تشهد جنوب إفريقيا، التي استضافت قمة مجموعة العشرين في يومي 22- 23 نوفمبر 2025، أزمات سياسية واقتصادية متنوعة، تؤثر بدورها على جهود الرئيس سيريل رامافوسا في السنوات الأخيرة؛ حيث حاول انتهاج سياسات خارجية تهدف إلى تحوُّل جنوب إفريقيا لتكون قيادة مهمَّة لما يُعرَف “بالجنوب العالمي”.
يتناول المقال الأول مساعي حكومة التحالف الوطني في جنوب إفريقيا بقيادة المؤتمر الوطني الإفريقي لمحاربة الفساد المؤسساتي في أروقة جهاز الشرطة الجنوب إفريقي وتمدُّده لمستويات سياسية خطيرة.
فيما يتناول المقال الثاني هجمة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على جنوب إفريقيا وحرمانها من مساعدات طبية سنوية كانت بالغة الأهمية في دعم جنوب إفريقيا لمواجهة تفاقم أزمة تفشي مرض الإيدز بين سكانها مع تجاوز عدد المصابين به هناك حاجز 8 ملايين فرد (13% من السكان).
أما المقال الثالث فيتناول محددات الخلاف الأمريكي الجنوب إفريقي مع انعقاد القمة المذكورة في جوهانسبرج، وهو الخلاف الذي يُنذر بتفجُّر أزمة دبلوماسية خطيرة تُلقي بظلالها على مجمل العلاقات بين البلدين بشكل مباشر.
كيف توغَّل عالَم جنوب إفريقيا السفلي في حكومتها([1]):
مع بدء وصول قادة العالم إلى جوهانسبرج لحضور قمة مجموعة العشرين G20 Summit تكشفت أمور أخرى بالقرب من مدينة بريتوريا الجنوب إفريقية. فقد ظهر، يوم بعد آخر منذ شهر سبتمبر الماضي، رجال شرطة وفاسدون ومسؤولون أمام لجنة تحقيق عامة –في فعاليات مذاعة تلفزيونيًّا للأمة-، فيما يتعلق بقضية حدوث عمليات قتل وخطف منهجية أزعجت البلاد.
وتولت المفوضية، التي أمر بتكوينها الرئيس سيريل رامافوسا، وبرئاسة القاضي المتقاعد مبوسيلي مادلانجا Mbuyiseli Madlan، مهمة كشف “الإجرام والتدخل السياسي والفساد في نظام العدالة الجنائية”. وأظهرت النتيجة أقذر عمليات غسيل أموال وفساد في البلاد، مع أدلة طالما تشكَّك الكثيرون في وجودها؛ وهي أن كوادر المؤتمر الوطني الحاكم لم يفشلوا فحسب في كبح جماح الجريمة المنظمة، بل إنهم، في بعض الحالات، ربما يكونون قد أقدموا على توفير غطاء لتغذية نشاط شخصيات في هذا العالم السفلي.
وبحسب ليزيت لانكستر Lizette Lancaster، وهي مُحلّلة في معهد دراسات السلام، فإن “ما تم كشفه في مثل هذه المفوضيات يُلْحِق الاتهام بحكم القانون في جنوب إفريقيا؛ إذ اتضح أن جماعات إجرامية تتوغَّل في أبنية الشرطة وأجهزة النيابة أو الادعاء، ولديها شعور بالأمان أنها بمقدورها تقديم رشاوى في كافة أروقة نظام العدالة.
وتم البدء في التحقيقات عندما عقد نلانهلا مخوانازي Nhlanhla Mkhwanazi، وهو مفوّض شرطي في إقليم كوازولو-ناتال، مؤتمرًا صحفيًّا خطيرًا في يوليو الماضي، يتّهم فيه وزير الشرطة سينزو مخونو Senzo Mchunu، وهو حليف بارز لرامافوسا، بالتدخل وإنهاء تحقيقات في عمليات قتل سياسية في جنوب إفريقيا.
وكشفت شهادة مخوانازي، التي تستحق أن تكون مسلسلًا تلفزيونيًّا رائجًا، كيف يتدخّل بعض رجال الشرطة أو يُهدّدون زملاءهم من أجل إغفال مُواصلة التحقيقات مع شخصيات على صلة وثيقة بهم. وكان من أبرز هؤلاء وأكثرهم لفتًا للاهتمام فبوسوموزي “كات” ماتلالا Vusumuzi “Cat” Matlala. وهو الرجل، الذي عُرف في جنوب إفريقيا بلقب “tenderpreneur” الذي فاز بعقود حكومية عبر علاقاته السياسية، وقد اتُّهم في العام الجاري بتوجيه ضربة غير مبررة والاعتداء على صديقته السابقة الممثلة تيبوجو ثوبيجين Tebogo Thobejane. كما تورط في تلاعب مزعوم بخصوص مستشفى تابعة للدولة بقيمة 116 مليون دولار (2 بليون راند)، وفقًا لتقرير من وحدة حكومية مناهضة للفساد، وهي تهمة خطيرة في دولة يعاني فيها نظام الرعاية الصحية الحكومية من أزمة.
