تُظهر حرب الإبادة التي شنَّتها إسرائيل ضد قطاع غزة، ملامح نظامٍ استعماري عالمي يتواطأ في تسويغ العنف بوصفه أداة مشروعة للهيمنة، وإمكانية إعادة إنتاجه ضمن أُطُر مفاهيمية تحظى بقبول دولي، ويُعاد معه إنتاج ما يُطْلَق عليه “الحصانة الانتقائية” التي تمنح الكيان الصهيوني حصانة أخلاقية وسياسية رغم جرائمه المتعددة.
هذا التواطؤ لا يُفْهَم فقط في سياق العلاقات الغربية، بل يمتدّ إلى إفريقيا، التي تحوَّلت تدريجيًّا إلى حقلٍ تجريبي لإعادة إنتاج الفكر الصهيوني خارج دولة فلسطين، عبر أدوات ناعمة تتأرجح بين التطبيع الأمني، والاختراق الثقافي، وتطويع النُّخَب السياسية.
إن الربط بين ما حدث في “غزة” من إبادة ممنهجة، وبين ما يُمارَس في إفريقيا من اختراقات صهيونية، لا يُعدّ مجرد مقارنة سياسية، بل هو تفكيك لبنية مفاهيمية ترى في الآخر الجنوبي -سواء كان فلسطينيًّا أو إفريقيًّا-، كيانًا قابلًا للتطويع أو الإبادة، وفقًا لمقتضيات السيطرة. فالفكر الصهيوني، بوصفه منظومة استعمارية عابرة للقارات، لا يكتفي بالاستيطان في دولة “فلسطين”، بل يسعى إلى تصدير أدواته إلى إفريقيا، حيث يُعاد إنتاجه في صورة “شراكات تنموية”، و”تعاون أمني”، و”نموذج حداثي”.
من خلال هذا الطرح، تُثار عدة تساؤلات حول كيف يتم توظيف القارة الإفريقية كمجال تجريبي لإعادة إنتاج الفكر الصهيوني؟ وما مدى ارتباط هذا التوظيف بالتواطؤ الدولي في جريمة إبادة غزة؟ وهل يمكن النظر إلى بعض النُّخَب الإفريقية بوصفها طرفًا مشاركًا في عملية إعادة تأهيل الكيان الصهيوني؛ من خلال تبنّي خطاب تنموي يُضْمِر منطق الهيمنة، ويُعيد تشكيل صورته كفاعل شرعي داخل المنظومة الدولية؟
هذه الأسئلة تُشكّل مدخلًا لتحليلٍ أعمق، نسعى من خلاله إلى تفكيك هذا التداخل، واقتراح بدائل مفاهيمية تُعيد الاعتبار للوعي الإفريقي التحرري، وتربط نضالات الجنوب العالمي في مواجهة أنماط التبعية المفروضة.
الصهيونية كإطار فكري يُعيد إنتاج الاستعمار في فضاءات مُتعدّدة خارج فلسطين:
الفكر الصهيوني لا يقتصر على كونه حركة قومية يهودية تهدف إلى تأسيس وطن، بل يُعدّ بنية استعمارية حديثة تتشابك مع مشاريع الهيمنة الغربية. ويعتمد هذا الفكر على مفاهيم مثل “الاستثناء”، و”الحق التاريخي”، و”التهديد الوجودي”، التي تُوظَّف لتبرير سياسات الإقصاء، والاستيطان، والإبادة. كما أن هذه المفاهيم لا تقتصر على السياق الفلسطيني فحسب، بل يُعاد إنتاجها وتكييفها في سياقات أخرى، مثل القارة الإفريقية، لتخدم أنماطًا مشابهة من السيطرة والهيمنة.
يقول إدوارد سعيد: “الصهيونية مشروع استشراقي يرى في فلسطين أرضًا بلا شعب لشعب بلا أرض”، وهو منطق استعماري يُعاد إنتاجه في الخطاب التنموي الإسرائيلي في إفريقيا؛ حيث تُصوَّر القارة كمساحة فارغة تنتظر الحداثة الإسرائيلية([1]).
