منذ توقُّف الحرب الباردة، اكتسب تقديم المساعدات الأمنية إلى إفريقيا أهميةً كبيرةً، بالنظر إلى أن القارة برزت باعتبارها المنطقة الأكثر اضطرابًا على مستوى العالم.
تأتي هذه الدراسة لتُحدِّد إطارًا تحليليًّا يهدف إلى الفحص الشامل للعوامل الأساسية والآثار المرتبطة بالمساعدات الأمنية الموجهة نحو إفريقيا. وعلى الرغم من أن الدراسات السابقة قد أهملت في الغالب جانب المصالح العامة للمساعدات الأمنية، فإننا نؤكد على أهمية هذا البُعْد في فَهْم المساعدات الأمنية التي تُقدّمها القوى الكبرى لإفريقيا، لا سيما في إطار التنافس الجيوسياسي.
ومن خلال تحليل شامل لمبادرات المساعدات الأمنية التي اتخذتها القوى الكبرى داخل إفريقيا، يؤكد هذا البحث أن جهود المساعدات السابقة كانت مُصمَّمة في المقام الأول لإبراز واجهة الشرعية مع حَجْب التطلعات الجيوسياسية الحقيقية من خلال التركيز على خصائص المصالح العامة.
وباعتبارها منطقة متلقّية نموذجية داخل إفريقيا، تُجسِّد منطقة الساحل كيف أدَّت المنافسات الجيوسياسية بين القوى الكبرى، التي تجلَّت من خلال المساعدات الأمنية، إلى معضلات أمنية عميقة وتحديات إضافية. وبالتالي، توجد ضرورة مُلِحَّة لتعزيز التركيز على المساعدات الأمنية وتنميتها كمصلحة عامة من أجل منع بدء حرب باردة جديدة.
مقدمة:
في السنوات الأخيرة، شاركت مجموعة متزايدة من الجهات الفاعلة في تقديم المساعدات الأمنية للقارة الإفريقية؛ فهناك مشاركة واسعة من القوى الكبرى مثل “الولايات المتحدة”، و”فرنسا”، و”المملكة المتحدة”، و”روسيا”، و”الصين”، إلى جانب دول ناشئة أخرى؛ مثل “الهند”، و”البرازيل”، و”تركيا”، ودول الخليج.
وقد سهَّلت “فرنسا” و”بريطانيا” و”الولايات المتحدة” مبادرات مكافحة الإرهاب والتمرد داخل إفريقيا من خلال التعليم والتدريب العسكري، وإصلاح القطاع الأمني، وتعزيز قدرات حفظ السلام، وصفقات الأسلحة. في حين استفادت “روسيا” بشكل متزايد من “شركة فاجنر العسكرية الخاصة” (PMC)، التي يشار إليها الآن باسم “فيلق إفريقيا” Africa Corps، لمزيد من الانخراط في إفريقيا. وأرسلت “الصين” أكثر من 2000 جندي من قوات حفظ السلام إلى مختلف الدول الإفريقية، بما في ذلك “جمهورية الكونغو الديمقراطية” و”جمهورية إفريقيا الوسطى” و”مالي” و”السودان” و”جنوب السودان” كجزء من بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. علاوة على ذلك، تشارك “تركيا” والعديد من دول الخليج، ولا سيما “الإمارات العربية المتحدة” و”قطر”، بنشاط في ديناميكيات الأمن الإقليمي في القرن الإفريقي.
وعلى جانب آخر، تضطلع الكيانات الدولية، بما في ذلك “الأمم المتحدة” و”الاتحاد الأوروبي”، بدور محوري متزايد في تقديم المساعدات الأمنية للقارة الإفريقية؛ على سبيل المثال، قدَّمت “الأمم المتحدة” دعمًا أمنيًّا كبيرًا، يشمل حماية المدنيين، في نطاق بعثاتها لحفظ السلام داخل إفريقيا. وتأتي مساهمة “الاتحاد الأوروبي” في الأمن الإفريقي في المقام الأول من خلال تخصيص قدر كبير من الموارد المالية.
ومع ذلك، وعلى الرغم من هذه الجهود، تستمر القوى التقليدية مثل “الولايات المتحدة” و”فرنسا” و”روسيا” في ممارسة تأثير مهيمن على مجال المساعدات الأمنية لإفريقيا. لذا يجب تحليل خصائص المساعدات الأمنية والتدقيق في الدوافع الكامنة وراء المجموعة المتنامية من القوى العالمية الكبرى المنخرطة في تقديم المساعدات الأمنية لإفريقيا. وسعيًا لتحقيق هذا الهدف، يقترح هذا البحث إطارًا تحليليًّا شاملًا لفهم المساعدات الأمنية والتحقيق في الآثار المحتملة التي قد تُولّدها هذه المساعدات، بما في ذلك المخاوف المتعلقة بالتزاحم على تقديم هذه المساعدات وظهور حرب باردة جديدة.
وتُعدّ منطقة الساحل من أخطر المناطق في إفريقيا، فهي “بؤرة” الإرهاب عالميًّا. وتتفاوت درجات هشاشة دول هذه المنطقة؛ نظرًا لافتقارها إلى حوكمة فعَّالة على أراضيها الشاسعة، ما يجعلها مصدرًا رئيسيًّا للمساعدات الأمنية الدولية. لذا، تُعدّ منطقة الساحل مُهيَّأة تمامًا لتكون بمثابة دراسة حالة لدوافع وتأثير المساعدات الأمنية في إفريقيا. ويجادل البعض بأن المساعدات الأمنية التي تُقدّمها القوى الكبرى لإفريقيا هي مزيج من المصالح العامة والاعتبارات الجيوسياسية. وغالبًا ما تُخفي المساعدات الأمنية التي تُقدّمها القوى الكبرى لإفريقيا أغراضها الجيوسياسية الفعلية تحت ستار المصالح العامة.
ويُسلّط الإطار التحليلي هنا النقاش الأوسع حول إمكانية أن تُشعل المنافسة الجيوسياسية حربًا باردة جديدة؛ نظرًا لأن التنافس الجيوسياسي قد يكون دافعًا رئيسيًّا للمساعدات الأمنية في إفريقيا؛ حيث يقدّم رؤًى مهمة حول سلوك القوى الكبرى في الصراع الروسي الأوكراني الحالي، والحروب التجارية، والتنافس التكنولوجي.
المصالح العامة أم الاعتبارات الجيوسياسية: ما هي طبيعة المساعدات الأمنية؟
منذ نهاية الحرب الباردة، كان هناك طفرة في المساعدات الأمنية في جميع أنحاء العالم، وخاصةً في إفريقيا. وبوجه عام، تشمل المساعدات الأمنية الجهود الرامية إلى تحسين قدرة الشريك على الحوكمة في مجالات السلام والأمن من خلال الدعم التشغيلي، وبناء القدرات، والمعدات والمساعدات التقنية، والدعم اللوجستي والمالي، ومراقبة تصدير الأسلحة وحتى تنسيق السياسة الخارجية، من بين أمور أخرى. وتُمثّل المساعدات الأمنية المعاصرة لإفريقيا مزيجًا من المساعدات العسكرية التقليدية والدعم المدني الناشئ حديثًا. ومع ذلك، يمثل هذا المزيج إلى حدّ كبير السعي لتحقيق المصالح الجيوسياسية تحت ستار المصالح العامة. ولكن ما هي طبيعة هذه المساعدات الأمنية؟ فيما يلي، نُقدّم السمتين اللتين تتسم بهما المساعدات الأمنية التي تقدمها القوى الكبرى لإفريقيا: (1) الاعتبارات الجيوسياسية (2) المصالح العامة.
