آية محسب عبد الحميد مصطفى
باحثة دكتوراه/ معهد البحوث والدراسات الإفريقية ودول حوض النيل- جامعة أسوان
مقدمة:
تُمثّل قمة لواندا لتمويل تنمية البُنى التحتية في إفريقيا، التي انعقدت في العاصمة الأنغولية لواندا في الفترة من 28 إلى 30 أكتوبر 2025م، محطةً إستراتيجية فارقة في مسار التنمية القارية، فبعد عقود من الاعتماد المكثّف على التمويل الخارجي المشروط من المؤسسات المالية الدولية، تسعى إفريقيا اليوم، عبر هذه القمة، إلى إعادة صياغة فلسفة التمويل التنموي على أُسسٍ من الاستقلال والسيادة الاقتصادية. وقد عُقدت القمة تحت شعار: «إفريقيا تجذب التمويل، لا تستجديه»«Africa attracts, not begs for capital» ، هذا الشعار لم يكن مجرد عبارة رمزية، بل جاء ليُجسّد تحوّلاً هيكلياً في الخطاب الإفريقي حول التنمية؛ إذ تعلن القارة من خلاله نيتها الانتقال من موقع المتلقي السلبي للمعونات إلى موقع الفاعل المنتج الذي يصوغ أولوياته التمويلية بنفسه، ويستثمر موارده وموقعه الجيوستراتيجي لبناء تنميته الذاتية[1].
لقد جاءت قمة لواندا كثمرة لمسارٍ طويل، بدأ منذ تأسيس برنامج تنمية البُنى التحتية في إفريقياPIDA عام 2012م، تحت مظلة الاتحاد الإفريقي والوكالة الإنمائية للاتحاد الإفريقي (AUDA-NEPAD)، كأداة تنفيذية لتحقيق أهداف أجندة 2063، التي تصوّر إفريقيا «مزدهرة، ومندمجة، ويقودها أبناؤها». غير أن السنوات الماضية كشفت أن الفجوة التمويلية الهائلة في البُنى التحتية- والتي تُقدّر بأكثر من 130 مليار دولار سنوياً- تُمثّل عائقاً أمام التكامل الاقتصادي القاري، وتعطل إمكانات القارة في مجالات التجارة والطاقة والنقل والرقمنة[2]، ولذلك سعت القمة إلى إطلاق نقاش إفريقي–إفريقي حول سبل تعبئة الموارد المحلية وتفعيل آليات التمويل الذاتي، عبر شراكاتٍ إستراتيجية بين الحكومات الإفريقية، والقطاع الخاص، وصناديق الاستثمار الإقليمية، والمصارف التنموية الإفريقية. فهي، في جوهرها، لم تكن مجرد لقاء اقتصادي، بل إعلان سياسي وتنموي جديد عن ولادة «نموذج إفريقي للتمويل»، يقوم على مبادئ السيادة، والابتكار، والمساءلة القارية المشتركة.
لقد شهدت القمة حضوراً رفيعاً ضمّ أكثر من 40 رئيس دولة وحكومة، إلى جانب قيادات مؤسسات مالية كبرى مثل البنك الإفريقي للتنمية AfDB، وبنك التصدير والاستيراد الإفريقي AfreximBank، وبنك التنمية الجديد التابع للبريكس NDB، ما منحها طابعاً إستراتيجياً فريداً يعكس تزايد الثقة الدولية في قدرة القارة على قيادة مسارها التنموي.[3] ويُعدّ اختيار أنغولا لاستضافة القمة ذا دلالة رمزية؛ إذ تعكس تجربتُها الوطنية في إعادة الإعمار بعد الحرب الأهلية نموذجاً يُحتذى في توظيف الموارد النفطية لبناء البُنى التحتية وتوسيع قاعدة الاقتصاد الوطني، كما أن موقعها الجغرافي في الجنوب الإفريقي يجعلها مركزاً محورياً في مشروعات الربط الإقليمي العابر للحدود التي تسعى إليها أجندة الاتحاد الإفريقي.
بهذا المعنى؛ لم تكن قمة لواندا مجرد حدث سياسي، بل إطاراً مؤسسياً جديداً لبناء إفريقيا المترابطة والمستقلة، وفضاءً لإعادة تعريف التمويل كأداة للسيادة لا كوسيلة للارتهان، فهي تعبّر عن إرادة إفريقية جماعية تدرك أن تمويل التنمية لا ينفصل عن السيادة، وأن الاستثمار في البُنى التحتية هو الاستثمار في الاستقلال ذاته.
