قراءة تحليلية في كتاب “مفاهيم حول إفريقيا: وجهات نظر من العلوم والإنسانيات”

آية محسب عبد الحميد مصطفى

باحثة دكتوراه/ معهد البحوث والدراسات الإفريقية ودول حوض النيل- جامعة أسوان

مقدمة:

يُعدّ كتاب Conceptualizations of Africa: Perspectives from Sciences and Humanities (Springer Nature, 2024) أحد أبرز الإسهامات في حقل الدراسات الإفريقية متعددة التخصصات؛ إذ يسعى إلى إعادة تعريف إفريقيا كحقل معرفي متكامل تتقاطع فيه العلوم والإنسانيات، في محاولة لتفكيك الصورة النمطية التي كرّستها الكتابات الغربية حول القارة.

أشرف على تحريره عبد الكريم بانغورا وج.ب. أفاميفونا إفيدي، اللذان جمَعا نخبة من الباحثين من تخصصات متنوعة لتقديم رؤية شمولية لماهية “إفريقيا”، وكيفية تمثّلها في الحقول العلمية والفكرية.

وتتجلّى أهمية هذا العمل في كونه يسدّ فجوة واضحة في الأدبيات الأكاديمية التي تناولت “فكرة إفريقيا”، بعد أعمال فالنـتان-إيف موديمبي (The Invention of Africa, 1988؛ The Idea of Africa, 1994) وفلايش وستيفنز (Doing Conceptual History in Africa, 2018)؛ إلا أن هذا الكتاب يتجاوز الطابع النظري الضيّق لتلك الدراسات، ليقدّم خريطة معرفية متكاملة توزّع موضوع “إفريقيا” عبر أكثر من عشرين فصلًا تُغطّي حقولًا تمتد من علم النفس الإفريقي إلى الاقتصاد والعلاقات الدولية والأديان الإفريقية وحقوق الإنسان والأدب، بما يجعل منه مرجعًا تأسيسيًّا لأيّ باحث يسعى إلى مقاربة القارة من منظور متداخل الحقول.

إنّ هذا المشروع الفكري، بما يتضمّنه من عمق تحليلي واتساع معرفي، لا يكتفي بمُساءَلة التصورات الغربية حول إفريقيا، بل يسعى إلى إعادة تموضع القارة كمصدر للمعرفة، وكفضاءٍ لتوليد نظريات بديلة تشتبك مع الواقع العالمي المعاصر. بذلك، يمثل الكتاب خطوة رائدة نحو إعادة الاعتبار للفكر الإفريقي كفاعلٍ معرفي ومُنتِجٍ للمعنى، لا كموضوعٍ للدراسة فحسب. وانطلاقًا من هذه الرؤية، يتناول الكتاب بنية معرفية ثرية تستحق الوقوف عند منهجها ومضامينها الأساسية.

المحور الأول: خلفية عن مضمون الكتاب ومنهجه الأكاديمي

يتميّز كتاب Conceptualizations of Africa ببنيته المنهجية المحكمة التي تجمع بين الصرامة الأكاديمية والانفتاح المعرفي؛ إذ يقوم على مقاربة متعددة التخصصات (Multidisciplinary Approach) تهدف إلى تفكيك الصورة الأحادية التي طالما صوّرت إفريقيا من منظور خارجي ضيِّق. فالعمل لا ينظر إلى القارة من زاوية جغرافية أو سياسية فحسب، بل يسعى إلى فهمها كـفضاءٍ معرفيّ متشابك تُسهم فيه العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانية في آنٍ واحد.

في هذا الإطار، قسّم المحرران بانغورا وإفيدي الكتاب إلى قسمين رئيسيين:

• الجزء الأول العلوم (Sciences)، ويتناول كيفية تصور إفريقيا داخل فروع معرفية مثل علم النفس، والاقتصاد، والبيئة، وعلوم الحاسوب، والتعليم، والعلاقات الدولية، والرياضيات، وغيرها.
• الجزء الثاني الإنسانيات(Humanities) ، ويركّز على الجوانب الفكرية والثقافية، مثل الدين الإفريقي، والتاريخ، وحقوق الإنسان، والأدب، والتنمية المجتمعية، ودراسات المرأة، والشباب.