1-الاعتبارات الجيوسياسية
بالنسبة للقوى الكبرى، تُعدّ المساعدات الأمنية في المقام الأول وسيلةً لتحقيق أهداف جيوسياسية؛ استجابةً لتطوُّر التهديدات الأمنية غير التقليدية. وتهدف المساعدات الأمنية التي تُقدّمها القوى الكبرى إلى تعزيز قدرات الحماية الذاتية للمستفيدين من خلال تقديم التدريب والمعدات والاستشارات للحلفاء أو الشركاء العسكريين، بهدف تقليص الوجود العسكري للمانحين على الحدود لتعظيم العوائد. وهكذا، حتى عند توسيع نطاقها ليشمل المجالات المدنية كالعدالة، وإنفاذ القانون، والرقابة، والمجتمع المدني، لا يزال يُنظَر إلى المساعدات الأمنية من منظور التعاون العسكري التقليدي.
ويرى بعض الباحثين أن المساعدات الأمنية تسعى في المقام الأول إلى تعزيز القوات المسلحة لحلفاء وشركاء أمريكا الإستراتيجيين. لذا، فبالنسبة للولايات المتحدة، تُعدّ المساعدات الأمنية مرادفةً بشكل رئيسي للمساعدات العسكرية، وكثيرًا ما يتم استخدام هذين المصطلحين بالتبادل. تمثل المساعدات الأمنية خيارًا أكثر دقة وفعالية من حيث التكلفة مقارنة بالمساعدات العسكرية، لا سيما في ضوء النفقات المتصاعدة وتراجع الدعم الشعبي المرتبط بالتدخل العسكري المباشر.
وفي الوقت نفسه، تُعتبر المساعدات الأمنية أداةً حاسمةً لتعزيز قدرة الحوكمة في الدول الضعيفة. وقد سلّطت هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية عام 2001م الضوء على الطبيعة المترابطة للأمن العالمي. وقد يُنظَر إلى الدول الضعيفة ذات القدرة الأقل على حوكمة الأمن على أنها تهديدات كبيرة للآخرين نظرًا لعجزها عن قمع التمردات المسلحة أو حماية أراضيها. لذلك، ولتعزيز قدرة قوات الأمن الوطنية في الدول الضعيفة على حماية السيادة والمواطنين، ينبغي للجهات الخارجية ذات المصالح الحيوية أن تقدّم مساعدة أمنية أكثر قوة، لا سيما تلك التي تتمتع بقدرات عسكرية ومالية كبيرة. وتشير المساعدات الأمنية إلى سلسلة من الأنشطة التي تقوم بها الجهات الخارجية لتجهيز وتدريب قوات الأمن في الدول الضعيفة، بهدف تعزيز قدراتها وتحسين احترافيتها. وبطبيعة الحال، توفر هذه المساعدات عادةً كلًّا من التدريب والمعدات، مثل الأسلحة الأكثر تطورًا وموثوقية، بالإضافة إلى الدعم اللوجستي، بما في ذلك الخدمات الطبية والاتصالات والاستطلاع.
وعلاوة على ذلك، تمثل المساعدات الأمنية آليةً لا غِنَى عنها للدول المانحة للتأثير على الأُطُر المفاهيمية والهياكل المؤسسية للحوكمة الأمنية داخل الدول المتلقية. في حين يميل عدد كبير من الباحثين إلى تفسير المساعدات الأمنية بطريقة محدودة، ويذهب آخرون إلى فَهْمها في إطار شامل، لا يشمل فقط زيادة القدرات التشغيلية لقطاع الأمن في الدول المتلقية، ولكن أيضًا تسهيل تقدّمها نحو حوكمة أمنية مُعزّزة وفقًا للمعايير الدولية المعمول بها. وبالنظر إلى أن قوات الأمن الخاضعة للمساءلة تمتلك القدرة على تعزيز الأمن والاستقرار الدائمين داخل أيّ دولة، وبالتالي إرساء الأساس للتنمية المؤسسية المستدامة، فمن الضروري أن تسعى المساعدات الأمنية إلى مساعدة البلدان المتلقية في تشكيل قوات أمنية مسؤولة وشفَّافة ومنفتحة قادرة على تقديم المصالح العامة بشكل فعَّال للأمن الداخلي.
وتمثل المساعدات الأمنية آلية حاسمة للمانحين لإقامة علاقات دائمة مع المستفيدين، وكذلك الإطار الإقليمي ذي الصلة. ويؤكد التصور الإستراتيجي للمساعدات الأمنية الفكرة القائلة بأنه لا ينبغي النظر إليها على أنها مجرد أداة لتحقيق الأهداف الإستراتيجية والمصالح الوطنية؛ فهي تتجاوز مجرد السياسات التكنولوجية، فهي تجسيد لممارسة دولية تهدف إلى تعزيز نظامٍ مُحدد في عالمٍ فوضوي. وفي جوهرها، تشمل المساعدات الأمنية مجموعة من الإستراتيجيات التنافسية أو التعاونية الموجهة نحو مجموعة متنوعة من الأهداف؛ وفي مقدمة هذه الأهداف ضرورة إعادة تنظيم المنطقة المضطربة من أجل حماية الأهداف الإستراتيجية والمصالح الوطنية للمانحين على المدى الطويل.
2-المصالح العامة
بالإضافة إلى الاعتبارات الجيوسياسية، تُعتبر المساعدات الأمنية أيضًا مصلحة عامة دولية مهمة. وتتمتع المساعدات الأمنية بالسمات الأساسية للمصالح العامة الدولية المعيارية. فمن ناحية، قد يكون للتحدّي الأمني الذي تواجهه أيّ دولة أو منطقة آثار جانبية، وينطبق الأمر نفسه على المساعدات الأمنية؛ إذ صُمِّمت لتحسين قدرة المتلقي على حوكمة الأمن. وبغض النظر عن النتيجة، فقد يكون للمساعدات الأمنية آثار غير تنافسية وغير قابلة للاستبعاد على الدول الأخرى، بل وحتى على الأجيال القادمة، وهي السمات الأساسية للمصالح العامة الدولية. ومن ناحية أخرى، تتوافق الوظائف المحددة للمساعدات الأمنية، وهي تخفيف الأضرار، وتحسين الكفاءة، وبناء القدرات، مع السمات الأساسية للمصالح العامة الدولية.
ونظرًا لخطورة التحديات الأمنية التي تواجهها الدول الضعيفة؛ فإن الهدف الأدنى للمساعدات الأمنية هو تخفيف الأضرار، ومنع النزاعات وتصاعدها؛ إلا أن هدفها الأمثل هو تحسين قدرة الحوكمة الأمنية، وتعزيز السلام والتنمية المستدامين في الدول الضعيفة. ويلعب بناء القدرات دورًا محوريًّا في تحقيق أهداف تخفيف الأضرار أو تحسين الكفاءة. ومع ذلك، فإن الاكتفاء بهذه السمات الأساسية وحده لا يكفي لمعالجة المخاوف الجيوسياسية بشكل كامل ولا يُضْفِي الشرعية. لذا، ثمة ضرورة لوسائل إضافية لتعزيز دور المساعدات الأمنية كخدمة عامة.
