مقدمة:
لا يوجد شك في أن استغلال التقنيات القائمة على الذكاء الاصطناعي وتعميمها في الخدمات العامة مِن قِبَل الحكومات أو على مستوى الاستخدام الشخصي للأفراد والمؤسسات في قارة إفريقيا لا يزال في مراحله الأولى؛ إذ يُواجه هذا المجال عددًا من التحديات تتعلق بطبيعة البنية التحتية، ونظم الاتصالات، ومستوى التعليم في القارة، وغير ذلك من التحديات التي تَحُول دون مواكبة الثورة الحالية على صعيد الذكاء الاصطناعي، على الرغم من التطلعات الكبيرة لاستغلاله والاستفادة منه؛ من أجل إحداث تحوُّل جوهري على المستويين الاجتماعي والثقافي في إفريقيا، بما في ذلك في مجالات مثل: الاستدامة البيئية، والنقل والزراعة، والرعاية الصحية والتعليم، والمعاملات المالية، وغيرها.
حقيقةً، لا تحظى المحاولات التي تباشرها دول إفريقية عديدة نحو بناء استراتيجيات وطنية والتوجه نحو الاستغلال الأمثل للذكاء الاصطناعي وغيره من التقنيات الحديثة بالاهتمام ذاته الذي تحظى به مناطق أخرى، في وقتٍ تقطع فيه دول القارة أشواطًا نحو دَمْج تقنيات الذكاء الاصطناعي في الخدمات العامة، وتقنينه ووضع الأُطُر واللوائح التنظيمية التي تضمن حماية خصوصية الأفراد، وتتيح الاستغلال الأمثل لهذا المجال، كما يعمل الاتحاد الإفريقي بدَوْره على بناء استراتيجية قارية للذكاء الاصطناعي، تحظى بتوافق الدول الأعضاء وتلبّي حاجاتهم.
وعلى الرغم من ذلك، تُعرقل الفجوة الرقمية بين دول قارة إفريقيا وغيرها من القارات الأخرى الجهود التي تُباشرها حكومات هذه الدول، وتبقى غالبية الابتكارات التي تستعين بها المؤسسات الرسمية مستوردة من الخارج، وسط محاولات مِن قِبَل جهات رسمية وروّاد أعمال وخبراء واختصاصيين محليين لبناء نماذج إفريقية تكنولوجية، على غرار منطقة وادي السيليكون Silicon Valley بالولايات المتحدة الأمريكية، ومن ذلك على سبيل المثال، تدشين مناطق وتجمعات تكنولوجية أبرزها: سيليكون سافانا Silicon Savannah في كينيا، ووادي شيبا Sheba Valley في إثيوبيا، ووادي ياباكون Yabacon Valley في نيجيريا.
ومن خلال تلك المناطق التكنولوجية تُبذَل جهود واسعة مِن قِبَل حكومات إفريقية ومئات الشركات الناشئة المحلية المختصة في مجال الذكاء الاصطناعي وأصحاب المصلحة المحليين من المستثمرين ورواد الأعمال، وكذا مراكز التعليم العالي؛ من أجل تعزيز نظام بيئي يهدف إلى تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي تتَّسق مع الاهتمامات والشواغل والثقافة الإفريقية.
أولاً: ملامح الانخراط الإفريقي في ثورة الذكاء الاصطناعي
تهتم العديد من الدول الإفريقية ببحث كيفية تسخير قوة الذكاء الاصطناعي AI لمواجهة التحديات الفريدة التي تعاني منها القارة، والتي تشهد زخمًا كبيرًا نحو دمج الذكاء الاصطناعي في مختلف القطاعات، بما يسهم في تعزيز التنمية المستدامة وتمكين المجتمعات.([1])
ويعتقد الخبراء أنه ينبغي أن تشارك حكومات إفريقيا في تشكيل القواعد الجديدة، وألا تترك الأمور بحيث يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى تفاقم خطر التفاوت الرقمي بينها وبين دول القارات الأخرى؛ إذ يمكن أن يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى تعميق الفجوة التكنولوجية بين إفريقيا والعالم، وتعزيز الهيمنة الثقافية والأيديولوجية الغربية. وتفتقر غالبية الدول الإفريقية إلى الأطر التنظيمية واللوائح والاستراتيجيات التي يمكنها تنظيم هذا المجال، كما أن ضعف البنى التحتية والتعليم ونُظُم الاتصالات من بين العوامل التي تحول دون القدرة على تعميم إجراءات تنظيمية أو إصدار وثائق سياسات أو استراتيجيات وطنية تتيح الاستفادة القصوى من الذكاء الاصطناعي وتقلص مخاطره إلى الحد الأدنى.([2])
وفي المجمل، تنمو صناعة الذكاء الاصطناعي The AI industry في جميع أنحاء إفريقيا، في ظل وجود أكثر من 2400 شركة عاملة في هذا المجال، منها 41% شركة ناشئة أغلبها في جنوب إفريقيا ونيجيريا ومصر وكينيا والمغرب وتونس (انظر الشكل: 1-1)، وسط توقعات بأن تسهم هذه التكنولوجيا بقرابة 1,5 مليار دولار من الناتج المحلي الإجمالي للقارة الإفريقية بحلول عام 2030م.
