 أعضاء، وكان انعقاد المجلس في فبراير من العام ذاته بعد تشكيل الجمعية الوطنية وحكومة جديدة بمثابة نهاية لعملية الانتقال السياسي في جمهورية الكونغو.
شكل (5) الجماعات السياسية في الجمعية الوطنية 2011: 2018م (من إعداد الباحث)
وفي 2011م، تنافس 98 حزبًا سياسيًّا (من بين 428 حزبًا مسجلاً آنذاك)، و16 مرشحًا مستقلاً على التمثيل البرلماني، فاز منها 17 حزبًا بأكثر من خمسة مقاعد، ومن بين الأحزاب الـ81 المتبقية فاز 45 منها بمقعد واحد لكل، كما حصل الحزب الحاكم “الشعب للإعمار والديمقراطية” على 62 مقعدًا من بين 260 مقعدًا هي إجمالي مقاعد تحالف “الاتحاد من أجل الأمة” المؤيد للرئيس، بينما حصل حزب “الاتحاد من أجل الديمقراطية والتقدم الاجتماعي” على 41 مقعدًا ليصبح أكبر قوى المعارضة في البرلمان، والتي حصلت مجتمعة على 110 مقاعد، وبتلك النتائج، تَمكّن تحالف الحزب الحاكم من الحصول على الأغلبية المطلوبة في البرلمان([19].(
وفي انتخابات 2018م (تأخر إجراؤها عامين) حصد تحالف “الجبهة المشتركة من أجل الكونغو” (تشكل من ائتلاف الأغلبية الرئاسية إلى جانب ائتلافات أخرى) 330 مقعدًا، منها 50 مقعدًا لحزب الرئيس المنتهية ولايته “الشعب للإعمار والديمقراطية”، بينما حصل ائتلاف لاموكا المعارض بقيادة مارتن فايولو (حل ثانيًا بعد الرئيس تشيسيكيدي في انتخابات 2018م) على 102 مقعد، مع حصول ائتلاف “التوجه نحو التغيير” (معارض) على 46 مقعدًا، بينها 32 مقعدًا لحزب “الاتحاد من أجل الديمقراطية والتقدم الاجتماعي” الذي كان يتزعمه تشيسيكيدي([20]).
شكل (6) الجماعات السياسية في الجمعية الوطنية، الجلسة الأولى 2018 (من إعداد الباحث)
ومع سيطرة تحالف كابيلا على نحو ثلثي مقاعد الجمعية الوطنية، وتمثيل حزب تشيسيكيدي كأقلية حزبية حسبما يبين الشكل السابق؛ اضطر تشيسيكيدي إلى تشكيل حكومة ائتلافية مع تحالف كابيلا، وقد سمح هذا الترتيب لكابيلا بالاحتفاظ بالسلطة من خلال ضمان إدراجه في قرارات الحكم الرئيسية، مع تمكين الائتلاف من اختيار رئيس الوزراء وبعض الحقائب الوزارية الرئيسية وكبار الموظفين في الدولة، بالإضافة إلى السيطرة على الجمعية الوطنية.
وقد أثار هذا التحالف “مزاعم” وجود “صفقة سرية” عقدها الطرفان مقابل “انتصار” تشيسيكيدي الرئاسي([21])، مع ذلك لم يدم وئام كابيلا/ تشيسيكيدي طويلاً، مع بداية إرهاصات المعارك الداخلية من أجل السيطرة على مؤسسات الدولة.
شكل (7) الجماعات السياسية في الجمعية الوطنية، بعد إعادة تشكيل الأغلبية البرلمانية 2021م (من إعداد الباحث)
ورغم المخاطرة السياسية والتحديات الأمنية والاقتصادية الكبيرة؛ فقد أعلن تشيسيكيدي خلال خطاب جمهوري في ديسمبر 2020م نهاية التحالف مع كابيلا وتفكيك الائتلاف الحاكم، وبدء تدشين أغلبية نيابية بديلة عنه، في سياق مساعية لفك قبضة كابيلا عن إدارة البلاد([22]).