يهدف هذا المقال إلى تقديم قراءة تحليلية شاملة لأعمال قمة لواندا لتمويل تنمية البُنى التحتية في إفريقيا (2025)، بوصفها محطةً إستراتيجية في مسار التحول نحو التمويل الإفريقي السيادي، وبناء نموذج تنموي مستقل قائم على التكامل القاري والشراكة الإقليمية. ومن خلال الاعتماد على الوثائق والمخرجات الرسمية الصادرة عن الاتحاد الإفريقي والوكالة الإنمائية (AUDA-NEPAD)، يسعى المقال إلى تحليل أبعاد القمة من خلال المحاور الآتية:
المحور الأول: نحو شراكة إفريقية جديدة لتمويل التنمية، ويركز على السياق العام لقمة لواندا وأهميتها، ورهاناتها السياسية والاقتصادية.
المحور الثاني: التحول من التمويل الخارجي إلى السيادة التمويلية، ويتناول التحول في فلسفة التمويل الإفريقي من التبعية إلى الاستقلال المالي.
المحور الثالث: شراكات جديدة وتمويل التحول القاري، ويحلل الأطر المؤسسية والتمويلية التي تم اعتمادها لتعزيز الاندماج القاري.
المحور الرابع: التحليل العام لنتائج قمة لواندا وتوصياتها، ويستعرض النتائج والتوصيات الرئيسة الصادرة عن القمة لتقييم مدى قدرتها على إرساء أُسس تحول تمويلي إفريقي حقيقي يُسهم في تحقيق أهداف أجندة إفريقيا 2063.
المحور الأول: نحو شراكة إفريقية جديدة لتمويل التنمية.. السياق العام لقمة لواندا وأهميتها:
تأتي قمة لواندا لتمويل تنمية البُنى التحتية في إفريقياLuanda Financing Summit 2025 في مرحلةٍ دقيقة من التحولات الاقتصادية والسياسية التي تشهدها القارة الإفريقية والعالم على حدٍّ سواء، فقد فرضت الأزمات المتتالية- من جائحة كوفيد19، إلى اضطرابات سلاسل الإمداد العالمية، والحروب الإقليمية، وتقلّبات أسعار الطاقة– واقعاً جديداً كشف عن هشاشة البُنى التحتية الإفريقية، وعن عمق اعتماد اقتصادات القارة على التمويل الخارجي المشروط. في هذا السياق؛ جاءت قمة لواندا لتجيب عن سؤالٍ إستراتيجي طالما طُرح في أدبيات التنمية الإفريقية: كيف يمكن للقارة أن تموّل نهضتها بنفسها؟
أولاً: خلفية تاريخية: من قمة داكار إلى قمة لواندا:
منذ انعقاد قمة داكار للتمويل 2014م Dakar Financing Summit 2014، في العاصمة السنغالية داكار خلال يونيو 2014م، والتي دُشِّنت تحت شعار «إطلاق إمكانات إفريقيا في البُنى التحتية»، وطرحت فيه صندوق Africa50 كآلية مبتكرة لتعبئة الموارد الإفريقية وتشجيع الشراكات بين القطاعَين العام والخاص[4]. ثمّ جاءت قمة داكار للتمويل 2023مDakar Financing Summit 2023 في فبراير 2023م، حيث جرى عرض 69 مشروع بنية تحتية بقيمةٍ تقارب 160 مليار دولار في إطار برنامج تنمية البُنى التحتية في إفريقيا PIDA باعتباره منصةً لتعبئة التمويل وتحسين جاهزية المشاريع[5]. أما قمة لواندا للتمويل 2025م Luanda Financing Summit 2025 (28‑31 أكتوبر 2025م)؛ فتمّ تصميمها كحلقة ثالثة تحت مظلة وكالة الاتحاد الإفريقي للتنمية African Union Development Agency (AUDA‑NEPAD) ومفوضية الاتحاد الإفريقي African Union Commission (AUC) في أنغولا، وعبّر مُنظّموها عن هدف القمة في «مَعبَدة رأس المال، والربط، والتجارة» من أجل تسريع الاستثمار في البُنى التحتية القارّية[6].
في هذا السياق؛ يُمكن رصد تحوّلاً مفصلياً في فلسفة التمويل التنموي الإفريقي: من مرحلة مبكرة ركّزت على جذب التمويل الخارجي والمساعدات، إلى مرحلةٍ تليها تستهدف تعبئة الموارد المحلية، وتوسيع الربط بين الأسواق المالية الإفريقية، وإعادة صياغة التمويل كأداةٍ للسيادة والتنمية الذاتية. يترجم هذا التطور رؤية المؤسسات الإفريقية نحو الانتقال من الاعتماد على الدعم الدولي إلى بناء شراكات «إفريقية–إفريقية»، تقوم على مصلحةٍ مشترَكة وتمويلٍ ذاتي مستدام.
