بعد ساعات من سماع دوي إطلاق نار قرب مقر مفوضية الانتخابات والقصر الرئاسي ووزارة الخارجية في بيساو عاصمة دول غينيا بيساو صباح الأربعاء 26 نوفمبر، أعلن ضباط عسكريون في جيش غينيا بيساو توليهم “السيطرة الكاملة” على البلاد بعد ثلاثة أيام من الانتخابات التي أعلن المتنافسان الرئيسان لغمارها (الرئيس المنتهية ولايته عمر سيسوكو إمبالو ومنافسه فيرناندو دياز) فوز كل منهما بالمنصب.
وجاء في الإعلان، الذي ألقي من مقر الجيش في العاصمة بيساو تم بثه على شاشة التليفزيون الرسمي، تعليق الضباط للعملية الانتخابية برمتها وغلق حدود البلاد وتكوين “قيادة عسكرية عليا لاستعادة النظام” ستتولى حكم البلاد حتى “إشعار آخر”.
وجاء التحرك العسكري الأخير ضمن سلسلة من محاولات الانقلاب السابقة في الدولة الغرب إفريقية الصغيرة التي تقع على مساحة 36 ألف كيلو متر مربع، ويعيش بها 2.2 مليون نسمة بمتوسط دخل سنوي للفرد عند 963 دولار وفق تقديرات البنك الدولي (2024)، كما عنت الخطوة عزلًا فعليًا للرئيس “المنتهية ولايته” إمبالو، والذي كان يتطلع بدوره لأن يكون الرئيس الغيني الأول الذي يفوز بفترة رئاسة ثانية منذ ثلاثة عقود([1])، بينما أشار مراقبون محليون إلى احتجاز “القيادة العسكرية الجديدة” لإمبالو بالفعل بعد لحظات من إعلانه لقناة فرانس 24([2])، أنه تم عزله؛ مما يؤشر إلى اكتمال عملية الانقلاب بشكل حاسم.
أسباب الانقلاب ودلالاته: الاقتصاد أولًا؟
شهدت غينيا بيساو، الواقعة بين غينيا والسنغال وتطل على المحيط الأطلسي في غرب إفريقيا، منذ إنطلاق الانتخابات الرئاسية الأخيرة في 23 نوفمبر الجاري حالة عدم يقين إزاء مستقبل البلاد؛ واتضح ذلك جليًا في الحداث التي جرت في اليوم الأول من الانقلاب حيث أعلن الناطق باسم إمبالو سماع طلقات إطلاق نار يقوم بها مسلحون تابعون لمنافسه دياس، بينما اعلن الأخير ان إمبالو يحاول إيحاء الشعب الغيني بأنه ثمة محاولة انقلاب ضده.
كما جاء الإنقلاب ليمثل محطة جديدة في سلسلة الانقلابات التي ضربت غينيا بيساو منذ استقلالها عن البرتغال في العام 1974. إذ تملك غينيا بيساو تاريخًا من الهشاشة السياسية والمؤسساتية، وباتت من أكثر دول العالم التي تعرضت لانقلابات عسكرية منها أربعة انقلابات ناجحة (قبل الانقلاب الأخير) حوالي 17 محاولة انقلاب أو اتهامات بوقوع انقلابات.
كما يظل ملفتًا أن الانتخابات الرئاسية التي جرت في العام 2019 قد تلتها أزمة سياسية انتهت في أبريل 2020 باعتراف الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “إيكواس” بالرئيس (المعزول حاليًا) عمر إمبالو رئيسًا للجمهورية.
لكن الأخير عمد بشكل منهجي إلى تقويض بقية مؤسسات الدولة النيابية؛ إذ قام في مايو 2022 بحل البرلمان الغيني، ورغم عقد الانتخابات لتكوين برلمان جديد في يونيو 2023 فإنه تم حل البرلمان بعد فترة وجيزة في ديسمبر 2023 عقب أزمة دستورية، ثم تم تعيين حكومة من قبل إمبالو لإدارة البلاد حتى الانتخابات الأخيرة([3]).
وحسب تقديرات البنك الدولي الأخيرة بخصوص غينيا بيساو (أكتوبر 2025)، فإنه كان من المتوقع استمرار قوة النشاط الاقتصادي في العام 2025 (مع ملاحظة التقارير التي تؤكد ضلوع البلاد بقوة في تجارة الكوكايين العالمية بشكل رئيس وفاعل)، مع توقعات بنمو قدره 5.1%، مدعومًا بحملة زراعة الكاجو المواتية وارتفاع أسعار المنتجين، مما يحفز الطلب الخاص ويعزز النشاط في قطاع الخدمات. وكذا أن يتباطأ التضخم العام إلى متوسط 2.5% بفضل انخفاض أسعار الطاقة، كما توقع البنك انخفاض معدل الفقر المدقع (أقل من 3 دولارات أمريكية يوميًا، وفقًا لمتوسط القوة الشرائية لعام 2021) إلى 41.2% في عام 2025، مع ملاحظة أن متوسط دخل الفرد في غينيا بيساو يظل أقل من معدل الفقر المدقع المحدد من قبل البنك).
