تقترن تحولات الدول واتجاهاتها بنوعية الأخبار الرائجة حول صحة رؤسائها؛ باعتبارها أحد الخيوط الناظمة للتحولات المستقبلية، والدلالات الكاشفة لسيناريوهاتها المحتملة. ولا شك أن ذلك يكثر حضوره داخل القارة السمراء؛ حيث تُصبح صحة الرئيس مسألة وطنية وسرًّا أمنيًّا ومتغيرًا حاكمًا لترتيب أحوالها السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية([1]).
وهو ما تُوثّقه سياقات الدولة الكاميرونية، لا سيما منذ شهر يونيو عام 2004م؛ حيث ظهرت أول بادرة للشائعات حول وفاة الرئيس الكاميروني “بول بيا”، والتي استمرت حتى ظهوره في 9 يونيو 2004م في مطار ياوندي، قائلاً: “يبدو أن هناك مَن يهتم بجنازتي، حسنًا، أُخبرهم أنني سألتقي بهم بعد حوالي عشرين عامًا”، الأمر الذي تكرر فعليًّا في سبتمبر 2024م.
جدل واسع:
في الحالة الأخيرة، أثار غيابه لأكثر من 48 يومًا جدلًا لدى كافة الأوساط الكاميرونية: الرسمية والحزبية والشعبية؛ حيث شارك في “منتدى التعاون الصيني الإفريقي”، ولم يشارك في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، ولم يحضر القمة الفرنكوفونية في باريس.
وحول غيابه؛ تضاعفت التساؤلات، وأُثيرت التكهنات، وأُذيعت الشائعات حول حالته الصحية، فإثر ذلك، طالبت “باتريشيا توماينو ندام نجوي” -النائبة السابقة والعمدة الحالي لمدينة فومبان في غرب البلاد- الحكومة الكاميرونية بتقديم المعلومات إلى الناس؛ لوضع حدّ لهذه التكهنات الخطيرة”.
ووجَّه “كريستيان نتيمباني بومو” –مرشح رئاسي للانتخابات الرئاسية 2025م، وهو مقيم في فرنسا- رسالة مفتوحة قائلًا: “من حق الشعب أن يعرف ما إذا كان رئيس الجمهورية لا يزال قادرًا على تولّي مهامه الثقيلة والحساسة”، ونوَّه “كابرال ليبي” –مرشح رئاسي للانتخابات 2025م– قائلًا: “لا يوجد ما يدعو للقلق حقًّا… “الغياب والصمت” هما بالتحديد أسلوب إدارته… إنه رئيس يُلقي خطابين في السنة”.([2])
نفي وتحذير:
الشاهد أن وتيرة الشائعات والمزاعم حول حالته الصحية، لم تهدأ، بل بلغت ذروتها مع تداول وسائل إعلام إلكترونية خبر وفاته في 8 أكتوبر 2024م، وهو ما قُوبِلَ بالنفي مِن قِبَل قادة الحزب الحاكم لاسيما على لسان “جاك فيم ندونغو، سكرتير الاتصالات وعضو المكتب السياسي للحزب”، الذي قال: “هذه أخبار لا أساس لها من الصحة. يجب ألا تؤدي هذه الشائعات الوهمية إلى زعزعة النضج السياسي والوضوح والوطنية لدى الكاميرونيين”، وأيضًا جاء النفي على لسان نائب الأمين العام للحزب، “غريغوار أوونا الذي طالب بمحاسبة الذين يحاولون خداع الرأي العام من خلال الإعلان عن وفاة رئيس الدولة الكاميرونية”.
تكتم رسمي:
ووسط تلك الضغوط، قابلت الحكومة الكاميرونية سلسلة الشائعات بالنفي على لسان المتحدث باسم الحكومة “رينيه سعدي” في 8 أكتوبر 2024م عبر قوله: “تم تداول شائعات من جميع الأنواع عبر وسائل الإعلام التقليدية وشبكات التواصل الاجتماعي حول حالة الرئيس. وإن هذه الشائعات محض خيال. إن بيا قام بعد بكين بزيارة خاصة إلى أوروبا، وهو بصحة جيدة، وسيعود إلى الكاميرون في الأيام المقبلة”.