ويعتمد كلّ فصل في الكتاب على نموذج تحليلي مُوحّد يضمن الاتساق بين الفصول؛ حيث يبدأ بتعريف التخصص العلمي وبيان علاقته بالتصورات حول إفريقيا، ثم يناقش المفاهيم الأساسية التي تناولت القارة داخل هذا التخصص، ويتبعها تحليل نقدي لأمثلة واقعية ودراسات حالة تُوضِّح التباين في الرؤى، قبل أن يختتم الفصل بخلاصات واستشرافات بحثية مستقبلية.

من خلال هذا المنهج، يُؤسِّس الكتاب لرؤية معرفية جديدة تُعيد الاعتبار للفكر الإفريقي، لا بوصفه مجرد ردّ فِعْل على الخطاب الغربي، بل كحقل معرفي مستقلّ له مناهجه ونُظُمه الفكرية الخاصة.

ويبرز في هذا السياق جهد بانغورا وإفيدي في التأكيد على أن فهم إفريقيا المعاصرة يستوجب تجاوز الحدود الأكاديمية الضيقة نحو التكامل بين التخصصات؛ لأن القارة –كما يصفانها– “كيان متعدّد الأوجه، لا يمكن مقاربته إلا عبر تضافر أدوات العلوم والإنسانيات معًا.

كما يُبرز الكتاب، من خلال فصوله، النقلة المفاهيمية من “إفريقيا المدروسة” إلى “إفريقيا الدارسة”؛ أي من كون القارة موضوعًا لبحوث خارجية إلى كونها ذاتًا فاعلة في إنتاج المعرفة عن نفسها. وبذلك يتحوّل الخطاب الأكاديمي حول إفريقيا من خطاب الوصف إلى خطاب التأسيس، ومن التلقي إلى الإسهام، في إطار مشروع أوسع يسعى إلى “أفْرقة” العلوم والمعارف المعاصرة.

المحور الثاني: أهمية الكتاب وإسهامه في حقل الدراسات الإفريقية المعاصرة

تنبع أهمية كتاب Conceptualizations of Africa: Perspectives from Sciences and Humanities من كونه يُمثِّل تحولًا معرفيًّا ومنهجيًّا في دراسة القارة الإفريقية. فهو لا يُقدِّم إفريقيا كموضوعٍ خارجيّ للبحث، بل يسعى إلى تأصيل رؤية فكرية من داخل القارة نفسها، عبر استحضار مفاهيم ومناهج تنبع من التجربة الإفريقية التاريخية والثقافية والاجتماعية. بهذا المعنى، يُشكِّل الكتاب خطوة نوعية نحو بناء باراديغم (paradigm) إفريقي جديد قادر على منافسة الخطابات الغربية المهيمنة في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية.

يُعيد بانغورا وإفيدي من خلال هذا العمل تأكيد فكرة أن “إفريقيا ليست فراغًا معرفيًّا ينتظر أن يُملأ من الخارج”، بل هي حاضنة فكرية غنية تمتلك أدواتها الخاصة في تفسير العالم وفهم ذاتها. ويأتي هذا الطرح استكمالًا لجهود روّاد الفكر الإفريقي المعاصر مثل فالنتان-إيف موديمبي ونغوجي واثيونغو وشعبان روبيرت، الذين دعوا إلى ضرورة استعادة إفريقيا لصوتها في إنتاج المعرفة. إلا أن ما يُميِّز هذا الكتاب هو أنه يتجاوز التنظير المجرد إلى تطبيق عملي عبر فصوله المتعددة؛ حيث يبيِّن كيف تنعكس المفاهيم الإفريقية في مجالات الاقتصاد والسياسة والدين والتعليم والعلوم الطبيعية والتقنية.