أدوات السيطرة الصهيونية: من الاستيطان إلى الاختراق الناعم
تتعدد أدوات السيطرة الصهيونية، وتتنوع بين الأدوات القسرية والوسائل الناعمة، وتُستخدَم بمرونة بحسب المجال الجغرافي والسياسي، سواء في فلسطين أو في إفريقيا. هذه الأدوات لا تعمل بشكل معزول، بل تنشط ضمن منظومة استعمارية دولية تمنح إسرائيل شرعية زائفة وتُغطّي على ممارساتها التوسعية.
أولًا: الاستيطان:
في فلسطين يتجلى الاستيطان في بناء المستوطنات وتهجير السكان الأصليين، تحت مظلة مشروع إحلالي يهدف إلى تغيير البنية الديمغرافية والجغرافية. أما في إفريقيا، فيأخذ الاستيطان شكلًا اقتصاديًّا عبر مشاريع زراعية واستثمارات واسعة في الأراضي، مثل مشروع “ألديا نوفا” aldeia nova في “أنجولا” Angola، ما يُتيح لإسرائيل موطئ قدم إستراتيجي في البنية الريفية والسيطرة على الموارد الطبيعية([2]).
ثانيًا: الأمن:
تُستخدَم الأداة الأمنية في فلسطين لتبرير القتل تحت ذريعة “الدفاع عن النفس”؛ حيث يُعاد إنتاج العنف بوصفه وسيلة للدفاع المشروع. في المقابل، تُصدّر إسرائيل خبراتها الأمنية إلى إفريقيا من خلال تدريب الجيوش المحلية، على غرار مهمة تدريب الحرس الثوري الكاميروني([3])، وبيع تقنيات المراقبة، مثل تقنية “بيجاسوس” NSO Group –Pegasus إلى دول مثل “نيجيريا” و”جنوب إفريقيا” وروندا”، وهو برنامج تجسس على الهواتف الذكية، مما يُعزّز حضورها في البنية الأمنية والعسكرية للدول الإفريقية ويمنحها نفوذًا سياسيًّا غير مباشر([4]).
ثالثًا: الخطاب:
يُعاد تشكيل الخطاب الصهيوني بما يتناسب مع طبيعة الجمهور المستهدَف؛ حيث تتبدّل مفرداته وتتكيف أدواته بحسب السياق الجغرافي والسياسي. ففي الحالة الفلسطينية، يُستدعى خطاب “أرض الميعاد” و”التهديد الإسلامي” لتبرير سياسات الاستيطان والعنف. أما في القارة الإفريقية، فيُعَاد إنتاج الخطاب ضمن إطار “الشراكة التنموية”، عبر مشاريع مثل الطاقة الشمسية في “السنغال” و”كوت ديفوار”. تهدف هذه المقاربات إلى تحسين صورة إسرائيل وتقديمها كفاعل تنموي وأمني، رغم أن العلاقة تظل مُشبّعة بطابع استعماري مُقنَّع، يعيد إنتاج منطق السيطرة تحت غطاء التعاون([5]).
رابعًا: التعليم:
في فلسطين، يُعاد تشكيل السردية التاريخية عبر تغييب الرواية الفلسطينية من المناهج التعليمية، في مسعى ممنهج لطَمْس الهوية الوطنية وتفكيك الذاكرة الجمعية. وفي المقابل، تتدخل إسرائيل في صياغة المناهج التعليمية في عدد من الدول الإفريقية، من خلال إدراج محتوى إسرائيلي كما هو الحال في “رواندا” و”كينيا”، إلى جانب دعمها لتدريب النُّخَب عبر مِنَح دراسية تُقدَّم لجامعات في دول مثل “نيجيريا” و”غانا” و”جنوب إفريقيا”. هذا التغلغل في المؤسسات الأكاديمية يُمثّل إستراتيجية لاختراق الحقل الجامعي، بما يسمح لإسرائيل بالتأثير في تشكيل الوعي السياسي والثقافي للأجيال الصاعدة([6]).
