كشفت تحرُّكات الصين الدبلوماسية والاقتصادية في إفريقيا، والتي وصلت ذروتها منتصف العام الجاري خلال حضور الرئيس الصيني احتفالات روسيا بالذكرى السبعين لانتصارها في الحرب العالمية الثانية على ألمانيا (موسكو 8- 9 مايو الماضي)، ولقائه مع عدد من قادة الدول الإفريقية الذين شاركوا في الاحتفالات وقتها، وبعد ساعات من زيارة هامة للرئيس الكيني وليام روتو إلى بكين، وانعقاد قمة صينية- إفريقية لقادة الجيوش من أكثر من أربعين دولة إفريقية مع الصين (بكين 5- 6 مايو الماضي)؛ كشفت كل هذه التطورات عن ازدحام أجندة الصين الإفريقية على الأرض، وهو ما يمكن اعتباره مؤشرًا على هجمة صينية مرتدة لدعم إفريقيا في مواجهة السياسات العدوانية الأمريكية غير المسبوقة تجاه القارة بأكملها، والتي اتخذت شكل إجراءات عقابية لاقتصاداتها ومحاصرتها في خيارات ضيّقة لا تُلبّي سوى المطالب الأمريكية.
وظهرت من المؤشرات الأولية دلائل الترحيب الإفريقي بدور صيني متصاعد في القارة، لا سيما في الجانبين الاقتصادي والعسكري، وبوتيرة تتجاوز نظيرتها قُبَيْل تولّي دونالد ترامب ولايته الثانية بمراحل.
بينما لم يتغيَّر الموقف الأمريكي المتشدّد تجاه دول القارة إلا في خريف العام الجاري، ربما بعد موازنة واشنطن حسابات خساراتها ومكاسبها من وراء السياسات العقابية، أو ما تصفه مجلة “فورين أفيرز الأمريكية” بـ”سياسات الصفقات” المفروضة على دول القارة؛ لتفادي عقوبات دونالد ترامب، وهو ما اتضح على سبيل المثال في فتح مسؤولين أمريكيين نافذة أمام تجديد قانون “الفرص والنمو الإفريقي” في نهاية العام الجاري، خلافًا لتهديدات سابقة لترامب بوقف العمل بالقانون للمرة الأولى منذ صدوره (في العام 2000).
وتأتي المواقف الصينية التي تتدارك -سواء بمنطق انتهاز الفرص أم وفق مراجعات ذاتية صينية تتم بشكل مستمر- تداعيات القرارات الأمريكية الأخيرة على دول القارة الإفريقية؛ في وقتٍ نجحت فيه بكين في مواجهة سياسات ترامب، وإجبار واشنطن على خوض محادثات تجارية تجري حاليًّا ربما تؤدي في النهاية إلى تراجع أمريكي جوهري عن السياسات العقابية تجاه الصين وبقية دول العالم، ومن بينها الدول الإفريقية، بل وبدء واشنطن في مراجعة العقوبات الجمركية التي فرضتها على أغلب دول القارة منذ وصول ترامب للسلطة، مع ملاحظة تعهُّد بكين برفع الرسوم الجمركية بالكامل أمام صادرات عدد كبير من الدول الإفريقية في الفترة المقبلة.
الصين تواجه قرارات ترامب: جنوب إفريقيا أولًا
تمثل جنوب إفريقيا الشريك التجاري الأول للصين في إفريقيا، وكانت الهدف الأبرز لعقوبات ترامب التي فرضها على دول القارة في شكل رفع الرسوم الجمركية على صادرات تلك الدول لبلاده. وقد ارتفع حجم التجارة بين الصين وجنوب إفريقيا من 1.34 بليون دولار في العام 2000 إلى 34.18 بليون دولار في العام 2023، مع غلبة الصين الواضحة في الميزان التجاري، (تتمثل أغلب صادرات الصين لجنوب إفريقيا في السلع المصنّعة، بينما تتمثل أغلب صادرات جنوب إفريقيا للصين في المواد الخام).