كما يكتسب الكتاب قيمته العلمية من كونه ينتمي إلى سلسلة أكاديمية محكمة تصدر عن African Studies and Research Forum Series التابعة لدار Springer Nature، مما يُضفي عليه بُعدًا توثيقيًّا ومعياريًّا يجعله مرجعًا رئيسيًّا في حقل الدراسات الإفريقية. وبفضل طابعه الجماعي وتعدد أصوات الباحثين المشاركين فيه من مختلف الجامعات الإفريقية والعالمية، يعكس العمل تنوع التجارب والمقاربات الإفريقية، ويقدّم نموذجًا لتعاون أكاديمي عابر للحدود، يُعيد تعريف مفهوم “المعرفة الكونية” من منظور إفريقي.

إن القيمة المضافة التي يُقدّمها هذا الكتاب تكمن في كونه يُعيد وَصْل العلوم الحديثة بجذورها الثقافية والأنطولوجية الإفريقية، فيعيد الاعتبار للفكر المحلي بوصفه مصدرًا للإبداع المعرفي لا عائقًا أمامه. ومن خلال ذلك، يسهم في بناء رؤية فكرية متماسكة حول “أفْرقة المعرفة” (Africanization of Knowledge)، ويطرح دعوة واضحة إلى إعادة صياغة العلوم من منظور سياقي يعترف بتعددية المصادر والمقاربات.

المحور الثالث: محاور مركزية للكتاب

يرتكز كتاب Conceptualizations of Africa: Perspectives from Sciences and Humanities على مجموعة من المحاور الفكرية المركزية التي تُشكّل الإطار العام لرؤيته النقدية والمعرفية.

1-المحور الأول: هو إعادة تعريف “إفريقيا” كمفهوم معرفي متعدد الأبعاد؛ فالكتاب لا يتعامل مع القارة باعتبارها مجرد كيان جغرافي أو موضوع دراسي، بل باعتبارها فكرة متحركة تتجدد بتجدد المقاربات العلمية والفكرية. وهنا يسعى المحرران بانغورا وإفيدي إلى تفكيك الصور النمطية التي صاغها الاستشراق والأكاديميات الغربية حول إفريقيا بوصفها “الهامش”، ليبرزا القارة كـمركزٍ بديلٍ لإنتاج المعرفة.

2-المحور الثاني: يتمثل في الدعوة إلى المنهج متعدد التخصصات (Multidisciplinary Approach)، الذي يُعدّ العمود الفقري للكتاب. ففهم الظواهر الإفريقية –في الاقتصاد، والسياسة، والبيئة، والثقافة، والدين– لا يمكن أن يتم داخل حدود تخصص واحد، بل عبر تفاعل العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانية معًا. ويبرز هذا المنهج في فصول الكتاب التي تمزج بين التحليل الكمي في العلوم، والقراءة النقدية في الفكر والثقافة، لتقديم صورة متكاملة عن القارة.

3-المحور الثالث: نقد المركزية الغربية وإعادة الاعتبار للذات الإفريقية. إذ يسعى الكتاب إلى بناء “سردية مضادة” (Counter-Narrative) تُبرز الكفاءة المعرفية الإفريقية في تفسير الواقع وإنتاج النظرية، مستندًا إلى التراث الفكري والأنظمة الرمزية المحلية. وهنا تبرز فكرة “أفْرقة المعرفة” كأحد المفاهيم الجوهرية التي يطرحها العمل، في محاولة لتحرير الفكر الإفريقي من التبعية المعرفية وإعادة توجيه مسار البحث العلمي نحو جذوره الثقافية.

4-المحور الرابع: يتمثل في الربط بين النظرية والتطبيق؛ حيث تتناول الفصول تطبيقات واقعية لهذه الرؤى في مجالات التعليم، والتنمية، وحقوق الإنسان، والعلاقات الدولية، والاقتصاد البيئي، لتؤكد أن الفكر الإفريقي ليس خطابًا تأمليًّا فقط، بل ممارسة عملية تسعى إلى معالجة التحديات التنموية والاجتماعية في القارة.

وأخيرًا، يطرح الكتاب مشروعًا معرفيًّا تحرريًّا طويل المدى، يقوم على تمكين الباحثين الأفارقة من إعادة كتابة تاريخهم ومفاهيمهم بأدواتهم الخاصة، في إطار رؤية تُعيد التوازن إلى المشهد المعرفي العالمي، وتفتح الباب أمام بناء “علم إفريقي للإنسان والمجتمع” قائم على التجربة والسياق والثقافة المحلية.

