تُمثّل الطفرة التكنولوجية المطردة فرصةً قيّمةً للقارة الإفريقية لتحقيق قفزات تنموية تعمل على رفع جودة المُواطن الإفريقي في جنوب الصحراء. فمع قُدرة الذكاء الاصطناعي على إعادة تشكيل المشهد العالمي، من المتوقع أن يكون الشباب الإفريقي قوةً دافعةً في هذه الثورة نحو إعادة التشكيل.
ولإطلاق كامل إمكاناتها، تحتاج إفريقيا إلى بنية تحتية أساسية، واستثمار في رأس المال البشري، ورؤية إستراتيجية تضع الشباب في الطليعة. كما يمكن للتنوع الديمغرافي لإفريقيا أن يُغذّي ويُحقِّق “طفرةً” اقتصادية.
ولكنّه في سبيله لتحقيق ذلك، فإن الأمر يتطلب ثلاثة عوامل تمكين رئيسية: البنية التحتية، والتعليم، والرعاية الصحية؛ حيث إن التاريخ يُظْهِر لنا أن التقدُّم الحقيقي لا يتحقّق إلا عندما تُشكَّل التكنولوجيا مِن قِبَل مستخدميها. ومؤخرًا، يزدهر ابتكار الذكاء الاصطناعي في جميع أنحاء القارة الإفريقية.
ومع ذلك، فإن الاستثمارات في مجالات الاتصال والطاقة والبنية التحتية ضرورية لبناء أنظمة ذكاء اصطناعي تنافسية. وتُظهر التطورات الخوارزمية، كما يتضح من نماذج مثل DeepSeek، أن نجاح الذكاء الاصطناعي لا يعتمد فقط على قوة الحوسبة، بل على الابتكار أيضًا. ومن خلال الاستفادة من هذا الابتكار وبناء البنية التحتية اللازمة، يمكن لإفريقيا تحويل طفرة سكانية إلى فرصة للتقدُّم نحو المستقبل.
الذكاء الاصطناعي والبنية التحتية
يُسهم الذكاء الاصطناعي في دَفْع عجلة التكامل الإقليمي، على الرغم من وجود ثغرات البنية التحتية في القارة الإفريقية، من خلال تحسين الخدمات اللوجستية والتجارة والتمويل. وتُواصل الأدوات الجغرافية المكانية المُدعمة بالذكاء الاصطناعي توسيع نطاق الوصول إلى الإنترنت، كما هو الحال في شبكات Rain 5G في جنوب إفريقيا وشبكة BRCK في كينيا، مما يَضْمَن الاتصال الرقمي للنموّ الاقتصادي. ومن التطورات المحورية الأخرى: الإعلان الأخير من شركتي Cassava Technologies وNvidia عن إنشاء أول بنية تحتية رئيسية للحوسبة في مجال الذكاء الاصطناعي في إفريقيا.
لقد دأبت إفريقيا على تصدير المواد الخام واستيراد السلع النهائية، وهو ما يجب ألَّا يتكرّر هذا النمط بتصدير البيانات الإفريقية، واستيراد نماذج الذكاء الاصطناعي النهائية. وهو الأمر الذي يتطلب تجنُّب استعمار الذكاء الاصطناعي من إفريقيا، مع ضرورة تطوير قوتها الحاسوبية الخاصة، وضمان بقاء بياناتها في القارة والاستفادة منها. وتُعدّ سيادة البيانات أمرًا بالغ الأهمية للحوكمة وتخفيف المخاطر. ومع وجود قوانين بيانات عالمية وإفريقية أكثر صرامة، مثل قانون حماية البيانات الشخصية (POPIA) في جنوب إفريقيا واللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR) في أوروبا، فإن استضافة البيانات محليًّا أمرٌ أساسي للامتثال.
إنّ ضمان سيطرة إفريقيا على مستقبلها في مجال الذكاء الاصطناعي سيُمَثِّل تحديًا إستراتيجيًّا رئيسيًّا، ولكنه ضروري لتحقيق السيادة والحرية الاقتصادية على المدى الطويل، ولإنهاء حالة الركود الاقتصادي والتغلب على حالة التبعية المعرفية.