وارتفع توجُّه الطابع التكاملي بين البلدين تجاريًّا منذ العام 2009 مع إطلاق مجموعة “البريكس”، التي جاءت بعد عام واحد من إزاحة الصين للولايات المتحدة من مرتبة الشريك التجاري الأول مع جنوب إفريقيا، التي أصبحت بدورها -منذ ذلك الوقت- السوق الإفريقية الأكبر أمام الصادرات الصينية([1]).
وقد بلغت واردات جنوب إفريقيا من الصين منذ العام 2014 نحو ضعف صادراتها؛ وقد أثارت بريتويا في قمة منتدى التعاون الاقتصادي الصيني الإفريقي التاسع (2024) هذه المسألة([2])، التي لا تزال محل جدل داخل جنوب إفريقيا حتى اليوم بالنظر لتداعياتها على الاقتصاد الكلي للبلاد.
وتحاول الصين حاليًّا تعويض جنوب إفريقيا عن الأضرار التي طالتها -بسبب علاقتهما- مِن قِبَل الولايات المتحدة وعدد من الدول الداعمة لسياساتها الإفريقية (ضمن عوامل أخرى؛ مثل تصميم بريتوريا على مقاضاة إسرائيل بتهمة الإبادة في قطاع غزة).
وتتمثل أهم أوجه هذه المقاربة في دخول الصين كمستثمر كبير في قطاع الطاقة في جنوب إفريقيا (والذي يواجه أزمات متكررة بالفعل منذ سنوات). ورغم أن هذا التوجُّه الصيني يرتكز على ثلاث دول؛ هي موزمبيق وكينيا وجنوب إفريقيا؛ إلا أن حالة الأخيرة تُعدّ الأكثر تعقيدًا وأهمية بالنسبة للصين بالنظر لمقدرات السوق الجنوب إفريقية الضخمة (أكثر من 60 مليون نسمة، ويُصنّف اقتصادها ضمن دول الدخل المتوسط المرتفع).
وأوضح تقرير (صدر في أبريل 2025)([3]) أن استثمارات الصين في قطاع الطاقة في جنوب إفريقيا اتخذت توجهًا متصاعدًا في العامين 2024- 2025، مع ملاحظة استحواذ الصين في العام 2024 على 11.8% من إجمالي صادرات جنوب إفريقيا الخارجية، و21.7% من إجمالي وارداتها (وفق إحصاءات جهاز الدخل الجنوب إفريقي South African Revenue Service).
وتوفّر الصين لجنوب إفريقيا معدات ومدخلات حديثة للغاية في قطاع الطاقة (مثل: توربينات طاقة الرياح، وبطاريات الليثيوم الأيونية، والعربات الكهربائية، ومكونات مهمة في صناعة السيارات الجنوب إفريقية لتقليل الاعتماد على الوقود التقليدي)؛ وستحقق للأخيرة انتقالًا ملموسًا في مجال الطاقة؛ سواء في الطاقة التقليدية أم في الطاقة المتجددة. وبحسب التقرير، فإن الصين ستسهم بالنسبة الكبرى في تغطية حاجات جنوب إفريقيا لاستثمار 8.5 بليون دولار في قطاع الطاقة الجديدة حتى العام 2027.
وإلى جانب قطاع الطاقة، بالغ الأهمية لدعم الاقتصاد الجنوب إفريقي في مواجهة التحديات التي تفرضها الولايات المتحدة ضده، فإن الصين أبدت مرونة كبيرة نحو جهود جنوب إفريقيا لتقوية التعاون الثنائي بين البلدين في مختلف القطاعات. والعمل على زيادة الاستثمارات الصينية بهدف مساعدة جنوب إفريقيا على مواجهة تحدياتها الرئيسة، ولا سيما في قطاعات النسيج ومعالجة المنتجات الزراعية والتعدين، إلى جانب الطاقة.