ثم تمَّ التهديد بحظر النشر في هذا الموضوع، جاء ذلك في مذكرة وزير الداخلية “بول أتانجا” في 9 أكتوبر 2024م، ومفادها: “رئيس الدولة هو المؤسسة الأولى للجمهورية، والمناقشات حوله أو حول صحته تقع ضمن مجال الأمن القومي. وإن أيّ نقاش في وسائل الإعلام حول حالة رئيس الجمهورية محظور رسميًّا، وسيواجه المخالفون بصرامة القانون. وعلى كل محافظ إنشاء وحدات مراقبة مسؤولة عن مراقبة وتسجيل جميع عمليات البثّ والنقاشات التي تدور في وسائل الإعلام الخاصة، وتحديد أصحاب التعليقات المغرضة.(([3]
سلوك دراج:
جدير بالذكر أن الرئيس الكاميروني لم يأتِ بجديد، بل درج -كعادته- على غيابه المطول ورحلاته المتكررة خارج البلاد لأسباب متباينة؛ حتى تم تلقيبه مِن قِبَل الكاميرونيين بـ “الرئيس المتجول”؛ لكونه يغيب كثيرًا عن الأنظار العامة، ويكتفي بالظهور في خطابات متلفزة مُسجَّلة، ويقضي أوقاته خارج الكاميرون، ويكفي القول: إنه خلال الفترة بين عامي 2006 و2009م، أمضى الرئيس ما يصل إلى ثلث العام خارج البلاد وبحلول 2018م، كان قد أمضى، باستثناء الرحلات الرسمية، ما يعادل أربع سنوات ونصف السنة في “زيارات خاصة قصيرة” إلى أوروبا).[4])
تجليات حاضرة:
وعلى نحوه المعهود، عاد الرئيس الكاميروني إلى بلاده في 21 أكتوبر 2024م، إلا أن عودته لم تُجِب عن التساؤلات والتكهنات الأخيرة حول التحولات المستقبلية للكاميرون حال غيابه مرة أخرى أو انتهاء ولايته لا سيما في ظل عمره المُقدَّر بنحو 91 عامًا، ولا شك أن الإجابة على تلك التساؤلات تستدعي بدورها حتمية استعراض السياقات الراهنة والتجليات الحاضرة للكاميرون، وتقديرها كما يلي:
1- تداول بطيء للسلطة، تُعدّ السياقات الكاميرونية أحد السجالات الإفريقية الشاهدة على الولايات المعمرة للرؤساء؛ إذ هناك تكشف حيثيات السلطة السياسية حالة من التداول البطيء لا سيما في ظل غياب مادة دستورية تحدد المدد الرئاسية منذ 2008م، وهو ما جعل الكاميرون لا يشهد منذ استقلاله سوى رئيسين فقط هما: أحمدو أهيدجو، والرئيس “بول بيا”، وبشأن الأخير، لا يعرف 75% من الكاميرونيين زعيم غيره، ويعتبر أحد خمس رؤساء أفارقة تخطوا عتبة 40 عامًا في السلطة، ويُصنّف كثاني أكبر رئيس منتخب سنًّا بعد “تيودورو أوبيانج نجويما”، رئيس غينيا الاستوائية.([5])
وتثبت أطروحة التداول البطيء للسلطة مع إدراك أن تقلد الرئيس الكاميروني السلطة لأكثر من 42 عامًا لم يدفعه إلى تسليم السلطة أو التخلي عنها مثلما فعل سلفه؛ فعندما سئل خلال زيارة نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى ياوندي في 2022م حول طموحاته في ولاية ثامنة، رد قائلًا: “عندما تنتهي هذه الولاية، سيتم إبلاغكم إذا بقيت في القصر أو إذا ذهبت إلى القرية”.
