من الواضح تماما وبدون مواربة أن إفريقيا، بعد مرور نحو عام على بدء الحرب الأوكرانية، أصبحت ساحة معركة سياسية لروسيا والغرب، حيث يسعى كلا الجانبين لكسب النفوذ والدعم من الدول الإفريقية.
ولعل الزيارات الأخيرة التي قام بها وزير الخارجية الروسي ووزير الخزانة الأمريكي إلى البلدان الإفريقية، والتي يُنظر إليها على أنها جزء من منافسة أوسع نطاقاً على الأصوات والدعم الأفريقيين تدعم هذه الحجة.
في حديثه بعد جولته المصغرة الثانية في القارة، ربط وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف صراحة بين رحلاته والحرب في أوكرانيا. وأعلن أنه “على الرغم من الدعاية المعادية لروسيا التي تنظمها واشنطن … فإننا نعزز العلاقات مع الأغلبية الدولية”.
بشكل عام، فإن الحجة التي نطرحها في هذا المقال هي أن إفريقيا أصبحت ساحة مهمة للمنافسة الجيوسياسية بين روسيا والغرب، وأن هذه المنافسة تجري على المستويين الثنائي والمتعدد الأطراف.
وعليه يصبح من الواجب أن يلتزم الاتحاد الإفريقي بمبادئ عدم الانحياز وذلك من أجل التخفيف من الآثار السلبية التي تترتب على هذه المنافسة الجيوستراتيجية الجديدة .
إننا أمام محاولات صينية وروسية لتشكيل نظام عالمي بديل وإن استبدل مركزيته الأوروبية بمركزية أخرى صينية أو روسية. وفي كلا الحالتين ستكون إفريقيا غائبة عن مركز هذا النظام.
مواقف ملتبسة:
وعليه فإنه بعد مرور الذكرى السنوية الأولى للغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير 2022، يلاحظ أن إفريقيا ليس لديها نهج مشترك تجاه الحرب.
في القمة الإفريقية الـ36 التي عقدت يوم 18 فبراير 2023 في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا لم يتم التعرض للحرب في أوكرانيا إلا لماما وبمناسبة تأثيرها على الأمن الغذائي في إفريقيا.
لقد أثار العدوان الروسي ردود فعل متباينة في جميع أنحاء القارة، كما يتضح من السلوك التصويتي الملتبس على العديد من القرارات في الجمعية العامة للأمم المتحدة – بما في ذلك قرار الجمعية العامة في 23 فبراير 2023 الداعي إلى إنهاء فوري للحرب.
وإجمالاً، أعربت 141 دولة عن دعمها للقرار بينما عارضته سبع دول – روسيا وبيلاروسيا وكوريا الشمالية وسوريا ومالي وإريتريا ونيكاراغوا وقد امتنعت 32 دولة أخرى عن التصويت. كانت الصين والهند وجنوب إفريقيا وباكستان وسريلانكا وعدد من الدول الإفريقية والآسيوية. كان مستوى الدعم الإفريقي مشابهًا للسلوك التصويتي السابق في الجمعية العامة فيما يتعلق بغزو روسيا لأوكرانيا. وفي هذه الحالة قامت كل من مالي وإريتريا بالتصويت ضد القرار.
يبدو أن القمة الإفريقية رأت أن الحرب الأوكرانية تثير الفرقة والانقسام أكثر من اللازم. أو ربما كان تجنب الموضوع معبرًا عن الموقف السائد بعدم الانحياز لما أصبح نوعًا من الحرب الباردة الجديدة.
لكن يبدو من الناحية الدبلوماسية هو توخي الحذر وعدم إغضاب قوى إفريقية مؤثرة كما حدث مع طرد الدبلوماسية الإسرائيلية من مقر القمة الإفريقية رغم دخولها قاعة المؤتمر. وبغض النظر عن ذلك كله يمكن أن تؤثر الحرب في أوكرانيا بطرق شتى مباشرة كما في حالة نقص امدادات الغذاء أو غير مباشرة يمكن أن تقوض طموحات الاتحاد الإفريقي لتحقيق حكومات مستقرة وديمقراطيات قوية، و مبادرة “إسكات البنادق”.
تدافع دولي جديد:
من الواضح في السنوات الأخيرة، وجود صراع جديد في إفريقيا ، مع وجود قوى عالمية مختلفة تتنافس على النفوذ والوصول إلى موارد القارة.
يذكرنا هذا التدافع الجديد على إفريقيا بما حدث في القرن التاسع عشر بعنوان “التدافع من أجل إفريقيا”، والذي قسمت خلاله القوى الأوروبية القارة واستغلت مواردها وشعوبها.
واليوم، فإن التدافع الجديد على إفريقيا مدفوع بمجموعة من العوامل، بما في ذلك المصالح الاقتصادية، والاعتبارات الاستراتيجية، والمنافسات الجيوسياسية.