في المجمل، تُستخدم هذه الأدوات لتطويع المجتمعات وتبرير الهيمنة، وهي تعمل ضمن شبكة استعمارية عالمية تُضْفِي على إسرائيل شرعية زائفة، وتُخفي الطابع الاستيطاني والاستغلالي لممارساتها في الجنوب العالمي([7]).
وبهذا يتجاوز الفكر الصهيوني حدود التمركز الجغرافي في “فلسطين”، ليُصبح منظومة استعمارية قابلة للتصدير إلى فضاءات الجنوب العالمي، ساعيًا إلى توسيع نطاق شرعيته عبر أدوات متعددة. وتُعدّ إفريقيا ساحة مركزية لتجريب هذه الأدوات؛ حيث يُعاد إنتاج مفاهيم مثل “العمق الإستراتيجي” و”الحداثة” و”التنمية” و”الشراكة” ضمن مجالات محلية تُخفي منطق السيطرة خلف شعارات تنموية وأمنية. ولا يقتصر هذا التصدير على المجال السياسي فحسب، بل يمتد إلى الخطاب الثقافي، والإعلامي، وتقديم المساعدات التنموية، ما يمنح الفكر الصهيوني قدرة على التكيُّف مع البيئات المختلفة، ويُعيد تشكيل علاقات الهيمنة تحت غطاء الشراكة والتحديث. بهذه الطريقة، يتحوَّل الفكر الصهيوني إلى منظومة مَرِنَة، تتسلل إلى البنى الاجتماعية والثقافية، وتُعيد إنتاج الاستعمار بصيغة ناعمة ومُقنّعة.
الفكر الصهيوني كأداة لإعادة إنتاج الاستعمار في الجنوب العالمي:
يستند الفكر الصهيوني إلى شرعية مستمدة من بنية استعمارية دولية ترى في إسرائيل امتدادًا لمشروع الهيمنة الغربي، الهادف إلى إعادة تشكيل العالم وفق مصالحه الخاصة. هذه البنية تمنح إسرائيل حصانة سياسية وأخلاقية تتيح لها ممارسة العنف تحت مظلة “الاستثناء”، وهو ما رفضه مفكرون أفارقة بارزون، من بينهم “ديزموند توتو” Desmond Tutu، الذي رأى أنّ هناك تشابهًا بين الممارسات الإسرائيلية ونظام الفصل العنصري الذي عايشه في جنوب إفريقيا([8]).
هذا “الاستثناء” لا يُستخدم فقط لتبرير الإبادة الجماعية في “غزة”، بل يُوظَّف أيضًا كمسوغ للاختراقات الناعمة في إفريقيا، عبر أدوات تنموية وأمنية تُعيد إنتاج أنماط السيطرة. ومن خلال تفكيك هذا المنطق خارج السياق الفلسطيني، يتضح حجم التواطؤ الدولي، وتُعاد صياغة الأسئلة الجوهرية حول العلاقة بين الجنوب العالمي والمنظومة الاستعمارية التي تواصل إعادة إنتاج ذاتها بأشكال جديدة وخطابات مموّهة تُخفي منطق الهيمنة.
فمنذ خمسينيات القرن العشرين، بدأت إسرائيل في بناء علاقات إستراتيجية مع دول إفريقية حديثة الاستقلال، مستغلة الفراغ التنموي والسياسي الذي خلَّفه الاستعمار الأوروبي. وقدَّمت نفسها كـ”نموذج تنموي غير استعماري”، رغم كونها كيانًا استيطانيًّا بامتياز.
- في الستينيات، أنشأت إسرائيل “وكالة التعاون الدولي” (MASHAV) لتقديم مساعدات تقنية وزراعية”([9]).
- في السبعينيات، توسعت في تدريب الجيوش الإفريقية، خاصةً في الأنظمة السلطوية([10]).
- بعد اتفاقيات أوسلو، عاد الزخم للعلاقات الإفريقية الإسرائيلية، مدعومًا بخطاب “السلام والتنمية”([11]).
هذا التاريخ يُظهر كيف تحوَّلت إفريقيا إلى منصة لتجريب أدوات السيطرة الصهيونية خارج فلسطين، تحت غطاء الشراكة.
