تظل قارة أفريقيا الداعم الأكبر للقضية الفلسطينية على مستوى قارات العالم؛ فقد حظيت القضية الفلسطينية بتأييد دبلوماسي وسياسي كبير من دول القارة الأفريقية ومنظمتها الإقليمية، وتمثل ذلك في الاعتراف المتصاعد من قبل الكثير من الدول الأفريقية، بداية من الجزائر في العام 1988، بإعلان اعترافها بدولة فلسطينية مستقل وعاصمتها القدس الشرقية، واستمر هذا الدعم حتى فعاليات الدورة الأخيرة من اجتماعات الجمعية العامة بالأمم المتحدة.
يتناول المقال الأول الاستثناء الأفريقي في مسألة الاعتراف بفلسطين دولة مستقلة، ويكشف المقال عن دوافع إريتريا والكاميرون للامتناع عن الاعتراف بفلسطين والخروج على الإجماع الأفريقي. أما المقال الثاني فإنه يحلل الحالة الجنوب أفريقية في دعم فلسطين، وبدء ارتفاع أصوات من داخل حلف التحالف الديمقراطي (شريك حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في حكم البلاد) لدعم إسرائيل وتجاهل الإبادة من أساسها. أما المقال الثالث فإنه يتناول عرضًا تاريخيًا مكثفًا لمسارات دعم أفريقيا لفلسطين.
دولتان أفريقيتان ترفضان الاعتراف بدولة فلسطين. ما السبب([1])
تزايد الدعم العالمي لقضية الاعتراف بفلسطين، ولا تزال أسمرا وياوندي تميلان لإسرائيل بحكم مساعي البقاء والمشترك الاستراتيجي. ففي الجمعية العامة للأمم المتحدة بادرت دولة تلو أخرى هذا الأسبوع بإعلان اعترافها بدولة فلسطينية. وانضمت لها بريطانيا وفرنسا وكندا وأستراليا ومالطا، مما رفع عدد الدول التي تعترف بفلسطين إلى 157 دولة عضو بالأمم المتحدة- أي أكثر من 80% من دول العالم.
التشبث بالتحالفات
بالنسبة لأفريقيا فإن هذا التغير لم يكن مباغتًا. فلطالما اعترفت غالبية دول القارة الأربعة وخمسون بفلسطين، مما جعل القارة واحدة من أكثر القارات دعمًا لحق تقرير المصير الفلسطيني. وقد صوتت 38 دولة أفريقية لصالح وقف إطلاق النار في غزة في تصويت بالأمم المتحدة في العام الماضي. وبينما أدان الاتحاد الأفريقي بشكل متكرر أعمال إسرائيل العسكرية باعتبارها انتهاكات للقانون الدولي، فإن جنوب أفريقيا تواصل رفع قضية الإبادة ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية. لكن الكاميرون وإريتريا وقفتا وحدهما ضد هذا التوجه الأفريقي. وقد رفضتا –من بين جميع دول القارة- الاعتراف بدولة فلسطين، وتشبثتا بتحالفاتهما مع إسرائيل برغم مد الرأي العالمي العاتي.
وكان موقفهما، وفقًا للمحللين، بمثابة الثغرة التي تكشف كيف يمكن لحسابات الأمن وغريزة البقاء والقيادة تجاوز التضامن القاري والإجماع الدولي. ويقول الناشط الكاميروني كين مباه Ken Mbah أن “إريتريا والكاميرون لم تصوتا (لصالح قيام دولة فلسطينية) لا بقلوبهم أو بتاريخهم. لقد صوتتا حسب حالة الهشاشة التي تعانيان منها”. ويلاحظ أنه بالنسبة للبلدين فإن “إسرائيل لا تمثل أيديولوجيا إلا في الحد الأدنى، لكنها تتعلق أكثر بالبقاء. إذ تقدم إسرائيل التكنولوجيا العسكرية، والدعم الاستخباراتي، والأهم من ذلك الغطاء الدبلوماسي في المنتديات (الدولية) حيث يواجه النظام الحاكم في البلدين رقابة مشددة”.