ولعل ما يعكس حالة التداول البطيء للسلطة كونه غير ملتزم بتسليم السلطة في 2025م، واعتباره حتى الآن المرشح الطبيعي لحزب التجمع الديمقراطي الشعبي الكاميروني؛ ففي مايو 2023م، دعته وزيرة الصحة العامة -مانودة ملاخي- للترشيح، ليضمن “الاستقرار” و “الأمن”، وفي 1 نوفمبر 2023م، طالبه الأمين العام لحزبه -جان نكويتي- علنًا بالترشح لولاية ثامنة.([6])
2- تمديد متكرر للولايات الرئاسية والبرلمانية، تشهد الكاميرون تعديلات متكررة بشأن تقويمها الانتخابي لأسباب مالية أو فنية أو لوجستية، وليس أدل على ذلك، من التأجيل المتكرر للانتخابات التشريعية والبلدية على غرار ما حدث في الدورتين الأخيرتين اللذان تم تأجيلهما من 2012 و2018 إلى 2013 و2020م على التوالي ومثلما تكرر بصورة نمطية في يوليو 2024م؛ حيث اعتمد النواب مشروع قانون لتمديد ولايتهم لمدة عام واحد من 10 مارس 2025 إلى 30 مارس 2026م. بدعوى الحاجة إلى الدعم البشري والمادي والمالي وتخفيف النظام الانتخابي؛ ليتم إعادة ترتيب مواعيد الانتخابات المقبلة وتبكير الانتخابات الرئاسية على نظيراتها البلدية والتشريعية.( ([7]
3- تخوفات مبرّرة للمعارضة، حفَّزت موافقة المشرعين على تأجيل الانتخابات البرلمانية والمحلية في يوليو تخوفات المعارضة من خطوة التمديد والتأجيل، ولا شك أن تخوفات المعارضة لا تأتي من فراغ؛ فهي تستند إلى فرضية أن التمديد يُمكِّن الحزب الحاكم من تكثيف الاهتمام على الانتخابات الرئاسية في المقام الأول بدلًا من الانتخابات التشريعية والبلدية، وأنه في الوقت ذاته، يُعدّ مناورة من قبل السلطة الحاكمة لتضييق الخناق على أحزاب المعارضة السياسية، وتقييد فرص المنافسة لمرشحيهم في الانتخابات الرئاسية 2025م، وذلك عن طريق إخضاعهم لنص قانون الانتخابات ومفاده “لا يمكن ترشيح المرشح الرئاسي إلا مِن قِبَل حزب سياسي له تمثيل في الجمعية الوطنية أو مجلس الشيوخ أو المجلس الإقليمي أو المجلس البلدي، أو من خلال توصية من 300 شخصية على الأقل”. ووسط تلك السياقات، بدت تخوفات المعارضة من الاستبعاد واضحة لدى المرشح الرئاسي “موريس كامتو” وحزبه “حركة النهضة الكاميرونية” لانتفاء تمتعهما بالأغلبية في الانتخابات البلدية والتشريعية نتيجة مقاطعة الانتخابات البلدية والتشريعية عام 2018م، وقد عبَّر عن تلك التخوفات في أكثر من مناسبة؛ ففي نهاية يوليو 2023م، طالَب باحترام الموعد الانتخابي وإجراء الانتخابات التشريعية والبلدية في عام 2025م”.
وفي 10 مايو 2024م، تحدث عن مخاوف حزبه بشأن العمليات الجارية للتسجيل في القوائم الانتخابية، وندَّد أيضًا بخطر حدوث “انقلاب عسكري” استعدادًا حال فوزه بالانتخابات الرئاسية المقبلة.([8])
وفي 22 أكتوبر 2024م؛ أدان حالات التزوير في نشر القوائم الانتخابية المؤقتة.(([9] وإضافة لذلك، وصف “جان ميشيل نينتشو” نائب الجمعية الوطنية المنتخب التمديد بأنه “موقف سياسي فجّ ومثير للشفقة”، واعتبر”أدامو كوبيت”، نائب حزب الاتحاد الديمقراطي الكاميروني التمديد ليس له ما يبرره “فالنصوص تقول: إنه يمكن تمديد الولاية إذا واجهت البلاد أزمة خطيرة، و الجميع يعلم أنه لا توجد أزمة في البلاد”، وعبر، كابرال ليبي، عضو في البرلمان ومرشح رئاسي محتمل، عن خيبة أمله قائلًا: “هذا التأجيل يعطي الانطباع بعدم جاهزية الحكومة”.
