من الواضح تماما منذ الغزو الروسي لأوكرانيا وجود هرولة متسارعة الخطى من قبل القوى الكبرى في العالم صوب أفريقيا .إننا امام معركة جيوستراتيجية تشبه في بعض ملامحها حالة الحرب الباردة ولكن بصيغة مختلفة. وربما تمثل جولة نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس الإفريقية التي تشمل ثلاث دول (غانا وتنزانيا وزامبيا) جزءا من مشهد نظام عالمي قيد التشكل والتغيير.
وتعد كمالا هاريس المسئولة الأمريكية رقم 18 والأرفع مكانة التي تزور إفريقيا هذا العام. وتسعى الولايات المتحدة من خلال هذه الرحلات المكوكية إلى تخفيف وطأة التحالفات الروسية والصينية مع الدول الأفريقية. وبالفعل، منذ يناير 2023 ، زار المسؤولون الأمريكيون 11 دولة إفريقية. قامت كل من وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين والسيدة الأولى جيل بايدن بالسفر إلى القارة في يناير وفبراير. كما تأتي زيارة هاريس بعد أسابيع فقط من زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين لإثيوبيا والنيجر، التي تعد المركز الجديد للدول الغربية في حربها ضد الإرهاب منذ أن قامت مالي بطرد بمعظم الجيوش الغربية.
ويحاول هذا المقال إلقاء الضوء على أبعاد ودلالات رحلة هاريس الأفريقية في سياق الحملة العالمية الناعمة على إفريقيا والتي تسير بخطى متسارعة.
أهداف الولايات المتحدة في إفريقيا:
تشير زيارة نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس لإفريقيا إلى أن الولايات المتحدة حريصة على تعزيز علاقتها مع القارة الإفريقية. الزيارة هي جزء من جهود الولايات المتحدة لمواجهة النفوذ المتزايد لروسيا والصين في القارة وتعزيز العلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية مع الدول الإفريقية. تتضمن بعض الأهداف المحددة للولايات المتحدة خلال هذه الزيارة ما يلي:
1) تعزيز العلاقات الاقتصادية: تتطلع الولايات المتحدة إلى تعميق العلاقات الاقتصادية مع الدول الإفريقية ، مع التركيز على تعزيز التنمية المستدامة. ومن المتوقع أن تناقش هاريس وغيرها من المسؤولين الأمريكيين فرص التجارة والاستثمار، وتخفيف عبء الديون، وغيرها من القضايا المالية خلال الزيارة. وتأمل الولايات المتحدة في إقامة علاقات اقتصادية أوثق مع الدول الإفريقية كوسيلة لمواجهة النفوذ الاقتصادي المتزايد للصين في القارة.
2) مواجهة نفوذ الصين المتنامي: أحد الشواغل الرئيسية للولايات المتحدة هو نفوذ الصين المتزايد في إفريقيا. تستثمر بكين بكثافة في مشاريع البنية التحتية الإفريقية وتقدم مساعدات اقتصادية للدول الإفريقية، مما أدى إلى مخاوف بشأن سيطرة الصين المتزايدة على اقتصاد القارة. وتسعى الولايات المتحدة لمواجهة هذا التأثير من خلال تشجيع مبادرات الاستثمار والتنمية التي تقدم بدائل للمشاريع التي تدعمها الصين.
3) معالجة المخاوف الأمنية: تشعر الولايات المتحدة بالقلق أيضًا بشأن الوضع الأمني في العديد من الدول الإفريقية، لا سيما التهديد الذي تشكله الجماعات الأيدولوجية المسلحة. خلال زيارتها، أعلنت هاريس عن استثمار 100 مليون دولار في بنين وغانا وغينيا وساحل العاج وتوغو للتصدي للمسلحين .كما تتطلع الولايات المتحدة أيضًا إلى تعزيز شراكاتها مع الدول الأفريقية في قضايا مثل مكافحة الإرهاب والأمن السيبراني.