وسيدعم ارتفاع إنتاج الكاجو، إلى جانب توقعات أسعار صادراته المواتية، وانخفاض أسعار واردات النفط والمواد الغذائية، تضييق عجز الحساب الجاري إلى 6.1% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2025، منخفضًا من 8.6% في عام 2024. ومن المتوقع أن ينخفض العجز المالي إلى 4.9% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2025، مدعومًا بارتفاع إيرادات الكاجو وانخفاض النفقات الجارية.
ومن المتوقع أن ينخفض الدين العام إلى 78.5% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2025.وحسب تقديرات البنك الدولي فإنه كان من المتوقع أن يبلغ متوسط النمو 5.2% في الفترة 2026-2027. وأن يظل قطاع الزراعة محركًا للنمو، مدعومًا بالاستثمارات الحكومية الأخيرة التي كانت ستعزز دخل المناطق الريفية وتحفز الاستهلاك الخاص.
ومن المتوقع أن يعزز قطاعا البناء والخدمات، إلى جانب تحسين إمدادات الكهرباء والاستثمارات في الطرق والبنية التحتية للاتصال، التكامل الإقليمي ويجذب الاستثمارات الخاصة.
وكان من المتوقع أن يؤدي ارتفاع معدل النمو الفردي وانخفاض أسعار المواد الغذائية إلى خفض معدل الفقر إلى 37.2% في عام 2027.
كما توقع البنك أن التحسن في تحصيل الإيرادات واستمرار ضبط الإنفاق من شأنه أن يخفض العجز المالي والدين العام بنسبة 3.0%، و74% من الناتج المحلي الإجمالي على التوالي بحلول عام 2027([4]).
ورغم الأداء الاقتصادي الذي يبدو معقولًا رقميًا، فإن الأوضاع المعيشية لأغلب سكان غينيا بيساو أخذت في التراجع بشكل كبير، مع تزايد حدة الفقر وتراجع الخدمات لمستويات غير مسبوقة، وعمق من حدةة تردي هذه الأوضاع الاضطرابات السياسية التي عمد الرئيس المعزول إمبالو على تغذيتها باستمرار منذ وصوله للسلطة.
وتعزز فرضيات مقاربة إمبالو السلطوية ما شهدته فترة حكمه وحدها من ثلاثة محاولات انقلابات عسكرية ضده من بينها محاولة في ديسمبر 2023 (تلاه حله للبرلمان)، وآخرها محاولة في شهر أكتوبر الفائت عندما أعلنت السلطات الغينية أنها “ألقت القبض على مجموعة من كبار الضباط على خلفية الاشتباه في محاولة إسقاط الحكومة”.
كما أن الاقتصاد الغيني نفسه بات مشبوهًا بتجارة الكوكايين مثل إعلان الشرطة القضائية استيلائها على طائرة محملة بكمية ضخمة من الكوكايين بلغت 2.63 طنًا “كانت قادمة من فنزويلا”([5]).
غينيا بيساو والطريق “الإفريقي”:
وهكذا تتشابه السياقات الاقتصادية التقليدية الإفريقية، من جهة الصلة الوطيدة بين التسلط السياسي وتشوه توزيع عائدات التنمية بين المواطنين وتغلغل الفساد المؤسساتي الذي يخدم قطاعات مهيمنة داخل الدولة، في حالة غينيا بيساو، وسيكشف ذلك في الساعات المقبلة تبني القيادة العسكرية المتوقع لخطاب العدالة الاجتماعية والإصلاح الاقتصادي وإعادة غطلاق مرحلة انتقالية سياسية “غير محددة الأفق”، تكريسًا، على الأرجح، لإعادة تدوير النظام السياسي/ العسكري والأمني وشبكات مصالحه.
ويبدو أن الانقلاب سينحو اتجاهًا مناهضًا لنظام إمبالو (السياسي) بالكامل، إذ ورت معلومات حول قبض القائمون بالانقلاب على عدد من أهم رؤوس نظام إمبالو بالفعل مثل رئيس أركان القوات المسلحة الجنرال بياجو نا نتان Biaguê Na Ntan، ونائبه محمد توري ووزير الداخلية بوتشي كاندي Botche Cande، وأن الخطوات المتسارعة بإعلان تشكيل “القيادة العسكرية العليا لاستعادة الأمن القومي والنظام العام” لقيادة البلاد لمرحلة غير محددة تؤكد هذه الخلاصة، ولا يرجح مع هذه الخطوة إعلان فيرناندو دياس دي كوستا، منافس غمبالو، فائزًا في الانتخابات التي كان مقررًا إعلان الفائز فيها 27 نوفمبر([6]).