وتعد موريشيوس ومصر وكينيا من بين الدول الإفريقية التي تبنَّت مبكرًا استراتيجيات وطنية، ونشرت وثائق سياسات لتنظيم الذكاء الاصطناعي، وأعلنت موريشيوس -على سبيل المثال- في عام 2018م استراتيجيتها للذكاء الاصطناعي، والتي عدَّته هو والتقنيات الناشئة أدوات مساعدة يمكنها معالجة القضايا الاجتماعية والمالية في البلاد، وإحياء القطاعات التقليدية للاقتصاد وكذلك تحفيز الإبداع، ورأت أن الذكاء الاصطناعي يُعدّ ركيزةً جديدةً لتنمية الأمة في العقد القادم وما بعده. وشملت المجالات المقترحة في الاستراتيجية: التصنيع والرعاية الصحية والتكنولوجيا المالية والزراعة والموانئ الذكية وإدارة المرور البحري.
ووضعت مصر بدورها استراتيجية وطنية للذكاء الاصطناعي في عام 2021م، تقوم على أهمية استغلال تقنيات الذكاء الاصطناعي لدعم تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وترسيخ دور مصر كلاعبٍ رئيسٍ في منظومة التعاون الإقليمي في مجال الذكاء الاصطناعي وكلاعب دولي نشط.([3])
وتقطع كلٌّ من إثيوبيا وغانا ورواندا وجنوب إفريقيا وأوغندا خطوات نحو تحديد سياسات الذكاء الاصطناعي، وعلى سبيل المثال: أنشأت إثيوبيا معهدًا للذكاء الاصطناعي، يحمل اسم المعهد الإثيوبي للذكاء الاصطناعي The Ethiopian AI Institute، ومن بين مهامّه: صياغة السياسات والتشريعات والأُطر التنظيمية الوطنية المتعلقة بالذكاء الاصطناعي.
وبينما عمدت كلٌّ من غانا وأوغندا إلى تطوير أُطُر السياسات المحلية للذكاء الاصطناعي، وعملتا على استكمال المخططات الخاصة باستراتيجيتها الوطنية للذكاء الاصطناعي؛ تسعى رواندا من أجل تطوير سياسة ذكاء اصطناعي وطنية، تركّز على الاستخدام الأخلاقي للذكاء الاصطناعي لدعم التنمية الاجتماعية والاقتصادية.
من جانبها؛ تعمل جنوب إفريقيا على استكشاف الفرص المتاحة في مجال الذكاء الاصطناعي، وتبذل جهودًا من أجل بناء استراتيجية مستقبلية محورها الأول العنصر البشري، والثاني القارة الإفريقية، أي أنها تسعى نحو ذكاء اصطناعي يتسق مع الظروف الإفريقية.
وفي نيجيريا، يعمل المركز الوطني للذكاء الاصطناعي والروبوتات (NCAIR) الذي تم إنشاؤه في إطار الوكالة الوطنية لتطوير تكنولوجيا المعلومات، على تعزيز البحث والتطوير في مجال الذكاء الاصطناعي والروبوتات والطائرات بدون طيار والتقنيات ذات الصلة وإنشاء نظام بيئي مزدهر لريادة الأعمال القائمة على الابتكار وخلق الوظائف والتنمية الوطنية.([4])
الشكل (1-1)
ترتيب الدول الإفريقية من حيث عدد الشركات المختصة بالذكاء الاصطناعي
المصدر: أعد الباحث الشكل بناءً على معطيات مؤسسة “دبلوماسي” على الرابط:
ثانيا: الاتحاد الإفريقي.. نحو استراتيجية قارية للذكاء الاصطناعي
يُعدّ عام 2023م عامًا مفصليًّا من زاوية الجهود التي يباشرها الاتحاد الإفريقي نحو إصدار استراتيجية قارية شاملة للذكاء الاصطناعي؛ إذ شهدت الفترة بين (27 فبراير -3 مارس 2023م) عقد ورشة عمل حول التقنيات الناشئة والذكاء الاصطناعي، في كيغالي، عاصمة رواندا، ضمَّت فريقًا من الاتحاد الإفريقي، ووكالة تنمية الاتحاد الإفريقي (AUDA-NEPAD)؛ بغرض وضع اللمسات الأخيرة لصياغة استراتيجية الاتحاد الإفريقي القارية للذكاء الاصطناعي (AU-AI).