كما يُلاحَظ حرص الصين على التشاور مع جنوب إفريقيا (مع دول إقليمية مهمة أخرى مثل المملكة العربية السعودية في مارس- أبريل 2025، ثم مع الإمارات في أكتوبر الجاري)، بخصوص تداعيات قرار الإدارة الأمريكية بفرض رسوم جمركية أعلى على صادرات دول العالم للولايات المتحدة؛ الأمر الذي يعكس تحرُّك الصين للعمل مع شركائها الإقليميين لمواجهة هذه التداعيات([4])، وتعميق التعاون.
بكين وتعميق التعاون العسكري في إفريقيا: اتساع الخريطة
تزداد أهمية العلاقات العسكرية بين الصين وإفريقيا بالنسبة للجانبين يومًا بعد آخر؛ ويعود التطور في هذه العلاقات بشكل ما إلى توسُّع الصين في سياساتها الخارجية لا سيما بعد العام 2000 وإطلاقها –على السياق الإفريقي- منتدى التعاون الصيني الإفريقي، ومحاولة ملاحقة الولايات المتحدة وأوروبا في أنشطة التدريب وحفظ السلام والمساعدات العسكرية للدول الإفريقية. ونجحت الصين اليوم، حتى عبر توظيف منتدى التعاون الاقتصادي نفسه وإكسابه أبعادًا عسكرية بشكل متزايد([5])، وهو توجُّه وجد قبولًا إفريقيًا متزايدًا مع أزمة عجز الدولة الإفريقية الواضح (بشكل عام) عن مواجهة تحديات الإرهاب وعدم الاستقرار وغيرها من مشكلاتها الداخلية، وكذلك عدم جدوى الدعم الأمني والعسكري الغربي المقدم بمشروطيات مكلفة (سياسيًّا واقتصاديًّا) في تحقيق تقدُّم ملحوظ في مواجهة مثل هذه المشكلات.
وقد تعهَّد وزير الخارجية الصيني “وانج يي” في مطلع العام الجاري عند زيارته نيجيريا في ختام جولته الإفريقية السنوية، وقبيل أقل من أسبوعين فقط من تولّي ترامب رئاسة أمريكا، بدعم بكين الكامل لأفقر دول العالم (في إفريقيا)، وتقديم مساعدات عسكرية لها([6]).
كما تعاظم النفوذ الصيني معنويًّا وعمليًّا بفضل مستجدات مهمة؛ منها: نجاعة الأسلحة الصينية التي وظَّفتها باكستان في النزاع الذي نشب مطلع مايو الجاري مع الهند، وأكسب هذه الأسلحة سُمعة فائقة من جهة قدرتها على مجاراة صناعات التسليح الغربية (الفرنسية في حالة باكستان- الهند) والروسية معًا، مع رخص أسعارها النسبي مقارنة بصناعات التسليح الغربية. كما قام الجيش الصيني بمناورات عسكرية مهمة مع نظيرتها المصرية مؤخرًا مما يُقدّم نموذجًا إفريقيًّا قابلاً للتكرار مع دول أخرى غير مصر في المرحلة المقبلة.
كما استضافت الصين منتصف العام الجاري وفودًا من أربعين دولة إفريقية “كجزء من إستراتيجيتها بعيدة المدى لتعميق صلات الدفاع مع إفريقيا”. وشملت هذه الوفود نحو 100 ضابط إفريقي من دول في مقدمتها (من جهة التمثيل العددي) مصر وكينيا وموزمبيق وتنزانيا، في برنامج استمر حتى منتصف مايو الماضي، وشمل تدريبًا في أكاديميات عسكرية صينية عليا في بكين وشاوشان وشانجشا لتلقّي خبرات بخصوص النظم العسكرية والتكنولوجيات الحديثة الصينية، بحسب بيان رسمي صادر عن وزارة الدفاع الصينية (10 مايو 2025)([7]).
وربما رأى مراقبون في ذلك قدرًا من المبالغة أو التعجُّل؛ حيث إن انتقاء الصين ضُبّاطًا صغار السن من الدول الإفريقية للمشاركة في التدريبات يُؤشِّر إلى “بناء الصين لعلاقات ونفوذ ممتد؛ لأن الموفدين يمثلون القيادات المستقبلية لجيوش بلادهم”.