أولًا: يشكل الدعم المدني عنصرًا أساسيًّا في المساعدات الأمنية، مما يقلّل بشكل كبير من نسبة المساعدات العسكرية، ويُخفّف بشكلٍ فعَّال من المخاوف الجيوسياسية ويُعزّز سمة المصالح العامة للمصالح الأمنية. ومع انتشار التحديات الأمنية غير التقليدية بعد نهاية الحرب الباردة، سرعان ما أصبحت معالجة التحديات الأمنية غير العسكرية المهمة الأساسية لحوكمة الأمن على الصعيدين المحلي والدولي. فعلى سبيل المثال، أقرت إفريقيا بأن العنف غير الهيكلي قد ظهر باعتباره التحدي الأمني الرئيسي للقارة بأكملها والبلدان الفردية، وأصبح إنشاء نظام إنذار مبكر للصراعات القارية والقضاء على الأسلحة الصغيرة والأسلحة الخفيفة في جميع أنحاء القارة من المهام ذات الأولوية لحوكمة الأمن. في عام 2021م، وأصدر الأمين العام للأمم المتحدة، “أنطونيو جوتيريش” António Guterres، “أجندتنا المشتركة” Our Common Agenda لمعالجة التهديدات العالمية من خلال التضامن العالمي.
ومن بين الالتزامات الاثني عشر: يُعدّ بناء أجندة جديدة للسلام ذا أهمية حاسمة. ويُحدّد الأمين العام ستة أهداف رئيسية لأجندة السلام الجديدة، بما في ذلك الحد من المخاطر الإستراتيجية (مثل الأسلحة النووية والحرب السيبرانية والأسلحة ذاتية التشغيل)؛ وتعزيز الاستشراف الدولي؛ وإعادة تشكيل الاستجابات لجميع أشكال العنف؛ والاستثمار في الوقاية وبناء السلام، بما في ذلك صناديق بناء السلام ولجنة بناء السلام؛ ودعم الوقاية الإقليمية؛ ووضع النساء والفتيات في صميم السياسة الأمنية.
وفي عام 2024م، اعتمدت قمة الأمم المتحدة للمستقبل ميثاق المستقبل، الذي يقترح 15 خطة عمل للسلام والأمن الدوليين. من بين الأهداف المذكورة أعلاه، كاد الصراع العسكري التقليدي أن يتلاشى تقريبًا، مما يُبرز عالمية وشدة وإلحاح التحديات الأمنية غير التقليدية. يعني ذلك أن إدراج الدعم المدني في المساعدات الأمنية لا يمكن أن يقلل فقط من نسبة المساعدات العسكرية التقليدية من حيث حصة الميزانية والأهمية الإستراتيجية، بل يساعد أيضًا في احتلال مكانة أخلاقية لإخفاء المخاوف الجيوسياسية الكامنة وراءها.
ثانيًا: بما أن الدعم المدني لا يوفر غطاءً شاملًا للمساعدات العسكرية، فإن نهج إدارة العمليات يُسهّل تعزيز سمة المصالح العامة من خلال دمج المساعدات العسكرية والمدنية. ورغم اختلافات المكان والزمان، يُتيح هذا النهج تغطيةً شاملةً لإدارة الصراعات وتحقيق الاستقرار وحوكمة الأمن في زمن السلم. وتُعدّ إدارة الصراعات أمرًا بالغ الأهمية لمنع التصعيد وتخفيف الأضرار أثناء الصراع، بينما تهدف حوكمة الأمن في زمن السلم إلى تعزيز السلام المستدام وإرساء أسس التنمية المستدامة. ويُعدّ الاستقرار مرحلةً انتقاليةً بين إدارة الصراع وحوكمة الأمن في زمن السلم. وإدراكًا بأن النهج العسكري المُبسّط قد لا يكون فعالًا بما يكفي، يصبح من الضروري توجيه العمليات العسكرية بأساليب سياسية عليا أو تحقيق تنسيق سياسي وعسكري فعَّال لإعطاء الأولوية للسعي إلى الاستقرار على السلام، مما يُعزِّز في نهاية المطاف عملية استقرار لا رجعة فيها ويُحقّق تحولًا وسلامًا مستدامين. بمعنى آخر، يسعى الاستقرار إلى تحقيق هدف وسيط يزيد من فرص تحقيقه: ترتيب سياسي يسمح بإدارة نزاعات أكثر شمولًا وسلمية. من خلال الجمع بين المساعدات العسكرية والدعم المدني، يُحوّل نَهْج إدارة العمليات المساعدات الأمنية إلى أداة مزدوجة الغرض، لا تُخفي المخاوف الجيوسياسية من خلال كونها مزايا عامة فحسب، بل تُعزّز أيضًا المنافع الجيوسياسية تحت ستار تعزيز المصالح العامة.
السعي إلى الشرعية: تقديم المساعدات الأمنية لإفريقيا تحت مسمى المصالح العامة
وتُعدّ إفريقيا حاليًّا أكثر قارات العالم اضطرابًا وصراعًا؛ إذ تعاني من حروب أهلية في “إثيوبيا” و”السودان”، وتهديدات إرهابية في شرق إفريقيا والبحيرات العظمى ومنطقة الساحل، بالإضافة إلى صراعات بين المزارعين والرعاة واضطرابات اجتماعية من الشرق إلى الغرب. في الوقت نفسه، يُعطي التنافس الإستراتيجي المُشتدّ بين القوى الكبرى زخمًا كبيرًا للاستثمار في السلام والأمن الإفريقيين لأسباب مُختلفة؛ منها: مكافحة الإرهاب والتجارة والاستثمار واستخراج المعادن الأساسية للتصنيع اللاحق.
ولتقديم المساعدات الأمنية لإفريقيا، عادةً ما تستخدم القوى الكبرى إستراتيجيات شاملة لإثبات شرعية أنشطتها أو أفعالها. وإلى حدٍّ ما، تُشير الشرعية الدولية إلى “القبول الأخلاقي”؛ وهذا أمرٌ مهمٌّ للسمعة العالمية للقوى الكبرى، مما يعني أن سياساتها الخارجية وسلوكياتها الدولية يجب أن تكون مقبولة مِن قِبَل الدول الأخرى. فإذا كانت الدولة تمتلك القدرة على مراعاة المصالح العامة، فقد يتم أيضًا تعزيز مكانتها في الساحة الدولية. وبالتالي، فإن القوى الرئيسية التي تطمح إلى تحقيق الشرعية تؤكد في كثير من الأحيان على تقديم المساعدات الأمنية للقارة الإفريقية، وتقديمها بذريعة خدمة المصالح العامة.
على سبيل المثال، انخرطت “الولايات المتحدة” في “الحرب على الإرهاب” في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وكان تعزيز تنمية قدرات الدول الشريكة إحدى الركائز الأساسية لمساعداتها الأمنية الخارجية. ولتحقيق ذلك، ركَّزت الولايات المتحدة مساعداتها الأمنية على توفير المعدات والدعم الفني، بالإضافة إلى التدريب العسكري وتنمية القدرات، مما مكَّن الدول الشريكة من الحفاظ على الأمن العام بشكل أفضل، وردع الإرهاب، وتعزيز حقوق الإنسان وسيادة القانون. وعلى الرغم من أوجه القصور الواضحة المرتبطة بالمساعدات الأمنية الأمريكية فيما يتعلق بالقدرات الإستراتيجية والمؤسسية، على النحو الذي أبرزته الأمم المتحدة في تقييمها للجيش الليبي المعاد هيكلته، فقد بلغت نسبة كبيرة من المساعدات الأمنية الأمريكية ذروتها في وصف الجيش الليبي بأنه مُجهَّز جيدًا ومُدَرَّب، مما أدَّى في الوقت نفسه إلى زيادة قدراته العملياتية.