كما تتعدد أدوات الاختراق الصهيوني في إفريقيا؛ بهدف اختراق النُّخَب الفكرية وإعادة صياغة الصورة الذهنية بما يتماشى مع الرواية الصهيونية. فالإعلام بدوره يُستثمر عبر شراكات مع مؤسسات محلية ودعم منصات رقمية، لترويج السردية الإسرائيلية وتشويه القضية الفلسطينية في الإدراك العام الإفريقي. أما في المجال الديني، فتُدعم الكنائس ذات التوجهات الصهيونية ويُخترق الخطاب اللاهوتي، في محاولة لبناء شرعية دينية تُبرر التطبيع وتُعيد تعريف العدو على أُسُس عقائدية.
هذه الأدوات لا تعمل بشكل منفصل، بل تتكامل لتشكيل شبكة تأثير تُعيد تعريف مفاهيم مثل “العدو” و”التحالف”، وتُعيد تشكيل الرؤية الإفريقية بما يخدم المشروع الصهيوني ويُرسّخ حضوره في الجنوب العالمي.
إعادة إنتاج الشرعية الزائفة عبر تبنّي النُّخَب الإفريقية للخطاب الإسرائيلي:
شهدت الساحة الإفريقية تبنّيًا متزايدًا للخطاب الإسرائيلي مِن قِبَل بعض النُّخَب السياسية والإعلامية والأكاديمية؛ حيث أُعيد إنتاج هذا الخطاب في سياقات محلية تُكرّس شرعية ضمنية وتُعيد توظيفها بما يخدم مصالح داخلية. في هذا الإطار، يتم تصوير إسرائيل على أنها “نموذج حداثي” و”شريك تنموي”، في حين تُهمَّش القضية الفلسطينية أو تُختزل في خطاب إنساني منزوع الطابع السياسي، ما يُفرغها من مضمونها التحرُّري ويُعيد تأطيرها كأزمة إنسانية عابرة. وقد رصدت دراسة صادرة عن “المعهد العابر للحدود الوطنية” Transnational Institute هذا التحوُّل، مشيرة إلى أن إسرائيل نجحت في بناء علاقات دبلوماسية مع 44 دولة إفريقية، مما أدَّى إلى تآكل المبادئ التاريخية للتضامن الإفريقي مع فلسطين، وإلى إعادة تشكيل المواقف الرسمية والشعبية تجاه القضية ضمن منطق براجماتي جديد يتجاوز جذور النضال التحرري([12]).
في المقابل، عمدت بعض الأنظمة الإفريقية إلى توظيف علاقتها مع إسرائيل كأداة إستراتيجية للحصول على دعم غربي، أو لتبرير سياسات القمع الداخلي تحت مظلة “مكافحة الإرهاب”، مستفيدة من الخبرات الأمنية الإسرائيلية ومن موقع إسرائيل المتقدّم في الخطاب الدولي حول الأمن العالمي. هذا التوظيف لا يعكس فقط اختراقًا خارجيًّا، بل يكشف عن تحوُّل بعض النُّخَب الإفريقية إلى شركاء فعليين في إعادة إنتاج المنظومة الصهيونية داخل السياق الإفريقي، بما يستدعي مُساءَلة نقدية حول طبيعة هذا التواطؤ وحدود استقلالية القرار الإفريقي في ظل منظومة استعمارية تتجدد عبر أدوات ناعمة وخطابات مموّهة.
وقد رصدت دراسة صادرة عن معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (INSS) هذا الاتجاه، مشيرة إلى أن دولًا مثل “كينيا”، و”رواندا”، و”نيجيريا”، و”تشاد” حافظت على علاقات أمنية نَشِطَة مع إسرائيل خلال حرب “غزة”، بل امتنعت بعضها عن التصويت على قرارات أممية تدين العدوان، مما يعكس اصطفافًا ضمنيًّا مع الرواية الإسرائيلية تحت ذرائع أمنية وتنموية([13]).