ارتباط بيا الطويل بإسرائيل
عندما استعاد بول بيا، رئيس الكاميرون منذ العام 1982، علاقات بلاده الدبلوماسية مع إسرائيل في العام 1986 فإنه كان يعاند المد القاري. وتقريبًا كانت جميع الدول الأفريقية قد قطعت صلاتها مع إسرائيل في العام 1973 بضغط من جامعة الدول العربية بعد حرب أكتوبر 1973. وبالنسبة لبيا فإن مكاسب الشراكة تفوق تكاليفها. فقد قدمت إسرائيل تدريبًا ومعدات بفرق التدخل السريع النخبوية بالجيش الكاميروني والمعروفة باختصارها باللغة الفرنسية BIR.
وعلى مدار السنوات لعب المستشارون والمتعهدون الأفراد من إسرائيل دورًا هامصا في تشكيل الوحدة، والتي تم نشرها ضد بوكو حرام في الشمال والانفصاليين في غرب البلاد الناطق بالإنجليزية. ويضيف مباه “أن علاقة الكاميرون مع إسرائيل إجرائية ومتجذرة في أمن النظام”، ورأى بيا أن عزل إسرائيل قد يعني خسارة وصوله للمعلومات الاستخباراتية والتدريب والمعدات التي يعتمد عليها جيشه. “وبالنسبة لحكومة تتشبث بالسلطة بعد أربعة عقود، فإن هذه المصلحة تفوق أية التزامات أخلاقية أو قارية.”
وقد عمقت المعاملات الاقتصادية والتقنية هذه الصلات. فقد صمدت العلاقة الكاميرونية- الإسرائيلية بقوة طوال أزمات الشرق الأوسط المتعاقبة. وبعد أحداث 7 أكتوبر 2023 كان بيا من أوائل القادة الأفارقة الذين أرسلوا تعازيهم للرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتزوج، وأدان حماسن وقدم تعاطفه مع الضحايا الإسرائيليين. ولم يذكر بيانه المدنيون الفلسطينيون الذين قتلوا في غزة بسبب الضربات الإسرائيلية. وتناقض هذا الموقف بشكل حاد مع الاتحاد الأفريقي الذي وصف الحرب بأنها نتيجة “لإنكار إسرائيل للحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني. وبالنسبة لمباه فإن سياسة الكاميرون الخارجية لا تشكلها الأيديولوجيا، لكن بقاء النظام. ” إذ تقدم إسرائيل لبيا الأدوات لاتي تمكنه من السيطرة على التهديدات في الداخل، وهي مسأئل أكثر أهمية من التضامن في الخارج.
استراتيجية أفورقي للعزلة
إن كانت صلات الكاميرون بإسرائيل مستقاة من الاعتماد، فإن صلات إريتريا بإسرائيل خرجت من رحم عزلة الأولى. فمنذ استقلالها عن إثيوبيا في العام 1993 سيطر أسياس أفورقي على واحدًا من أكثر النظم السياسية انغلاقًا في العالم. والمشار له في الغالب باسم “كوريا الشمالية الأفريقية”. وقد ساءت علاقاته مع الغرب بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، وكذلك دور إريتريا في الحرب الأهلية الإثيوبية. ولإريتريا صلات متوترة مع الكثير من جاراتها، بما في ذلك السودان وجيبوتي.
وفي المقابل قدنت إسرائيل انخراطًا استراتيجيًا دون أية مشروطيات سياسية (مسبقة). وفي تسعينيات القرن الماضي سعى مسئولون إسرائيليون لاستخدام موانئ وجزر إريتريا على البحر الأحمر بفضل قربها من الممرات البحرية الحيوية. وتلا ذلك التعاون الأمني بين البلدين، بما في ذلك مشاركة الاستخبارات ولاترتيبات حول الهجرة.