ويهدف الاتحاد الإفريقي من وراء تلك الخطوة إلى تطوير استراتيجية شاملة من شأنها توجيه البلدان الإفريقية حول كيفية دعم التحول الاجتماعي والاقتصادي الشامل والمستدام القائم على الذكاء الاصطناعي. وتعد ورشة العمل تلك امتدادًا لورشة عمل سابقة عُقدت في مايو 2022م في داكار، عاصمة السنغال، وكانت قد أوصت باستغلال ميزات الذكاء الاصطناعي من خلال مواءمة النهج الاجتماعي والاقتصادي الذي يُحرّكه الذكاء الاصطناعي، يما يُعزّز القدرة على تحقيق النمو الاقتصادي والتنمية، من خلال خلق صناعات ووظائف جديدة، وزيادة الإنتاجية، وتحسين الكفاءة، وتحسين مستويات المعيشة لجميع الأفارقة.([5])
ويأتي على رأس دوافع الاتحاد الإفريقي من وراء تلك الجهود: افتقار معظم البلدان الإفريقية إلى أُطُر سياسات شاملة للذكاء الاصطناعي لتعزيز تبنّي الذكاء الاصطناعي المسؤول، الأمر الذي يُشكِّل عائقًا أمام التنمية الاجتماعية والاقتصادية التي يُحرّكها الذكاء الاصطناعي وجمع البيانات الإفريقية عالية الجودة ومعالجتها وتفسيرها، ومِن ثَم تسعى الإستراتيجية القارية للاتحاد الإفريقي والذكاء الاصطناعي إلى توفير حلول لهذه المجالات.
ويتطلع الاتحاد الإفريقي إلى إرساء استراتيجية قارية للذكاء الاصطناعي من شأنها معالجة المخاوف المتعلقة بفقدان الوظائف، وتعزيز فرص خلق الوظائف من خلال دمج الذكاء الاصطناعي في مختلف الصناعات، وتعزيز تنمية رأس المال البشري وتنمية المهارات في مجال الذكاء الاصطناعي في الزراعة والرعاية الصحية والتمويل والاتصالات والنقل وإدارة المياه والتعدين.
وحدد المشاركون في ورشة العمل أن الاستفادة من الإمكانات الهائلة للذكاء الاصطناعي في إفريقيا بشكل كامل، تُحتّم إعطاء أولوية لاستراتيجية شاملة لتطوير وتعزيز قوانين المنافسة، وأُطُر المسؤولية القانونية وقوانين الملكية الفكرية، وإضفاء الطابع الديمقراطي على الذكاء الاصطناعي، والاعتبارات الأخلاقية، ودعم النُّظُم البيئية للذكاء الاصطناعي.
وخلصوا إلى أنه يتعين أن تُقِرّ الدول الأعضاء في الاتحاد الإفريقي وتضع إطارًا تنفيذًا واضحًا وتحدِّد آليات رصد وتقييم؛ لضمان نجاح التنفيذ، وتحديد العائد من الاستثمار في مشروعات الذكاء الاصطناعي، وضمان تحييد الآثار السلبية المتوقعة. كما اتفق المشاركون على إرسال مشروع الاستراتيجية إلى الدول الأعضاء في الاتحاد الإفريقي لمراجعته والتحقق من صحته للحفاظ على الملكية، وبعد ذلك سيتم إطلاق نسخة معتمدة على مستوى القارة في قمة الاتحاد الإفريقي في يناير 2024م مِن قِبَل رؤساء الدول والحكومات في إفريقيا.([6])
وبحسب سيليستين كيزي Celestine Kezie، المُحاضِر في مركز العلوم الإنسانية بجامعة عموم إفريقيا (PAU)؛ فإن مسألة بناء استراتيجية شاملة لقارة إفريقيا خطوة جيدة لتحسين القدرات التكنولوجية في القارة، لكنْ من المهم النظر إلى حقيقة تفاوت القدرات التنموية بين دولة وأخرى وربما ما يناسب بلدًا إفريقيًّا لا يناسب بلدًا آخر.