وخلال الحرب الباردة، إلى جانب الحوكمة السياسية والأيديولوجية الصارمة على الشركاء المحليين التابعين لهما، قدمت كل من “الولايات المتحدة” و”الاتحاد السوفييتي” مساعدات أمنية كبيرة، شملت في الغالب التدريب العسكري، وتعزيز القدرات، فضلًا عن التوفير المباشر للمعدات العسكرية والمساعدات الفنية. ومن الجدير بالذكر أن المساعدات الأمنية الموجهة إلى الدول النامية، لا سيما في إفريقيا، قد ساعدت على زيادة الوعي بين هذه الدول فيما يتعلق بمسؤولياتها الفردية عن السلام العالمي والتداعيات المحتملة لذلك. وقد ساعد هذا الدعم الإستراتيجي الكتلتين بشكل كبير في التعامل مع مواجهاتهما والتخفيف من انتشار الخلاف الداخلي بين الدول الأعضاء في كل تكتل. وفي نهاية المطاف، لعب هذا التدخل دورًا حاسمًا في تجنب بداية حرب عالمية أخرى.
ليست مجرد مصالح عامة: تقديم المساعدات الأمنية لإفريقيا لمواجهة المنافسة الجيوسياسية
على الرغم من التركيز على المصالح العامة المرتبطة بالسعي إلى الشرعية، لا يزال الهدف الأساسي للمساعدات الأمنية لإفريقيا مِن قِبَل القوى العالمية الكبرى هو التنافس الجيوسياسي. وكما ذُكِرَ سابقًا، تشمل المساعدات الأمنية كلًّا من الدعم العسكري التقليدي والمساعدات المدنية الجديدة، وكلاهما يهدف إلى حدّ كبير، إلى تعزيز الأهداف الجيوسياسية تحت ستار المصلحة العامة، والتوفيق في نهاية المطاف بين المساعدات الأمنية عبر هذين المجالين المتنازعين. لذلك، يمكننا تحديد ثلاث فئات من المساعدات الأمنية لإفريقيا: (1) نهج بقيادة عسكرية؛ (2) نهج بقيادة مدنية؛ (3) نهج شامل للمساعدات العسكرية والدعم المدني.
1-نهج بقيادة عسكرية
يُشكّل النهج العسكري الشكلَ الأكثر شيوعًا للمساعدات الأمنية التقليدية، كما هو الحال في “بريطانيا” و”فرنسا” و”روسيا”. ويُعدّ تقديم المساعدات الأمنية مِن قِبَل “بريطانيا” و”فرنسا” للقارة الإفريقية مرتبطًا بشكل معقّد بالتداعيات التاريخية للاستعمار. ومع ذلك، فإنهما يتبعان مسارات متباينة.
بالنسبة للمملكة المتحدة، يتم تقديم المساعدات الأمنية في كثير من الأحيان في سياق المساعدات الإنمائية، مما يدل على منهجية أكثر تماسكًا تدمج الدعم العسكري التقليدي مع المشاركة المدنية المتزايدة. يتم تلخيص هذا التوليف في إستراتيجية بناء الاستقرار، التي تتبنَّى نموذجًا فريدًا يتميز بالعلاقة المتبادلة بين “الدفاع – التنمية – الدبلوماسية – الشؤون الداخلية” (4Ds)، وعلى النقيض من ذلك، أنشأت حكومة المملكة المتحدة صندوق الصراع والاستقرار والأمن في عام 2015م كآلية موحدة لتمويل المساعدات الأمنية، بهدف تعزيز الفعالية التشغيلية من خلال دمج تدفقات التمويل المتباينة سابقًا؛ بين السنة المالية 2015/ 2016م والسنة المالية 2022/ 2023م، فخصَّصت المملكة المتحدة ما يقرب من 9 مليارات جنيه إسترليني للمساعدة الأمنية، مع ظهور جنوب آسيا وإفريقيا كمستفيدين رئيسيين.
إن الحفاظ على الأمن والمصالح الجيوسياسية الناشئة عن الفترة الاستعمارية أمر بالغ الأهمية للجمهورية الفرنسية. لذا فإن تقديم المساعدات الأمنية مِن قِبَل “فرنسا” مُوجَّه في الغالب إلى الأقاليم الاستعمارية السابقة الواقعة في إفريقيا. وقد تطوَّرت هذه المساعدات من خلال ثلاث مراحل متميزة: تقديم الدعم العسكري التقني من عام 1960م إلى عام 1996م، وتعزيز قدرات حفظ السلام الإفريقية من عام 1997م إلى عام 2012م، وظهور نموذج مكافحة الإرهاب ابتداء من عام 2013م.
وخلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، قامت فرنسا بإضفاء الطابع الرسمي على اتفاقيات الدفاع مع ثماني دول، والتي -على الرغم من تقادمها- لم يتم إلغاؤها، بل تمت مراجعتها وتحديثها في أوائل القرن الحادي والعشرين. وفي الوقت الحاضر، تحتفظ فرنسا بمنشأتين عسكريتين دائمتين في “جيبوتي” و”كوت ديفوار”، إلى جانب مركزين للتعاون الإقليمي في “الجابون” و”السنغال”، مما يُظْهِر قدراتها القوية في التدخل العسكري. على الرغم من أن “فرنسا” واجهت تحديات ناجمة عن الانقلابات في غرب إفريقيا منذ عام 2019م، إلا أنها لم تقم بعد بإعادة تقويم نهجها الإستراتيجي بشكل شامل ليتماشى مع المشهد الجيوسياسي المتطور.
وعلى عكس الجهود التي بذلها البريطانيون والفرنسيون للحفاظ على تراثهم الاستعماري، ارتبطت المساعدات الأمنية التي قدمتها روسيا لإفريقيا ارتباطًا جوهريًّا بمساعيها لاحتلال الفراغ الجيوسياسي الناجم عن الانسحاب الغربي وشراء الموارد من القارة الإفريقية. تجلت مظاهر المبادرات الروسية في إفريقيا في الغالب في علاقاتها الدفاعية والأمنية الرسمية المتنوعة مع مختلف الدول الإفريقية، والتي شملت اتفاقيات التعاون العسكري التقني، وصفقات الأسلحة، والتدريب العسكري والبرامج التعليمية، فضلًا عن تقديم الخدمات من قبل الشركات العسكرية الخاصة إلى الدول المتنازعة. في عام 2019م، قام الرئيس “بوتين” بإضفاء الطابع الرسمي على الاتفاقيات العسكرية مع أكثر من ثلاثين دولة إفريقية خلال القمة الروسية الإفريقية الافتتاحية. ومن عام 2018م إلى عام 2022م، استحوذت “روسيا” على أربعين بالمائة من مبيعات الأسلحة إلى إفريقيا، وبالتالي أثبتت نفسها كمورد رئيسي للأسلحة في القارة.
وفي السنوات الأخيرة، عزَّزت “روسيا” أيضًا وجودها في القارة من خلال عمليات “مجموعة فاجنر”، التي نفّذت غالبية أنشطتها بأقل تكلفة. وكمزوّد للمساعدة الأمنية، تُقدّم “فاجنر” عادةً الدعم للأنظمة العسكرية الإفريقية في مجالات مثل التدريب العسكري وأمن المواقع وحماية المسؤولين رفيعي المستوى. وفي عام 2018م، لعب “يفجيني بريجوزين” Yevgeniy Prigozhin، قائد “مجموعة فاجنر”، دورًا محوريًّا في تعزيز التعاون العسكري بين “روسيا” و”السودان”. علاوة على ذلك، وبمساعدة “شركة فاجنر”، زاحمت “روسيا” “فرنسا” كحليف أساسي في “جمهورية إفريقيا الوسطى”؛ ومن الأمثلة البارزة على ذلك مشاركة “بريجوزين” في مفاوضات السلام التي أُجريت في “السودان”.