وسريعًا ما سعى الرئيس إلى إقناع العديد من حلفاء سلفه كابيلا من البرلمانيين بالانشقاق والانضمام إلى اتحاد “الأمة المقدس”، وهو تجمع سياسي جديد كان هدفه الرئيسي تهميش كابيلا والقضاء على أغلبيته البرلمانية، بالتوازي مع إضعاف ائتلاف لاموكا المعارض، الذي انقسم بدوره إلى جناحين؛ أحدهما تحالف مع تشيسيكيدي([23])، ليتم الإعلان أوائل 2021م عن الأغلبية الجديدة التي تكونت من 391 نائبًا، وتضم مجموعة واسعة من المستقلين والأحزاب السياسية، لكنهم كانوا يفتقرون إلى الرؤية المشتركة([24]).
يعد النظام الحزبي في جمهورية الكونغو الديمقراطية غير متجانس مع وجود عدد كبير يقترب من ألف حزب مسجل في البلاد، بيد أنها أحزاب قائمة وتتمحور في الغالب حول أفراد أو شخصية رئيس الحزب نفسه، وتمتاز بالإثنية ولا تعبر عن أيديولوجيات محددة وواضحة، مما ينعكس على مسألة الترتيب الحزبي للمعارضة داخل الهيئات التشريعية.
المؤشر الثالث: نسب المشاركة
شكل (8) نسب مشاركة الناخبين المسجلين في الانتخابات الكونغولية، بناء على النتائج المنشورة، مع استبعاد الأصوات الباطلة (من إعداد الباحث).
يبين الشكل السابق أن نِسَب المشاركة في الانتخابات الكونغولية تشهد انخفاضًا تدريجيًّا منذ الانتخابات الأولى بعد التحول. ففي انتخابات 2006م (الرئاسية والبرلمانية بالتزامن) بلغت نسبة المشاركة 65% تمثل 16 مليونًا و937 ألفًا و534 من إجمالي الأصوات الصحيحة للناخبين المسجلين آنذاك والبالغ 25 مليونًا و420 ألفًا و199 ناخبًا، أما الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية فبلغت نسبة المشاركة فيها 59.04% تمثل نحو 16 مليونًا و256 ألفًا و601 من إجمالي الأصوات الصحيحة([25]).
وفي 28 نوفمبر 2011م، أقبل ما نسبته 58.81% من الناخبين المسجلين البالغ عددهم آنذاك 32 مليونًا و24 ألف و640 مواطنًا على صناديق الاقتراع، مع وجود شكوك حول مصداقية بعض الأرقام، فعلى سبيل المثال أبلغت بعض المناطق في مقاطعة كاتانغا (التي تشهد أعمال عنف وأوبئة) عن تسجيل نسب مشاركة بلغت 100%([26]).
وفي انتخابات 2018م، لم ترقَ العملية الانتخابية إلى المعايير الدولية، بعد حرمان مليون و359 ألف ناخب من الإدلاء بأصواتهم في دوائر بيني وبوتيمبو ويومبي، وهي مناطق تشهد أعمال عنف وأوبئة، ورغم العوائق الفنية وحالات العنف المعزولة، تفيد تقارير المراقبين أن إجراءات الاقتراع أجريت بشكل مُرْضٍ في معظم المناطق الأخرى في جميع أنحاء البلاد([27]).
وفي تلك التجربة بلغت نسبة المشاركة 47.76% تمثل 18 مليونًا و280 ألفًا و820 ناخبًا من إجمالي 38 مليونًا و542 ألفًا و138 ناخبًا يحق لهم التصويت، بنسبة مشاركة 47.76%.([28])
وفي انتخابات 2023م، بلغت نسبة المشاركة 43% من إجمالي 43 مليونًا و843 ألفًا و116 ناخبًا يحق لهم التصويت بعد استبعاد ثلاث مناطق متضررة من انعدام الأمن شرقي البلاد، في وقت لم تتبنَّ فيه اللجنة الانتخابية أيّ خطة بديلة للسماح للناخبين الذين يقترب عددهم من 200 ألف مُواطن في المناطق المتضررة أو نحو 7 ملايين من النازحين داخليًّا بممارسة حق التصويت([29]).