ويقول بيروك ميلاكو Biruk Melaku، وهو باحث مستقل في شئون القرن الأفريقي، أن إريتريا ليس لديها إلا عدد قليل للغاية من الأصدقاء، وكانت إسرائلي من الدول القليلة التي ترغب في العمل مع أسمرا دون مطالبتها بإصلاحات، الأمر الذي جعل هذه العلاقة غاية في الأهمية بالنسبة لإسياس”. وقد جنحت إريتريا في تصويتات المم المتحدة حول فلسطين إلى الامتناع عن التصويت أو الوقوف في جانب إسرائيل، وتجاهل الإجماع داخل الاتحاد الأفريقي. وعلى خلاف أغلب الدول الأفريقية لم تقدم إريتريا على الاعتراف بفلسطين. ونادرًا ما تفسر الخارجية الإريترية قرارات سياساتها الخارجية للعامة، لكن مسئولون قالوا أن اسمرا تؤكد سرًا تصنيفها لإسرائيل شريكًا يتفهم موقف إريتريا الحرج على البحر الأحمر.
تجب محاسبة من يدعمون الإبادة وينكرونها في جنوب أفريقيا([2])
ثمة رأي يسود في جنوب أفريقيا حاليًا وهو وجوب محاسبة الدولة والمجتمع المدني لكل من يمكن ويمول وينكر الإبادة الإسرائيلية في غزة. كما يعد ثقل المسئولية الأخلاقية والقانونية في التصرف بحسم ودون مراوغة أو لغة خادعة مرتبطة بمبرري السياسات الصهيونية مسألة لا خلاف فيها. وتشهد جنوب أفريقيا في الآونة الأخيرة نوع من اللغة الملتبسة عندما كانت هيلين زيلي H. Zille، وهي مسئول سياسي كبير بالتحالف الديمقراطي “المعارض”، في مواجهة سؤال صحفي حول ما إذا كان حزبها يوقن بوقوع الإبادة حاليًا في غزة.
وكانت زيلي، في المقابلة التي أجرتها معها Newsroom Afrika، تواجه إشارة محددة لمفوضية التحقيق الدولية التابعة للأمم المتحدة حول الأراضي الفلسطينية المحتلة والتي أعلنت بكل وضوح أن إسرائيل مدانة بارتكاب الإبادة في غزة. ولم تكن استجابتها ملتبسة فحسب، بل إنها مثلت إهانة لمئات الالاف من الفلسطينيين الذين يعانوا من التجويع العمدي، والتشريد القسري، والقتل بلا رحمة: “إن الإبادة كلمة كبيرة للغاية ولم أزر غزة قبلًا، ولا أعرف” حسبما أخبرت المذيع.
وكان رفض زيلي الاعتراف وتأكيد ارتكاب إسرائيل للإبادة في غزة وارتكابها أعمالًا غير قانونية بهدف محدد وهو طرد الفلسطينيين، كما ذكرت مجموعة من منظمات حقوق الإنسان ذات المصداقية في أرجاء العالم، قد لاقي انتقادًا حادًا- وكان الأمر يستحق ذلك. علاوة على ذلك فإنها أنبأت بنفاق حزبها، التحالف الديمقراطي، الذي لا يزال داعمًا كبيرًا لإسرائيل والصهيونية على نحو يتعارض بوضوح مع تقرير مفوضية الأمم المتحدة الهام والذي ترأس تحريره القاضية الجنوب أفريقية البارزة نافي بيلاي Navi Pillay. وقد عبرت بيلاي في التقرير بوضوح وبعبارات قاطعة، دون تحفظ أو شك، أن إسرائيل مدانة بارتكاب إبادة ضد الفلسطينيين في غزة.
وهناك تشديد أيضًا في التوصيات: إذ تدعو المفوضية إسرائيل وجميع الدول للوفاء بالتزاماتها القانونية وفق القانون الدولي من أجل إنهاء الإبادة ومعاقبة المسئولون عنها. إن جنوب أفريقيا كدولة مستقلة ذات سيادة ليست استثناء في تلك المطالبات، لأن المفوضية تدعو الدول لوقف نقل الأسلحة والمعدات الأخرى التي يمكن استخدامها لدعم أعمال الإبادة. كما يجب على الدول ضمان عدم تورط الأفراد والمؤسسات في دائرة أراضيها واختصاصتها القضائية غي مساعدة ارتكاب الإبادة أو الحث على ارتكاب الإبادة.