ثانياً: القمة كمنصة لتسريع تنفيذ أجندة 2063:
تندرج قمة لواندا في صميم تنفيذ أجندة الاتحاد الإفريقي 2063، التي تُعد الإطار الأشمل لتحقيق التكامل الاقتصادي والتنمية المستدامة في القارة. فمشروعات البُنى التحتية– في مجالات النقل والطاقة والاتصالات والربط الإقليمي– تمثّل الركيزة الأساسية لتحقيق التكامل المنشود بين الدول الإفريقية.
وقد أكد البيان الرسمي للقمة أن تحقيق أهداف الأجندة يتطلب تعبئة ما لا يقل عن تريليون دولار أمريكي خلال العقد المقبل، لتمويل المشاريع ذات الأولوية ضمن المرحلة الثانية من برنامج تنمية البُنى التحتية في إفريقيا.[7](PIDA-PAP II)
جاءت القمة إذاً لتوفّر إطاراً عملياً لتسريع تنفيذ هذه المشاريع، عبر ربط الإرادة السياسية بالتمويل الفعلي، وتحفيز الحكومات والقطاع الخاص على العمل المشترك. وهي بهذا المعنى لم تكن مجرد مؤتمر للتعهدات، بل منصة تنفيذية لإطلاق مشروعات واقعية تهدف إلى تقليص الفجوة التنموية وتعزيز الترابط القاري.
ثالثاً: دور أنغولا ورمزيتها في احتضان القمة:
اختيار جمهورية أنغولا لاستضافة القمة لم يكن مصادفةً، بل يعكس تحوّلها خلال العقد الأخير إلى نموذج إفريقي في الاستثمار في البُنى التحتية كأداة للنهوض الاقتصادي. فأنغولا، التي خرجت من حرب أهلية طويلة، استطاعت أن تبني شبكات طرق ومواني وسكك حديدية تربطها بجيرانها في الجنوب الإفريقي، وتحوّل تجربتها الوطنية إلى مرجع للتكامل الإقليمي.
وفي كلمته خلال الجلسة الافتتاحية؛ شدّد الرئيس الأنغولي جواو لورينسو على أن «أنغولا استثمرت في بنيتها التحتية كوسيلة لإعادة بناء الدولة، وأن القارة بحاجةٍ إلى أن تفعل الشيء ذاته على مستوى قاري».[8]
كما اعتُبر تنظيم القمة في لواندا تأكيداً على الدور القيادي المتزايد لأنغولا في جنوب القارة، وعلى رغبة الاتحاد الإفريقي في توزيع الأدوار التنموية بين الأقاليم الإفريقية الخمسة بشكلٍ متوازن.
رابعاً: من المعونة إلى الشراكة: إعادة تعريف التمويل:
من أبرز ما تميزت به القمة هو التحول في الخطاب الاقتصادي الإفريقي من «المعونة» إلى «الشراكة»، فقد أكد الحاضرون، ومن بينهم رؤساء الدول والمؤسسات المالية الإفريقية، أن إفريقيا تمتلك من الموارد الطبيعية والبشرية ما يجعلها قادرةً على جذب الاستثمارات لا استجدائها. وقد عبّر أحد تقارير القمة الصادرة عن موقع (AUDA-NEPAD)، بعنوان: «إفريقيا تجتذب رأس المال ولا تتسوله- فهل تُثبت قمة لواندا ذلك؟» «Africa Attracts, Not Begs for Capital – Will the Luanda Summit Prove It?» ، عن هذا التحول بدقة، مشيراً إلى أن الرهان لم يعد على المانحين، بل على قدرة القارة على بناء بيئة استثمارية جاذبة تستند إلى حوكمة رشيدة، واستقرار مؤسسي، وتكامل مالي قاري.[9]
خامساً: أهمية القمة في السياق الدولي:
جاءت القمة أيضاً في سياق جيوسياسي عالمي يشهد تراجع هيمنة المؤسسات المالية الغربية وبروز بدائل جديدة كـبنك التنمية الجديد التابع للبريكس NDB، وصندوق تمويل الجنوب–الجنوب. هذا التحول يفتح أمام إفريقيا نافذةً جديدة لبناء تحالفات تمويلية أكثر عدالةً واستقلالاً. كما أن انعقاد القمة تزامن مع الجهود الجارية لتعزيز منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية AfCFTA، وهو ما يجعل تطوير البُنى التحتية شرطاً أساسياً لنجاح هذه المنطقة، خصوصاً في مجالات النقل العابر للحدود والطاقة والرقمنة.[10] لذلك تُعدّ قمة لواندا أكثر من مجرد حدث اقتصادي؛ فهي إعلان سياسي وتنموي جماعي عن نية إفريقيا إعادة تعريف علاقتها بالتمويل الدولي وبناء نموذجٍ جديدٍ قوامه السيادة والاعتماد الذاتي والشراكة المتكافئة. وقد مثّلت القمة نقطة التقاء بين الإرادة السياسية والوعي الاقتصادي الجديد في القارة، ومرحلةً تأسيسية لبناء إفريقيا «المتصلة، المندمجة، والمستقلة تمويلياً».