إن الانخفاض التدريجي في نِسَب المشاركة الانتخابية في جمهورية الكونغو الديمقراطية، يعود إلى سببين؛ الأول يمثل انعكاسًا لانسحاب المواطنين من الحياة السياسية وفقدان الثقة فيها في بلدٍ يعاني غالبية مواطنيه من الفقر والبطالة وغياب التعليم وفقدان الأمن. والآخر قد يكون مرتبطًا بالتدقيق الانتخابي في قوائم الناخبين وتسجيلهم، في ضوء الرقابة الدولية والإقليمية والمحلية المتزايدة على الانتخابات، إضافةً إلى استبعاد مناطق كبيرة من عمليات التصويت في ضوء انتشار الأوبئة أو فقدان السيطرة الأمنية عليها.
رابعًا: نتائج انتخابية “غير مفاجئة” في 2023م
جاءت إعادة انتخاب الرئيس المنتهية ولايته تشيسيكيدي “غير مفاجئة” إلى حد كبير؛ لاعتبارات ترتبط بطبيعة النظامين السياسي والانتخابي في البلاد من جانب، ومن جانب آخر لاعتبارات ترتبط بمرشحي المعارضة أنفسهم.
ومن جهة النظام السياسي والانتخابي، تشير التجارب السابقة إلى أن النظام الانتخابي المعمول به في البلاد عادةً ما يكون ملائمًا للسلطة القائمة بغضّ النظر عن أسماء المرشحين ومدى شعبيتهم، يُعزّز ذلك سيطرة السلطة القائمة على الآليات البيروقراطية داخل المؤسسات المعنية، وكذا مسألة التصويت من جولة واحدة بالأغلبية البسيطة، وهو المبدأ الذي سبق أن اعتمده الرئيس السابق جوزيف كابيلا عام 2011م؛ كي يتمكن من الفوز بالانتخابات.
وعلى الرغم من الآمال الكبيرة التي كانت مُعلّقة على تشيسيكيدي في تحقيق إصلاح سياسي وانتخابي، إلا أنه ظل يحاكي أسلوب كابيلا في الحكم باستخدام الثغرات القانونية والإدارية للسيطرة على السلطة، على غرار إعادة إعادة تشكيل قضاة المحكمة الدستورية (المعنية بالفصل في النزاعات الانتخابية) التي مهَّد قضاتها لإعادة تشكيل الأغلبية البرلمانية في 2021م([30]).
وفيما يخص المعارضة، فإن نظام الجولة الواحدة بالأغلبية البسيطة مكَّن تشيسيكيدي من البقاء في السلطة لولاية ثانية، بالنظر إلى تشتُّت المعارضة بين ما يزيد عن 20 مرشحًا رئاسيًّا، ففي حين حصل تشيسيكيدي على 73.34% من الأصوات، جاء في المركز الثاني بفارق كبير مويس كاتومبي بنحو 18%، مارتن فايولو ثالثًا بنسبة تخطت قليلاً 5% فيما حصل غالبية المرشحين الآخرين كلّ على حدة على أقل من 1%، وجُلّهم ينتمون إلى الطبقة السياسية المعروفة.
ورغم تشكيك أبرز مرشحي المعارضة في العملية الانتخابية كاتومبي وفايولو، إلا أنهما قررا عدم الطعن عليها أمام المحكمة الدستورية، التي من المقرر أن تنظر خلال أيام في طلب وحيد بإلغاء الانتخابات مِن قِبَل المرشح تيودور نغوي الذي حلَّ في المرتبة الأخيرة في الانتخابات بنسبة 0.02% من إجمالي الأصوات([31]).