المحور الرابع: محتويات الكتاب

يضم كتاب Conceptualizations of Africa: Perspectives from Sciences and Humanities ما يزيد عن عشرين فصلًا متكاملًا، توزعت على قسمين رئيسيين: قسم العلوم (Sciences) وقسم الإنسانيات (Humanities)، ليُعبِّر كلاهما عن الرؤية الشمولية التي يتبناها المحرران في تناول فكرة “إفريقيا” من زوايا معرفية متعددة.

أولًا: القسم الأول – العلوم (Part I: Sciences)

يُعدّ هذا القسم الركيزة العلمية للكتاب Conceptualizations of Africa: Perspectives from Sciences and Humanities؛ إذ يهدف إلى إعادة بناء مفهوم “إفريقيا” من منظور العلوم التجريبية والاجتماعية التطبيقية. ويعكس القسم توجهًا فكريًّا نحو “أفْرقة العلوم”؛ من خلال تحليل كيفية تناول كل تخصص علمي لمفهوم القارة ومشكلاتها التنموية والثقافية. يتكوّن القسم من اثني عشر فصلًا، لكل منها مقاربة خاصة تندمج ضمن رؤية معرفية واحدة، تقوم على المنهج متعدد التخصصات (Multidisciplinary Approach) الذي يربط بين العلم والمجتمع والثقافة.

1-علم النفس الإفريقي (African Psychology)

يفتتح هذا القسم بفصل رائد للباحثتين Pamela Anyango Oloo وLilian Achieng Magonya، تتناولان فيه فكرة وجود علم نفس إفريقي متميّز له مرجعياته الفلسفية والثقافية الخاصة، بعيدًا عن النماذج الغربية التي همّشت التجربة الإفريقية. يقدّم الفصل تحليلًا نقديًا للجدل بين من ينكر وجود “نفسية إفريقية” مستقلة، ومن يدعو إلى تأسيسها على القِيَم الجماعية والروحانية والعلاقات الاجتماعية المترابطة في المجتمعات الإفريقية. وتخلص الباحثتان إلى أن علم النفس الإفريقي يجب أن يكون تحرريًّا، إنسانيًّا، وسياقيًّا، يستمد أدواته من البيئة الثقافية الإفريقية نفسها.

2-تغيُّر المناخ (Climate Change)

يستعرض Judith Irene Nagasha وWilson Mugizi كيفية تأثُّر إفريقيا بالتغيرات المناخية العالمية، مؤكدين أن القارة رغم كونها الأقل إسهامًا في الانبعاثات الكربونية، إلا أنها الأكثر هشاشة في مواجهة آثارها. ويتناول الفصل العلاقة بين السياسات البيئية العالمية وعدم المساواة المناخية، مقترحًا ضرورة بناء نموذج تنموي إفريقي قائم على العدالة البيئية والاعتماد على المعرفة المحلية في مواجهة التحديات المناخية.

3-علم المناخ (Climate Science)

يُقدِّم Chris Allan Shisanya و Jane Nyakecho KhayesiوMeleckidzedeck Khayesi قراءة علمية متعمقة لبنية المناخ الإفريقي، رابطين بين الظواهر الطبيعية والأنشطة البشرية. ويؤكدون أن فهم التغيرات المناخية في إفريقيا يتطلب تداخلًا بين العلوم الطبيعية والاجتماعية؛ لأن انعكاساتها تمتد من البيئة إلى الأمن الغذائي والسياسات الاقتصادية.

4-علوم الحاسوب (Computer Science)

في هذا الفصل، يبرز Alie Kunda الدور المتنامي للتحول الرقمي في تشكيل مستقبل القارة. فإفريقيا، كما يرى، تعيش ثورة تكنولوجية تتيح فرصًا هائلة للتنمية، لكنّها أيضًا تُواجه تحديات تتعلق بالوصول، والبنية التحتية، والسيادة الرقمية. ويدعو إلى توطين المعرفة التقنية وبناء نظم معلوماتية تعكس الخصوصية الثقافية واللغوية الإفريقية.