التبعية المعرفية في القارة الإفريقية : يشير كاردوسو انزوا (1969م) إلى التبعية على أنها حالة تهيمن فيها دولة ما على اقتصاد دولة أخرى أو مجموعة دول أخرى. وبالتالي، تخضع مؤسساتها السياسية والاجتماعية لسيطرة الدولة أو الدول المهيمنة. وتتشكل المؤسسات الاجتماعية التي تُجسّد التبعية في النظم التعليمية للدول التابعة.
ولقد صاغ كارل ماركس (1818- 1883م)، في نظريته الاقتصادية، الفكرة الأولية لمفهوم التبعية. ولقد عزا مانوني (1964م) الاستعمار إلى ظاهرة التبعية الناتجة. وكشف أن الدوافع النفسية بين مختلف الناس تؤدي إلى الهيمنة أو الخضوع للهيمنة. وأرجع مانوني العلاقة بين الأوروبيين والأفارقة إلى ممارسات تربية الأطفال.
ويرى أن ممارسات تربية الأطفال في المجتمعات المستعمرة كانت مُوجَّهة نحو هيمنة الأجداد؛ مما أدَّى إلى مشاعر التبعية والدونية، والتي انتقلت مبكرًا إلى المستعمر. إنها الحالة النفسية للوضع الاستعماري والعلاقات بين الجانبين. فالمشكلة نفسية ومستقلة عن الهياكل، والحل هو العلاج النفسي الفردي المكثّف. في ضوء ذلك، يشير ماكاتياني (2020م) إلى أن التبعية ساهمت في تزايد كراهية الأجانب في إفريقيا. ونتيجةً لذلك، ساهمت الممارسات المختلفة في ميول الهيمنة والخضوع للهيمنة.
ومع ذلك، فإن الاستعمار ليس نتاجًا للعقل بل نتاجًا للاحتياجات الاقتصادية والأساسية للمستعمرين. وهذا يتفق مع ماكاتياني وإمبوفاه وماكاتياني (2014م) الذين أشاروا إلى أن آفاق السلام تُعزّز التبعية في إفريقيا؛ حيث يؤدي الوضع المالي إلى تكوين الحالة النفسية لكلٍّ من المستعمِر والمستعمَر. فالمستعمِر يتمتع بالسلطة، ويدين بثروته للمستعمَر، ويُبرر موقفه باستغلال فقر المستعمَر. ويُشكِّل المستعمِر جميع مؤسسات المجتمع الاستعماري وفقًا لرؤيته للمستعمَر. ووفقًا لكاروي (1974م)، فهو يؤكّد أن العلاقة الاستعمارية تُحدِّد نمط التنمية أو عدم التنمية في الدولة المستعمَرة.
ولقد قدّم فانون (1968م) تحليلًا للاستعمار الجديد والضرورات الثورية. وجادل بأن استقلال الشعوب المستعمَرة هو نقل السلطة إلى البرجوازية الوطنية. وقد حافظت هذه العملية على المؤسسات الاستعمارية، وعزَّزت عمومًا النفوذ الاقتصادي والاجتماعي للقوى الإمبريالية المعنية. أما الاستقلال، فقد نقل الإدارة إلى أيدي برجوازية وطنية، لكن الرأسماليين المتروبوليتين استمروا في الاستفادة من العلاقة الاستعمارية. في هذه الحالة، تُعتبر البرجوازية الوطنية وسيطًا. ورغم محاولتها السيطرة على المستعمرين، إلا أنها تفتقر إلى تاريخ وسلطة وثروة نظيرتها الحضرية. ولذلك، فإنها تُحافظ فقط على البنية المؤسسية الاستعمارية. والنتيجة هي أن اقتصادات ما بعد الاستقلال غير مُدمَجة في الأُمَّة ككل.
ولقد هَيْمَن الشمال العالمي على عِلْم اجتماع المعرفة –لا سيما فيما يتعلق بإنتاج المعرفة وتداولها واستهلاكها– تاركًا دول العالم الثالث، بما فيها إفريقيا، في وضع تبعية. وقد وصف العديد من الباحثين هذا التبعية الأكاديمية المستمرة كجزء من العلاقات الشاملة بين المركز والأطراف في حقبتي الاستعمار وما بعد الاستعمار؛ حيث يُنظَر إلى المركز على أنه المفكر والفاعل والمتحدث باسم الأطراف.