كانت الصين واحدة من أكثر القوى الدولية نشاطًا في هذا التدافع الجديد، من خلال مبادرة “الحزام والطريق”، التي تسعى إلى إنشاء طرق تجارية وبنية تحتية جديدة تربط الصين بإفريقيا ومناطق أخرى من العالم.
تستثمر الصين بكثافة في مشاريع البنية التحتية الإفريقية، مثل الموانئ والسكك الحديدية والطرق السريعة ، وتقدم القروض والتمويل إلى البلدان الإفريقية. ورغم ذلك ينبغي أن نفكر في إمكانية وجود دوافع امبريالية صينية تستهدف خلق نظام عالمي بديل يلتف حول مفاهيم المركزية الصينية بثقافتها الكونفوشيوسية.
بالإضافة إلى الصين، تعمل القوى العالمية الأخرى على زيادة مشاركتها مع إفريقيا. تسعى روسيا، كما ذكرنا سابقًا، إلى تعميق مشاركتها مع الدول الإفريقية، بما في ذلك من خلال الوسائل الاقتصادية والسياسية والعسكرية. كما تعمل الولايات المتحدة أيضًا على زيادة مشاركتها مع إفريقيا، مع التركيز بشكل خاص على مكافحة الإرهاب والتعاون الأمني.
تنشط القوى الأوروبية مثل فرنسا وألمانيا أيضًا في إفريقيا، وتسعى للحفاظ على علاقاتها التاريخية مع المستعمرات السابقة وتوسيع نفوذها الاقتصادي والسياسي. أثار التدافع الجديد على إفريقيا مخاوف بشأن التداعيات المحتملة على البلدان الإفريقية وشعوبها.
يجادل بعض النقاد بأن التدافع الجديد مدفوع في المقام الأول بالرغبة في استغلال موارد إفريقيا وشعوبها، بدلاً من تعزيز التنمية المستدامة والاستقرار طويل الأجل في المنطقة.
يجادل آخرون بأن التدافع الجديد يمكن أن يؤدي إلى تفاقم التوترات والصراعات القائمة في المنطقة، وربما يؤدي إلى حقبة جديدة من الاستعمار والاستغلال.
الوجه الآخر للوجود الروسي:
تطرح عودة ظهور الانقلابات العسكرية في إفريقيا إشكاليات كبرى حول دور الاتحاد الإفريقي في الوقوف في وجه “التغييرات غير الدستورية للحكومات”، وتحديداً الانقلابات العسكرية.
وقد تم بالفعل تعليق عضوية أربع دول أعضاء في الاتحاد الأفريقي هي: مالي وبوركينا فاسو وغينيا والسودان.
وقد أصر الاتحاد الإفريقي في قمته الأخيرة على أنه “لا يتسامح إطلاقا” مع مثل هذه الانقلابات العسكرية. ومع ذلك فقد فشل الاتحاد الإفريقي والمجموعات الاقتصادية الإقليمية في إفريقيا في مواجهة هذه الظاهرة الانقلابية .
هل توفر روسيا بديلا وظهيرا لهذه الدول التي تشهد تغييرا للحكومات بشكل غير دستوري؟. سؤال يرتبط بالسياق الأمني لكل دولة على حدة. ويبرز الدور الروسي في أفريقيا من خلال أداتين رئيسيتين:
(1) دور شركة فاغنر: في حالة مالي تعاقد المجلس العسكري الذي استولى على السلطة مع شركة فاغنر العسكرية الروسية الخاصة، والتي يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها وكيل للكرملين. ومن الواضح أن فاغنر استغلت الفراغ الأمني في مالي بعد طرد فرنسا من قبل المجلس العسكري بعد تدهور العلاقات بين البلدين، وانتقدت فرنسا الانقلاب. ومن المعروف أن روسيا شأنها شأن الصين ليس لديها أي تحفظات بشأن الديمقراطية ، ومن الواضح أنها تستغل الفراغ الناجم عن خروج فرنسا لمحاربة النفوذ الغربي في إفريقيا.
وطبقا لتقرير مركز الدراسات الأمنية في جنوب أفريقيا تستغل فاغنر أيضًا الفرص الأخرى التي قد تنشأ في القارة، مثل الموارد الطبيعية، التي تقول الولايات المتحدة إنها تكتيك روسي لتمويل حربها في أوكرانيا وأماكن أخرى. ويعرض تقرير جديد تفاصيل عمليات فاغنر في إفريقيا وعلاقاتها بالدولة الروسية وجماعات الجريمة المنظمة. وقد حذر الرئيس الغاني نانا أكوفو أدو من أن بوركينا فاسو قد أبرمت بالفعل صفقة لقبول دعم فاغنر. إنها تكرر حالة مالي، حيث طرد حكامها العسكريون فرنسا أيضًا ويبحثون عن أصدقاء جدد. وعليه سوف يصبح تعليق عضوية الدول في الاتحاد الأفريقي غير فعال طالما أنها يمكن أن تلجأ إلى روسيا للحصول على الدعم.