4) الثورة الخضراء: هناك تدافع جيوسياسي على معادن الأرض النادرة لتشغيل الثورة الخضراء في العالم – الكوبالت والنحاس والنيكل – التي تمتلكها العديد من الدول الإفريقية بكثرة وهي ضرورية للمركبات الكهربائية والتقنيات المتجددة. ويلاحظ أن عمال المناجم الصينيين يتحكمون في معظم الصادرات التجارية في أماكن مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية وزامبيا وتنزانيا.
5) التهديدات الهجينة: تأخذ مواقف الولايات المتحدة والغرب الجديدة تجاه القارة الإفريقية مسألة البنية التحتية التكنولوجية القيمة تحت البحر في شكل كابلات البيانات البحرية. إذ يصاحب الاعتماد العالمي على أنظمة الكابلات تحت البحر زيادة الطلب ونمو الحوسبة السحابية ( التي تعني توفير موارد تقنية المعلومات حسب الطلب عبر الإنترنت مع تسعير التكلفة حسب الاستخدام) ، مما يوسع من نفوذ الصين في القارة بفضل تمويل الديون الصينية والبنية التحتية، كما أنه يوفر – وفقا للزعم الغربي- هدفًا لموسكو للتجسس والتحريض والهجمات السيبرانية. ولعل ذلك هو ما يمثل أحد ملامح التهديدات الهجينة في إفريقيا.
6) تعزيز المساواة بين الجنسين والتمكين: من المتوقع أن تعلن هاريس عن المزيد من فرص الاستثمار التي تهدف إلى التمكين الاقتصادي للمرأة. هذا جزء من جهود الولايات المتحدة لتعزيز المساواة بين الجنسين وحقوق المرأة في إفريقيا.
بشكل عام، تسعى الولايات المتحدة إلى إقامة علاقات اقتصادية وسياسية أوثق مع الدول الإفريقية ومواجهة نفوذ روسيا والصين في القارة. وتتطلع الولايات المتحدة أيضًا إلى معالجة المخاوف الأمنية وتعزيز المساواة بين الجنسين والتمكين كجزء من مشاركتها مع الدول الإفريقية وفقا لخطابها الجديد تجاه إفريقيا.
تحديات تعزيز النفوذ الأمريكي في إفريقيا:
إن إفريقيا قارة ذات إمكانات وموارد هائلة، وتبذل الولايات المتحدة جهودًا لتقوية روابطها مع الدول الإفريقية. ومع ذلك، تواجه هذه الجهود العديد من العقبات، بما في ذلك القضايا التاريخية، والنفوذ المتزايد للصين وروسيا، والتصورات بأن الإدارات الأمريكية السابقة قللت من الأهمية الاستراتيجية لأفريقيا. وتعد الجولة الأخيرة التي قامت بها نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس في غانا وتنزانيا وزامبيا جزءًا من مبادرة أمريكية أوسع لتنشيط علاقتها مع الدول الإفريقية، ولكن يبقى أن نرى ما إذا كانت هذه الجهود ستنجح في إطلاق إمكانات إفريقيا وتعزيز روابط الولايات المتحدة وإفريقيا.
1) تراجع المكانة الاستراتيجية لإفريقيا
على الرغم من الهجوم الأمريكي الناعم على إفريقيا، تواجه هاريس وغيرها من الدبلوماسيين الأمريكيين ما اعتبره العديد من الأفارقة ميراث سنوات التراجع الأمريكي في إفريقيا عندما قامت الإدارات الأمريكية السابقة بالتقليل من أهمية للعلاقة الاستراتيجية مع الدول الإفريقية. وعليه فإن الرسالة التي تحملها الدبلوماسية الأمريكية هي أن واشنطن ملتزمة بالابتعاد عما كان تقليديًا علاقة أكثر تركيزًا على شراكات الأمن القومي وتأسيس علاقة جديدة تركز على قضايا التنمية المستدامة. ومع ذلك لايزال الأفارقة يتشككون في صدق الخطاب الأمريكي الجديد. إذ يدرك الكثيرون أن اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية وراء هذا الاهتمام المتجدد من قبل إدارة الرئيس جو بايدن. لقد آثرت الدول الإفريقية أن تقف على الحياد في الحرب الأوكرانية. إنها ليست متحالفة مع أي من روسيا أو الغرب في الحرب. على أن دولا أخرى مثل جنوب إفريقيا أظهرت دون وجل وجود علاقات ودية مع روسيا، حيث استضافت بشكل مثير للجدل مناورات بحرية مشتركة تزامنت مع الذكرى السنوية الأولى لغزو روسيا لأوكرانيا.