وقد برزت تحركات نقدية متعددة لتوطين المعرفة (العلوم الاجتماعية) بهدف تحرير العالم الثالث من التبعية الأكاديمية التي سادت منذ فترة الاستعمار الإفريقي. وتُعدّ إعادة ابتكار البحث العلمي الإفريقي أمرًا بالغ الأهمية للتحرُّر المعرفي من التبعية الفكرية. وينبغي للدول الإفريقية ألا تتخلَّى عن ممارساتها وأعرافها المحلية الحصرية، بل يجب عليها توثيقها وحفظها للأجيال الحالية والمستقبلية. ويجب عليها أيضًا توليد أفكار ومصطلحات وتقنيات بحثية تتلاءم مع الواقع الاجتماعي الإفريقي. خاصةً وأن معادلة كوب- دوجلاس تشير إلى أن رأس المال البشري سيُشكّل نحو 75٪ من نمو إفريقيا بحلول عام 2040م مقابل 48٪ الآن، وأن دول القارة الإفريقية تحتاج إلى استثمارات للوصول إلى نقطة التحول ودمج نحو ثلثي سكانها في الفضاء السيبراني تُقدَّر بـ7 مليارات دولار، وهو مبلغ ليس كبيرًا على دول القارة.
وتعتمد الحاجة المُلِحَّة لإصلاح سياسات الطاقة الحركية في دول إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بشكل كبير على مسارات عمليات التقارب بين ديناميكيات الطاقة الحركية المختلفة. ويمكن أن تنجح السياسات الشاملة في جميع البلدان اعتمادًا على درجة التقارب والوقت اللازم للتقارب الكامل (100٪) في ديناميكيات الطاقة الحركية. والتقارب يعني جدوى سياسات الأعمال والاقتصاد الكلي المشتركة، بينما سيشير التقارب الكامل (100٪) إلى إنفاذ سياسات الأعمال والاقتصاد الكلي المشتركة دون تمييز بين الجنسية والموقع.
ونظرًا للدور المتزايد للطاقة الحركية في عملية التنمية؛ فإن السؤال المهم هو: هل تتقارب ديناميكيات الطاقة الحركية داخل دول إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؟ إذا كان الأمر كذلك، فما هي معدلات وتوقيت عمليات التقارب؟ يمكن أن تُوفّر الإجابات عن هذه الأسئلة توجهًا سياسيًّا ذا صلة بتوقيت السياسات الموجهة نحو الطاقة الحركية وإنفاذها وتوحيدها. هناك دافع إضافي لهذا العمل يستند أيضًا إلى “معجزة شرق آسيا”. ويدعم ضرورة دراسة التقارب في ديناميكيات الطاقة المعرفية إمكانية إرجاع مستوى التنمية الصناعية إلى القدرة المشتركة لدول شرق آسيا على تكرار التكنولوجيا الحالية. وتشير بعض الأدلة إلى أن “معجزة شرق آسيا”، ربما تكون قد نشأت من قدرة هذه الدول على استيعاب وتكرار ومضاعفة الابتكارات الأجنبية التي ربما ساهمت في معدلات نموّها المرتفعة نسبيًّا.
السيادة الرقمية
لا يقتصر الذكاء الاصطناعي في القارة الإفريقية على مجرد طفرة تكنولوجية، بل يثير أيضًا تساؤلات حول السيادة. يعتقد البروفيسور يونتا أن “مَن يتحكم في البيانات سيتحكم في المستقبل”. ووفقًا له، طالما أن شركات التكنولوجيا العالمية تحتكر البيانات الإفريقية، فلن تنعم القارة بالاستقلال أبدًا. لهذا السبب، يجب أن يكون التحكم في البيانات المحلية أولوية قصوى.
ويتجلَّى هذا الهدف في البرنامج الوطني للذكاء الاصطناعي في السنغال، الذي يدعم اللغات المحلية. كما تُبذَل جهودٌ في العديد من البلدان لإضفاء قيمةٍ أكبر على اللغات الإفريقية. ويُمكن للذكاء الاصطناعي أن يُوفر الوسائل التقنية والتكنولوجية اللازمة لدمج هذه اللغات في الحياة اليومية للمواطنين الأفارقة بوتيرةٍ أسرع. وسيؤدي ذلك إلى تمثيلٍ أكبر للثقافة الإفريقية في التكنولوجيا الرقمية الجديدة، ويساعدها على الابتعاد عن الهيمنة الأيديولوجية والثقافية غير الإفريقية؛ كما يقول البروفيسور يونتا.