4- معارضة مجزأة، يبدو أن الخلافات بين الرئيس الكاميروني وأحزاب المعارضة لم تكن كافية لجمع أقطاب المعارضة وتوحيدهم للتغلب على الرئيس الكاميروني ومنافسته؛ إذ لم تدفع المصالح الخاصة لكل حزب ورغبته في الهيمنة على السلطة والتفرد بها إلى الاصطفاف معًا، واختيار مرشح واحد يمثل المعارضة السياسية في الكاميرون؛ فجميعهم يريدون خلافة الرئيس الكاميروني، والمدقق لتصريحات المعارضة، يجد أن موريس كامتو يدعو الأحزاب الأخرى إلى منحه لقب “فارس” باعتباره المرشح الوحيد الذي لديه برنامج وينتقد النظام.
كما يلمس رفض “جوشوا أوسيه” -الحاصل على المركز الرابع في انتخابات 2018م- مشروع مرشح واحد من المعارضة باستثناء، إذا كان هو مَن تم اختياره، ويعترف بأطروحات “كابرال ليبي- الحاصل على المركز الثالث في انتخابات عام 2018م- الدائرة حول حاجة النظام الانتخابي إلى إصلاحات، وخطأ الاعتقاد بأن جميع الأحزاب السياسية التي ليست الحزب الحاكم هي أحزاب معارضة.([10])
ولعل تشرذم المعارضة وانقسامها قد يتضح مع ملاحظة انقسام حزب اتحاد سكان الكاميرون إلى عدة فصائل غيرة قادرة على حسم قرارها بشأن دعم مرشح واحد أو دعم أحد ائتلافات أحزاب المعارضة أو دعم مرشح التجمع الديمقراطي للشعب الكاميروني.([11])
5- حرب انفصالية، يئن الكاميرون من تداعيات حرب انفصالية، أنتجتها الحدود الاصطناعية المرسومة مِن قِبَل القوى الاستعمارية في القرن 19، وأشعلتها حيثيات الاستقلال ومزاعم التهميش والإقصاء: السياسي والاقتصادي واللغوي وصراع الموارد، وذلك إلى الحد الذي أعلنت معه الجماعات الانفصالية في أكتوبر 2017م استقلال جمهورية “أمبازونيا” الفيدرالية في منطقتي شمال غرب وجنوب غرب الكاميرون ورفضهم محاولات التهدئة والاستمالة مِن قِبَل الحكومة الكاميرونية سواء بإنشاء الحكومة عام 2017م لجنة وطنية لتعزيز ثنائية اللغة والتعددية الثقافية أو بإطلاق حوار وطني في 2019م حول الوحدة والسلام([12])؛ لتسفر تلك الحرب عن مقتل ما لا يقل عن 6000 شخص ونزوح 700000 شخص دون أيّ ملامح واضحة لإرساء السلام أو تسوية عملية؛ حيث لا تزال الاشتباكات المسلحة بين القوات الحكومية والجماعات الانفصالية مستمرة، ولا يزال سلامها مشروطًا بوقف فوري لإطلاق النار والإفراج عن المعتقلين السياسيين، وإشراك مفاوضين غير كاميرونيين من أجل تسهيل التواصل بين الأطراف المتناحرة والقبول بعقد المحادثات في بلد محايد.([13])
6- تعقيدات أمنية، يعاني الكاميرون من تعقيدات أمنية، تتغذَّى على الصراعات القبلية والجرائم المنظمة وظاهرة “الميكروبات”؛ فبشأن الأولى، تشهد مقاطعات (مايو – تساناغا- كاني ولوجون وشاري) سلسلة من الاشتباكات بين المجتمعات المحلية حول الأراضي الزراعية منذ بداية التسعينيات، وبشأن الثانية، تنتشر تجارة العظام البشرية تحت أسماء منتجات مختلفة، كـ”الزئبق الأحمر”، و”الخشب الأبيض” بأسعار تصل إلى ملايين الفرنكات الإفريقية، وبشأن