خامسًا: عوامل واحتمالات الاستقرار الديمقراطي في ظل انتخابات 2023م
يمكن القول: إن التحول الديمقراطي في جمهورية الكونغو الديمقراطية جاء مدفوعًا بعوامل داخلية وخارجية، بينما مستقبل الديمقراطية في ظل الانتخابات تحدده عوامل البيئة الداخلية، وهي ذات تأثير نِسْبيّ وبعضها تبادلي، يؤثر ويتأثر بالديمقراطية، ومنها:
– عوامل مؤسسية: تخضع لاعتبارات وجود مؤسسات حكم قوية ومستقلة، وتقوم على مبدأ الفصل بين السلطات، مع وجود أحزاب قوية قائمة على أُسُس وطنية وبرامج متنوعة، ومجتمع مدني نَشِط ومنظم.
وعادةً ما تتعرَّض المؤسسات المستقلة في جمهورية الكونغو الديمقراطية لانتقادات داخلية وخارجية؛ نظرًا لتركيبتها الحزبية وكيفية تعاملها مع العملية الانتخابية حتى انتخابات 2023م، وفي القلب منها اللجنة الانتخابية الوطنية المستقلة والسلطات القضائية وقطاع الأمن.
ورغم العدد الكبير للأحزاب الكونغولية، إلا أن التجارب الانتخابية السابقة أثبتت أنها أحزاب تتمحور حول أشخاص بمجرد اختفائهم تختفي التجربة الحزبية، أو أنها تعبّر عن إثنيات وقبليات وليس أيديولوجيات واضحة المعالم، ولدى الكونغو الديمقراطية مجتمع مدني قوي ومنظَّم إلى حد ما.
– استقرار اقتصادي، ينعكس على دخول مرتفعة للأفراد، ووجود طبقة وسطى ذات دور مؤثر، وانتشار الثقافة العامة والتعليم.
تعد جمهورية الكونغو الديمقراطية من بين أفقر خمس دول في العالم، وفي عام 2022م كان ما يقرب من 62% من الكونغوليين، أي حوالي 60 مليون شخص، يعيشون على أقل من 2.15 دولار في اليوم، ويعيش حوالي واحد من كل ستة أشخاص في فقر مدقع([32]).
وهي تحتل المرتبة 164 من بين 174 دولة على مؤشر رأس المال البشري لعام 2020م، مما يعكس عقودًا من الصراع والهشاشة، ويعيق التنمية، وفي حين تحسَّنت فرص الحصول على التعليم بشكل كبير خلال العقدين الماضيين، خاصةً بالنسبة للفتيات وفي الأعمار المبكرة، فإن معدل إتمام الدراسة في المرحلة الابتدائية لا يزال منخفضًا؛ حيث يبلغ 75%، ولا تزال جودة التعليم سيئة؛ حيث يُقدّر أن 97% من الأطفال في سن 10 سنوات يعانون من فقر التعلم، مما يعني أنهم لا يستطيعون قراءة وفهم النصوص البسيطة(([33].
– استقرار مجتمعي، يعكس سيادة حقوق الإنسان وقِيَم التسامح والتعايش والحلول الوسط.
في حين تشهد مناطق شرق الكونغو غياب الاستقرار الأمني قبل وصول تشيسيكيدي إلى السلطة؛ فإن تصاعد العنف منذ عام 2022م جعله سمةً مميزةً لولايته الأولى بالتزامن مع نزوح مئات الآلاف من السكان من المناطق المتضررة، التي ينشط فيها ما لا يقل عن 120 جماعة مسلحة، أبرزها حركة 23 مارس، وقد انعكس هذا الوضع، كما بينت الورقة سالفًا، على استبعاد عدد من المناطق من العملية الانتخابية عامي 2018 و2023م.
– بيئة إقليمية مواتية، تنتشر فيها الديمقراطية مع عدم عزلة النظام الديمقراطي في وسط إقليمي غير ديمقراطي. جدير بالذكر أن لجمهورية الكونغو الديمقراطية حدودًا مع 9 دول، جميع نُظُم الحكم فيها تفتقد لمبادئ الديمقراطية والحكم الرشيد.
