تستضيف جنوب إفريقيا في نوفمبر الجاري قمة دولية لسدّ النقص في تمويل قطاع الصحة في إفريقيا، وسط إعلان عدد من الدول، من بينها المملكة المتحدة، عن خفض مساهماتها في الصندوق العالمي لتمويل الصحة في إفريقيا بنِسَب متفاوتة، وعلى نحوٍ يُهدِّد مُجمَل هذه المقاربة العالمية، ويفتح الباب أمام مزيد من الخسائر البشرية جراء أيّ موجات جديدة من الأوبئة والجائحات، وكذلك بانتقال هذه الأمراض عبر الحدود مع تراجع قدرات الدول الإفريقية على السيطرة عليها مستقبلًا بسبب خفض التمويل إلى جانب أسباب أخرى.
يتناول المقال الأول جهود عدد من الدول والمبادرات الإفريقية لتحقيق “السيادة الصحية” مثل المبادرة التي أطلقها قادة أفارقة في “أكرا”، ومبادرة أبوجا المحلية في نيجيريا.
أما المقال الثاني فيتناول تجربة ناجحة لتصنيع لقاحات إفريقية لمواجهة الأوبئة والجائحات، وهي تجربة جنوب إفريقيا التي تدخل مراحل التجارب السريرية قبل إطلاق لقاح لمواجهة الكوليرا، دون إغفال تأكيد بريتوريا على أنها تمثل القارة الإفريقية ومساعي تحقيق اعتماد على الذات في القطاع الصحي وصولًا إلى ترويج هذه التجربة بشكل شبه محسوم، والبناء عليه في تصدير هذه اللقاحات لبقية الدول الإفريقية بأسعار تنافسية.
أما المقال الثالث والأخير فيتناول قرار المملكة المتحدة بخفض مساهمتها في صندوق عالمي لتمويل مواجهة الأمراض ودعم قطاع الصحة في إفريقيا.
بناء سيادة إفريقيا الصحية: من التبعية إلى الشراكة([1])
اجتمع القادة الأفارقة في أغسطس الماضي في “أكرا” عاصمة غانا من أجل وضع مسار (مُقتَرَح حتى اللحظة) لمستقبل القارة في قطاع الصحة العامة. وكانت رسالتهم قاطعة: “إن استقلال إفريقيا السياسي غير مكتمل دون توفر القوة القادرة على تشكيل تنميتها، بما في ذلك صحة مواطنيها”.
ولقد كانت “قمة السيادة الصحية الإفريقية” Africa Health Sovereignty Summit مطلبًا للتحرُّر من التبعية التي أعاقت قدرة القارة على تأمين صحة مواطنيها.
ويظهر التاريخ أهمية هذا الأمر. ففي ذروة أزمة الإيدز لم تصل عقاقير الحفاظ على حياة المرضى إلا بعد سنوات من انتشارها في الغرب، ممَّا كبَّد القارة خسائر بشرية فادحة دون تلقّي العلاج من الفيروس. وخلال جائحة كوفيد-19، وفَّرت الدول الغنية مخزونات من اللقاحات بشكلٍ وصل للوفرة لمواطنيها، بينما عانت الدول الإفريقية خلال محاولتها تأمين جرعات لمواطنيها الأكثر ضعفًا. وكان في ذلك إشارة واضحة على أن الاهتمام العميق مِن قِبَل الدول الغنية بمصالحها يمكن أن يكون على حساب الحاجات الأساسية للدول الفقيرة.
وقد لعب التمويل الدولي دورًا هامًّا في تحقيق التقدم في قطاع الصحة في إفريقيا. ولم يُؤدِّ الدعم الخارجي، سواء من الصندوق العالمي Global Fund، أو خطة الرئيس (الأمريكي) الطارئة للإغاثة من الإيدز US President’s Emergency Plan for AIDS Relief (PEPFAR)، إلى إنقاذ الحياة فحسب، بل أيضًا إلى تحسين مستويات المعيشة وزيادة توقعات الحياة، وتقوية الاقتصادات الإفريقية.
التفاوت في بناء الصحة العالمي:
يستحق مثل هذا التضامن (الدولي مع إفريقيا) التقدير، لكن تجب إعادة توظيفه ليخدم إفريقيا على نحو صحيح. واليوم فإن قدرًا كبيرًا من التفاوت يظل كامنًا في بناء الصحة العالمية الحالي. ويتم وضع أُطُر الاستثمارات بشكل متكرر في جنيف أو واشنطن، وليس في أكرا أو نيروبي. ويتصاعد التمويل وينخفض وفق سياسات الدول المانحة.