الثالثة، تشهد شمال الكاميرون لا سيما “مدينة دوالا”- العاصمة الاقتصادية- ظاهرة الميكروبات والتي تتمثل في قيام شباب مدججين ومسلحين بالسكاكين والمناجل بالسرقة والقتل والاختطاف وفق ما صورته أحداث 1 أغسطس 2024م في حي “نيوبل”؛ حيث تسبب شباب مسلحون بالسكاكين والمناجل في إثارة الذعر وهاجموا السكان والشركات([14])، أو في حي “سيتي دي بالمييه” في 5 أكتوبر 2024م؛ حيث نفذت مجموعة “الميكروبات” هجومًا في كل منطقة من المدينة، الأمر الذي لا يزال مستمرًّا دون انقطاع؛ لتمثل تحديًا أمنيًّا.([15])
7- خلاف حدودي، ترصد السياقات الأمنية توترًا وخلافًا حدوديًّا بين الكاميرون ونيجيريا حول شبه جزيرة بكاسي الغنية بالنفط، تعود بدايته إلى اتفاق 2008م، تم فيه التنازل عنها لياوندي، وحتى الآن، يبقي الاتفاق على ثلاث نقاط محددة في آخر 35 كيلو مترًا من الحدود التي سيتم تحديدها على مسافة 2100 كيلو متر تقريبًا بحاجة إلى إعادة النظر؛ لأن إحدى القرى تطورت أكثر نحو نيجيريا، والأخرى نحو الكاميرون وكانت أبوجا تُفكّر في رفع الأمر إلى محكمة العدل الدولية. لكن مثل هذا الإجراء كان من شأنه أن يؤدي إلى تأجيل الانتهاء من العمل الذي بدأ منذ أكثر من عشرين عامًا.([16])
8- تغيُّر مناخي، لم تخلُ الكاميرون كغيرها من نطاقات القارة الإفريقية من تغيُّر المناخ؛ إذ تظهر في عام 2024م بنية تحتية متواضعة أمام موجات الفيضانات، لا سيما في أقصى الشمال؛ فحاليًا واعتبارًا من 11 أكتوبر 2024م، أدَّت الفيضانات إلى تأثر 68285 أسرة، أي ما يقرب من 409710 شخصًا، بما في ذلك 139651 طفلًا دون سن الخامسة و29428 امرأة حامل، وأضرت نحو 56084 منزلًا، وغمرت المياه 262 مدرسة، وتضرر 65 مركزًا صحيًّا، وغمرت المياه 82509 هكتارًا من الأراضي الزراعية.([17])
9- تأزم اقتصادي، يشهد الكاميرون حالة من تباطؤ التعافي الاقتصادي في الكاميرون؛ ففي الوقت الذي تشير التوقعات إلى إجمالي الناتج المحلي الإجمالي إلى 4.1% في عام 2024م، و4.4% في عام 2025م([18])، لكن سرعان ما رصدت القراءة الاقتصادية للكاميرون في يوليو 2024م عن ارتفاع معدلات التضخم بنسبة 5.7%، لا سيما في أسعار المنتجات المحلية مثل الخضار والفواكه والأسماك والمأكولات البحرية والنقل، كما بينت إحصائيات أبريل 2024م أن ما يقرب من 2 من كل 5 كاميرونيين يعيشون تحت خط الفقر، والذي يُقدَّر بـ813 فرنكًا إفريقيًّا يوميًّا للشخص الواحد([19])، ويعيش حوالي 10 ملايين شخص في حالة فقر مقارنةً بعدد السكان، الذي يُقدَّر في عام 2022م بـ27 مليون نسمة، لا سيما في شمال الكاميرون؛ حيث بلغت نسبة السكان الذين يعيشون عند خط الفقر قرابة 74.5%، لتسجل بذلك تلك المنطقة أعلى معدل فقر في البلاد.([20])
تقديرات محتملة:
لا شك أن الغياب المطوّل للرئيس الكاميروني يخلق فراغًا في الحكم، ويؤدي إلى تآكل الثقة العامة، ويغذي عدم الاستقرار السياسي، ويؤثر سلبًا على إدارة شؤون البلاد اليومية.( ([21]
وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى مجموعة من التقديرات المحتملة حال استمرار الغياب المطول للرئيس الكاميرون أو تدهور وضعه الصحي بشكلٍ يحول دون استمراره في الحكم سواء عبر الوفاة أو افتقار القدرة على القيادة كما يلي:
1- صراع خلافة، يكفي القول: إنه في الوقت الذي يستعد فيه حزب الرئيس الكاميروني -التجمع الديمقراطي للشعب الكاميروني (RDPC)- يوم 6 نوفمبر 2024م للاحتفال بالذكرى الثانية والأربعين لوصوله إلى المنصب الأعلى، وإبداء النية لدعمه وترشيحه لولاية ثامنة في أكتوبر 2025م([22])؛ سلطت التكهنات حول صحته حالة الصراع حول خليفته المحتمل وإشكالات ترتيب البيت السياسي الكاميروني([23])، وحتى الآن، تبدو تقديرات الصراع حاضرة داخل القصر الرئاسي لا سيما بين المقربين من السيدة الأولى “شانتال بيا”، وهم: الأمين العام للرئاسة “فرديناند نجوه”، ونائب مدير المكتب المدني لرئيس الدولة “أوزوالد بابوك”، وبين المقربين من “فرانك بيا” –الابن الأكبر للرئيس الكاميروني- وهم: وزير المالية “لويس بول موتاز”، أو “صامويل مفوندو أيولو”، مدير مجلس الوزراء المدني الذين يتوقع أن يلتفوا حول ابن الرئيس لتحضيره لخلافة والده.([24])
2- تمدد الحرب الأهلية، لا يخفى عن المتابع الانعكاسات التي قد تحملها أوراق البيت الكاميروني المبعثرة وغير المرتبة؛ لما بعد الرئيس الكاميروني بشأن الحرب الأهلية الانفصالية، والتي قد تدفعها -بلا شك- إلى حالة من التصعيد وتسوقها إلى مشهد أكثر تأزيمًا وتعقيدًا عما هي عليه الآن في ظل بقاء المطالب الانفصالية متنامية وسلامها المشروط([25]). ويلمس المتابع العقلية الحالية للرئيس الكاميروني تجاه المطالب الانفصالية في المناطق الناطقة باللغة الإنجليزية، والتي كثيرًا ما يقابلها بالقوة والرفض، فهو يؤيد بصورة مباشرة نموذج الدولة الموحدة، ولعل غياب الرئيس عن المشهد الكاميروني قد يرسم تحولًا جديدًا بشأن تلك الحرب؛ حيث تستغل المجموعات الانفصالية حالة الفوضى في فرض مطالبهم وتحقيقها لا سيما عن طريق القوة.
3- انتشار النزعات الانفصالية، ترصد الإحصائيات بما في ذلك إحصائيات مجموعة الأزمات الدولية وجود 10 مجموعات انفصالية تسيطر على مساحة كبيرة من الريف جنوب الكاميرون، أبرزها: مجلس الدفاع في أمبازونيا، ومجلس أمبازونيا العسكري، وقوات أمبازونيا العسكرية، وقوات استعادة أمبازونيا… وبلا شك، تُشكّل الحرب الأهلية داخل الكاميرون إحدى المهددات التي تواجهها منطقة الغرب الإفريقي؛ فهي تُلقي بدورها بتداعيات جيوسياسية إقليمية، وحال تصاعد وتنامي تلك الحرب ووسط غياب الرئيس وحكومته قد تشجع هذه الحركات للانفصال عن دولهم؛ فعلى مدى السنوات الخمس الماضية، تزايد التحريض على انفصال منطقة بيافرا في جنوب شرق نيجيريا، وقد تحسَّنت علاقة الزعماء الانفصاليين في بيافرا تدريجيًّا بجماعة “أمبازونيا” على أمل التفاوض على نوع من التعاون العسكري بينهما.