غزة كمرآة مفاهيمية تُعيد قراءة التواطؤ الدولي في إفريقيا:
إنّ ما حدث في “غزة” لا يمكن اختزاله في كونه عدوانًا عسكريًّا فحسب، بل يُمثِّل نمطًا ممنهجًا من الإبادة الجماعية التي تستهدف الإنسان، والأرض، والذاكرة. فالقصف المتواصل، واستهداف المدنيين، وتدمير البنية التحتية، وقطع الإمدادات الأساسية، كلها تُجسِّد عناصر جريمة الإبادة بحسب اتفاقية الأمم المتحدة لمنع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948م، والتي تُعرّف الإبادة بأنها: “أيّ فِعْل يُرتَكب بقصد التدمير الكُلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، بما في ذلك قتل أفراد الجماعة، أو إلحاق أذًى جسدي أو عقلي جسيم بهم، أو إخضاعهم عمدًا لظروف معيشية يُراد بها تدميرهم الفعلي”([14]).
وبهذا المعنى، فإن ما جرى في غزة يتجاوز منطق الحرب التقليدية، ليكشف عن بنية عنف استثنائي تُمارَس تحت غطاء أمني وسياسي، وتُعيد إنتاج منطق الإبادة في سياق معاصر، يُضْفِي شَرْعية عبر أدوات القانون الدولي ذاتها التي وُجِدَتْ لمنعه.
ومع ذلك، فإن الرد الدولي اتسم بالصمت، أو التبرير، أو التواطؤ، مما يكشف عن منظومة استعمارية تمنح إسرائيل حصانة سياسية وأخلاقية.
هذا التواطؤ لا يُفهَم فقط كفشل أخلاقي، بل كإعادة إنتاج لمنطق السيطرة الذي يُمارس أيضًا في إفريقيا، ولكن بأدوات ناعمة.
وتُظهر ازدواجية المعايير في الخطاب الحقوقي الدولي أن هذا الخطاب لا يتحرك وفق مبادئ إنسانية ثابتة، بل يُعاد تشكيله وفقًا للمصالح السياسية للقوى المهيمنة. ففي حالة “غزة”، يُبرّر القصف تحت ذريعة “حق إسرائيل في الدفاع عن النفس”، ما يؤدي إلى تكريس الإبادة الجماعية عبر خطاب أمني يُعيد تعريف الضحية والجاني. أما في “أوكرانيا”، فيُمْنَح خطاب المقاومة شرعية كاملة، وتُدان “روسيا” بشكل صريح، مما يكشف عن تسييس واضح لمفهوم حقوق الإنسان بحسب موقع الأطراف في خارطة التحالفات الدولية.
في المقابل، تُواجه الأزمات الإفريقية، مثل تلك التي تحدث في “السودان” و”الكونغو”، بصمت دولي أو تدخل انتقائي لا يُعالج جذور الأزمة، بل يُوظّف عند الحاجة لخدمة أجندات خارجية. هذا التفاوت في المواقف يُبرز أن إفريقيا تُهمَّش في الخطاب الحقوقي العالمي، إلا في حالة استدعائها كأداة ضغط أو ميدان نفوذ. ومن هنا، يتضح أن الخطاب الحقوقي الدولي ليس محايدًا، بل يُستخدَم لتبرير العنف حين تكون إسرائيل الطرف المعتدي، ويُغَضّ الطرف عن المآسي الإفريقية، مما يستدعي تفكيكًا نقديًّا لمنظومة الشرعية الدولية وآلياتها الانتقائية.
وتكشف إبادة غزة عن بنية استعمارية عالمية لا ترى في شعوب الجنوب العالمي سوى كيانات قابلة للإبادة أو التطويع، وفق منطق الهيمنة الذي يُعيد إنتاج نفسه بأدوات مختلفة. في هذا السياق، يصبح الربط بين فلسطين وإفريقيا ضرورة تتجاوز البُعْد السياسي، لتأخذ طابعًا مفاهيميًّا وتحرريًّا، يُعيد التفكير في طبيعة الاستعمار الجديد وآلياته الرمزية والمادية. فالنضالات في “غزة”، و”الكونغو”، و”السودان”، وغيرها من ساحات الجنوب، ليست معزولة، بل تتقاطع في مواجهة منظومة عالمية تُعيد إنتاج العنف تحت شعارات الأمن والتنمية. ولبناء سردية جنوبية مضادة يتطلب منا تفكيك هذا التواطؤ الدولي، وربط هذه النضالات ضمن مشروع نقدي واحد، يُعيد الاعتبار للجنوب كفاعل تاريخي، لا كموضوع للاستغلال أو التهميش.