ومِن ثَم يعتقد أنه من الضرورة خلال التدقيق في الأُطُر النظرية والتطبيقية للاستراتيجية وضع الأبعاد الثقافة والاحتياجات التنموية والازدهار البشري في كل دولة بالاعتبار. ويخشى كيزي تعرُّض القارة الإفريقية للإيذاء الذاتي أو الخارجي، ويرى أنه لا بد أن ترتكز أخلاقيات الذكاء الاصطناعي على أخلاقيات الفضيلة بدلاً من النظريات الساعية للهيمنة، ومِن ثَم يعتقد أن الهدف يجب أن يكون “نحو ذكاء اصطناعي أكثر فضيلة”.
كما يعتقد أنه من الضروري إشراك ذوي الصلة وأصحاب المصلحة في وضع الاستراتيجيات للقارة بما في ذلك خبراء التكنولوجيا، وصانعو السياسات، والفلاسفة (علماء الأخلاق والأنثروبولوجيا الفلسفية على وجه الخصوص)، والتربويون، والعمل بناء على قاعدة “ابتكار من دون تعريض البشر وأنظمة القيم والأجيال القادمة للخطر”.([7])
ثالثًا: النموذج الكيني
تُعد جمهورية كينيا، من أوائل البلدان الإفريقية التي سعت لوضع استراتيجية وطنية ولوائح وإطار تنظيمي للذكاء الاصطناعي؛ على أمل تحقيق تحول جوهري على المستويين الاجتماعي والثقافي في مجالات؛ مثل: النقل والزراعة والرعاية الصحية والتعليم والمعاملات المالية، وغير ذلك.
ويعمل خبراء محليون انطلاقًا من المجمع التكنولوجي كونزا تكنوبوليس Konza Technopolis على بُعد 64 كيلو مترًا جنوب العاصمة نيروبي، من أجل تنفيذ خطة التنمية الوطنية في كينيا، والمعروفة باسم رؤية كينيا 2030، والتي يفترض أن تقود البلاد نحو التحول الرقمي واستيعاب التكنولوجيات الحديثة، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي ضمن النظام العام في البلاد.([8])
وعمدت حكومة كينيا مبكرًا إلى محاولة استكشاف إمكانات الذكاء الاصطناعي منذ عام 2018م حين شكَّلت فريق عمل لوضع توصيات نحو “استراتيجية وطنية للذكاء الاصطناعي”، وتطوير خارطة طريق لكيفية الاستفادة الكاملة من هذه التقنيات. وخلال عام واحد نشَر هذا الفريق -الذي تشكّل من 14 خبيرًا- عددًا من التوصيات، داعيًا الحكومة في نيروبي لتعزيز الاستثمارات في تطوير البنية التحتية والمهارات، وتطوير لوائح فعّالة لتحقيق التوازن بين حماية المواطن وابتكارات القطاع الخاص.