4- تنامي العمليات الإرهابية، يشهد شمال الكاميرون تناميًا للعمليات الإرهابية، وتشير الترجيحات إلى أن أيّ فوضى أو فراغ أو اضطرابات قد تنجم عن غياب الرئيس أو وفاته تنسحب على الأوضاع الأمنية، ولا تنفكّ عن دورها في تنامي العمليات الإرهابية؛ فمن شأن أيّ اضطراب أو تراجع أو صراع حول السلطة أو تمدُّد للحرب الأهلية الانفصالية أن يشجّع جماعة بوكو حرام لاستغلال تلك الأوضاع وتصعيد عملياتها على غرار ما قامت به في 2013م؛ حيث استغلت تلك الجماعة ضعف التكامل الوطني والإهمال التنموي والتاريخي، وسعت لجعل ذلك النطاق قاعدة لوجستية ومخزن تجنيد وإمداد للحركة من خلال عملياتها وأنشطته. وفي سياق ذلك، قدرت الإحصائيات مسؤولية الحرب مع بوكو حرام، المتمركزة في أقصى الشمال عن مقتل أكثر من 3000 كاميروني، ونزوح حوالي 250.000 شخص.([26])
5- تأزم الوضع الإنساني، تُصنّف الكاميرون وصراعها الناطقين بالإنجليزية على قائمة أزمات التهجير الـ10 الأكثر إهمالًا للعام الرابع على التوالي؛ حيث تدفع الحرب الأهلية الانفصالية في الكاميرون إلى استمرار التدفقات السكانية؛ فوفقًا لإحصائيات مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، تم إجبار ما يقرب من 737000 كاميروني على الفرار من منازلهم بما في ذلك 439000 شخص في الجنوب الغربي و298000 شخص في الشمال الغربي، وتم قتل أكثر من 1000 جندي وأكثر من 6000 مدني. وبداهةً، يعني تعرُّض الكاميرون لأيّ هزات أمنية وسياسية واقتصادية قد تنجم عن فوضى غياب الرئيس الكاميروني وفراغه السياسي تدفع بالضرورة الأوضاع الإنسانية نحو مزيد من التأزم والتعقيد.([27])
وفي الختام، يمكن القول: إن الغياب المطول للرئيس الكاميروني وعودته المفاجئة ليس بالأمر الجديد في الكاميرون؛ فهو أمر مألوف لدى الكاميرونيين، إلا أن تجليات حالته الصحية وتقدُّم عمره (البالغ 91 عامًا)، والسياقات الراهنة للكاميرون، السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية؛ كل ذلك ينذر بدخول الكاميرون حال غياب الرئيس أو انتهاء ولايته سواء بالوفاة أو الانقضاء أو بالانقلاب نفقًا مظلمًا؛ فلاشك أن الترتيب غير الواضح للبيت الكاميروني وغياب الحسم القاطع لخلافة الرئيس وانقسام المعارضة يدفع بالضرورة إلى مشهد أكثر تعقيدًا يدور في أقل تقديراته على المدى البعيد حول صراع السلطة واحتدام الحرب الأهلية الانفصالية وانتشار النزاعات الانفصالية نحو دول الجوار والتنامي المحتوم للعمليات الإرهابية.