وختامًا، يمكن الإشارة إلى ثلاثة احتمالات للاستقرار الديمقراطي في جمهورية الكونغو الديمقراطية في ظل انتخابات 2023م:
الاحتمال الأول: قبول قادة المعارضة بنتائج انتخابات ديسمبر 2023م، وممارسة الضغط على نظام تشيسيكيدي بالتشكيك في شرعيته والعملية الانتخابية برُمّتها.
الاحتمال الثاني: حدوث انقسامات نخبوية وصراعات إثنية قد تُفْضِي إلى عودة الانقلابات العسكرية بعد عقود من النسيان، في ضوء غياب الأمن في مناطق شرق البلاد.
الاحتمال الثالث: قيام/ استمرار النظام الحاكم بتركيز السلطة في يده والسيطرة على أيّ حراك محتمل للمعارضة، كما حدث بعد إعادة تشكيل الأغلبية البرلمانية عام 2021م، وهذا الاحتمال هو الأكثر توقعًا بالنظر إلى التجارب السابقة.
……………………………………………………………..
[1] Central Intelligence Agency (CIA), World Factbook, 6 December 2023
[2] Human Rights Watch (HRW), “We Will Crush You”: The Restriction of Political Space in the Democratic Republic of Congo”, )25 November, 2008(,
[3] – جمهورية الكونغو الديمقراطية، دستور جمهورية الكونغو الديمقراطية 2005م وتعديلاته في 2011م، المواد من 69 إلى 89.
– نظام الفائز الأول أبسط أنظمة الأغلبية البرلمانية، وخلاله يكون المرشح الحاصل على أعلى عدد من الأصوات هو المرشح الفائز، وليس بالضرورة حصوله على الأغلبية المطلقة (50%+1) لتلك الأصوات، بما يعني عدم وجود جولة إعادة في الانتخابات الرئاسية في جمهورية الكونغو الديمقراطية، كما يتم استخدامه ضمن الدوائر الانتخابية أحادية التمثيل، ويتمحور حول المرشحين الأفراد؛ إذ يقوم الناخب باختيار مرشح واحد فقط من مجموع المرشحين المدرجين على ورقة الاقتراع.
[4] La Commission Electorale Nationale Indépendante, External audit voter’s roll DRC – Mission report May 2023, , P.12.
[5]– دستور جمهورية الكونغو الديمقراطية، م. س. ذ، المواد من 100 إلى 105.
[6]– جمهورية الكونغو الديمقراطية، الجريدة الرسمية لجمهورية الكونغو الديمقراطية، القانون رقم 22/029، الصادر في 29 يونيو 2022م، منشور بتاريخ 5 يوليو 2022م، مادة 22.
[7] – رغم الإلزام القانوني بمراعاة البعد الجنساني في القوائم الانتخابية؛ تشير التجارب الانتخابية إلى عدم الالتزام بتمثيل المرأة بنسبة 50% في القوائم الانتخابية مِن قِبَل الأحزاب أو الائتلافات.
[8] – من إعداد الباحث بناء على أرقام اللجنة الانتخابية الوطنية المستقلة https://cartographie.ceni.cd/ مع استبعاد أرقام دوائر كواماث في مقاطعة ماي ندومبي وماسيسي وروتشورو في مقاطعة كيفو الشمالية.
[9] – الجريدة الرسمية لجمهورية الكونغو الديمقراطية، م. س. ذ، عدد خاص، قانون رقم 23/025 مؤرخ بتاريخ 15 يونيو 2023م، ويتعلق بتوزيع المقاعد حسب الدوائر الانتخابية التشريعية والإقليمية والبلدية والمحلية، ص5: 6.