خارطة المواقف الإفريقية من العدوان الإسرائيلي على غزة:
جنوب إفريقيا:
رغم تغلغل النفوذ الصهيوني في القارة الإفريقية؛ برزت جنوب إفريقيا كأحد أبرز المدافعين عن القضية الفلسطينية؛ حيث اتخذت موقفًا قانونيًّا صارمًا بتقديم دعوى رسمية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، متهمةً إياها بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين. هذا الموقف يعكس امتدادًا تاريخيًّا لوعي جنوب إفريقيا المناهض للتمييز العنصري، ويؤكد التزامها الأخلاقي بالقضايا التحررية([15]).
الجزائر وسيراليون:
دعم دبلوماسي وإنساني متماسك؛ “الجزائر” عبّرت عن إدانتها الشديدة للعدوان الإسرائيلي، وساندت الجهود الدولية لوقف إطلاق النار؛ من خلال تصويتها لصالح القرارات ذات الصلة في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة. أما “سيراليون”، فقد أظهرت دعمًا واضحًا لوقف الحرب، وصوّتت لصالح قرار مجلس الأمن الصادر في مارس 2024، الذي دعا إلى إنهاء العمليات العسكرية في “غزة”، ما يعكس انحيازًا إنسانيًا واضحًا.([16])
الجابون وموزمبيق:
تأييد مشروع القرار الروسي؛ حيث انضمت كلّ من “الجابون” و”موزمبيق” إلى الموقف الداعم لوقف العدوان، فقد أيدتا مشروع القرار الروسي في مجلس الأمن، والذي طالب بوقف الحرب على “غزة”. هذا التأييد يعكس رغبة بعض الدول الإفريقية في تبنّي مواقف مستقلة عن الهيمنة الغربية، والانحياز إلى خطاب دولي بديل([17]).
الاتحاد الإفريقي:
عبّر الاتحاد الإفريقي عن موقف جماعي داعم لفلسطين؛ إذ أصدر بيانًا مشتركًا مع “جامعة الدول العربية” يدعو إلى وقف العدوان الإسرائيلي، كما أعلن رفضه مَنْح إسرائيل صفة مراقب في الاتحاد “حتى إشعار آخر”، في خطوة تعكس تضامنًا سياسيًّا ومؤسسيًّا مع القضية الفلسطينية، وتؤكد حضور الوعي المناهض للاستعمار في البنية التنظيمية الإفريقية([18]).
الدول الإفريقية المؤيدة لإسرائيل:
في ظل التباين والتذبذب في بعض المواقف؛ اتخذت “رواندا” موقفًا رسميًّا داعمًا لإسرائيل خلال الحرب؛ حيث عبَّرت عن تأييدها للخطاب الإسرائيلي في المحافل الدولية، ما أثار انتقادات من بعض الدول الإفريقية الأخرى. أما “زامبيا”، فقد أظهرت تفهُّمًا لموقف إسرائيل في بداية الحرب، متجنبةً الإدانة المباشرة، لكنها عادت لاحقًا لتُصوِّت لصالح قرارات وقف إطلاق النار، في محاولة للتوازن بين المواقف الدولية المتباينة. كذلك تبنّت “جمهورية الكونغو الديمقراطية” خطابًا متقاربًا مع الرواية الإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بحق الدفاع عن النفس. وفي السياق ذاته، أبدت “كينيا” انحيازًا واضحًا لإسرائيل في بداية الحرب؛ إذ عبّر رئيسها “وليام روتو” عن دعمه العلني لها، بينما رفض سفير “كينيا” في الأمم المتحدة الاعتراف بوجود احتلال إسرائيلي، برغم أن “كينيا” صوتت لاحقًا لصالح وقف إطلاق النار، ما يعكس تذبذبًا في الموقف الرسمي بين الدعم السياسي والمواقف الإنسانية([19]).