5-علم الجريمة (Criminology)

يناقش Omosefe Oyekanmi الإطار المفاهيمي للجريمة في المجتمعات الإفريقية، محللًا كيف تختلف تصورات الجريمة والعقاب بين الأنظمة القانونية المستوردة والعدالة العرفية المحلية. ويقترح مقاربة تقوم على العدالة المجتمعية التصالحية التي تستمد جذورها من القِيَم الإفريقية في التسامح والتكافل بدل العقاب الصارم.

6-الاقتصاد (Economics)

يُقدّمAbdul Karim Bangura  فصلًا محوريًّا يربط بين الاقتصاد الإفريقي والبنية المعرفية للقارة. يرى بانغورا أن دراسة الاقتصاد في إفريقيا يجب ألَّا تُختزل في المؤشرات الماكروية، بل تُبنَى على فَهْم الاقتصاد الأخلاقي والثقافي الذي يحكم العلاقات الإنتاجية والاستهلاكية في المجتمعات الإفريقية. كما ينتقد التبعية للنظريات الغربية، ويدعو إلى صياغة نماذج اقتصادية مستوحاة من التجربة الإفريقية القائمة على العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة.

7-التعليم (Education)

يطرح Azeez Babatunde Adebakin رؤية نقدية لأنظمة التعليم في إفريقيا، مشيرًا إلى أنها ما تزال متأثرة بالإرث الاستعماري في مناهجها وأهدافها. ويقترح تبنّي نموذج تعليمي إفريقي متمركز حول الهوية يعيد الارتباط بين التعليم والقيم المجتمعية والتنمية المحلية، ويؤكد على دور اللغة الأم والمعرفة التقليدية في تشكيل المناهج.

8-التعلم الإلكتروني (E-Learning)

يواصل Wilson Mugizi وJudith Irene Nagasha النقاش حول التعليم، مسلطين الضوء على الثورة الرقمية في قطاع التعلم. ويبرزان أن التعليم الإلكتروني يمكن أن يكون أداة للتحرر من القيود الجغرافية والاقتصادية، شريطة أن ترافقه سياسات وطنية تضمن العدالة الرقمية والبنية التحتية الكافية.

9-الاقتصاد السياسي الدولي (International Political Economy)

يُحلل Julius Niringiyimana موقع إفريقيا في الاقتصاد العالمي، مبينًا كيف تتأرجح القارة بين التبعية البنيوية ومطالب الاستقلال الاقتصادي. ويرى أن الحل يكمن في إعادة بناء العلاقات التجارية الدولية على أسس التكامل الإقليمي والتعاون جنوب–جنوب، وتعزيز دور المؤسسات الإفريقية في صياغة السياسات الاقتصادية العالمية.

10-العلاقات الدولية (International Relations)

في هذا الفصل، يناقش Omosefe Oyekanmi  كيف يُنظَر إلى إفريقيا داخل منظومة العلاقات الدولية، من خلال رصد التحولات في الدبلوماسية الإفريقية بعد الاستقلال حتى عصر التعددية القطبية. ويقترح رؤية قائمة على البراغماتية الإفريقية التي توازن بين المصالح الوطنية والانتماء القاري.

11-الرياضيات  (Mathematics)

تتناول Isatu Ramatu Bangura العلاقة بين الرياضيات والمنهج الإفريقي في التفكير، مبرزةً أن المنطق الكمي والتحليل الرياضي يمكن أن يساهما في تطوير حلول محلية لقضايا التنمية، إذا ما جرى دمجهما في السياسات التعليمية والبحثية داخل القارة.

12-علم الاجتماع  (Sociology)

يختتم Isaac Akintoyese Oyekola  القسم الأول بدراسة تحليلية للبنية الاجتماعية في إفريقيا، مشيرًا إلى أن المجتمعات الإفريقية تقوم على مفاهيم التضامن والقرابة لا على الفردانية. ويؤكد أن علم الاجتماع الإفريقي يجب أن ينطلق من هذه القِيَم في فَهْم قضايا الهوية، والتحوُّل الاجتماعي، والتنمية.