لا يقتصر دمج اللغات المحلية في نماذج الذكاء الاصطناعي على الهوية فحسب، بل هو أيضًا قضية إستراتيجية. تُدرّب نماذج اللغات الكبيرة (LLMs) على البيانات اللغوية. وقد يُؤدِّي استبعاد اللغات الإفريقية من هذه البيانات إلى تحيُّزاتٍ تجعل هذه النماذج غير مُلائمةٍ للتعامل مع القضايا المحلية. ويعتقد البروفيسور يونتا أن “دمج هذه اللغات لن يُساعد فقط على تلبية احتياجات السكان بشكلٍ أفضل، بل سيضمن أيضًا تمثيلًا عادلًا للثقافات الإفريقية في النظام البيئي الرقمي”. ويرى أن هذا النهج ضروريٌّ ليصبح الذكاء الاصطناعي أداةً شاملةً وذات سيادةٍ في القارة.
وأخيرًا، لا يمكن تطوير قطاع الذكاء الاصطناعي دون بنية تحتية موثوقة. يوضح البروفيسور يونتا أنه “بالإضافة إلى البيانات، يتطلب إنشاء نماذج ذكاء اصطناعي واسعة النطاق قوة حوسبة هائلة، وسعة تخزين كبيرة، وشبكات ربط عالية الأداء. يوجد حاليًّا عدد قليل جدًّا من الدول الإفريقية التي تتمتع ببنية تحتية ذات جودة كافية لمنافسة مناطق أخرى من العالم”. يستدعي هذا الوضع نهجًا بديلًا: الذكاء الاصطناعي الاقتصادي. تعتمد هذه الطريقة على شبكات من الآلات الصغيرة المترابطة، مما يُقلّل التكاليف مع الحد من التأثير البيئي. هذا النهج المبتكَر مُناسب تمامًا للقيود الحالية التي تواجهها القارة.
تحديات وعوائق
في عام 2023، ذكر مقال في صحيفة نيويورك تايمز أنه بحلول عام 2050م، “من المتوقع أن يكون واحد من كل أربعة أشخاص على مستوى العالم إفريقيًّا“ . وأن الطفرة السكانية في إفريقيا وشيكة. ولطالما قُوبِلَ هذا النمو السكاني الشاب بتردُّد. فالبعض يراه “قنبلة موقوتة”، بينما يراه آخرون “عائدًا ديموجرافيًّا”، أي ميزة تنافسية يجب اغتنامها. فليس التحوُّل الديمغرافي في إفريقيا هو الموجة العالمية الكبرى الوحيدة التي يجب على العالم استغلالها؛ فالذكاء الاصطناعي يتقدم بسرعة أيضًا، وقد وُصف بالفعل بأنه ثورة. وبينما لا يزال نطاق الذكاء الاصطناعي وتأثيره المجتمعي يتكشفان، فإن إمكاناته التحويلية واضحة. فهذه تقنية سيكون تأثيرها مماثلًا لتأثير الكهرباء أو الإنترنت.
اليوم، انفصلت هاتان الموجتان تمامًا. فإفريقيا غائبة إلى حدّ كبير عن سباق الذكاء الاصطناعي العالمي. ولا توجد أيٌّ من شركات الذكاء الاصطناعي الرائدة عالميًّا إفريقية. وقد بلغ استثمار رأس المال الاستثماري في الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة ما يقرب من 80 مليار دولار، في تناقضٍ صارخٍ مع المبالغ الأصغر بكثير المستثمرة في إفريقيا.
في حين تُرسِّخ الهند والصين موقعهما الإستراتيجي في المشهد العالمي للذكاء الاصطناعي، وتواجه إفريقيا تحديات كبيرة. ويتطلب الوقت الراهن رؤية طموحة وإستراتيجية، تُدرك النمو السكاني المتنامي في إفريقيا كأصل أساسي في تحقيق القوة التحويلية للذكاء الاصطناعي.
فالذكاء الاصطناعي يتطلب وجود عمالة ماهرة عبر سلسلة القيمة الخاصة به، بدءًا من استخراج البيانات ووضع العلامات، وصولًا إلى مهندسي وعلماء الذكاء الاصطناعي الذين يُطوّرون التكنولوجيا. ويمكن للمواهب الإفريقية سدّ هذه الفجوة، وهو أمر بالغ الأهمية ليس فقط لضمان مشاركة إفريقيا في سباق الذكاء الاصطناعي، ولكن أيضًا لضمان أن تعكس تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي احتياجات إفريقيا ومصالحها، مما يُساعد في مواجهة التحديات الأكثر إلحاحًا التي تواجهها القارة.