2) عبء التاريخ
بعيدا عن الصراع الحالي مع روسيا فإن القضايا التاريخية تقف حاجزا منيعا أمام جهود الولايات المتحدة لتقوية علاقتها مع الدول الإفريقية. على سبيل المثال بينما دعم الاتحاد السوفيتي حركات الاستقلال والنضالات ضد الفصل العنصري، صنفت الحكومة الأمريكية المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم اليوم في جنوب إفريقيا كمنظمة إرهابية خلال فترة الحرب الباردة. هذا الإرث التاريخي، إلى جانب تصور أن الولايات المتحدة قللت من قيمة علاقتها مع الدول الإفريقية في الماضي، جعل من الصعب على الولايات المتحدة تحويل علاقتها مع الدول الإفريقية بعيدًا عن شراكات الأمن القومي إلى قضايا التنمية. تاريخيًا، تعاملت الولايات المتحدة وأوروبا مع إفريقيا بحسبانها مشكلة يجب إصلاحها ، في حين ركزت الصين على التجارة، لتصبح الشريك الأكبر في المنطقة.
3) ثنائية الدور الصيني والروسي
لا شك أن التأثير المتزايد للصين وروسيا في إفريقيا يقف هو الأخر حجر عثرة أمام الولايات المتحدة في سعيها لتعزيز علاقتها الإفريقية، حيث يستثمر البلدان بكثافة في مشاريع البنية التحتية الإفريقية ويقدمان مساعدات اقتصادية للدول الإفريقية. لقد زار وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف القارة مرتين في غضون ستة أشهر، ومن المقرر عقد قمة روسية إفريقية في يوليو في موسكو. وكما هو معتاد بالنسبة للدبلوماسيين الصينيين، فقد بدأ وزير الخارجية الصيني الجديد، تشين جانج، فترة ولايته بجولة في خمس دول في إفريقيا في يناير الماضي. وتسعى الولايات المتحدة لمواجهة هذا التأثير من خلال تشجيع مبادرات الاستثمار والتنمية التي تقدم بدائل للمشاريع التي تدعمها الصين. ومع ذلك، فقد أعرب بعض القادة الأفارقة عن تشككهم في دوافع الولايات المتحدة، مما يشير إلى أن الولايات المتحدة تسعى وراء مصالحها الجيوسياسية والاقتصادية.
في الختام، تسلط جولة نائبة الرئيس كامالا هاريس الإفريقية التي شملت ثلاث دول الضوء على اهتمام الولايات المتحدة المتجدد بتعزيز العلاقات مع الدول الإفريقية. وتعد الرحلة جزءا من استراتيجية أوسع للولايات المتحدة لمواجهة النفوذ المتزايد للصين وروسيا في المنطقة، مع التركيز على التنمية بدلاً من شراكات الأمن القومي. ومع ذلك، فإن التراجع عن الميراث الثقيل للعلاقات الاستراتيجية مع الدول الإفريقية لن يكون سهلاً ، بالنظر إلى القضايا التاريخية التي تتجاوز الوضع الحالي. لقد ركزت الاجتماعات بين هاريس والقادة الأفارقة على الديون ودور بكين فيها. ولا يخفى أن الولايات المتحدة تهدف إلى إزاحة هيمنة الصين وإعلان فرص جديدة للاستثمار، ومواجهة الجماعات المسلحة ودعم التمكين الاقتصادي للمرأة. وللمضي قدمًا في هذا التوجه الأمريكي الجديد، من المتوقع أن تكون التجارة، وليس المساعدات، الطريقة الأضمن لبناء علاقات أقوى مع الدول الإفريقية، كما أدركت بكين ذلك على مدى عقود.