وخلاصة القول: إن هذا النموذج التشغيلي الموجود خارج الولاية القضائية الروسية يجعل الشركات العسكرية الخاصة آلية أكثر كفاءة وقابلية للتكيُّف لتقديم المساعدات الأمنية لإفريقيا.
2-نهج يقوده المدنيون
يمثل النهج المدني، إلى حد كبير، مستقبل المساعدات الأمنية؛ حيث يمثل “الاتحاد الأوروبي” و”ألمانيا” هذا الجانب. وعلى الرغم من وصفه نفسه بأنه قوة معيارية، فإن “الاتحاد الأوروبي” يُعدّ جهة فاعلة بارزة للغاية في تقديم المساعدات الأمنية لإفريقيا. وللتغلُّب على عجزه في القدرات الدفاعية وليصبح “مُزود أمن عالمي موثوق”، بدأ “الاتحاد الأوروبي” بنشاط في تقديم المساعدات الأمنية في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مع التركيز بشكل أساسي على إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
في ضوء قدراته الدفاعية غير الكافية، يجب على “الاتحاد الأوروبي” أن يبدأ مساعيه بمساعدة مدنية والتقدم تدريجيًّا نحو الأهداف الجيوسياسية والعسكرية المحتملة؛ فحتى الآن، شهدت المساعدات الأمنية التي يُقدّمها “الاتحاد الأوروبي” ثلاث مراحل متميزة من التطور، تحدث بشكل متزامن تقريبًا مع التقلبات في الموارد المالية المتاحة. فبين عامي 2004 و2012م، خلال دورة التمويل الافتتاحية التي استمرت سبع سنوات بعد إنشاء “مرفق السلام الإفريقي” (APF)، ركز “الاتحاد الأوروبي” جهوده على عمليات دعم السلام في جميع أنحاء القارة الإفريقية. ثم، من عام 2013م إلى عام 2021م، خلال دورة التمويل الثانية الممتدة لسبع سنوات لـ”صندوق السلام الأوروبي”، كان بناء القدرات في مجال حوكمة الأمن الإفريقي هو المحور الأساسي. ومنذ أن بدأ “صندوق السلام الأوروبي” (EPF) عمله في مارس 2021م، دخل الاتحاد الأوروبي مرحلة جديدة من المساعدات الأمنية؛ حيث خُفِّضت مرتبة إفريقيا كواحدة من أهم مناطق التركيز، ومع نشوب “حرب أوكرانيا” في عام 2022م أصبح فقدان إفريقيا للأولوية التي كانت تتمتع بها في السابق أمرًا متوقعًا؛ فعلى سبيل المثال، بعد ثلاث دُفعات تكميلية، يبلغ إجمالي تمويل “صندوق السلام الأوروبي” الآن 17 مليار يورو. ومع ذلك، لا تمثل إفريقيا سوى حصة صغيرة من صندوق السلام الأوروبي، أي حوالي 6.02٪، بقيمة 1.023 مليار يورو.
ومن الضروري إدراك أن تَحوُّل الاتحاد الأوروبي كان متأثرًا إلى حدّ كبير بألمانيا، ولا سيما من خلال تصرفات وزيرة الدفاع الألمانية السابقة “أورسولا فون دير لاين” Ursula von der Leyen. فبعد تولّيها رئاسة المفوضية الأوروبية، كان هناك تحوُّل تدريجي في الهدف الإستراتيجي للاتحاد الأوروبي من وصفه بأنه “قوة معيارية” إلى وصفه بأنه “قوة جيوسياسية”؛ لتصبح المساعدات في إطار الاعتبارات الجيوسياسية والعسكرية.
وتحدّد الإستراتيجية الشاملة الجديدة للمفوضية الأوروبية بشأن إفريقيا، التي تم تدشينها في 9 مارس 2020م، خمس أولويات رئيسية؛ تشمل: التحول الأخضر وإمكانية الوصول إلى الطاقة، والتحول الرقمي، والنمو الاقتصادي المستدام والتوظيف، والسلام والحوكمة، بالإضافة إلى الهجرة والتنقل، والتي تطمح إلى تحقيقها من خلال زيادة الاستثمار في إفريقيا. ويُجسِّد هذا استمرار المفوضية في استخدام التجارة والاستثمار لتحقيق أهداف جيوسياسية.
3-نهج شامل
تُجسّد “الولايات المتحدة” إستراتيجيةً شاملةً تجاه المساعدات الأمنية، وهي تُعدّ الشريك الأبرز في القارة الإفريقية، سواءٌ في المجالين الأمني أو الاقتصادي. بدأت الولايات المتحدة مبادراتها العالمية للمساعدات الأمنية في عام 1947م؛ إلا أن هذا الامتداد لم يمتد إلى القارة الإفريقية حتى عام 1954م. وبين عامي 1954م و2020م، خصصت “الولايات المتحدة” مبلغًا هائلًا قدره 62.5 مليار دولار لإفريقيا، وهو ما يُمثِّل 14.88٪ من إجمالي المساعدات الأمنية الوطنية المُوزّعة عالميًّا خلال نفس الفترة الزمنية. ومن المهم التأكيد على أن “الولايات المتحدة” هي الدولة الوحيدة في العالم التي أنشأت “لواء مساعدة قوات الأمن” (SFAB). من بين “ألوية مساعدة قوات الأمن” الست التابع لها؛ حيث يُحافظ “لواء مساعدة قوات الأمن الثاني”، المُوجَّه تحديدًا نحو إفريقيا، على وجود دائم ومنظم فيما يصل من مساعدات إلى 15 دولة، ويُسهّل الوصول والتأثير مع الشركاء الإستراتيجيين الرئيسيين في جميع أنحاء القارة الإفريقية لقيادة الولايات المتحدة في إفريقيا (AFRICOM).
ووفقًا لبيانات “الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية”، فقد مرّت المساعدات الأمنية الأمريكية لإفريقيا بثلاث مراحل من التطور: من عام 1954م إلى عام 1978م، كان حجم المساعدات الأمنية صغيرًا نسبيًّا، ولم تكن إفريقيا بعدُ منطقةً ذات أولوية. ومع توصل “مصر” إلى اتفاقية سلام مع إسرائيل عام 1979م، زادت الولايات المتحدة مساعداتها الأمنية لمصر بشكل كبير، مما رفع مستوى مساعداتها الأمنية الإجمالية لإفريقيا. واستمرت هذه المرحلة الثانية حتى عام 2013م، على الرغم من الارتفاع الطفيف الذي شهدته بعد الهجمات الإرهابية عام 2001م. ومنذ ذلك الحين، دخلت المساعدات الأمنية الأمريكية لإفريقيا مرحلتها الثالثة؛ حيث أصبحت التقلبات الحادة هي القاعدة، لتتجاوز النفقات السنوية في كثير من الأحيان مليار دولار.
تُوضّح البيانات المُستمدة من “الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية” (USAID) أن المساعدات الأمنية التي تُقدّمها الولايات المتحدة للقارة الإفريقية تتمحور في الغالب حول “التمويل العسكري الأجنبي” (FMF) أو شراء الأسلحة، والذي يُشكّل حوالي 85% من إجمالي المساعدات. وإلى جانب التمويل العسكري الأجنبي، تشمل أشكال المساعدات الأمنية الأخرى البارزة التي تُقدّمها الولايات المتحدة لإفريقيا مبادرات حفظ السلام، والتعليم و”التدريب العسكري الدولي” (IMET)، والتعاون في مجال تخفيف التهديدات، وجهود وعمليات مكافحة المخدرات.