المحور الثاني: التحول من التمويل الخارجي إلى السيادة التمويلية في إفريقيا:
تُعدّ قمة لواندا 2025 نقطة تحوّل نوعية في الخطاب الإفريقي حول التمويل، إذ انتقلت من منطق الاعتماد على المساعدات الخارجية إلى بناء نموذج سيادي للتمويل التنموي، يقوم على تعبئة الموارد المحلية وتعزيز الشراكات بين الدول الإفريقية والقطاع الخاص الإقليمي. هذا التحول لا يعكس فقط طموحاً سياسياً نحو الاستقلال الاقتصادي، بل يترجم أيضاً رؤية مؤسسات الاتحاد الإفريقي– ولا سيما الوكالة الإنمائية للاتحاد الإفريقي (AUDA-NEPAD) في أن تصبح إفريقيا «جاذبةً؛ لا طالبةً لرأس المال»[11].
أولاً: الانتقال من منطق التبعية إلى منطق الشراكة:
خلال كلمات القادة في القمة؛ شدّد كلٌّ من رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي موسى فكي محمد ورئيس أنغولا جواو لورينسو على ضرورة تجاوز إرث الاعتماد على التمويل الخارجي المشروط، والدفع نحو نماذج تمويل ذاتية المصدر تعتمد على تعبئة المدخرات المحلية، وصناديق الثروة السيادية، وأسواق المال الإفريقية الناشئة. ففي كلمته الافتتاحية؛ أكّد فكي أنّ «إفريقيا لن تُبنى بالقروض وحدها، بل بالإرادة السياسية، وبالقدرة على استثمار مواردها الذاتية»[12]. أما الرئيس لورينسو؛ فقد دعا إلى «تحالف إفريقي للتمويل»، يهدف إلى توحيد الجهود الوطنية والإقليمية لتقليل الاعتماد على التمويل الأجنبي ورفع كفاءة المشروعات ذات العائد القاري[13].
ثانياً: المؤسسات الإقليمية كرافعة للتمويل الذاتي:
برز في القمّة الإفريقية الأخيرة الدور المتنامي للوكالة الإنمائية للاتحاد الإفريقي (AUDA-NEPAD) بوصفها المحرّك الرئيس لتعزيز ما يُعرف بـ«التمويل السيادي الإفريقي»، فقد ركّزت الوكالة على إطلاق مبادرات جديدة لدعم الدول الإفريقية في تصميم أدوات تمويل مبتكرة، من بينها السندات الخضراء، وصناديق البنية التحتية الإقليمية، والشراكات بين القطاعين العام والخاص PPPs، بما يعزّز القدرة على تمويل مشاريع التنمية من الداخل بدلاً من الاعتماد المفرط على القروض الخارجية.
وأظهر تقرير (AUDA-NEPAD) (2025) أن القارة تحتاج إلى استثمارات سنوية تتراوح بين 130 و170 مليار دولار أمريكي لسد فجوة البنية التحتية، في حين لا يتجاوز حجم التمويل المتاح حالياً 80 مليار دولار. وأشار التقرير إلى أن الحكومات الإفريقية تساهم بأكثر من 40% من إجمالي الإنفاق القاري على البنية التحتية، مما يعكس إمكانات مهمة لتعزيز التمويل الذاتي والتنمية الممولة محلياً؛ عبر تحسين تعبئة الموارد الداخلية وتوسيع قاعدة المستثمرين المحليين[14].
ثالثاً: المبادئ الجديدة للتمويل الإفريقي:
حددت قمة لواندا ثلاثة مبادئ محورية لتفعيل مفهوم السيادة التمويلية الإفريقية:
- الملكية الإفريقية للمشروعات: بحيث تكون الأولوية للمشروعات التي تخدم التكامل القاري، وتدار من قِبَل مؤسسات إفريقية.
- التمويل المستدام والمبتكر: عبر استخدام أدوات مالية تتماشى مع معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية (ESG).
- الشفافية والمساءلة: لضمان ثقة المستثمرين الأفارقة والدوليين في بيئة الأعمال داخل القارة.