ومع ذلك، لا يزال نقص التمويل وقيود البنية التحتية عقبات خطيرة. وغالبًا ما تفتقر مشاريع الذكاء الاصطناعي إلى دعم الحكومات الإفريقية؛ حيث تفتقر العديد من الجامعات الحكومية إلى الموارد اللازمة لتطوير البحث في مجالات مثل معالجة اللغات الطبيعية للغات الإفريقية، وفقًا لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، تتطور إمكانات إفريقيا كلاعب رئيسي في مجال الذكاء الاصطناعي، لكنّها تواجه تحديات كبيرة، وفقًا للخبراء المجتمعين في مؤتمر “إندابا للتعلم العميق” السنوي للذكاء الاصطناعي لعام 2024م.
وفي هذا المؤتمر الذي عُقد في داكار، السنغال 2024م، واستقطب أكثر من 700 مشارك، ناقشوا قضايا متنوعة، بدءًا من التمويل، وصولًا إلى معالجة اللغات المحلية.
ويعتقد الباحثون أن الذكاء الاصطناعي قادر على إحداث تحولات جذرية في قطاعات مثل الزراعة والرعاية الصحية والتعليم، لكنهم يُقِرُّون بأن هذا المسار مُعقَّد، وفقًا لما أوردته مجلة “إم آي تي”. وفي هذا السياق، قالت كاثلين سيمينيو، عالمة الحاسوب الكينية: إنه بدون محو أمية اللغة المحلية وبيانات قوية، سيواجه قطاع الذكاء الاصطناعي في إفريقيا صعوبات. وأضافت: “إنه أشبه بموجة لا يمكن إيقافها”، معربةً عن تفاؤلها رغم التحديات؛ وذلك فقًا لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.
كما يُمثل غياب السياسات الموحدة عائقًا آخر. من بين الدول الإفريقية الـ55؛ حيث لا يوجد سوى عدد قليل منها لديه إستراتيجيات رسمية للذكاء الاصطناعي. وقد أثارت إستراتيجيتان متعارضتان اقترحتهما وكالات مختلفة تابعة للاتحاد الإفريقي جدلًا واسعًا، وفقًا لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. حيث تدعو إحدى الإستراتيجيتين، التي يُزعَم أنها ذات تأثيرات أجنبية، إلى إعطاء الأولوية الفورية للذكاء الاصطناعي، بينما تدعو إستراتيجية بديلة مدفوعة من القاعدة الشعبية إلى وضع لوائح تُراعي الاحتياجات الإفريقية.
وقد أعرب فوكوسي ماريفات، عالم الحاسوب الجنوب إفريقي، عن إحباطه من التأثير الأجنبي، قائلاً: “هذه أمور لا ينبغي لنا قبولها”. وقد أثار اعتماد مؤتمر “إندابا” على التمويل من عمالقة التكنولوجيا الدوليين مثل جوجل وميتا مخاوف بشأن التأثير المحتمل على أجندتها، وفقًا لما ذكره معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. لذلك حذَّر تيمنت جيبرو، مُؤسِّس معهد أبحاث الذكاء الاصطناعي الموزع، من أن إفريقيا يجب أن تتجنَّب الاعتماد المفرط على حلول الذكاء الاصطناعي الأجنبية، مؤكدًا أن “الأفارقة بحاجة إلى القيام بشيء مختلف وتجنُّب تكرار نفس القضايا التي نكافحها“.