منذ الهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر 2001م، شهد التفاعل بين “وزارة الخارجية” و”وزارة الدفاع” على الصعيد العالمي تحولًا عميقًا مقارنةً بالمستوى الإقليمي الإفريقي؛ فعلى الصعيد العالمي، كان هناك تغيير كبير في ديناميكيات العلاقة بين “وزارة الخارجية” و”وزارة الدفاع” بعد عام 2001م؛ حيث تولت “وزارة الدفاع” تدريجيًّا دور الوكالة الرئيسية المسؤولة عن تنفيذ المساعدات الأمنية. وتشير الأبحاث التجريبية إلى أنه في عام 2001م، كان أكثر من 80٪ من إجمالي الإنفاق على المساعدات الأمنية موجهًا مِن قِبَل “وزارة الخارجية”، بينما مثَّلت “وزارة الدفاع” حوالي 17٪. ومع ذلك، بحلول عام 2015م، انعكست هذه النِّسَب تقريبًا؛ حيث شكَّلت “وزارة الدفاع” 54٪، بينما تُشكّل “وزارة الخارجية” 42٪ فقط. وعلى النقيض من ذلك، في السياق الإفريقي، تُظهر هذه العلاقة تكوينًا مختلفًا تمامًا. وإذا أخذنا في الاعتبار أن التمويل العسكري الأجنبي أو مبيعات الأسلحة يشكلان بشكل رئيسي المساعدات الأمنية التي تُقدّمها الولايات المتحدة لإفريقيا، فإن “وزارة الدفاع” لا تزال أقل أهمية من “وزارة الخارجية”.
وعلى الرغم من مكانة “الولايات المتحدة” كمُقدِّم رئيسي للمساعدات الأمنية لإفريقيا؛ إلا أنها لم تُحقّق نجاحًا يُذْكَر؛ نظرًا لتجاهلها قضايا الحوكمة، وتفاقم النزاعات الأهلية، وتأثيرها المحدود على العنف السياسي. وعلى عكس إستراتيجية الحرب الباردة القائمة على الحفاظ على توازن القوى، حظيت بسمعة “الصديق العادل”؛ فكثيرًا ما تُفاقم “الولايات المتحدة” المشاكل ومساندة “مثيري الشغب”، ثم تُخصِّص موارد مالية لمعالجة هذه المشاكل، ثم تنسحب، ثم تُعاود المشاركة. ويُحفِّز هذا الأساس المنطقي المطالبات بإصلاح المساعدات الأمنية الأمريكية، وهو أحد العوامل وراء الانسحاب القسري من “النيجر” في عام 2023م.
الازدحام على تقديم الدعم الأمني وغيره من العوائق: دراسة حالة منطقة الساحل
بما أن منطقة الساحل تُمثل إحدى أكثر المناطق ضعفًا على مستوى العالم فيما يتعلق بمواجهة الإرهاب، وتُشكِّل مركزًا حيويًّا للدعم الأمني لإفريقيا من القوى العالمية الكبرى، لذا سنحاول تناول المساعدات الأمنية في هذه المنطقة، وكذلك المخاوف الأمنية الناتجة عنها والتحديات المرتبطة بها.
تضم منطقة الساحل، التي اجتذبت اهتمامًا دوليًّا واسعًا، منطقة جغرافية محددة بدقة تضم خمس دول (وهي بوركينا فاسو، وتشاد، ومالي، وموريتانيا، والنيجر)، يُشار إليها مجتمعةً باسم مجموعة دول الساحل الخمس. في أعقاب الحرب الليبية عام 2011م، تدهور المشهد الأمني الإقليمي تدريجيًّا، ممّا وَلَّد معضلات أمنية مُعقَّدة ومتعددة الجوانب، جعلت المنطقة مثالًا نموذجيًّا على عُقدة أمنية إقليمية. وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلها المجتمع الدولي، فقد حدثت حالات من ضعف التنسيق بين مختلف الجهات المانحة، مما أدى أحيانًا إلى تعزيز التنافس بدلًا من تعزيز التعاون. ونتيجة لذلك، لم تنجح المساعدات الأمنية في تخفيف التهديدات الأمنية؛ بل أدَّت إلى تكثيفها، مما أدَّى إلى وضع محفوف بالمخاطر يُوصَف عادة بأنه “ازدحام أمني”.
وفي سياق المساعدات الأمنية داخل منطقة الساحل، هناك ما لا يقل عن خمسة من أصحاب المصلحة الرئيسيين؛ وتبرز “فرنسا” كمساهم رئيسي، ويُعزَى ذلك إلى انتماءاتها التاريخية وضروراتها الجيوستراتيجية في المنطقة. وكرد فعل على أزمة “مالي” عام 2012م، التي أعقبتها لاحقًا “عملية برخان” بعد عام. وطوال فترة ولايتها التي استمرت عقدًا من الزمان، نشرت “عملية برخان” أكثر من 5.000 جندي فرنسي في “مالي” و”النيجر” و”تشاد” في معظم هذا الإطار الزمني، مما يدل على المشاركة العسكرية الأجنبية الأطول والأوسع نطاقًا منذ حرب “الجزائر” في الخمسينيات وأوائل الستينيات. ومع ذلك، شكّل إعلان الرئيس “إيمانويل ماكرون” بشأن وقفها في يونيو 2023م نكسة كبيرة لـ”عملية برخان” Operation Barkhane.
ويُشدد “الاتحاد الأوروبي”، الحليف المهم لفرنسا، على الدعم المدني، مع إظهاره في الوقت نفسه ميلًا واضحًا نحو الطابع الأمني؛ ففي مارس 2011م، أطلق “الاتحاد الأوروبي” إستراتيجيته لمنطقة الساحل، والتي أعقبتها إستراتيجية الأمن والتنمية في منطقة الساحل عام 2012م، ردًّا على تمرُّد الطوارق والصراع الذي تلاه في شمال “مالي”.
وتُركّز هذه الإستراتيجيات بشكل رئيسي على إصلاح قطاع الأمن (SSR) وتنشيط قوات الأمن الوطنية؛ حيث أطلقت ثلاث بعثات متتالية: “بعثة بناء القدرات التابعة للاتحاد الأوروبي” (EUCAP) في منطقة الساحل بالنيجر عام 2012م، و”بعثة التدريب التابعة للاتحاد الأوروبي” (EUTM) في “مالي” عام 2013م، و”بعثة بناء القدرات التابعة للاتحاد الأوروبي” في منطقة الساحل بمالي عام 2014م. وعلى الرغم من التحديثات التي أُجريت عام 2015م، اعتُبرت إستراتيجية “الاتحاد الأوروبي” لمنطقة الساحل لعام 2011م غير فعّالة، مما أدى إلى صياغة إستراتيجية متكاملة جديدة لمنطقة الساحل عام 2021م، والتي أعادت توجيه التركيز نحو الحوكمة. ورغم الاستثمارات الكبيرة في الموارد، استمر تدهور المشهد الأمني الإقليمي، مما أدى إلى إحباط كبير للاتحاد الأوروبي.