إن للمنظمات الصهيونية في جنوب أفريقيا تاريخ مريع من الارتباط مع النظام الاستعماري الاستيطاني. فأغلبها يقع في نطاق سيطرتها العام، وثمة أدلة تمييزية مكثفة ضدها في العديد من ملفات الشكاوى التي وضعتها حركات التضامن الفلسطينية، بما فيها ميديا ريفيو نيتورك Media Review Network. وبالفعل فغنه هناك قدر كبير من لاغضب الشعبي الجارف صد تصريحات زيلي حول سؤال الإبادة، ومن ثم فإنه يجب على المجتمع المدني، بما في ذلك المنصات الإعلامية، ألا يصمت بسبب تراجع التحرك من جانب هيئة النيابة الوطنية National Prosecuting Authority (NPA)، من أجل محاكمة داعمي الإبادة.
أفريقيا تدافع عن قضية فلسطين([3])
من اعتراف الجزائر بفلسطين في العام 1988 حتى ما جرى في أروقة الأمم المتحدة في العام 2025 احتفظتت أفريقيا دائمًا بصوت دائم لدعم الحرية الفلسطينية. وفي العام الجاري، خلال الجمعية لاعامة للمم المتحدة رقم 80، أكدت جنوب أفريقيا وناميبيا والسودان وليبيا وعدد كبير من الدول الأفريقية هذا الموقف، وربطت بين المخاوف الإنسانية المعاصرة في غزة بإرث القارة من النضال والتضامن ضد الاستعمار.
وقد بدأت القصة في 15 نوفمبر 1988 عندما أعلن ياسر عرفات قيام دولة فلسطين في الجزائر. وأصبحت دولة الجزائر أول دولة في العالم، وفي أفريقيا، تعترف رسميًا بالدولة الفلسطينية. وكانت رمزية ذلك واضحة بلا جدال. فقد اعتبرت الجزائر، التي خاضت نضالًا شرسًا لمواجهة الاستعمار الفرنسي، أن القضية الفلسطينية تعكس تاريخها ذاته. وساعد هذا الاعتراف على ضبط أداء أفريقيا الدبلوماسي طولل العقود التالية، وتجذير القضية الفلسطينية بقوة داخل قصة التحرر القاري الأوسع نطاقًا.
وفي غضون شهور من اعتراف الجزائر قامت حكومات أفريقية أخرى بالاقتداء بالخطوة. وبحلول مطلع التسعينيات باتت فلسطين دولة معترفًا بها من أغلب دول القارة. واليوم فإن 52 دولة أفريقية من بين إجمالي عدد دول القارة البالغ 54 تعترف بفلسطين، وباستثناء الكاميرون وإريتريا وحدهما خارج هذا الإجماع.
وفي العام 2012، عندما مُنحت فلسطين وضع الدولة المراقب غير العضو بالأمم المتحدة-وهي خطوة هامة في مسار مساعي فلسطين للحصول على اعتراف دولي- دعمت كثير من الدول الأفريقية هذه الخطوة، معتبرة إياها استمرارًا لتضامن القارة الممتد مع حق تقرير المصير الفلسطيني. وعندما ينظر المرء في التاريخ فإن هذا الموقف يبدو أكثر من مجرد كونه موقفًا رمزيًا. ففي فبراير 2025، خلال أعمال الدورة 38 العادية في أديس أبابا، أكد الاتحاد الأفريقي التزامه بدعم حق الشعب الفلسطيني في الحرية وجهده لنيل دولة مستقلة، شاملة لقطاع غزة والضفة الغربي والقدس الشرقية. وأبرز هذا الإعلان موقف الاتحاد الأفريقي الممتد حول حق تقرير المصير الفلسطيني.
وبعدئذ، في أغسطس 2025، أدانت المفوضية الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب المذبحة الجارية بحق المدنيين في غزة، وأبرزت استخدام التجويع والحصار كسلاح حربي، وحذرت من خطر المجاعة المحيط بالفلسطينيين. إضافة إلى ذلك فقد تدخل الاتحاد الأفريقي لدى محكمة العدل الدولية في قضية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، مؤكدة أن الاحتلال الإسرائيلي غير قانوني ويجب وضع نهاية له من أجل السماح للفلسطينيين بممارسة حقهم في تقرير المصير.