……………………………………
[1]– لماذا يحرص الزعماء الأفارقة على إحاطة حالتهم الصحية بالسرية؟، بي بي سي، 21 أكتوبر 2024م، https://bityl.co/STwJ
[2] Le président camerounais réapparaît enfin en public, BBC, 22 Octobre 2024, https://bityl.co/SaeA
[3] Cameroun : le gouvernement interdit tout débat sur la santé de Paul Biya, Le Monde, Afrique, 11 October 2024, https://bityl.co/SVBU؟
[4] Cameroun : le gouvernement interdit tout débat sur la santé de Paul Biya, , Le Monde, 11 October 2024, https://bityl.co/SVBU
[5] Sérail : quel agenda pour Paul Biya après son retour au bercail?, Actu Cameroun, 23 October 2024, https://bityl.co/SVCW
[6]Paul Biya, un président nonagénaire à la santé chancelante, DW, 2 Occtobre 2024, https://bityl.co/SaeB
[7] Cameroun: l’Assemblée nationale adopte le projet de loi prorogeant le mandat des députés d’un an, RFI, 7 October 2024, https://bityl.co/SVCc
[8] Cameroun: l’opposant Maurice Kamto dénonce un risque de double coup d’Etat, électoral et militaire, RFI, 11 may2024, https://bityl.co/SVCd
[9] Maurice Kamto réclame l’audit des listes électorales provisoires affichées dans certaines communes, ACTU Cameroun, 23 Oct 2024, https://bityl.co/SaeY
[10] Au Cameroun, la mémoire de la guerre d’indépendance toujours à fleur de peau, Le Monde, 9 janvier 2024, https://bityl.co/Saep
[11] Cameroun : la difficile fusion des factions de l’UPC, Le journal du Cameroon, 12 avril 2024, https://bityl.co/SasV
[12] Au Cameroun, une élue locale assassinée à Bamenda, capitale de la région anglophone du Nord-Ouest, Le monde, 29 October 2024, https://bityl.co/SaeC
[13] Elie Smith : « la crise anglophone est un problème de gouvernance, pas linguistique », Actu Cameroun, 22 October 2024, https://bityl.co/SVCs
[14] Journal Du Cameroun, Cameroun-Insécurité : les « microbes » attaquent de nouveau à Douala, 1 août 2024, https://bityl.co/SaeM
[15] BBC, Qui sont les microbes ? Ce gang qui sème la terreur au Cameroun, 17 octobre 2024, https://bityl.co/SaeT
[16] Frontière Cameroun-Nigeria: Abuja accepte de ne pas saisir la Cour internationale de Justice, Rfi, 28 June 2024, https://bityl.co/SVCi
[17] UNICEF Cameroon Floods Flash Update No. 5 (Far North) – 24 October 2024, Relief web, 24 Oct 2024, https://bityl.co/Saeu
[18] Cameroon Economic Outlook, AFDB, Access date October 2024, https://bityl.co/Saew
[19] Le Cameroun subit une forte poussée de l’inflation, un danger en sus de la hausse de la pauvreté, RFI, 20 July 2024, https://bityl.co/SVCR
[20] Le Cameroun subit une forte poussée de l’inflation, un danger en sus de la hausse de la pauvreté, IRF, 20 Juillet 2024, https://bityl.co/SVCR
[21] – الكاميرون تحظر أي حديث عن صحة الرئيس بول بيا البالغ من العمر 91 عامًا، 13 أكتوبر 2024م، https://bityl.co/Saf3
[22] La circulaire du RDPC sur le 42e anniversaire de l’accession du président Paul Biya à la magistrature supreme, ACTU Cameroun, October 2024, https://bityl.co/Saf6
[23] L’absence de Paul Biya met le Cameroun en ebullition, Le point, 17 October 2024, https://bityl.co/SafO
[24] Cameroun : Paul Biya, 90 ans, 41 ans de pouvoir et toujours pas de retraite en vue, 7 Le monde, novembre 2023, https://bityl.co/SafS
[25] Elie Smith : « la crise anglophone est un problème de gouvernance, pas linguistique », Actu Cameroun, 22 October 2024, https://bityl.co/SVCs
[26]Arrest of Separatist Leader Puts Spotlight on Cameroon’s Anglophone Conflict, crisis Group, 16 October 2024, https://bityl.co/Sasd
[27] Reddition de membres de Boko Haram au Cameroun et au Niger, le Monde Afrique, 10 juillet, 2024, https://bityl.co/SVD6