وبحكم ولايتها، تشارك “الأمم المتحدة” بشكلٍ شامل في منطقة الساحل، مع التركيز على الأمن والحوكمة والتنمية؛ حيث تم إنشاء “بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي” (MINUSMA) عام 2013م لدعم المصالحة السياسية في “مالي” والحفاظ على السلام والأمن في المنطقة. ومع ذلك، فقد تعرَّضت فعاليتها للخطر بسبب القيود المتعلقة بالموارد المالية. بالإضافة إلى ذلك، وضعت “الأمم المتحدة” إستراتيجيتها المتكاملة لمنطقة الساحل (UNISS) في عام 2013م، بهدف تعزيز فعالية الحوكمة وتعزيز التنمية.
وتُحدد خطة “الأمم المتحدة” لدعم منطقة الساحل لعام 2018م أيضًا الاتجاه الإستراتيجي نحو تعزيز الرخاء المشترك والسلام الدائم في المنطقة. ونظرًا لتعقيد الظروف المحلية، أظهرت مبادرات “الأمم المتحدة” نقصًا في الفعالية، وبلغت ذروتها في انسحابها الرسمي بحلول نهاية عام 2023م.
كما تلعب “الولايات المتحدة” دورًا هامًّا نسبيًّا في تقديم المساعدات الأمنية للمنطقة؛ فبين عامي 2013م و2020م، برزت “النيجر” كأكبر مُتلقٍّ للمساعدات الأمنية الأمريكية، بقيمة 106 ملايين دولار. تلتها “تشاد” بفارق ضئيل بمخصصات بلغت 85 مليون دولار، بينما حصلت “موريتانيا” على 54 مليون دولار، و”مالي” على 36 مليون دولار، و”بوركينا فاسو” على 35 مليون دولار. أما بالنسبة للمساعدات الأمنية، فقد شكَّلت مبيعات الأسلحة (التمويل العسكري الخارجي) أعلى إنفاق بمبلغ 42 مليون دولار. وجاء دعم حفظ السلام في المرتبة الثانية بمخصصات بلغت 40 مليون دولار، ثم “برنامج التدريب العسكري الدولي” (IMET) بمبلغ 25 مليون دولار. وتجدر الإشارة إلى أنه لم يتسنَّ تحديد غرض حوالي 200 مليون دولار.
في السنوات الأخيرة، استغلت “روسيا” الفراغ الذي خلّفه الغرب بعد انسحابه من منطقة الساحل، وعززت علاقاتها العسكرية مع دول المنطقة. وتُعدّ “مجموعة فاجنر” مصدرًا رئيسيًّا للمساعدات الأمنية الروسية لمنطقة الساحل. وفي أعقاب الانقلابات العسكرية في “مالي” عام 2020م، و”بوركينا فاسو” عام 2022م، و”النيجر” عام 2023م، بدأ مسلحو “فاجنر” في ترسيخ وجودهم في الدول الثلاث الأعضاء في تحالف دول الساحل. وبالطبع، تُوفّر الشراكة بين “روسيا” والمجالس العسكرية في الساحل الحماية لهذه الأخيرة من التهديدات الداخلية.
لقد حَدَّ موقف “فرنسا” المهيمن بشكل كبير من مشاركة الجهات الفاعلة الأخرى بشكل عام. كان دور “بعثة الأمم المتحدة المتكاملة متعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي” محدودًا. ركّز الاتحاد الأوروبي في المقام الأول على الدعم المدني لتعزيز الدور القيادي لفرنسا داخل الاتحاد الأوروبي.
جدير بالذكر أن “الولايات المتحدة” اعتمدت إستراتيجيتها لمنع الصراعات وتعزيز الاستقرار في عام 2012م؛ حيث ركّزت بعثتها الإفريقية حصريًّا على خمس دول في غرب إفريقيا: “بنين” و”كوت ديفوار” و”غانا” و”غينيا” و”توجو”؛ بهدف الحد من انتشار الصراع والإرهاب.
ويعكس هذا النهج، المتمثل في بناء جدار حماية، النية الإستراتيجية الأمريكية لتجنُّب المنافسة مع “فرنسا” في هذه المنطقة؛ حيث تهيمن السياسة الجيوسياسية على المساعدات الأمنية في منطقة الساحل. بالإضافة إلى ذلك، اكتسبت “روسيا” ميزة على الغرب في منطقة الساحل، وحققت ذلك من خلال تقديم المساعدات، بما في ذلك الأفراد المسلحين والمعدات العسكرية والتدريب. وكما يتضح من حالة منطقة الساحل، يسود المنطق الجيوسياسي طوال العملية بأكملها تقريبًا، مما يكشف بشكل أكبر عن جوهر المصالح العامة كغطاء شرعي للجغرافيا السياسية. ونظرًا لسيادة المصالح الجيوسياسية، فإنّ المساعدات الأمنية في تحسين الحوكمة الأمنية للدول المتلقية مُخيِّبَة للآمال. فبالإضافة إلى تسببها في اختناقات أمنية، أثارت أيضًا مخاوف واسعة النطاق من حرب باردة جديدة.
ويلوح شبح الحرب الباردة المتجددة بشكل دائم فوق المنافسة بين الولايات المتحدة وروسيا على النفوذ بين الحلفاء في إفريقيا؛ في الوثيقة التي تحمل عنوان “إستراتيجية الولايات المتحدة لإفريقيا جنوب الصحراء”، والتي نشرتها إدارة “بايدن” في أغسطس 2022م، تم التعبير عن القارة الإفريقية كساحة إستراتيجية لتحقيق الأهداف الجيوسياسية الأمريكية والتنافس ضد خصومها. كما تسعى الولايات المتحدة جاهدة للتخفيف من النفوذ الروسي وحتى الصيني المتوسع داخل إفريقيا عن طريق المساعدات الأمنية وحشد الدعم الإفريقي لإدانة “موسكو” في “الجمعية العامة للأمم المتحدة” والهيئات الدولية الأخرى بعد التوغل الروسي في “أوكرانيا”.
وضمن هذا الإطار الإستراتيجي، تنظر “روسيا” إلى إفريقيا على أنها بيئة متساهلة للشركات شبه الحكومية والمقاولين العسكريين الخاصين، والتي كثيرًا ما تثير عدم الاستقرار لتأمين الأهداف الإستراتيجية والمالية. وقد اتخذت “روسيا” مبادرات لإقامة تحالفات مع الدول الإفريقية من خلال إبراز دورها التاريخي في دعم الحركات المناهضة للاستعمار خلال الحرب الباردة وسياستها المعلنة بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة، مع الاستفادة من هشاشة الدولة والصراعات المطولة لصياغة اتفاقيات مع الدول الإفريقية.
وبالتالي، فإن “موسكو” في وَضْعٍ يسمح لها بإنشاء شبكة من الحلفاء الأفارقة لمواجهة المبادرات الغربية التي تهدف إلى بناء تحالف دولي ضد “روسيا”. كما قدّمت “روسيا” في منطقة الساحل الدعم للأنظمة العسكرية من خلال المساعدات الأمنية من “مجموعة فاجنر” ردًّا على الانتفاضات المسلحة التي نظمتها الفصائل المسلحة التي تحدَّت دولًا مثل “مالي” و”بوركينا فاسو” و”النيجر”. ولم تُؤدِّ المساعدات الأمنية الروسية إلى تشريد بعثة “الأمم المتحدة” في “مالي” والقوات العسكرية الفرنسية فحسب، بل عجَّلت أيضًا بتدهور سريع في العلاقات بين هذه الدول الساحلية و”فرنسا” في أعقاب الانقلابات العسكرية.