وأقرت حكومة كينيا في خطتها الرقمية لعامي 2022-2023م مراجعة شاملة للذكاء الاصطناعي، تُحتّم عليها مُواكَبة التطورات وعدم التأخر عن الركب العالمي وتحويله إلى هدف قائم بذاته، من خلال تشجيع البحث والتطوير ونشر حلول الذكاء الاصطناعي لحل المشكلات المحلية، مع تصدير نفس القدرات إلى بلدان أخرى. كما نصَّت الخطة على تعزيز الشراكات الدولية مع الجهات الفاعلة الرائدة في مجال البحث والتطوير في مجال التقنيات الناشئة، لتسهيل نقل التكنولوجيا وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة.([9])
ومن أبرز مكونات الخطة الرقمية الكينية ما يلي:
1- البحوث والابتكار
يُعدّ إعلان جامعة ماونت الكينية ((Mount Kenya University في 14 يوليو 2023م، عن مبادرة لإنشاء أول مركز لأبحاث الذكاء الاصطناعي في كينيا -وذلك خلال مؤتمر علمي استضافته الجامعة، ضمن التزامها بتعزيز الابتكار والتقنيات المتطورة- مؤشرًا جيدًا على التوجه نحو استيعاب الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة ضمن المؤسسة الأكاديمية الكينية، وبدء الاهتمام بإعداد أجيال من الموهوبين من ذوي القدرة على التعاطي مع هذه التقنيات.([10])
ويُنظَر إلى هذا الإعلان الذي جاء عبر جامعة كينية مُسجَّلة ومعترف بها، ولديها برامج معتمدة للتدريب الأكاديمي والمهني، على أنه علامة فارقة في مستقبل استيعاب التكنولوجيا الحديثة في كينيا؛ إذ تهدف إلى لعب دور أساسي في عمليات البحث والابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي، وتشكيل مستقبل الذكاء الاصطناعي في كينيا، كما أنها ستُعَدّ حلقة الوصل بين الأوساط الأكاديمية والصناعية، وتسهم في حلّ المشكلات التي تواجهها كينيا من خلال التكنولوجيا القائمة على الذكاء الاصطناعي. وتسعى مبادرة جامعة ماونت الكينية إلى اكتشاف الموهوبين وتطوير مهاراتهم ورعايتهم وتعزيز ثقافة الابتكار، بما يتماشى مع مهمتها للمساهمة في التحول الرقمي في كينيا، وتعزيز التميز في البحث والتطوير، وتخريج دفعات من الطلاب المُجهّزين بالمهارات اللازمة للتميز في العصر الرقمي.([11])
2-:ChatGPT الدور الكيني
تجدر الإشارة إلى أنه عقب إطلاقه في نوفمبر 2022م، أصبح تطبيق الدردشة ChatGPT أحد أهم الابتكارات التكنولوجية التي جذبت أنظار العالم؛ إذ أصبح بمقدور ملايين المستخدمين الاستعانة بروبوت الدردشة الذي أصبح الأكثر انتشارًا لإنشاء نصوص حول أيّ موضوع يمكن أن يخطر ببال المستخدمين، وبغالبية لغات العالم. إلا أن سؤالًا مهمًّا كان في حاجة إلى إجابة واضحة، يتعلق بكيفية قيام الشركة المطورة، أي شركة OpenAI، بتنقية النصوص من العبارات والكلمات التي تحمل إيحاءات عنصرية أو جنسية أو عنيفة أو غير ذلك، في وقتٍ يعتمد فيه روبوت الدردشة على عملية مسح خاطفة لمليارات الكلمات والعبارات التي تمَّت تغذيته بها أو تلك الموجودة على شبكة الإنترنت في المجمل.
تقرير لمجلة تايم الأمريكية كان قد كشف أخيرًا أن OpenAI استعانت بموظفين كينيين، تقاضى أكثرهم أجر دولارين فقط للساعة الواحدة، من أجل تمييز وتحديد الملاحظات العنيفة والعنصرية والمتحيزة جنسيًّا؛ حيث قام هؤلاء بعمليات إدخال بيانات ومعلومات تساعد تطبيق الذكاء الاصطناعي على “فلترة” العبارات والكلمات غير المرغوب بها خلال قيامه بعملية مسح شبكة الإنترنت، والتي تضم مستودعًا هائلًا للغة البشرية.
وأشار التقرير إلى أن فريقًا كينيًّا يضم مئات الفنيين، أسهموا بالفعل في بناء نظام الذكاء الاصطناعي الذي يمكنه اكتشاف خطاب الكراهية للمساعدة في إزالته من المنصة، عبر إدخال أمثلة مصنّفة تُؤشّر على العنف وخطاب الكراهية والاعتداء الجنسي، وغير ذلك، ومِن ثَم أصبح تطبيق ChatGPT قادرًا على اكتشاف الأمثلة المشابهة وتصفيتها قبل أن تصل إلى المستخدم.
واعتمدت آلية العمل أيضًا على قيام OpenAI بإرسال عشرات الآلاف من المقتطفات النصية إلى شركة وسيطة في نيروبي، هي شركة ساما Sama، بدءًا من نوفمبر 2021م، وكان دور فريق العمل هو تصنيف النصوص، والإبلاغ عن المقتطفات التي تحتوي على الاعتداء الجنسي على الأطفال، والقتل، والانتحار، والتعذيب، وإيذاء النفس،… إلخ.([12])
3- استراتيجية كينية للذكاء الاصطناعي
تمتلك جمهورية كينيا طموحًا كبيرًا لاعتماد الذكاء الاصطناعي ضمن الخدمات العامة التي تقدمها الدولة للمواطنين، وسعت في السنوات القليلة الماضية لبناء استراتيجية شاملة لتشجيع واعتماد التقنيات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي، وتعميمها على مستوى قطاعات؛ منها: الرعاية الصحية والزراعة والتعليم والخدمات الحكومية، وهي قطاعات أساسية يمكن أن تتفرع منها قطاعات أخرى قادرة على استيعاب تطبيقات الذكاء الاصطناعي.