كما يشكل مثل هذا الخلل في التوازن هذه الملاحظة. إن قارتنا ذات الـ1.4 بليون نسمة -من السكان النشيطين والشباب والمهرة-، لا تزال حاضرة في المشهد العالمي كمتلقية للمنح الخيرية.
وحتى عندما يقود العلماء الأفارقة، مثلما فعل باحثون جنوب أفارقة بإنتاج لقاح لكوفيد-19 بمسمى أوميكرون Omicron، فإنهم تمت معاملتهم كمتلقين وليسوا كشركاء على قدم المساواة. ولا يُحجِّم ذلك فحسب من مقدرات إفريقيا، لكنّه يترك العالم أجمع أكثر هشاشة أمام الجائحة المقبلة.
إن طريق المستقبل واضح: يجب على إفريقيا الاستثمار في صحتها بنفس الإلحاح الذي تُبديه للبنية الأساسية أو الدفاع أو الحوكمة. إن صحة المواطنين هي أساس للابتكار والاستقرار والازدهار. إن كل دولار يتم استثماره في الصحة يُفْسِح الطريق أمام الثروة ومضاعفة الإنتاجية والصمود.
نوع جديد من التضامن:
ترسم بعض الحكومات الإفريقية الحالية الطريق نحو المستقبل. ففي الشهر الماضي في نيجيريا أجرينا حوارًا سياسيًّا وطنيًّا رفيع المستوى حول إعادة تخيُّل مستقبل التمويل الصحي. وجمعت المبادرة مسؤولين حكوميين وشركاء في التنمية، والمجتمع المدني، والأكاديميين، والقطاع الخاص؛ من أجل تصميم مقاربات مستدامة لتمويل الرعاية الصحية للجميع في نيجيريا.
وتُعوِّل تلك المبادرة على قيادة نيجيريا في تحقيق تقدُّم في التغطية الصحية الشاملة UHC. وفي إعلان أبوجا 2001م، وإعلان أبوجا+12 تعهدت الدول الأعضاء بزيادة تمويلها المحلي المخصص للصحة من أجل بناء نظم صحية أقوى وأكثر اعتمادًا على الذات. وفي قمة الصحة العالمية الثامنة والسبعين المنعقدة هذا العام تبنَّت الدول المُشارِكَة المبادرة التي قدَّمتها نيجيريا بهدف تقوية تمويل الصحة العالمية والإسراع في التقدم نحو التزامات طويلة الأجل لتحقيق التغطية الصحية الشاملة. ولا تمثل الرسالة من “أكرا” أو نظيرتها من “أبوجا” عزلة أو أنها دعوة لتراجع المانحين، بل إنها رسالة لتحقيق نوع جديد من التضامن.
يمكن للمانحين لعب دور هام بالاستثمار معنا من أجل تلبية الحاجات الصحية الضاغطة، مع تعزيز بنية أساسية صحية قوة وصامدة ومستدامة تدعم الدول في إدارة الانتقالات بعيدًا عن التبعية الدائمة. إن الهدف ليس فكّ الارتباط، لكن الانتقال من متلقين للمعونات إلى شركاء على قدم المساواة.
الخطة القارية:
قدَّم تجمع “أكرا” خطة قارية لمستقبل الانخراط الصحي مع الشركاء الدوليين. وقد هدف حوار سبتمبر بنيجيريا إلى ربطه بالواقع الوطني. وتعكس المبادرات معًا حالة جديدة: تصميم الأفارقة على وضع خطة مستقبلهم الصحي. ويجب على بقية العالم الترحيب بهذا التوجُّه. إن إفريقيا ذات السيادة، والأكثر صحة وقوة، هي أمر في صالح البشرية. إن الجوائح لا تعرف حدودًا، ومِن ثَمَّ فإن عدم الأمن الصحي في جزء من القارة يُمثِّل عدم أمن في أجزاء أخرى من العالم. ومِن ثَمَّ فإن دعم سيادة إفريقيا الصحية لا يتعلق فحسب “بمساعدة الدول”، ولكن أيضًا بتنوير المصلحة الذاتية.