وقد تبنّى القادة «إعلان لواندا» الذي يدعو إلى إنشاء صندوق إفريقي سيادي موحد للبنية التحتية، ليكون منصةً لتجميع الموارد الإفريقية واستثمارها في مشاريع النقل والطاقة الرقمية والربط القاري.[15]
رابعاً: من الجاذبية الاستثمارية إلى الاستقلال المالي:
أكدت كلمات عدد من رؤساء الدول المشاركين أن الوقت قد حان لتتحول إفريقيا من «مُتلقٍّ للتمويل» إلى «مُحدّدٍ لشروطه». وقد لخّص أحد التقارير الرسمية للقمة هذا التوجه في عبارة محورية: «إفريقيا لا تستجدي رأس المال، بل تجذبه من موقع قوة ورؤية».[16]
هذا التحول المفاهيمي يحمل دلالات اقتصادية وسياسية عميقة، إذ يسعى إلى ترسيخ استقلال القرار التنموي، وإعادة صياغة علاقة إفريقيا بمصادر التمويل العالمية، بما يجعلها أكثر تكافؤاً وفعالية.
المحور الثالث: شراكات جديدة وتمويل التحول القاري:
مثّل البُعد التشاركي في قمة لواندا 2025 حجر الزاوية في النقاشات المتعلقة بتمويل التنمية في إفريقيا، إذ سعت القمة إلى بناء جيل جديد من الشراكات الإفريقية–الإفريقية، يقوم على مبدأ «التمويل المشترك للتحول القاري» بدلاً من النموذج التقليدي القائم على المنح الخارجية أو القروض المشروطة. هذا التحول لا يهدف فقط إلى معالجة فجوة التمويل المقدّرة بتريليون دولار سنوياً، بل أيضاً إلى تحويل البنية التحتية إلى أداة للاندماج القاري، وتحرير الإمكانيات الإنتاجية واللوجستية للقارة، بما يتوافق مع رؤية أجندة 2063 للاتحاد الإفريقي.
أولاً: شراكات إفريقية – إفريقية: نحو اندماج تمويلي قاري:
أبرزت المناقشات التي جرت خلال القمة أنّ المستقبل المالي للقارة لا يمكن أن يُبنى إلا على أساس شراكات داخلية قوية بين الدول الإفريقية ومؤسساتها الإقليمية، فقد دعا قادة الدول إلى تعزيز الدور التمويلي لكلٍّ من البنك الإفريقي للتنميةAfDB ، وصندوق البنية التحتية الإفريقي Africa50، إلى جانب تأسيس آليات تمويل مشتركة بين التجمعات الاقتصادية الإقليمية مثل السادك SADC، والكوميسا COMESA، والإيكواس ECOWAS، لتوفير تمويل جماعي للمشروعات ذات البعد القاري. وقد أكّد البيان الختامي أن «توحيد الجهود الإفريقية هو الطريق الوحيد لتحقيق بنية تحتية قارية متكاملة تربط الأسواق، وتدعم التجارة البينية الإفريقية، وتُسرّع تنفيذ منطقة التجارة الحرة القارية AfCFTA»[17].
ثانياً: نحو جذب التمويل الذكي والمستدام:
لم تقتصر القمة على إطلاق دعوات سياسية عامة، بل شهدت طرح مبادرات عملية لتعزيز التمويل المستدام والمبتكر.
فقد أعلن الاتحاد الإفريقي و(AUDA-NEPAD) عن نية إنشاء منصة إلكترونية قارية للتمويل والبنية التحتية، تهدف إلى ربط المشاريع ذات الأولوية بالمستثمرين الأفارقة والعالميين من خلال أدوات رقمية تعتمد على الشفافية والحوكمة المالية.
كما تمّت مناقشة إدخال آليات تصنيف للمشروعات الإفريقية لضمان جودتها وجدواها الاقتصادية قبل عرضها على المستثمرين، في خطوة تستهدف بناء ثقة الأسواق برؤية «إفريقيا المُمولة ذاتياً»[18].
ثالثاً: القطاع الخاص الإفريقي كمحرّك للتحول:
أكدت القمة على الدور الحاسم للقطاع الخاص الإفريقي في تمويل التحول القاري، مشيرةً إلى أنّ مشاركة الشركات الوطنية والإقليمية لم تعد خياراً بل ضرورةً إستراتيجية. وفي هذا الإطار؛ أطلقت القمة مبادرة «تحالف القادة من أجل تمويل البنية التحتية»، وهي منصة تجمع بين رؤساء الدول، ومؤسسات التمويل الإفريقية، والقطاع الخاص، لتنسيق الجهود وتحديد المشروعات ذات الأولوية القارية في مجالات النقل، والطاقة، والربط الرقمي، والمياه. وقد وُصف هذا التوجه بأنه بدايةٌ لحقبة جديدة من «الرأسمالية الإفريقية المنتجة»، التي تسعى إلى إعادة تدوير رأس المال داخل القارة بدلاً من خروجه إلى الأسواق الأجنبية[19].