وشكلت حكومة نيروبي، ممثلة في وزارة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في عام 2018م فريق عمل مهني يضم 14 خبيرًا في مجالات سلسلة الكتل Blockchain والذكاء الاصطناعي؛ بغية وضع توصيات أمام الحكومة بشأن كيفية تسخير التقنيات الناشئة لتقديم الخدمات العامة، والأمن السيبراني، والشمول المالي، والعمليات الانتخابية، ووضع خارطة طريق تُمكِّن الحكومة من رسم سياسات عامة لتطبيق هذه التكنولوجيا على منظومة تقديم الخدمات العامة بشكلٍ عامّ، بما ينعكس بشكل إيجابي على المعاملات المختلفة وكلفتها، ويُحسِّن الخدمات الحكومية العامة، وتحسين الزراعة والأمن الغذائي، والصحة وسلامة الأدوية، وتوسيع عمليات التصنيع، وتحسين آلية ملكية الأراضي، وتحسين جودة التعليم.
تشكيل فريق العمل جاء في ظل صعوبات كبيرة تواجهها كينيا، مثلها مثل دول إفريقية كثيرة، من بينها أنها مازالت تعتمد على السجلات الورقية، وتأخرت في عملية التحول الرقمي وإرساء البنى التحتية اللازمة، وفي ظل فجوة رقمية واسعة تحتاج إلى موارد ضخمة لتضييقها. وفي وقت يعتمد فيه الذكاء الاصطناعي على التكنولوجيا التي تتغير باستمرار، واجهت عملية الرقمنة صعوبات في ظل تدني الاستثمارات في هذا المجال، وغياب أبحاث السوق والمعايير لضمان أن التكنولوجيا التي تتصدرها الرقمنة ستكون مفيدة لفترة زمنية أطول وغياب السياسات والتشريعات التي يمكنها أن تُحْدِث توازنًا بين التنظيم والابتكار، وغياب أيّ تشريع يتعلق بالذكاء الاصطناعي، يضمن تحقيق التوازن بين حماية المواطنين وخصوصيتهم وحقوقهم وتعزيز الابتكار في القطاع الخاص.([13])
4- توصيات اللجنة
من بين التوصيات المبدئية التي وضعها الفريق الاختصاصي أمام صانع القرار: ما يتعلق بضرورة تطوير سياسات تعزّز الذكاء الاصطناعي، وتحمي حقوق الإنسان في الوقت ذاته، وإنشاء نظام بيئي يدعم تطوير الذكاء الاصطناعي، وتحليل مخاطره المحتملة، وتنفيذ تدابير التخفيف من حدة هذه المخاطر حال ظهورها. كما أوصت باعتماد الذكاء الاصطناعي في التكنولوجيا المالية (تطبيقات الإقراض الرقمي)؛ إذ بمقدور تطبيقات الذكاء الاصطناعي ومن خلال التعلم الآلي لهذه التقنيات تحديد احتمالية تخلُّف المقترض عن السداد مستقبلًا من خلال تقييم البيانات السلوكية الدقيقة للمقترض.([14])
كما أوصى فريق العمل، والذي تشكل من قبل وزارة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بتعميم نظام تسجيل الأراضي وغير ذلك من الملكيات بتقنية البلوك تشين، وصياغة إطار عمل للأصول الرقمية يُمكِّن المواطنين الكينيين من إنشاء محافظ رقمية لكل مواطن لتخزين الوثائق الرسمية بشكل آمن، مثل تقارير الائتمان، وشهادات الميلاد.