[11] Sola-Martin, Andreu. (2018). “Triggers of Election Violence in Sub-Saharan Africa: A Comparative Perspective”, The Cornell Institute for African Development (IAD), (New York: Cornell University, june 2018)
[12] the African Centre for the Constructive Resolution of Disputes (ACCORD), “Elections in the Democratic Republic of the Congo”,( South African: (ACCORD) civil society organisation) 2 SEPTEMBER 2019,
[13] Carter Centre, Elections présidentielle et législatives République Démocratique du Congo 28 Novembre 2011 Rapport Final, op.cit, P.3
[14] – كان تشيسيكيدي (الأب) وزيرًا سابقًا في عهد الرئيس موبوتو سيسي سيكو، وقد ترك الحكومة عام 1980م عندما قرر الرئيس موبوتو إلغاء الانتخابات، فأصبح تشيسيكيدي وهو الرئيس السابق للحكومة بين عامي 1992 و1993م شخصية معارضة بارزة، كما قاطع انتخابات 2006م واتهم الحكومة وقتها بتزوير الانتخابات.
[15] African Arguments Website, “DRC: President Tshisekedi’s leash just got a little tighter”, ((London: African arguments magazine),2 APRIL 2019,
[16] – دستور جمهورية الكونغو الديمقراطية، م. س. ذ، المادتان 6 و7.
[17] INTER-PARLIAMENTARY UNION (IPU), “DEMOCRATIC REPUBLIC OF THE CONGO
Assemblée nationale (National Assembly)”,
[18] Ibid, https://bit.ly/414D078
[19] Ibid https://bit.ly/414D078
[20] Ibid, https://bit.ly/3Na7m2v
[21] MOHAMED M DIATTA, “DRC’s shady political alliance unravels”, The Institute for Security Studies (ISS), Nonprofit organization, Pretoria, 01 DEC 2020, https://bit.ly/3RoNE5A.
[22] Romain Gras, Stanis Bujakera Tshiamala, “DRC: Félix Tshisekedi terminates coalition with Joseph Kabila”, The Africa Report, Jeune Afrique Media Group, Paris, December 7, 2020″, https://bit.ly/3RqIxBO
[23] Bienvenu Mushagalusa Matumo. La RDC post-alternance, un statuquo ou un retour en arrière? (Hyper Articles en Ligne, 2021) https://hal.science/hal-03201449v1 , P 2: 3.
[24] DAVID ZOUNMENOU, ” The jury’s out on DRC’s ‘sacred union’ “(ISS, op.cit. 02 FEB 2021) https://bit.ly/3RnIJ4G
[25] Carter Center, “International Election Observation Mission to Democratic Republic of Congo 2006 Presidential and Legislative Elections Final Report”, https://bit.ly/3NcYWY6, p. 104, 107
[26] Carter Center, “Presidential and Legislative Elections in the Democratic Republic of the Congo”, (28 November 2011 Final Report), https://bit.ly/3R9UBpw p.6
[27] Carter Center, “Democratic Republic of the Congo 2018 Harmonized Presidential, Parliamentary and Provincial Elections”, https://bit.ly/3GuHgn3 p.10
[28] UNION AFRICAINE, “MISSION D’OBSERVATION ELECTORALE DE L’UNION AFRICAINE POUR LES ELECTIONS GENERALES DU 30 DECEMBRE 2018 EN REPUBLIQUE DEMOCRATIQUE DU CONGO”, JANVIER 2019, P.38, https://bit.ly/3N6rTFa
[29] الجريدة الرسمية لجمهورية الكونغو الديمقراطية، م. س. ذ.
[30] Crisis Group, DR Congo: No Grace Period for the New Government, 5 May 2021, https://www.crisisgroup.org/africa/central-africa/democratic-republic-congo/dr-congo-no-grace-period-new-government
[31] Radio France Internationale, Présidentielle 2023 en RDC: un candidat conteste devant la Cour constitutionnelle la victoire de Félix Tshisekedi, 3/01/2024, https://www.rfi.fr/fr/afrique/20240103-pr%C3%A9sidentielle-2023-en-rdc-un-candidat-conteste-devant-la-cour-constitutionnelle-la-victoire-de-f%C3%A9lix-tshisekedi
[32]The World Bank, The World Bank in DRC, 25 Sep 2023, https://www.worldbank.org/en/country/drc/overview
[33] Ibid