الصمت والحياد:
نظرًا لوجود حسابات اقتصادية ودبلوماسية فضلت بعض الدول الإفريقية الصمت أو الحياد، نتيجة علاقاتها المتنامية مع إسرائيل في مجالات التكنولوجيا والزراعة والطاقة، أو بسبب ضغوط دبلوماسية متبادلة. هذا الحياد لا يعكس بالضرورة غياب الموقف، بل يُعبِّر عن تعقيدات المصالح المتشابكة في العلاقات الدولية الإفريقية.
الوعي الشعبي الإفريقي:
برزت مقاومة رمزية للهيمنة رغم محاولات إسرائيل توسيع نفوذها في إفريقيا، فلا تزال نزعة مناهضة الاستعمار حاضرة في الوعي السياسي الإفريقي، ما يدفع كثيرًا من الدول إلى دعم الحقوق الفلسطينية. المواقف الرسمية لا تعكس دائمًا الرأي العام؛ إذ شهدت مدن مثل “نيروبي” (كينيا) مظاهرات وجداريات فنية داعمة لفلسطين، ما ضغط على الحكومات لتعديل مواقفها، ولو جزئيًا([20]).
مصر:
اتخذت مصر موقفًا واضحًا في حرب غزة من خلال وساطة حذرة وموقف مبدئي، يتمثل في دعم القضية الفلسطينية، والسعي لوقف إطلاق النار، دون تصعيد سياسي مباشر ضد إسرائيل. فقد دعت إلى وقف فوري للعدوان، وسعت دبلوماسيًّا عبر الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي لتحقيق ذلك. كما لعبت دورًا محوريًّا في التفاوض لفتح معبر رفح لإدخال المساعدات الإنسانية، ورفضت بشكل قاطع أيّ محاولة لتهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء، معتبرةً ذلك “خطًا أحمر” يمسّ الأمن القومي المصري. فحافظت بذلك على لهجة دبلوماسية حذرة، تدين العدوان وتدعو للحل السياسي، دون الدخول في مواجهة مباشرة.
خاتمة:
يكشف هذا المقال أن الفكر الصهيوني لا يُختزل في مشروع استيطاني داخل فلسطين، بل يُعاد إنتاجه في إفريقيا عبر أدوات ناعمة تُخفي منطق السيطرة خلف شعارات التنمية والتعاون.
ومن خلال تحليل العلاقة بين إبادة غزة والتواطؤ الدولي؛ يتضح أن البنية الاستعمارية العالمية لا تزال فاعلة، وتمنح إسرائيل حصانة سياسية وأخلاقية، تُشرعن القتل في فلسطين، وتُسوّق الاختراق في إفريقيا.
لقد أظهر المقال أن إفريقيا ليست فقط ضحية لهذا الفكر، بل أيضًا أصبحت حقلًا تجريبيًّا لإعادة إنتاجه؛ حيث تُستخدم النُّخَب، والمؤسسات، والخطاب التنموي لتطويع الوعي الإفريقي، وإعادة تشكيل العلاقة مع إسرائيل على أُسُس تخدم منطق الهيمنة. وفي هذا السياق، فإن إبادة غزة تُعدّ مرآة تكشف عن عمق التواطؤ، وتُعيد مساءلة موقع إفريقيا في المنظومة الدولية.
إن الربط بين فلسطين وإفريقيا لا يُعدّ ترفًا نظريًّا، بل ضرورة تحررية، تستدعي بناء سردية جنوبية مضادة، تُعيد الاعتبار للنضال المشترك ضد الاستعمار الجديد، وتُفكّك أدوات السيطرة المفاهيمية والسياسية. ومن هنا، فإننا ندعو إلى مساءلة النخب المتواطئة، وتطوير بدائل معرفية تُعيد تموضع إفريقيا كفاعل تحرري، لا كحقل تجريبي للفكر الصهيوني.
………………………………..