وأوصى أيضًا بتثقيف الجمهور والمؤسسات المالية بشأن فرص الاستثمار التي ستنشأ جراء تعميم هذه التكنولوجيا، وكيفية الاستفادة من تقنية سلسلة الكتل والذكاء الاصطناعي في القطاع الزراعي والمؤسسات المالية وتقليل الاحتيال، واستخدام البيانات الضخمة في فهم عملائها في المستقبل، وتطوير صناديق الحماية القانونية؛ حيث سيتم احتضان الأفكار الجديدة بالتعاون مع المنظمين، فيما انتهت من التقاط البيانات البيومترية لاستخدامها في بناء هوية موثوقة ضرورية لنجاح الحلول الناشئة.([15])
تقدير الموقف:
من خلال ما سبق، يمكن الإشارة إلى أن الاستفادة القصوى من الذكاء الاصطناعي في قارة إفريقيا بوجه عام، أو في الحالة المنفردة التي عالجتها هذه الورقة (حالة كينيا)؛ تتطلب وضع استراتيجية شاملة للتصدي للتحديات الفريدة التي يخلقها الذكاء الاصطناعي في قارةٍ تعاني بدورها من تحديات استثنائية، ومِن ثَم يمكن النظر إلى النقاط التالية بعين الاعتبار:
– من المهم وجود رؤية وخطط متماسكة طويلة الأجل لاستخدام التكنولوجيا القائمة على الذكاء الاصطناعي، وكذلك وضع سياسات من شأنها أن تُقلِّص مخاطر هذه التقنيات، وتضمن أن تكون نماذج التعلم الآلي الكامنة في الذكاء الاصطناعي عادلة وشاملة وذات قيمة.
– إن إحدى الخطوات المهمة نحو تطوير خارطة طريق فعَّالة للذكاء الاصطناعي في إفريقيا، هي معالجة مشكلة البيانات في القارة؛ إذ تواجه إفريقيا تحديًا فريدًا يتمثل في نُدْرة البيانات وقلة جودتها، وكل ذلك يُعدّ عقبةً أمام تطوير ونشر الحلول القائمة على الذكاء الاصطناعي والمصمَّمة خصيصًا لتلبية الاحتياجات الخاصة لإفريقيا.
– تحتاج إفريقيا إلى تشريعات تضمن برامج إعادة تشكيل المهارات وإعادة التدريب لضمان المساواة الاجتماعية والاقتصادية. وفي وقتٍ تُسبِّب فيه التقنيات الجديدة دائمًا اضطرابًا، ويمكنها أن تسبب فقدان سُبُل العيش، يتعين طرح المبادرات التعليمية حول قدرات الذكاء الاصطناعي وفوائده وحدوده من أجل تعزيز ثقافة محو الأمية بالذكاء الاصطناعي على مستوى الأعمال والمستهلكين.
– يتعين دمج برامج التعليم والتدريب الخاصة بالذكاء الاصطناعي في المناهج الدراسية والقوى العاملة، فضلًا عن رعاية المواهب وتعزيز التعاون وتوسيع نطاق المبادرات المؤثرة.([16])
– هناك حاجة إلى اضطلاع الدول الإفريقية بدور أكثر نشاطًا في تنظيم الذكاء الاصطناعي؛ إذ تحتاج البلدان الإفريقية إلى تنسيق موقفها بشأن التنظيم الشامل للذكاء الاصطناعي، وإصدار بروتوكول دولي تلعب القارة دورًا نشطًا في إنشائه، ما يعني وضع بروتوكول شامل لإفريقيا An Africa-Inclusive Protocol، بغرض تسريع وتيرة تنظيم الذكاء الاصطناعي في القارة التي تعاني من البطء الشديد في هذا المنحى.([17])
– على الرغم من الطموح الإفريقي؛ إلا أن تحديات عديدة على الصعيد الاجتماعي والثقافي والتنظيمي، يمكنها أن تقيّد تطبيق أنظمة الذكاء الاصطناعي في جميع أنحاء القارة؛ إذ تعاني القارة الإفريقية في المجمل من مشكلات حادة في البنية التحتية الرقمية والتعليم وعدم كفاية البيانات والسياسات العامة والتمويل، فضلًا عن خلل هيكلي وتنظيمي يُعيق دعم الابتكار وتطوير سياسات وأنظمة فعَّالة للنمو الرقمي.
– لا تزال قارة إفريقيا تُسجِّل درجات منخفضة جدًّا في استعدادها لاستيعاب الذكاء الاصطناعي، وبالتالي ستحتاج إلى الاعتماد على الدعم المستمر من الشركاء الدوليين وشركات التكنولوجيا الغربية.