لكن الملاحظة الأساسية هي اتساع خريطة التعاون العسكري الصيني مع الدول الإفريقية ليصبح بمثابة شمول كامل للقارة الإفريقية، أخذًا في الاعتبار أن الفعاليات هي الرابعة على التوالي. وأنها تأتي بالتزامن مع تخصيص الصين مساعدات عسكرية مباشرة لإفريقيا بقيمة بليون يوان (حوالي 140 مليون دولار) كجزء من تعزيز “المبادرة الأمنية العالمية” التي أطلقتها بكين في أبريل 2022 (خلال انعقاد منتدى بواو من أجل آسيا Boao Forum for Asia)([8]).
وبغضّ النظر عن آفاق التوصل لاتفاق صيني-أمريكي بخصوص “مستقبل” العلاقات التجارية بين البلدين، وتداعيات ذلك على القارة الإفريقية؛ فإن توجُّه الصين نحو القارة الإفريقية يزداد أهميةً وتوسعًا ملحوظًا ربما سيتجاوز الأزمة الحالية مع الولايات المتحدة إلى إرساء أُسُس أوثق للتعاون الصيني-الإفريقي في الجوانب السياسية والاقتصادية والأمنية-العسكرية، بما يلائم رؤية الصين وسياساتها الخارجية، وكذلك تصاعد رغبة الدول الإفريقية في تحقيق تقارب مع الصين وعدم الاطمئنان نحو سياسات ترامب وآثارها السلبية على اقتصادات القارة.
………………………
[1] Marvellous Ngundu, South Africa’s trade deficit dilemma with China, Institute for Security Studies, March 5, 2025 https://issafrica.org/iss-today/south-africa-s-trade-deficit-dilemma-with-china
[2] Ibid
وبحسب دراسات مجمعة استأثرت تسع دول إفريقية بنحو 80% من صادرات إفريقيا للصين في الفترة 1992- 2023؛ وهي أنجولا (400 بليون دولار)، وجنوب إفريقيا (نحو 152 بليون دولار)، وجمهورية الكونغو الديمقراطية (90 بليون دولار)، والكونغو (80 بليون دولار)، وزامبيا وليبيا والسودان (حوالي 50 بليون دولار لكل منهم)، والجابون (45 بليون دولار)، وغينيا الاستوائية (40 بليون دولار)، ونيجيريا (30 بليون دولار)، راجع في تفصيل ذلك:
- Marvellous Ngundu, Model Meets Reality: The Africa–China Export Forecast That Delivered, China Global South Project, May 9, 2025 https://chinaglobalsouth.com/analysis/model-meets-reality-the-africa-china-export-forecast-that-delivered/
[3] Kiryakova, E., Borodyna, O., Nadin, R. et al. (2025) China’s evolving role in Africa’s energy transition: overseas trade and investment in Kenya, Mozambique and South Africa. ODI Global report. London: ODI Global, pp. 48-60
[4] Liu Yang, China’s commerce minister discusses multilateral co-op with Saudi, South Africa counterparts, Global Times, April 11, 2025 https://www.globaltimes.cn/page/202504/1331937.shtml
[5] Paul Nantulya, The Growing Militarization of China’s Africa Policy, Africa Center for Strategic Studies, December 2, 2024 https://africacenter.org/spotlight/militarization-china-africa-policy/
[6] Chinese Foreign Minister Pledges Military Aid for Africa, China Global South Project, January 10, 2025 https://chinaglobalsouth.com/2025/01/10/chinese-foreign-minister-pledges-military-aid-for-africa/
[7] Jevans Nyabiage, China hosts delegation of 100 African military officers to strengthen defence ties, May 10, 2025 https://www.scmp.com/news/china/diplomacy/article/3309709/china-hosts-delegation-100-african-military-officers-strengthen-defence-ties
[8] Erik Green et al, the Global Security Initiative: China’s International Policing Activities, International Institute for Strategic Studies (IISS), October 24, 2024 https://www.iiss.org/research-paper/2024/10/the-global-security-initiative-chinas-international-policing-activities/