ويبدو أن الاستجابة الإقليمية (والدولية) تجاه الإنقلاب ستقف عند حدود “الترقب والانتظار”؛ مما سيسبغ عليه بشكل غير مباشر مقبولية مألوفة.
فقد وقع الانقلاب فيما توجد في البلاد قوات أمنية تقترب عناصرها من سبعة آلاف عنصر من قوة الاستقرار التابعة للجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا Economic Community of West African States (ECOWAS) Stabilisation Force تم نشرها بغرض تأمين عملية التصويت وفترة ما بعد الانتخابات.
واكتفت بعثات المراقبة من الاتحاد الأفريقي وإيكواس ومنتدى حكماء غرب إفريقيا West African Elders Forum بالتعبير عن “القلق العميق” في بيان عبرت فيها تلك البعثات عن تخوفها مما وصفته “بالمحاولة السافرة لعرقلة العملية الديمقراطية”، فيما تجاهلت مواقف إيكواس والاتحاد الأفريقي التلاعب السياسي الذي اتسم به عهد إمبالو ونظامه، وكان من آخر مؤشراته التلاعب بالقواعد السياسية القائمة لاستبعاد عدد من أهم معارضي نظام إمبالو من خوض الانتخابات البرلمانية والرئاسية([7])، وتوظيفه المحكمة العليا في البلاد لتمرير هذه الإجراءات “السياسية”.
ماذا بعد؟
لا يمثل الانقلاب في غينيا بيساو استثناءً في مسار “السياسة الإفريقية” في السنوات الأخيرة؛ لكن ما يميزه أنه انقلاب يستهدف حسم الخيارات السياسية بشكل مباشر، ومختصر للغاية، من قبل الجيش والقوى الداعمة له، وليس تحت غطاء احتجاجات شعبية أو أعمال عنف تهدد استقرار البلاد، بل هو أشبه “بانقلاب قصر”، كما أنه يمثل إقصاء لرئيس سعى مرارًا للتقرب من قوى دولية وفي مقدمتها الولايات المتحدة التي زارها في يوليو الماضي لحضور لقاء أفريقي- أمريكي (ضم رؤساء ليبيريا والجابون وموريتانيا والسنغال) وحاول خلالها تسويق الأهمية الاقتصادية لبلاده بالنسبة للمصالح الأمريكية([8]).
ولا يتوقع أن يكون للانقلاب اجندة “أيديولوجية” بأي حال من الأحوال، أو تجاوزه حدود إعادة هيكلة “النظام الحاكم” من قواعده إلى إدخال إصلاحات تعالج تشوهات الاقتصاد الكلي وتدني مؤشرات التنمية البشرية في دولة تحل في مؤشره للأمم المتحدة عن العام 2023-2024 في المرتبة 174 من إجمالي 185 دولة يشمله المؤشر. وهو الأمر الذي قد تكشف عنه خطوات قادة الانقلاب في الساعات المقبلة بشكل أكثر وضوحًا. ………………………………………..
[1] Rachel Savage, Guinea-Bissau military takes ‘total control’ amid election chaos, The Guardian, November 26, 2025 https://www.theguardian.com/world/2025/nov/26/guinea-bissau-officers-take-total-control-close-borders-amid-election-chaos
[2] Anaelle Jonah, ‘I have been deposed,’ Guinea-Bissau’s President Embalo confirms to FRANCE 24, November 26, 2025 https://www.france24.com/en/africa/20251126-live-guinea-bissau-military-officers-coup-elections-president-embalo
[3] The World Bank in Guinea-Bissau, World Bank Group, October 3, 2025 https://www.worldbank.org/en/country/guineabissau/overview
[4] Ibid.
[5] Army officers say they have seized power in Guinea-Bissau, Reuters, November 26, 2025 https://www.reuters.com/world/sustained-gunfire-near-guinea-bissau-election-commission-building-witnesses-say-2025-11-26/
[6] Sheriff Bojang, Guinea- Bissau: President Embalo arrested as soldiers say they have ‘taken full control of the country’ The Africa Report, November 26, 2025 https://www.theafricareport.com/400185/coup-in-guinea-bissau-embalo-arrested/
[7] G.Bissau rocked by coup, president’s arrest, RFI, November 26, 2025 https://www.rfi.fr/en/international-news/20251126-g-bissau-rocked-by-coup-d-etat-suspension-of-electoral-process
[8] US-Africa summit: Trump meets leaders of Gabon, Senegal and others, Reuters, July 9, 2025 https://www.reuters.com/world/trump-holds-africa-summit-with-leaders-senegal-gabon-2025-07-09/











