رابعاً: التمويل التحويلي والتحول القاري:
من بين النتائج الجوهرية للقمة تبنّي مفهوم التمويل التحويلي Transformational Financing، وهو نموذج يسعى إلى تمويل مشاريع لا تقتصر على بناء البنية التحتية المادية، بل تمتد لتشمل التحول الرقمي، والتنمية الخضراء، وتعزيز القدرات المؤسسية. وقد أكد تقرير الاتحاد الإفريقي أن «البنية التحتية ليست مجرد طرق وسكك حديدية، بل منظومة تمكينية للتحول القاري»، بما في ذلك التحول في سلاسل القيمة، والابتكار الصناعي، والتكامل الطاقي بين الدول الإفريقية[20].
خامساً: من القمة إلى التنفيذ: التزامات مؤسسية واضحة:
في ختام القمة؛ تم اعتماد «إعلان لواندا» الذي تضمن التزامات محددة بإنشاء آلية متابعة دورية داخل الاتحاد الإفريقي لمراقبة تنفيذ مشروعات البنية التحتية الكبرى، مع رفع تقارير نصف سنوية إلى مجلس رؤساء الدول والحكومات. كما تم الاتفاق على عقد قمة تمويل سنوية لمراجعة التقدم المحرز في تعبئة الموارد، بما يعزز الطابع المؤسسي لمسار التمويل القاري ويُحوّله من مبادرة ظرفية إلى سياسة إفريقية مستدامة[21].
ويتضح أن قمة لواندا لم تكن مجرد اجتماع للبحث عن التمويل، بل كانت إعلاناً عن نموذج تنموي جديد يقوم على الشراكة الإفريقية، والمساءلة المؤسسية، والسيادة التمويلية. لقد وضعت القارة على طريق التحول من التمويل الموجّه من الخارج إلى التمويل المنتج من الداخل، ومن مشروعات منعزلة إلى رؤية قارية متكاملة، تسعى لبناء إفريقيا المترابطة والمستقلة اقتصادياً.
المحور الرابع: التحليل العام لنتائج قمة لواندا وتوصياتها:
تُعدّ قمة لواندا لتمويل تنمية البُنى التحتية في إفريقيا (2025) محطةً تاريخية في مسار بناء السيادة الاقتصادية الإفريقية، فهي لم تكتفِ بإعادة صياغة الخطاب التنموي حول التمويل، بل وضعت أساساً عملياً لتحوّلٍ إستراتيجي في كيفية إدارة القارة لمواردها ومشروعاتها الكبرى. لقد كشفت القمة عن وعيٍ إفريقي متزايد بضرورة الانتقال من منطق «الاحتياج» إلى منطق «التمكين»، حيث أصبحت البنية التحتية تُفهم لا كغاية في ذاتها، بل كأداة لتحقيق التحول الإنتاجي والتكامل القاري والاستقلال المالي.
أولاً: من التعهدات إلى الأطر التنفيذية:
أظهرت القمة التزاماً سياسياً عالي المستوى، تمثّل في مشاركة رؤساء دول وحكومات وقيادات مؤسسات تمويلية إفريقية كبرى، وهو ما منح نتائجها طابعاً مؤسسياً واضحاً، فقد تم اعتماد «إعلان لواندا» الذي نصّ على ضرورة إنشاء صندوق إفريقي موحد للبنية التحتية، وتفعيل منصة التمويل القاري الرقمية التي تشرف عليها (AUDA-NEPAD) لتنسيق الجهود بين الحكومات والقطاع الخاص والمستثمرين[22]. كما تم الاتفاق على إعداد خريطة طريق تنفيذية لتسريع إنجاز المشاريع ذات الأولوية في مجالات النقل والطاقة والربط الرقمي والمياه، بالتكامل مع مشروعات برنامج تنمية البنية التحتية في إفريقيا PIDA، وهو ما يعكس توجهاً نحو مأسسة التمويل القاري وتحويله إلى سياسةٍ مستدامة بدلاً من مبادرات ظرفية.