وعلى ما يبدو، فإن “ماتلالا” يتمتع بصلات وثيقة مع ضباط كبار بجهاز الشرطة. وأنهم كانوا متعاونون للغاية معه، لدرجة أنهم سمحوا لسياراته باستخدام الضوء الأزرق مما يُتيح له عبور أيّ حواجز كسيارات المسؤولين الحكوميين.
وفي الأسبوع الماضي انهارت الناطقة باسم الشرطة كيليبوجيل تيبا Kelebogile Thepa وهي تحكي منهارة كيف أنه تم اختطافها مرتين مِن قِبَل رجال مسلحين بعد أن وُجِّه لها تحذير بضرورة أن تتراجع عن إصدار أيّ بيانات حول ماتلالا. “لقد أرادوا حرقي في السيارة”؛ بحسب شهادتها.
وادَّعى شاهد آخر، قدَّم شهادته عن بُعْد ولم يُعرَف إلا باسم “الشاهد ج”، أنّ ماتلالا قد دفع 500 ألف راند لتمويل حملة مخونو Mchunu لصالح حملة المؤتمر الوطني الإفريقي في انتخابات الرئاسة.
ومن جانبه ينكر ماتلالا جميع هذه الاتهامات الموجهة ضده، ويصف ادعاءات مخوانازي بأنها “وقحة، ومتوهمة، وغير ذات أساس قوي”. أما مخونو، وزير الشرطة السابق الذي تم وقفه عن العمل، فإنه يُنكر أيضًا جميع الاتهامات قائلًا: إنه لم يسبق له مقابلة ماتلالا. لكنّ التداعيات لا تزال جارية، مع إيقاف عدد آخر من عناصر الشرطة.
وفي تحرُّك دنيء يشي بخطورة الموقف، وُجد سفير جنوب إفريقيا السابق لفرنسا ميتًا، وهو وزير شرطة سابق آخر كان متهمًا بالتغطية على الفساد، وكان مقررًا أن يُقدّم شهادته لدى مادلانجا، ولكنه في شهر سبتمبر الماضي وُجِدَ ميتًا بعد سقوطه من شرفة غرفته بأحد الفنادق. وكانت الشرطة تحقق في موته كحادث انتحار محتمل.
وقال موسي مايمين Mmusi Maimane، الذي يقود حزب بناء جنوب إفريقيا واحدة Build One South Africa، والذي يتقاسم السلطة في حكومة تحالف المؤتمر الوطني الإفريقي: إن التحقيق أظهر أن الحكومة قد فشلت في مواجهة المحور القائم بين المسؤولين المارقين والشرطة والمجرمين. وقال: “كان هناك تركيز هائل على إصلاح أزمة الطاقة في جنوب إفريقيا في السنوات الماضية”، في إشارة إلى انقطاعات التيار الكهربائي حتى وقت قريب، “لكن الشيء الذي لم تستطع الحكومة التغلب عليه هو الجريمة”.
وفي الأسبوع الماضي صنّف مؤشر الجريمة المنظمة الذي تصدره المبادرة العالمية ضد الجريمة المنظمة الدولية Global Initiative Against Transnational Organised Crime جنوب إفريقيا في المرتبة السابعة كأسوأ دولة من بين 193 دولة. كما تشير أحدث الإحصاءات إلى أن معدل القتل يصل إلى 45 جريمة لكل 100 ألف مواطن، وهو من أعلى معدلات جرائم القتل في العالم.
وقال فيروز كاشاليا Firoz Cachalia، القائم بأعمال وزير الشرطة: إن التحقيق يُوفّر فرصة “لإعادة ضبط” reset مقاربة البلاد نحو فرض القانون وإنفاذه.
الولايات المتحدة قد تستبعِد جنوب إفريقيا من مِنَح علاج الإيدز([2]):
لم تبادر حكومة الولايات المتحدة بعقد اجتماع مع جنوب إفريقيا لمناقشة مواصلة مَنْحها معونات لمواجهة مرض الإيدز، ويرجح أنها لن تواصل إمداد البلاد بعلاج منع الإيدز بعيد الأثر الذي يُعرَف بليناكابافير Leanacapvir وسط خلاف سياسي آخِذ في التزايد بين البلدين.