ختامًا، يُظهر هذا القسم كيف أن العلوم –رغم طابعها التجريبي– لا يمكن فَصْلها عن الهوية الثقافية والسياق الاجتماعي في القارة الإفريقية. فكلّ فصلٍ يعيد صياغة العلاقة بين “العلم” و”إفريقيا” عبر مقاربة نقدية تُبرز الحاجة إلى علمٍ أكثر إنسانية وارتباطًا بالواقع المحلي. ومن خلال هذا التنوع، يبرهن الكتاب أن إفريقيا ليست موضوعًا للبحث العلمي فحسب، بل مصدرًا لتجديد مناهج العلم نفسه.

ثانيًا: القسم الثاني – الإنسانيات  (Part II: Humanities)

يُمثّل هذا القسم القلب الفلسفي والأنثروبولوجي لكتاب Conceptualizations of Africa: Perspectives from Sciences and Humanities؛ إذ ينتقل من مقاربة “العلم” إلى مقاربة “المعنى”، ومن تفسير الظواهر إلى تحليل الذات الإفريقية بوصفها فاعلًا معرفيًّا وثقافيًّا. يضم القسم الثاني مجموعة من الفصول التي تعالج القضايا الفكرية والرمزية والإنسانية للقارة من زوايا الدين، والتاريخ، وحقوق الإنسان، والقانون، والأدب، والشباب، وغيرها، ليؤكد أن فَهْم إفريقيا لا يكتمل إلا بدَمْج بُعدها الروحي والثقافي في تحليلها العلمي.

1-الدين الإفريقي  (African Religion)

يُفتتح هذا القسم بفصل يقدّمه Abayomi Akinyeye حول الدين الإفريقي بوصفه نظامًا معرفيًّا متكاملًا، لا يقتصر على الشعائر أو المعتقدات، بل يشمل الرؤية الكونية التي تنظّم علاقة الإنسان بالمجتمع والطبيعة. يرى المؤلف أن الأديان الإفريقية الأصيلة ليست “وثنية” كما صوّرها الخطاب الغربي، بل تُمثّل نمطًا من الفلسفة العملية التي تجمع بين الإيمان والعمل والعدالة. كما يوضح أن الدين الإفريقي هو أساس الأخلاق العامة والحوكمة التقليدية، وأن استبعاده من الدراسات المعاصرة أضعف الفهم العميق للمجتمع الإفريقي.

2-التنمية المجتمعية (Community Development)

يُقدّم  Robert Mensah وDorothy Ackah فصلًا متميزًا يربط بين التنمية والقيم الثقافية الإفريقية، مبرزين أن التنمية الحقيقية في إفريقيا لا يمكن أن تُستورد جاهزة من الخارج، بل يجب أن تنبع من المشاركة المجتمعية ومن النظم العرفية المحلية. ويعرض الكاتبان نماذج من مبادرات تنموية قائمة على التعاون الأهلي والعمل الجماعي (Ubuntu Philosophy)، مؤكدين أن إعادة الثقة بالمجتمع المحلي هي حجر الأساس للتنمية المستدامة في القارة.

3-التاريخ الإفريقي (History)

يُقدِّم Fatai Aremu  قراءة نقدية في كتابة التاريخ الإفريقي، مشيرًا إلى أن سرديات التاريخ التي هيمنت خلال القرنين التاسع عشر والعشرين كانت استعمارية في جوهرها؛ إذ صوّرت القارة كفضاء “خارج الزمن وخارج الحضارة”.
يدعو الكاتب إلى تبنّي منهج “التاريخ من الداخل” (History from Within) الذي يُعيد الاعتبار للذاكرة الإفريقية الشفوية والمصادر المحلية. ويرى أن استعادة السرد التاريخي الإفريقي تمثّل خطوة أساسية نحو تحرير الوعي الجماعي وإعادة تعريف الهوية الوطنية.