على أعتاب التغيير
مع نمو نظام الذكاء الاصطناعي في إفريقيا، يظل الباحثون ملتزمين بتطوير أدوات قادرة على معالجة التحديات المحلية الفريدة، على أمل الحصول على دعم متزايد من داخل القارة. وعلى نحو يُمكِّن باحثي إفريقيا بالفعل من الاستفادة إلى أقصى حدّ من القدرات المذهلة للذكاء الاصطناعي التوليدي. ففي جنوب إفريقيا، على سبيل المثال، وللمساعدة في التصدي لوباء فيروس نقص المناعة البشرية، صمّم العلماء تطبيقًا يُسمى “اختيارك”، مدعومًا ببرنامج دردشة آليّ قائم على برنامج ماجستير في القانون، يتفاعل مع الناس للحصول على تاريخهم الجنسي دون وصمة عار أو تمييز. وفي كينيا، يستخدم المزارعون تطبيقات الذكاء الاصطناعي لتشخيص أمراض المحاصيل وزيادة الإنتاجية. وفي نيجيريا، تسعى شركة أواري، وهي شركة ناشئة حديثة التأسيس في مجال الذكاء الاصطناعي، إلى بناء أول نموذج لغوي كبير في البلاد، بموافقة الحكومة؛ بحيث يمكن دمج اللغات النيجيرية في أدوات الذكاء الاصطناعي.
في الوقت نفسه، وجد تحليل لـ1646 منشورًا في مجال الذكاء الاصطناعي بين عامي 2013 و2022م “زيادة كبيرة في المنشورات” من إفريقيا. أجرت هذا التحليل مؤسسة ماساكان، وهي منظمة قريبة من مؤتمر إندابا للتعلم العميق، تعمل على تعزيز استخدام اللغات الطبيعية.
لا يقتصر دور الذكاء الاصطناعي على إحداث ثورة في قطاع التكنولوجيا فحسب، بل يُعيد بالفعل رسم ملامح مستقبل إفريقيا. فهو يُقدِّم حلولاً للتحديات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية الرئيسية التي تواجهها، بدءًا من قطاع الصحة ووصولًا إلى التعليم والزراعة. وقد تُحْدِث إمكاناته الفريدة نقلةً نوعيةً في القارة.
وفي مجلة “الاقتصاد الإفريقي” الصادرة عن الوكالة الفرنسية للتنمية، يصف البروفيسور بولين ميلاتاجيا يونتا، المُحاضِر في جامعة “ياوندي واحد”، كيف يُعدّ الذكاء الاصطناعي أداةً إستراتيجيةً لتحقيق أهداف التنمية المستدامة. كما يُستخدم الذكاء الاصطناعي في “التنبؤ بالأوبئة والفيضانات، وتوفير التشخيصات الآلية عبر التصوير الطبي، واكتشاف الأمراض من صور النباتات أو الجلد، وأتمتة تقييمات المتعلمين، وغيرها. وتُقدّم حالات استخدام الذكاء الاصطناعي هذه بالفعل حلولاً لتعويض نقص الموارد البشرية في مجالات مثل الصحة والزراعة والتعليم في إفريقيا. وفي الوقت نفسه، تُساعد على تحسين الغلة وتعزيز الإنتاجية.
دَفْع عجلة التحوّل
يُعدّ الذكاء الاصطناعي رهانًا طموحًا لإفريقيا. فعلى الرغم من التحديات الهيكلية، إلا أنه يُتِيح فرصًا غير مسبوقة، ولديه القدرة على قيادة تحوُّل مستدام. لكنَّ هذا يتطلب اكتساب خبرة في إدارة البيانات، والاستثمار في المواهب، وبناء بنية تحتية مناسبة.
لذلك يسعى مركز الذكاء الاصطناعي إلى تعزيز أربعة مكونات أساسية لأنظمة الذكاء الاصطناعي المحلية في إفريقيا: مجموعات بيانات شاملة وتمثيلية، وتنمية مواهب الذكاء الاصطناعي المحلية، وبنية تحتية للحوسبة سهلة الوصول وصديقة للبيئة، وبيئات تمكينية لتبنّي الذكاء الاصطناعي المسؤول. وتماشيًا مع أولويات خطة ماتي الإيطالية الإفريقية، سيعمل مركز الذكاء الاصطناعي في ستة قطاعات: الطاقة، والزراعة، والصحة، والمياه، والتعليم والتدريب، والبنية التحتية.
وعلى الصعيد الأممي، وخلال الدورة التاسعة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، كان النقاش حول تحديات وفرص الذكاء الاصطناعي في صدارة النقاش. استغلالًا لهذا الاهتمام والزخم المتزايد، عقد مركز الذكاء الاصطناعي اجتماع طاولة مستديرة رفيع المستوى مع رُوّاد التكنولوجيا والمسؤولين الحكوميين وخبراء التنمية لمناقشة الخطوات الملموسة لدعم وتسريع منظومات الذكاء الاصطناعي المحلية في إفريقيا. ومن أبرز النتائج التي تم التوصل إليها، رؤى حول ضرورة استكشاف نماذج شراكة مبتكرة وقابلة للتطبيق وإستراتيجيات تنفيذ تراعي الواقع المحلي.