وبينما بادر سفراء الولايات المتحدة في أرجاء القارة بعقد اجتماعات مع وزراء الصحة الأفارقة لمناقشة مذكرات التفاهم بخصوص مواصلة تقديم مِنَح خطة الرئيس الأمريكي الطارئة للإغاثة من الإيدز U.S. President’s Emergency Plan for AIDS Relief (PEPFAR) بدءًا من أبريل 2026م، فإن جنوب إفريقيا لم تتلقَّ مثل هذه الدعوة بعدُ.
وأوضح فوستر موهيل Foster Mohale، الناطق باسم وزارة الصحة في جنوب إفريقيا، أن الوزارة “لم تتلقَّ أيّ مراسلات من الحكومة الأمريكية بخصوص “خطة الرئيس الأمريكي الطارئة للإغاثة من الإيدز”. وبينما رفضت السفارة الأمريكية في جنوب إفريقيا ووزارة الخارجية الأمريكية التعليق على أسئلة بخصوص هذه المسألة، وإذا ما كانت واشنطن قد قررت بالفعل استبعاد جنوب إفريقيا من منح هذه الخطة مستقبلًا؛ فإن ناطقًا باسم السفارة الأمريكية تلقّى تعليقًا من جيريمي ليوين Jeremy Lewin ، مساعد وزير الخارجية للشؤون الإنسانية والحرية الدينية، يقول فيها: إن الولايات المتحدة “لن تُسهم بجرعات لجنوب إفريقيا”. وكان لوين قد قدَّم إفادة إعلامية في 17 نوفمبر الجاري جاء فيها: “إننا نشجع، بكل وضوح، جميع البلدان، ولا سيما دولة مثل جنوب إفريقيا على أن تكون لديها الوسائل الذاتية المهمة لتمويل جرعات لسكانها من هذا العقار المبتكَر أمريكيًّا، والذي طوَّرته جيلليد Gilead. إن الجرعات الأمريكية لن تذهب لجنوب إفريقيا”، وأكد لوين ذلك في اليوم الذي وصلت فيه أول 1000 جرعة من عقار ليناكابافير إلى كلّ من إسواتيني وزامبيا.
أكبر عدد من مرضى الإيدز:
يعيش نحو ثمانية ملايين نسمة في جنوب إفريقيا مع مرض فَقْد المناعة المكتسبة، وهم يمثلون نحو 13% من سكان البلاد. وهي أكبر جماعة من المصابين بالإيدز في العالم. وفي العام 2024م تلقت جنوب إفريقيا تمويلًا بقيمة 453 مليون دولار من “خطة الرئيس الأمريكي الطارئة” PEPFAR، وكان قد تم تخصيص مبلغ قيمته 439 مليون دولار لنفس الغرض عن العام 2025م. لكن هذا المبلغ تم تعليقه عندما أصبح دونالد ترامب رئيسًا في 20 يناير 2025م. وفي أكتوبر صادقت الحكومة الأمريكية على “خطة مرحلية لـPEPFAR” لجنوب إفريقيا عن الفترة 1 أكتوبر إلى 31 مارس 2026 بقيمة 115 مليون دولار.
وكانت العلاقات بين الولايات المتحدة وجنوب إفريقيا قد توترت بشدة منذ تولي دونالد ترامب رئاسة بلاده وتوقيعه أمرًا تنفيذيًا في فبراير “لوقف المعونات أو المساعدات الخارجية التي تُقدَّم لجنوب إفريقيا”. ويدّعي هذا الأمر الذي أثاره ترامب، على نحو غير صحيح، أن جنوب إفريقيا تضطهد الأفريكانريين البيض، وأنها اتخذت مواقف عدائية تجاه الولايات المتحدة وحلفائها، بما في ذلك اتهام إسرائيل، وليس حماس، بارتكاب إبادة في محكمة العدل الدولية.
وكانت الولايات المتحدة قد عرضت على الأفريكانريين البيض اللجوء للولايات المتحدة، كما طرح ترامب العديد من الملاحظات المسيئة عن جنوب إفريقيا، بما في ذلك خلال اجتماع مع الرئيس الجنوب إفريقي سيريل رامافوسا في البيت الأبيض. وفي وقتٍ مبكر من هذا الشهر انسحبت الولايات المتحدة من اجتماع مجموعة العشرين الذي تستضيفه جنوب إفريقيا خلال ساعات، مع تكرار ترامب دعاويه غير الصحيحة بالتمييز ضد البيض سببًا في ذلك الانسحاب.