4-حقوق الإنسان في إفريقيا (Human Rights)

يتناول Hassan Adekunle موضوع حقوق الإنسان من منظور ثقافي إفريقي، محذرًا من خطأ إسقاط النماذج الغربية الجاهزة على الواقع المحلي. يرى الكاتب أن إفريقيا تمتلك مفاهيم أصيلة للكرامة والعدالة سبقت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، تتجسد في قيم مثل Ubuntu (أنا لأننا نحن). ومن هنا، يدعو إلى توطين مفاهيم حقوق الإنسان بحيث تُعبِّر عن التوازن بين الفرد والمجتمع، والحرية والمسؤولية، لا عن الفردية المطلقة التي تميز الفكر الغربي.

5-القانون الدولي وإفريقيا  (International Law and Africa)

في هذا الفصل، يناقش Omosefe Oyekanmi العلاقة الملتبسة بين القانون الدولي والسيادة الإفريقية، موضحًا أن النظام القانوني العالمي صُمِّم في الأصل لخدمة مصالح القوى الاستعمارية. ويُقدِّم تحليلًا دقيقًا لكيفية تهميش الدول الإفريقية داخل مؤسسات العدالة الدولية، داعيًا إلى بناء نظام قانوني قاري مُكمِّل يستمد شرعيته من القِيَم الإفريقية ومنظمة الاتحاد الإفريقي. كما يطرح رؤية لإفريقية القانون الدولي بحيث يصبح أكثر عدالة وتمثيلًا لتجارب الجنوب العالمي.

6-المكتبات والمعرفة الإفريقية  (Libraries and Knowledge Systems)

يتناول Kehinde Omolade في هذا الفصل أهمية الأرشفة والمكتبات في الحفاظ على الذاكرة الثقافية الإفريقية. ويبيّن أن ضعف البنية التحتية للمكتبات في إفريقيا لا يمثل مجرد نقص مادي، بل فجوة معرفية تعيق توثيق التاريخ والثقافة المحلية.

ويؤكد أن تطوير نظم إدارة المعرفة هو شرط أساسي لبناء اقتصاد معرفي إفريقي قادر على إنتاج وتخزين المعرفة محليًّا، بدل الاعتماد على المراكز البحثية الغربية.

7-الأدب الإفريقي  (African Literature)

يقدّم John Ogundele قراءة في الأدب الإفريقي الحديث والمعاصر بوصفه مرآة للتحول الاجتماعي والسياسي.
يرى أن الأدب الإفريقي منذ مرحلة ما بعد الاستقلال لم يكن مجرد فن جمالي، بل فعل مقاومة ثقافية يواجه الاستعمار والعولمة الثقافية معًا. ويستعرض الكاتب نماذج من أعمال نغوجي واثيونغو، وتشينوا أتشيبي، وأما آتا آيدو، ليبيّن كيف أعاد الأدب صياغة الهوية الإفريقية وبلورة خطاب تحرري بديل.

8-الشباب والهوية  (Youth and Identity)

في ختام هذا القسم، يناقش Isatu Ramatu Bangura دور الشباب في تشكيل مستقبل إفريقيا. يرى الكاتب أن الشباب الإفريقي اليوم يعيش بين تراثٍ ثقافي عميق وضغوط العولمة الحديثة، وأنه الفاعل الرئيس في الحركات الاجتماعية والاحتجاجات السياسية والتحولات الثقافية. ويدعو إلى تبنّي سياسات تعليمية وثقافية تُعيد تمكين الشباب كمبدعين وقادة فكر لا كمستفيدين فقط من التنمية.

ختامًا، يقدّم هذا القسم رؤية إنسانية عميقة لإفريقيا، تبرز أن القارة ليست مجرد مساحة جغرافية بل كيان فكري وروحي، وأن فهمها لا يتحقق إلا عبر الانفتاح على موروثها الثقافي والقيمي. فمن الدين إلى الأدب، ومن القانون إلى التاريخ، تتلاقى الفصول على فكرة محورية واحدة: أن الهوية الإفريقية هي مشروع مستمر لإعادة اكتشاف الذات. وبذلك، يشكل القسم الثاني التكامل الضروري للقسم الأول؛ إذ يضع الأساس الفلسفي الذي يمنح العلوم معناها وسياقها الإفريقي الخاص.