قد تكون فاغنر أيضًا على استعداد للتدخل في الكاميرون، جزئيًا من خلال استغلال التوترات المتزايدة والعنف بين الحكومة والجماعات الانفصالية في المناطق الناطقة باللغة الإنجليزية في البلاد (متمردي أمبازونيا). وقد تتطلع فاغنر أيضًا إلى الكاميرون كبوابة مفيدة إلى البحر لتصدير الموارد الطبيعية التي تحصل عليها من جمهورية إفريقيا الوسطى مقابل دعم حكومة فوستين أرشينج تواديرا الضعيفة.
(2) تجارة الأسلحة: في إطار توسيع علاقاتها مع الدول الأفريقية ، يتمثل الدور الروسي إلى حد كبير في المجال العسكري وتجارة الأسلحة. في تقرير جديد لمعهد الدراسات الأمنية يتضح أن المشاركة الاقتصادية الرئيسية لروسيا كانت منذ فترة طويلة من خلال صناعة الأسلحة. وغالبًا ما يُنظر إلى مبيعات الأسلحة الروسية على أنها وسيلة رئيسية تستفيد منها روسيا من أجل تأسيس واستدامة وتوسيع نفوذها السياسي داخل الدول الأفريقية .فيما يتعلق بالسلع الأخرى، تتضاءل التجارة الروسية مع إفريقيا مقارنة مع الغرب والصين. يشير التقرير سالف الذكر إلى أن روسيا كانت أكبر مورد للأسلحة في القارة في 2017-2021 (وثاني أكبر مورد عالميًا)، وفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام. شكلت روسيا 44٪ من جميع واردات الأسلحة إلى إفريقيا – متقدمة بفارق كبير عن الولايات المتحدة (17٪) والصين (10٪) وفرنسا ( 6٪ ). ومع ذلك من غير الواضح ما إذا كانت الحرب في أوكرانيا قد أثرت على مبيعات الأسلحة الروسية. تشير التقييمات الغربية إلى أن روسيا لا تصنع ذخائر كافية لتحل محل الصواريخ والقذائف التي أطلقت على أوكرانيا، لذلك لجأت إلى إيران للحصول على الإمدادات.
على سبيل الختام:
من الصعب القول ما إذا كانت إفريقيا بحاجة إلى عدم الانحياز مرة أخرى في الحرب الباردة الجديدة وفي ظل احتدام الانقسام الدولي بشأن الحرب الأوكرانية، حيث توجد وجهات نظر وآراء مختلفة حول هذه المسألة.
من ناحية، يرى البعض أن عدم الانحياز يمكن أن يكون استراتيجية مفيدة للدول الإفريقية للحفاظ على استقلالها وحيادها في مواجهة التوترات الجيوسياسية المتزايدة بين القوى العالمية. سيسمح عدم الانحياز للبلدان الأفريقية بمتابعة مصالحها وأولوياتها الخاصة دون أن تكون مقيدة بالفضل لأي قوة عالمية واحدة، ويمكن أن يساعد في منع إفريقيا من الانجرار إلى فلك جانب أو آخر في الحرب الباردة الجديدة.
من ناحية أخرى، يجادل آخرون بأن عدم الانحياز قد لا يكون استراتيجية قابلة للتطبيق في السياق الحالي، بالنظر إلى المنافسة المتزايدة بين القوى العالمية. في عالم تتنافس فيه القوى الكبرى على النفوذ والوصول إلى الموارد، قد تجد الدول الإفريقية صعوبة في البقاء على الحياد وتجنب الانحياز إلى أي طرف.
علاوة على ذلك، يجادل البعض بأن عدم الانحياز يمكن أن يُنظر إليه على أنه علامة ضعف أو تردد، ويمكن أن يترك البلدان الإفريقية في نهاية المطاف عرضة للضغوط الخارجية والتلاعب. في نهاية المطاف، ما إذا كانت إفريقيا بحاجة إلى عدم الانحياز مرة أخرى في الحرب الباردة الجديدة أم لا، سيعتمد على مجموعة من العوامل، بما في ذلك مصالح وأولويات البلدان الأفريقية نفسها، وطبيعة المنافسة بين القوى العالمية، والفرص والمخاطر المرتبطة باستراتيجيات وأساليب مختلفة، ومن المحتمل أن تتبع مختلف البلدان الإفريقية استراتيجيات وتحالفات مختلفة بناءً على مصالحها وظروفها الخاصة.