تصاعد النزاع الجنوب إفريقي-الأمريكي([3]):
استمر النزاع بين جنوب إفريقيا والولايات المتحدة على خلفية قرار إدارة ترامب مقاطعة قمة مجموعة العشرين في جوهانسبرج، مع اعتراض جنوب إفريقيا على خطة أمريكية بمشاركة مسؤول بسيط بالسفارة في حفل الختام الذي سيشهد انتقال رئاسة جنوب إفريقيا للمجموعة للقمة المقبلة والتي ستنعقد في فلوريدا. إن القمة التي ستستمر ليومين وافتتحت السبت (22 نوفمبر) جاءت في لحظة حاسمة في السياسة العالمية. وكانت الولايات المتحدة قد اقترحت صفقة لإنهاء غزو روسيا لأوكرانيا، والتي اتفقت عليها واشنطن مع موسكو دون مشاركة أوكرانيا أو الاتحاد الأوروبي. كما تتهم واشنطن جنوب إفريقيا منذ شهور بالتمييز العنصري ضد الأقلية البيضاء التي حكمت البلاد خلال فترة الأبارتهيد، وهي الاتهامات التي ترفضها جنوب إفريقيا تمامًا.
وأكد الرئيس سيريل رامافوسا، خلال مؤتمر صحفي يوم 20 نوفمبر الجاري، أن على الولايات المتحدة أن تُغيِّر موقفها من المشاركة في قمة مجموعة العشرين، وأن يبادر الطرفان بمناقشة أيّ شكل ممكن من مشاركة الولايات المتحدة. وكان قد قال في وقت مبكر من اليوم نفسه: إن على البلدين احترام سيادتهما بشكل متبادل.
وردت سكرتيرة الصحافة بالبيت الأبيض كارولين ليفيت Karoline Leavitt بقولها: “إن الولايات المتحدة لن تشارك في المحادثات الرسمية في مجموعة العشرين في جنوب إفريقيا. لقد رأيت الرئيس الجنوب إفريقي هذا الشهر ينتقد الولايات المتحدة قليلًا، وكذلك رئيس الولايات المتحدة اليوم، وهذه لغة غير ملائمة من رئيس أو فريقه. وأضافت: “إن السفير أو ممثل له من السفارة في جنوب إفريقيا سيكون هناك لمجرد الاعتراف بأن الولايات المتحدة ستكون المضيف لمجموعة العشرين (في العام التالي). ولن يكون هناك للمشاركة في محادثات رسمية بالرغم من الادعاء الخاطئ للرئيس الجنوب إفريقي”.
مع ملاحظة أنه لا يوجد للولايات المتحدة حاليًّا سفير في بريتوريا، فيما يتولى مارك ديلارد Marc Dillard منصب نائب السفير أو القائم بالأعمال. ورد كثيرون من الجنوب أفارقة بغضب معتبرين قرار واشنطن إهانة لبلدهم. وقالت الناطقة باسم وزارة الخارجية كريسبين فيري: “لن يسلم الرئيس رئاسة المجموعة لمسؤول بسيط بالسفارة (الأمريكية)”. وكان الرئيس رامافوسا قد قال في وقتٍ سابق: إنه سيسلم رئاسة مجموعة العشرين “لمقعد فارغ”، لكنَّه كان يُفضّل أن يعطيه مباشرة لدونالد ترامب.
ومن المقرر أن تنعقد قمة العام 2026 في ملعب جولف بميامي “Trump National Doral Miami” في فلوريدا، الذي تملكه منظمة ترامب Trump Organization. ويقول محللون: إن مقاطعة الولايات المتحدة لقمة مجموعة العشرين ستضرّ أكثر مما تُفيد موقفها الدولي. وعلى سبيل المثال، بحسب أحد هؤلاء، فإن “الصين أو الهند في الماضي كانا يواجهان نقدًا بسبب أعمال معينة… والآن فإن الولايات المتحدة تُعتَبر بحق الدولة غير العاقلة؛ لأنه يصبح ظاهرًا على نحوٍ يزداد وضوحًا يومًا بعد آخر أن ما تقوم به حيال جنوب إفريقيا هو أمر خاطئ تمامًا.
……………………………
[1] Rob rose, How South Africa’s underworld infiltrated its government, Financial times, November 20, 2025 https://www.ft.com/content/01dc80e6-ac35-4cd7-980b-1db92729d88e
[2] Kerry Cullinan, South Africa May Be Excluded From Future US Grants for HIV Amid Political Row, Health Policy Watch, November 21, 2025 https://healthpolicy-watch.news/south-africa-may-be-excluded-from-future-us-grants-for-hiv-amid-political-row/
[3] Rachel Savage, South Africa’s dispute with US escalates amid row over G20 handover event, the Guardian, November 21, 2025 https://www.theguardian.com/world/2025/nov/21/run-up-to-g20-in-south-africa-marred-by-hosts-simmering-row-with-us











