المحور الخامس: خاتمة تحليلية: تقييم عام للكتاب

يُعدّ كتاب Conceptualizations of Africa: Perspectives from Sciences and Humanities علامة فارقة في مسار تطور الدراسات الإفريقية المعاصرة، ليس فقط لثراء محتواه وتنوعه الموضوعي، بل لأنه يُقدِّم تحولًا أبستمولوجيًّا (معرفيًّا) في كيفية النظر إلى القارة الإفريقية. فالكتاب لا يكتفي بتقديم بحوثٍ متفرقة في مجالات متعددة، بل يطرح مشروعًا فكريًّا متكاملًا لإعادة بناء مفهوم “إفريقيا” في الوعي الأكاديمي العالمي.

من الناحية العلمية، يتميّز العمل بقدرته على دمج المنهج العلمي الصارم بالتحليل الثقافي والأنثروبولوجي، فيجمع بين الدقة التجريبية للعلوم والعمق التأويلي للإنسانيات. وقد نجح المحرران، عبد الكريم بانغورا وج.ب. إفيدي، في خلق توازن بين هذين البُعْدين، مما جعل الكتاب نموذجًا تطبيقيًّا للمقاربة متعددة التخصصات (Multidisciplinary Approach).

إن قيمة هذا التوازن تتضح في قدرة الفصول على الربط بين قضايا المناخ، والاقتصاد، والهوية، والتاريخ، والأدب، ضمن شبكة فكرية واحدة تبحث عن جوهر “الفكر الإفريقي” كمنظومة معرفية مستقلة.

أما من الناحية المنهجية، فيُحْسَب للكتاب أنه تجاوز ثنائية “الغرب والآخر” التي حكمت كثيرًا من أدبيات ما بعد الاستعمار. فهو لا يسعى إلى نَفْي التراث الغربي أو رفضه، بل إلى تحقيق التفاعل المتكافئ بين المركز والهامش من خلال إبراز الرؤية الإفريقية بوصفها مساهمة فاعلة في الفكر الإنساني. كما أن اعتماده على مؤلفين من خلفيات علمية وثقافية مختلفة، من داخل وخارج القارة، يعكس روح الحوار المعرفي التي يقوم عليها المشروع نفسه، ويمنح العمل طابعًا كونيًّا منفتحًا دون التفريط في الخصوصية الإفريقية.

ومع ذلك، لا يخلو الكتاب من بعض الملاحظات البحثية؛ فالتعدد الكبير في الفصول قد يؤدي أحيانًا إلى تفاوتٍ في العمق التحليلي بين فصل وآخر، كما أن بعض الفصول، خصوصًا في قسم العلوم، تميل إلى الطابع الوصفي أكثر من التحليلي. لكن هذه الملاحظات لا تقلل من القيمة العلمية الإجمالية للعمل، بل تكشف صعوبة المشروع ذاته الذي حاول أن يجمع تحت مظلته علومًا وتخصصات تتباين في مناهجها ومفاهيمها.

في المحصلة، ينجح الكتاب في تحقيق ما فشلت فيه كثير من الأدبيات السابقة: تحويل “إفريقيا” من موضوع للدراسة إلى ذاتٍ دارسة ومُنتِجة للمعرفة. فهو يُعيد للقارة مكانتها الفكرية بوصفها مصدرًا أصيلًا للتجديد المفاهيمي، ويؤسس لمرحلة جديدة من “أفْرقة الفكر” في العلوم والإنسانيات على السواء.

إنه عمل يستحقّ أن يُدرّس في كليات الدراسات الإفريقية والعلوم الاجتماعية والإنسانية؛ لأنه لا يكتفي بإعادة تعريف إفريقيا، بل يُعيد تعريف العلم نفسه من خلال عيون إفريقيا. يُمثِّل هذا الكتاب مرجعًا تأسيسيًّا لكل باحث يسعى إلى فَهْم التحولات الفكرية في مقاربة إفريقيا، بوصفها ذاتًا فاعلة في إنتاج المعرفة، لا موضوعًا خاضعًا لهيمنة الآخر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر:

Bangura, A. K., & Ifedi, J. P. A. (2024). Conceptualizations of Africa: Perspectives from Sciences and Humanities. Springer Nature. https://doi.org/10.1007/978-3-031-74535-5