الخاتمة:
كيف يمكننا التحايل على ظهور حرب باردة متجددة داخل القارة الإفريقية؟
إلى حدّ كبير، كانت المساعدات الأمنية المعاصرة التي تُقدّمها القوى الكبرى إلى القارة الإفريقية مبنية على اعتبارات سطحية للمصالح العامة، مع السعي في الوقت نفسه إلى تحقيق أهداف جيوسياسية. وقد بلغ تجاهل هذا الجانب الحاسم ذروته في عدم فعالية مبادرات المساعدات الأمنية الموجهة إلى إفريقيا، إن لم يكن فشلها التام.
أولًا: تفترض المساعدات الأمنية التي تُقدّمها القوى الكبرى أن إحلال السلام وتعزيز الحكم الرشيد شرطان أساسيان لا غِنَى عنهما للتنمية المستدامة. ويمكن أن تُعزَى أيّ أوجه قصور لُوحِظَت في المساعدات الأمنية إلى أوجه القصور في الكيانات المتلقّية. ومع ذلك، فقد أثبتت هذه المساعدات الأمنية عدم فعاليتها في معالجة القضايا الأساسية المتعلقة بالأمن في السياق الإفريقي. وكما يتضح من منطقة الساحل، لا يزال هناك غياب واضح للتقدم فيما يتعلق بالحوكمة الداخلية للدول المتلقية.
ثانيًا: تختلف المساعدات الأمنية السائدة عن مبادئ تقسيم العمل التي أوضحتها نظرية المصلحة العامة؛ فهي في الغالب تميل إلى احتكار تقديم المساعدات، وبالتالي إثارة المنافسة بين الكيانات المانحة. وعلاوة على ذلك، قد تتعمد الجهات المانحة تعزيز المنافسة بين المتلقين لإقامة علاقات ثنائية، وهي ظاهرة تتجلى بشكل خاص في الوسط الإفريقي.
في إفريقيا، وخاصةً في منطقة الساحل، أدَّت المساعدات الأمنية المُقدَّمة من الشركاء الدوليين، ممثلين بفرنسا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، من بين جهات أخرى، إلى ازدحام أمني، ويبدو أن التدخل الروسي النشط قد زاد من تعقيده. ومن المرجَّح أن يؤدي إهمالهم لخصائص المصالح العامة وسعيهم وراء التنافس الجيوسياسي إلى اندلاع حرب باردة جديدة. وفي الواقع، ينبع هذا التوقع المتشائم أساسًا من غياب الصلة بين الأمن والتنمية في المساعدات الأمنية المقدمة لإفريقيا. وهذا بدَوْره يجعل من الصعب على المساعدات الأمنية أن تُعالج الأسباب الجذرية للتحديات الأمنية التي تُواجه إفريقيا، مما يجعل القارة عُرضة لأن تصبح ساحة للمصالح الإستراتيجية للقوى العالمية الكبرى.
لذلك، ومن أجل تجنُّب احتمال عودة الحرب الباردة، لا بد من صياغة نموذج جديد للمساعدات الأمنية يجمع بين المبادرات الإنمائية والضرورات الأمنية، مع التوفيق بمهارة بين الاعتبارات الجيوسياسية والسمات الفريدة للمصالح العامة. وتتطلب الطرائق الحالية للمساعدات الأمنية المُقدَّمة إلى إفريقيا إصلاحًا جوهريًّا. فقد تسفر الجهود التجريبية للصين عن رؤى مهمة تعمل بشكل إيجابي على تعزيز أُطُر المساعدات الأمنية التي يتم تنسيقها في الغالب مِن قِبَل الكيانات الغربية في السياق الإفريقي.
هذه الظاهرة يُطلق عليها على نحو مناسب “السلام التنموي” مِن قِبَل بعض الأكاديميين الصينيين؛ فعلى النقيض من التركيز الغربي على إعطاء الأولوية للمتطلبات التنموية؛ يضع نهج “الصين” التنمية نفسها كنقطة دخول محورية، مما يُبرز التفاعل الضارّ بين التنمية والأمن والحكم.
ومن خلال توجيه أقصى قَدْر من الموارد نحو التقدم الاقتصادي والاجتماعي، يمكن للدول المتلقية أن تحافظ على الموارد المحلية اللازمة للأمن والاستقرار الدائمين، وبالتالي التخفيف من خطر إخضاع الكيانات الخارجية بسبب ندرة الموارد.
وعلى الرغم من أن المساعدات الخارجية تظل ضرورية خلال المراحل الأولى من التنمية، فمن الأهمية بمكان أن يتماشى هذا الدعم إستراتيجيًّا مع الأولويات الإنمائية. وفي هذا السياق، قامت “الصين” بمبادرات تعاونية تجريبية مع منطقة الساحل. ومنذ عام 2016م، موَّلت “الصين” ستة مشاريع لتحقيق الاستقرار في منطقة الساحل، وتعهَّدت بأكثر من 3 ملايين دولار من خلال الصندوق الفرعي للسلام والأمن التابع للأمين العام ضمن صندوق الأمم المتحدة للسلام والتنمية.
وفي الواقع، ونظرًا لأن قطاعي الأمن والحوكمة قطاعان استهلاكيان فقط، يتعين على المستفيدين إعادة توزيع استثماراتهم لضمان توجيه غالبية الموارد المحدودة إلى قطاع التنمية، مما يُعزّز زخم التنمية المستدامة والأمن. وبالطبع، لتجنُّب حرب باردة جديدة، من الضروري تسهيل تطوير آلية لتقسيم العمل لتنسيق الجهود العالمية بفعالية في تقديم المساعدات الأمنية. وعلى عكس النهج السائد الذي يُعطي الأولوية للمخاوف الجيوسياسية ويُعزّز المنافسة والإقصاء بين المانحين، ينبغي أن يلتزم هذا النموذج الجديد بمبادئ الانفتاح والشمول، مُرحبًا بجميع الشركاء المحتملين بالمشاركة. ويتطلب تطبيق آلية تقسيم العمل هذه أيضًا تطبيق مبدأ المسؤوليات المشتركة لكن المتفاوتة في حوكمة تغيُّر المناخ العالمي.
علاوة على ذلك، تُسهم هذه الآليات في تعظيم مرونة السياسات للمستفيدين من خلال تخفيف تحدي “اختيار أحد الجانبين”؛ حيث يشارك جميع أصحاب المصلحة. وعلاوة على ذلك، لتجنُّب حرب باردة جديدة، يجب أيضًا تعزيز الآثار التآزرية للمصالح الأمنية وغيرها من الجهود في توفير المصالح العامة. لقد اعترفت كلّ من الصين والدول الغربية بالحاجة إلى تآزر أفضل؛ إذ لا يمكن أن يكون هناك سلام وأمن بدون تنمية، وعلى العكس من ذلك، لا يمكن أن تتحقق التنمية بدون سلام وأمن.
ومع أن الإطار التحليلي للمساعدات الأمنية قد لا يُقدّم حلولًا شاملة لتجنُّب حرب باردة جديدة، إلا أن هذه الدراسة تُقدِّم صورةً موحدة وشاملة نسبيًّا للسبب الجذري للمساعدات الأمنية التي تُقدّمها القوى الكبرى لإفريقيا. ومع ذلك، يُقدّم هذا الإطار نهجًا مفيدًا يُقدّر في الوقت نفسه المصالح العامة والخصائص الجيوسياسية للمساعدات الأمنية، ويستحق مزيدًا من البحث.
…………………………………………….
رابط الدراسة:
Zhang, Chun, and Terence Yang. “Security assistance to Africa: new Cold War or new public goods?.” Third World Quarterly (2025): pp. 1-21.