ثانياً: تعزيز مفهوم السيادة التمويلية:
أحد أهم المخرجات المفاهيمية لقمة لواندا كان تأكيدها على مفهوم السيادة التمويلية Financial Sovereignty، أي حق إفريقيا في تحديد أولوياتها التمويلية وتنويع مصادر تمويلها بعيداً عن الهيمنة المالية الدولية، فقد أبرزت مداخلات القادة– ولا سيما كلمة رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي موسى فكي محمد- أن «إفريقيا تملك الموارد الكافية لبناء مستقبلها إذا ما استطاعت توجيهها بفعالية وعدالة».[23] كما شدّد رئيس أنغولا جواو لورينسو على أن القارة «لن تتحرر تنموياً ما دامت تعتمد على تمويل خارجي مشروط»، داعياً إلى تعبئة المدخرات الإفريقية، وتفعيل صناديق الثروة السيادية، لتكون مصدراً رئيسياً للاستثمار في البنية التحتية[24].
ثالثاً: التمويل التحويلي كمدخل للتنمية المستدامة:
أفرزت القمة توجّهاً جديداً في التفكير التنموي الإفريقي من خلال تبنّيها لمفهوم التمويل التحويلي Transformational Financing، الذي لا يقتصر على توفير الموارد المالية، بل يشمل إعادة هيكلة بيئة التمويل نفسها لتكون محفزةً على الابتكار، والحوكمة، والتنمية الخضراء، فالمشروعات التي تمت مناقشتها– مثل ممرات النقل القارية، ومشروعات الطاقة العابرة للحدود، والبنية التحتية الرقمية– تعكس رؤية إفريقية لتمويل التحول الشامل لا مجرد سدّ فجوات مالية[25].
رابعاً: إعادة تعريف الشراكة مع العالم:
من بين أبرز التحولات التي أفرزتها القمة هو إعادة صياغة مفهوم الشراكة مع الفاعلين الدوليين، فقد أكدت إفريقيا أنها لا تبحث عن المساعدات، بل عن استثمارات عادلة تقوم على تبادل المنافع، بما يرسّخ استقلالية القرار الإفريقي ويعزز قدرته التفاوضية. وقد عبّرت بيانات القمة عن هذا التوجه بوضوح بعبارةٍ لافتة: «إفريقيا لا تستجدي رأس المال، بل تجذبه من موقع قوة ورؤية»[26].
هذا الخطاب الجديد يُعيد التموضع الإستراتيجي للقارة في النظام المالي العالمي، ويؤسس لمرحلةٍ من التمويل التعاوني المتوازن القائم على الشفافية والندية والاحترام المتبادل.
خامساً: التحديات المستقبلية ومسارات المتابعة:
على الرغم من الزخم الذي أحدثته القمة؛ فإن تنفيذ مخرجاتها سيواجه تحديات هيكلية، أهمها:
- ضعف مؤسسات التمويل المحلية، وغياب التنسيق بين التجمعات الإقليمية.
- تفاوت القدرات الاقتصادية بين الدول الإفريقية، ما يخلق فجوةً في قابلية التنفيذ.
- استمرار هشاشة بعض أسواق المال الإفريقية أمام تقلبات رأس المال الأجنبي.
ولذلك؛ شدّد المشاركون في الجلسة الختامية على ضرورة إنشاء آلية متابعة وتقييم دورية بإشراف الاتحاد الإفريقي و (AUDA-NEPAD)، لضمان تحويل التعهدات إلى برامج تنفيذية واقعية.[27]
جدول ملخص أعمال قمة لواندا لتمويل تنمية البُنى التحتية في إفريقيا (2025):

المصدر: من إعداد الباحثة، بناءً على البيانات السابقة.
ختاماً:
يمكن القول إن قمة لواندا 2025م مثّلت إعلاناً عن ميلاد سياسة تمويل إفريقية مستقلة، تسعى إلى إعادة صياغة العلاقة بين التنمية والسيادة، بين الموارد والإرادة. لقد جسّدت القمة انتقال القارة من مرحلة الخطط إلى مرحلة الأفعال، ومن التبعية إلى المبادرة، ومن التمويل الخارجي إلى التمويل الإفريقي الذاتي الموجَّه للتحول القاري. كما عززت فكرة أن البنية التحتية ليست مشروعاً هندسياً فقط، بل مشروعاً سياسياً وتنموياً لبناء إفريقيا الموحّدة والمتكاملة.
إن نجاح تنفيذ مخرجات القمة سيعتمد على مدى قدرة الدول الإفريقية على توحيد الرؤية، وتعزيز الحوكمة المالية، واستثمار ثرواتها البشرية والطبيعية في بناء مستقبل يقوم على الاعتماد الذاتي، والتمويل المستدام، والسيادة الاقتصادية.