كما تم انعقاد مؤتمر أهداف التنمية المستدامة الرقمية(SDG Digital) ، وهو حدث رائد يُنظّمه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) والاتحاد الدولي للاتصالات (ITU) لعرض وتعزيز الابتكار الرقمي لتحقيق أهداف التنمية المستدامة. وفي هذا السياق، أكَّد نائب الوزير الإيطالي للمؤسسات ومنظومة “صنع في إيطاليا”، فالنتينو فالنتيني، أن “رحلتنا في إنشاء مركز الذكاء الاصطناعي هذا قد استرشدت بالتعاون والشمولية ورؤية مشتركة لمستقبل الذكاء الاصطناعي. وأكد أن عمل مركز الذكاء الاصطناعي يتجاوز مجرد نقل التكنولوجيا: “إنه يتعلق بالمشاركة في إيجاد الحلول معًا، والتعلم من بعضنا البعض، والنمو معًا. نؤمن بأن إفريقيا يجب أن تكون شريكًا حقيقيًّا في تشكيل مستقبل الذكاء الاصطناعي”.
ويتطلب تحقيق هذه النتيجة شراكات مبتكرة، بما في ذلك مع القطاع الخاص؛ لإطلاق العنان لإمكانات الذكاء الاصطناعي في إفريقيا وتسخيرها. ويتماشى هذا مع رؤية مركز الذكاء الاصطناعي، التي لاقت صدًى في تصريحات توني ندونغو، الرئيس التنفيذي لشركة كيتابو (إحدى الشركات الناشئة المشاركة في برنامج تسريع الشركات الناشئة التجريبي التابع لمركز الذكاء الاصطناعي)، أمام مندوبي مجموعة السبع. وقال ندونغو: “لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتخلَّف عن الركب. يجب أن نعمل الآن بشكل تعاوني من خلال الاستثمار المناسب، وتنمية المواهب بشكلٍ مكثَّف، وضمان سلامة البيانات؛ لتوجيه القارة إلى المكانة التي تستحقها”.
وختامًا، فإن دَمْج الذكاء الاصطناعي في إفريقيا فرصة كبيرة، ولكنه يُواجه أيضًا تحدياتٍ جسيمة. فبينما تتميز بعض الدول الإفريقية بالتزامها وتقدُّمها في الاستعداد لاعتماد الذكاء الاصطناعي، تُواجه دول أخرى عقباتٍ كبيرة، مثل التفاوتات الهيكلية والفجوات الرقمية.
ويُبرز هذا التفاوت الحاجة إلى نهجٍ شاملٍ ومتكاملٍ لضمان استفادة جميع الدول الإفريقية من الذكاء الاصطناعي، مع سدّ الفجوة بينها وبين مناطق أخرى من العالم.
وللتغلب على هذه التحديات والاستفادة الكاملة من إمكانات الذكاء الاصطناعي في إفريقيا، لا بد من تضافر الجهود. ويشمل ذلك زيادة الاستثمار في البنية التحتية الرقمية، والتدريب المتخصص، والبحث والتطوير. علاوةً على ذلك، تُعدّ السياسات الحكومية الثاقبة والشراكات الإستراتيجية بين القطاعين العام والخاص والمجتمع المدني ضروريةً لتهيئة بيئةٍ مُواتيةٍ للابتكار والنمو الاقتصادي القائم على الذكاء الاصطناعي. ومن خلال العمل معًا، يُمكن للدول الإفريقية تحويل التحديات الحالية إلى فرص، وتمهيد الطريق لمستقبلٍ يُسهم فيه الذكاء الاصطناعي إسهامًا كبيرًا في التنمية المستدامة، وتحسين جودة الحياة لجميع الأفارقة.
للاطلاع على المزيد:
- الذكاء الاصطناعي في إفريقيا: التحديات الناشئة
- قراءة في كتاب: “الذكاء الاصطناعي الجدير بالثقة: رؤى إفريقية”.
- ملامح الزخم الإفريقي نحو مواكبة ثورة الذكاء الاصطناعي (كينيا نموذجًا)