وتشير قمة أكرا وحوار نيجيريا إلى مستقبل قطاع الصحة العامة في إفريقيا. ومن أجل الوصول إلى ذلك الهدف علينا العمل على عَجَل من أجل تقوية تعاون الجنوب-الجنوب، وإطلاق تحالف قارّي يُعزّز الخبرات المشتركة والموارد والابتكار من أجل الأمن الصحي الجماعي.
رؤية موحدة:
تستدعي هذه اللحظة بالغة الأهمية قيادة إفريقية جريئة؛ قيادة قادرة على صياغة رؤية موحدة، وتقود عملًا منسقًا حول أولويات الصحة الإقليمية. وفي قلب ذلك التحول توجد محاولة تكوين نظام بيئي صحي فعَّال يجمع القطاعين الخاص والعام في سلسلة قيمة كاملة. كما يجب على اتفاقية منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية African Continental Free Trade Area (AfCFTA) أن تعمل عمودًا فقريًّا لهذه الرؤية، وتعزيز الحركة السلسة للسلع والخدمات والخبرة الصحية عبر الحدود الإفريقية.
جنوب إفريقيا تجري تجارب على أول لقاح إفريقي للكوليرا([2]) :
تهدف جنوب إفريقيا إلى أن تكون أول دولة إفريقية تصنع لقاح للكوليرا بإطلاقها الأسبوع الحالي تجربة سريرية للقاح يُؤخَذ بالفم طوَّرته شركة بيوفاك Biovac المحلية. وقد تطوَّر هذا اللقاح بفضل شراكة نقل تكنولوجيا بين بيوفاك ومعهد اللقاح الدولي International Vaccine Institute في كوريا الجنوبية في العام 2022م.
وفي الوقت الحالي فإن المصنع الوحيد للقاح الكوليرا هو EuBiologics في كوريا الجنوبية، والتي تصنع اللقاح الذي يتم تسويقه تحت اسم Euvichol-Plus. وقد أعاق هذا الوضع بشدة الإمداد العالمي للقاحات الكوليرا، مما أدَّى إلى نقص عالمي في مواجهة تفشي الكوليرا في أرجاء العالم، زاد من مخاطرها موجات من أزمات الطقس المرتبطة بالمناخ والصراعات.
وفي هذا الأسبوع أعلنت بيوفاك عن إطلاق المرحلة الأولى من تجارب سلامة اللقاح في جامعة ويتووترازراند في جوهانسبرج. وإذا ثبتت سلامة اللقاح، في المرحلة الثالثة الأوسع نطاقًا، سيكون لقاح الكوليرا الفموي من بيوفاك مقارنًا بلقاح يوبيولوجيكس EuBiologics المعروف بيوفيكول-بلس. وبحسب د. مورينا ماخوانا Morena Makhoana، الرئيس التنفيذي للشركة الجنوب إفريقية، فإن “بيوفاك فخورة بتصنيع هذا اللقاح بالكامل في جنوب إفريقيا، للمرة الأولى خلال خمسين عامًا في هذا المسار”. وقد تطورت بيوفاك من عملها مُوزِّعًا للقاحات إلى مُنفِّذ ومُصنِّع بالكامل”؛ حسبما أوردت الشركة في بيان.
وأضافت الشركة في بيانها: “تحظى اللقاحات المُصنَّعة في جنوب إفريقيا عادة بدعم دوائي نَشِط من الخارج، ومع تصنيع اللقاح الأخير بشكل نهائي في جنوب إفريقيا، لكنْ في هذه الحالة فإن اللقاح المتوقَّع قد تم تصنيعه من بدايته حتى نهايته مِن قِبَل شركة بيوفاك الجنوب إفريقية”.
بينما قالت ماخوانا: “إذا كانت التجارب ناجحة فإن جنوب إفريقيا ستكون أول دولة في القارة تُنْتِج لقاح الكوليرا. ويعالج هذا التطور حاجة مُلِحَّة ومُنقِذَة لحياة ملايين الأفراد في إفريقيا، في ضوء النقص العالمي المستمر للقاح وسط تكرر موجات تفشي الكوليرا في إفريقيا. واعتمادًا على نتائج التجارب يمكن المصادقة على اللقاح والاستعداد لاستخدامه في إفريقيا بحلول العام 2028م.
الأمن الصحي المُعزّز”:
وصف د. آرون موتسوليدي وزير الصحة الجنوب إفريقي التجربة بالخطوة التاريخية، ليس لبيوفاك وبلدنا فحسب، بل للقارة بأكملها. وأضاف: “إن بناء قدرات تصنيع لقاحات محلية لم يَعُد رفاهية؛ بل إنه ضرورة وطنية. إنه يُقوِّي سيادتنا، ويُعزّز أمننا الصحي، ويضمن ألا نترك أهلنا خلفنا عندما تندلع الأزمة الصحية العالمية المقبلة”.