– ستعني التبعية للغرب في تلك الحالة ظهور تحديات إضافية بشأن قدرة حكومات القارة على تطوير السياسات المناسبة التي تؤدي إلى “ذكاء اصطناعي إفريقي الطابع”، وستُفْرَض بدلًا من ذلك القِيَم التي طوَّرتها شركات التكنولوجيا الدولية التي تعتمد عليها إفريقيا.
– يفسر ما سبق وجود عدد قليل جدًّا من البلدان الإفريقية التي لديها سياسات واستراتيجيات لتنظيم الذكاء الاصطناعي، كما أن قلة أعداد خبراء الذكاء الاصطناعي الأفارقة على المسرح الدولي للذكاء الاصطناعي؛ تُظْهِر أيضًا مشكلة النقص في أصحاب المهارات في مجال الذكاء الاصطناعي.
___________________________
Victoria Olanipekun, “Nurturing Africa’s AI ecosystem for global impact”, Tech Cabal (Abuja, Nigeria), Jul 03, 2023: https://techcabal.com/2023/07/03/nurturing-africas-ai-ecosystem-for-global-impact/
“Africa’s voice on Artificial Intelligence regulation must be heard in global talks”, North Africa Post (Rabat, Morocco), July 4, 2023: https://northafricapost.com/69167-africas-voice-on-artificial-intelligence-regulation-must-be-heard-in-global-talks.html
Sorina Teleanu and Jovan Kurbalija, “Stronger digital voices from Africa: Building African digital foreign policy and diplomacy”, Diplo Foundation (Geneva, Switzerland, 2022):
https://www.diplomacy.edu/resource/report-stronger-digital-voices-from-africa/ai-africa-national-policies/
[5]. انظر:
The African Union Development Agency. Artificial Intelligence is at the core of discussions in Rwanda as the AU High-Level Panel on Emerging Technologies convenes experts to draft the AU-AI Continental Strategy, (Johannesburg, MAR 29, 2023): https://www.nepad.org/news/artificial-intelligence-core-of-discussions-rwanda-au-high-level-panel-emerging
[6]. Ibid
[7] . انظر:
Frank Eleanya, “Growing AI power pushes Africa toward uniform strategy”, Business Day (Lagos, Nigeria), Apr 3, 2023: https://businessday.ng/technology/article/growing-ai-power-pushes-africa-toward-uniform-strategy
Damian Okaibedi Eke, Kutoma Wakunuma And Simisola Akintoye, Editors. “Responsible AI in Africa: Challenges and Opportunities”, Palgrave Macmillan Company, ISBN 978-3-031-08214-6 (London, UK: January 2022), P.P 4-6.
[10]. انظر:
Wycliffe Musalia, “AI Hackathon 2023: MKU Set to Build First Artificial Intelligence Research Center in Kenya”, Tuko, Legit Media Group (Kenya), July 14, 2023:https://www.tuko.co.ke/business-economy/technology/514007-ai-hackathon-2023-mku-set-build-ai-research-center-kenya/
[11]. انظر:
Brian Oruta, “MKU hosts AI hackathon ahead of 2023 global code challenge”, The Star (Nairobi, Kenya), 14 July 2023: https://www.the-star.co.ke/news/2023-07-14-mku-hosts-ai-hackathon-ahead-of-2023-global-code-challenge
[12]. انظر:
BILLY PERRIGO, “Exclusive: OpenAI Used Kenyan Workers on Less Than $2 Per Hour to Make ChatGPT Less Toxic”, Time (U.S), JANUARY 18, 2023: https://time.com/6247678/openai-chatgpt-kenya-workers
Judy Kabubu, “Artificial Intelligence (AI) In Kenya”, MMAN Advocates (Nairobi, Kenya), January 26, 2021: https://mman.co.ke/content/artificial-intelligence-ai-kenya
Francis Monyango, “Artificial Intelligence Policy in Kenya: The journey towards regulation needs to commence”, Vellum (Nairobi, Kenya), January 21, 2022: https://vellum.co.ke/artificial-intelligence-policy-in-kenya-the-journey-towards-regulation-needs-to-commence/
Daniel Mpala, “Kenyan taskforce calls for state to regulate AI and blockchain”, Venture Burn (Riverside, CA, U.S), ), Aug2, 2019: https://ventureburn.com/2019/08/kenya-report-blockchain-ai
Victoria Olanipekun, “Nurturing Africa’s AI ecosystem for global impact”, Op. cit..
“Africa’s voice on Artificial Intelligence regulation must be heard in global talks”, Op. cit.