…………………………………………
[1] African Union Commission. (2025, October 28). Luanda Financing Summit for Africa’s Infrastructure Development. Retrieved from: https://au.int/en/newsevents/20251028/luanda-financing-summit-africas-infrastructure-development
[2] African Union Development Agency–NEPAD. (2025, October 29). AUDA-NEPAD reinforces mandate to accelerate Africa’s infrastructure development at Luanda Financing Summit. Retrieved from: https://lfs.au-pida.org/news/auda-nepad-reinforces-mandate-to-accelerate-africas-infrastructure-development-at-luanda-financing-summit
[3] African Union Commission. (2025, October 28). African leaders converge in Luanda to unlock trillion-dollar infrastructure investments at landmark finance summit. Retrieved from: https://au.int/en/pressreleases/20251028/leaders-converge-luanda-unlock-trillion-dollar-infrastructure-investments
[4] https://www.afdb.org/en/news-and-events/dakar-financing-summit-for-infrastructure-recommends-that-africa-relies-on-itself-13311?
https://www.africanews.it/english/dakar-financing-summit-on-africas-infrastructure/?
[5] https://africa.sis.gov.eg/english/africa-today/african-news/dakar-financing-summit-160-billion-worth-of-infrastructure-projects-for-africa/
[6] https://au.int/en/newsevents/20251028/luanda-financing-summit-africas-infrastructure-development
[7] African Union Commission. (2025, October 28). African leaders converge in Luanda to unlock trillion-dollar infrastructure investments at landmark finance summit. Op, Cit.
[8] Lourenço, J. M. G. (2025, October 28). Address by H.E. João Manuel Gonçalves Lourenço, President of the Republic of Angola and Chairperson of the African Union at the 3rd Summit on Financing for Infrastructure Development in Africa. Retrieved from: https://au.int/en/speeches/20251028/address-president-angola-3rd-summit-financing-infrastructure-dev
[9] Wahabou, I. (2025, August 11). Africa attracts, not begs, for capital: Will the Luanda Summit prove it? Retrieved from: https://lfs.au-pida.org/news/africa-attracts-not-begs-for-capital-will-the-luanda-summit-prove-it
[10] African Union Commission. (2025, October 29). Luanda Summit | Building a Sovereign Africa: Continental Leaders Unite to Finance Connectivity and Integration. Retrieved from: https://au.int/en/pressreleases/20251028/luanda-summit-building-sovereign-africa-continental-leaders-unite
[11] Ibid.
[12] https://au.int/en/speeches/20251028/auc-chairperson-statement-third-summit-financing-infrastructure-dev
[13] https://au.int/en/speeches/20251028/address-president-angola-3rd-summit-financing-infrastructure-dev
[14] AUDA-NEPAD. (2025). The Missing Connection: Unlocking Sustainable Infrastructure Financing in Africa. African Union Development Agency. p.4. https://back.africaeuropefoundation.org/uploads/AEF_NEPAD_Technical_Paper_2487fc9068.pdf
[15] https://au.int/en/pressreleases/20251028/leaders-converge-luanda-unlock-trillion-dollar-infrastructure-investments
[16] https://lfs.au-pida.org/news/africa-attracts-not-begs-for-capital-will-the-luanda-summit-prove-it
[17] https://au.int/en/pressreleases/20251028/leaders-converge-luanda-unlock-trillion-dollar-infrastructure-investments
[18] https://lfs.au-pida.org/news/auda-nepad-reinforces-mandate-to-accelerate-africas-infrastructure-development-at-luanda-financing-summit
[19] https://lfs.au-pida.org/news/luanda-summit-building-a-sovereign-africa-continental-leaders-unite-to-finance-connectivity-and-integration
[20] https://au.int/en/pressreleases/20251028/leaders-converge-luanda-unlock-trillion-dollar-infrastructure-investments
[21] https://au.int/en/videos/20251030/closing-luanda-financing-summit-africas-infrastructure-development
[22] https://au.int/en/pressreleases/20251028/leaders-converge-luanda-unlock-trillion-dollar-infrastructure-investments
[23] https://au.int/en/speeches/20251028/auc-chairperson-statement-third-summit-financing-infrastructure-dev
[24] https://au.int/en/speeches/20251028/address-president-angola-3rd-summit-financing-infrastructure-dev
[25] https://lfs.au-pida.org/news/luanda-summit-building-a-sovereign-africa-continental-leaders-unite-to-finance-connectivity-and-integration
[26] https://lfs.au-pida.org/news/africa-attracts-not-begs-for-capital-will-the-luanda-summit-prove-it
[27] https://au.int/en/videos/20251030/closing-luanda-financing-summit-africas-infrastructure-development











