([1]) إدوارد سعيد، الاستشراق، ترجمة كمال أبو ديب (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1981)، ص. ص 7–10.
([2]) Kimhi, Ayal. “Revitalising and modernising smallholder agriculture: The Aldeia Nova Project in Angola.” Development Southern Africa 27.3 (2010): p. 382.
([3]) أحمد كامل، “آلة النهب تشعل إفريقيا… كيف تخدم صادرات إسرائيل العسكرية أنظمة القمع؟”، 15 يونيو 2024، على الرابط: https://url-shortener.me/5YY9
([4]) ثريا دادو، “في إفريقيا، برامج التجسّس الإلكترونية عماد الدبلوماسية الإسرائيلية”، 3 نوفمبر 2022، على الرابط: https://orientxxi.info/magazine/article5988
([5]) عبد القادر محمد علي، إستراتيجية العودة الإسرائيلية إلى إفريقيا.. الدوافع والأدوات، 19 فبراير 2024، على الرابط: http://bit.ly/4n1DC74
([6]) عبد الغني سلامة، إسرائيل على الجبهة الإفريقية: دراسة في العلاقات الإسرائيلية–الإفريقية، على الرابط: https://url-shortener.me/6YXI
([7]) عمر متولي الخياط، الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه إفريقيا: الأهداف والأدوات والنتائج (1991–2019)، على الرابط: https://democraticac.de/?p=83864
([8]) Desmond Tutu, Apartheid in the Holy Land, at: https://www.theguardian.com/world/2002/apr/29/comment
([9]) Look At: https://mashav.mfa.gov.il/
([10]) حسن العاصي، الجيوش الإفريقية في العهدة الإسرائيلية، 15 سبتمبر 2020، على الرابط: https://bit.ly/4qn88LB
([11]) عبد العزيز أبو بكر، إفريقيا تحت الأضواء.. تمدد إسرائيلي بعد تضامن تاريخي مع فلسطين، 10 أكتوبر 2025، على الرابط: http://bit.ly/3KGD3SF
([12]) Kribsoo Diallo. “African Attitudes to, and Solidarity with, Palestine.” Transnational Institute, July 26, 2024. At: https://www.tni.org/en/article/african-attitudes-to-and-solidarity-with-palestine
([13]) Lubotzky, Asher. “Africa and the War in Gaza: Analyzing Israel’s Current Standing and Future Prospects in Africa.” Institute for National Security Studies (INSS), January 2024. https://www.inss.org.il/strategic_assessment/africa-gaza/
([14]) United Nations. Convention on the Prevention and Punishment of the Crime of Genocide. Adopted December 9, 1948.
([15]) الأمم المتحدة، محكمة العدل الدولية تُصدر أمرًا بالوقف الفوري للهجوم العسكري الإسرائيلي على رفح، على الرابط: https://news.un.org/ar/story/2024/05/1131231
([16]) الأمم المتحدة، مجلس الأمن يعتمد قرارًا يطالب بوقف إطلاق النار في غزة خلال رمضان، على الرابط: https://news.un.org/ar/story/2024/03/1129546
([17]) الأمم المتحدة، مشروع قرار روسي حول غزة وإسرائيل يفشل في الحصول على الأغلبية المطلوبة بمجلس الأمن، على الرابط: https://news.un.org/ar/story/2023/10/1124947
([18]) African Union, Communiqué of the Chairperson of the AUC regarding the Israeli-Palestinian war, 7 oct. 2023, At: https://au.int/en/pressreleases/20231007/communique-chairperson-regarding-israeli-palestinian-war
([19]) نجلاء مرعي، تداعيات حرب غزة على النفوذ الإسرائيلي في إفريقيا، 26 أغسطس 2024، على الرابط: http://bit.ly/4mVuD79
([20]) عبد الرحمن أبو العلا، مظاهرة حاشدة في كينيا رفضًا للحرب الإسرائيلية على غزة، 22 سبتمبر 2025، على الرابط: http://bit.ly/46Lvbb3











