وكان الاتحاد الإفريقي قد وضع هدفًا بتحقيق إنتاج 60% من جميع اللقاحات المستخدمة بانتظام في إفريقيا في القارة بحلول العام 2030م، وهو هدف طموح مقارنةً بنسبة تقلّ حاليًّا عن 1% فقط. وقد وضع تحالف اللقاحات “جافي” Gavi حوافز للقاحات المصنوعة في إفريقيا، مما وضع بيوفاك في موضع قوي لتأمين حصة في السوق، وجعلها تتصدر السباق في مساعي بيع اللقاحات للدول الإفريقية، والدول الأخرى التي تحتاجها.
ولسوف توفّر آلية جافي المعروفة بـ”مُسرّع تصنيع اللقاحات الإفريقية” Gavi’s African Vaccine Manufacturing Accelerator (AVMA) نحو بليون دولار على مدار العقد المقبل لدعم نمو القاعدة التصنيعية للقاحات والأدوية في إفريقيا.
تحذيرات بريطانية: خفض 15% في التمويل الصحي سيفرض “خيارات مستحيلة” على إفريقيا([3]):
تُقدِم المملكة المتحدة، بخطوتها لخفض الأموال التي تعهَّدت بها لتمويل الصحة العالمية، على تحجيم دورها في محاربة الأمراض المعدية، بما فيها الإيدز والملاريا، حسبما يشير نشطاء في القطاع الصحي العالمي.
خفض 15% من إسهام المملكة المتحدة في الصندوق العالمي من أجل الإيدز والدرن والملاريا الذي تم الإعلان عنه هذا الأسبوع –في العام الذي تستضيف فيه المملكة المتحدة مع جنوب إفريقيا اجتماعًا لسدّ النقص في التمويل-، ربما يدفع ويشجع الدول الأخرى على خفض التزاماتها كذلك، وهو تطوُّر يثير المخاوف. وأعلنت الحكومة التزامًا بقيمة 850 مليون جنيه إسترليني للصندوق، مما مثَّل انخفاضًا عن الرقم الذي سبق أن تعهدت به في الجولة الأخيرة للصندوق وكان يساوي بليون دولار. ودعا نشطاء رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر لإبداء القيادة والمشاركة في قمة سد النقص في التمويل في جوهانسبرج لاحقًا في نوفمبر الجاري، والبحث عن دعم مالي إضافي لتقديمه للصندوق.
وكان الخفض الأخير الذي أجرته لندن يعني خفض معوناتها من نسبة 0.5% من ناتجها المحلي الإجمالي إلى 0.3% فقط، ووجّه الفارق لدعم موازنة الدفاع. وقال وزير التنمية البريطاني جيني تشابمان: إن تمويل هذا العام كان بالدولار “وهو أقل بنسبة 5% فقط من المبلغ الذي تم التعهد به في العام 2023- 2025م”، وسوف يُنْقِذ حياة 1.3 مليون شخص، ويمنع نحو 22 مليون إصابة جديدة بمرض فقدان المناعة المكتسبة والدرن والملاريا، وتحقيق مكاسب صحية وعوائد اقتصادية بقيمة 13 بليون دولار في الدول التي يعمل بها الصندوق العالمي.
وتشير دراسة بحثية منشورة في أكتوبر الماضي إلى أن أيّ خفض بقيمة 20% للصندوق العالمي سيُسْفِر عن 330 ألف حالة وفاة إضافية بحلول العام 2040م من الملاريا وحدها. ويقدم الصندوق 59% من التمويل العالمي لمواجهة الملاريا.
…………………………………..
[1] Muhammad Ali Pate, Building Africa’s Health Sovereignty: From Dependence to Partnership, Health Policy watch, November 11, 2025 https://healthpolicy-watch.news/building-africas-health-sovereignty-from-dependence-to-partnership/
[2] Kerry Cullinan, South Africa Launches Trial of First African-Made Cholera Vaccine, Health Policy Watch, November 13, 2025 https://healthpolicy-watch.news/south-africa-launches-trial-of-first-african-made-cholera-vaccine/











































