دعاء عبد النبي حامد
باحثة دكتوراه في الفلسفة الإفريقية الحديثة والمعاصرة – كلية الآداب جامعة القاهرة
مقدمة:
يُعدّ الفن الإفريقي أحد أقدم أشكال التعبير الإنساني؛ حيث شكَّل -عبر آلاف السنين- مرآةً تعكس عمق الحضارات الإفريقية، ورؤية شعوبها للعالم، وتنوّع معتقداتها، وتطوّر أنظمتها الاجتماعية والروحية. وقد تميَّز هذا الفن بتوظيفه المبتكَر للرموز والأشكال والمواد الطبيعية، مما منَحه طابعًا مميزًا عن باقي الفنون العالمية.
شكَّل الفن الإفريقي مصدرًا غنيًّا للتعبير الإبداعي والثقافي، ومع ذلك، تعرَّض هذا الفن عبر فترات الاستعمار الطويلة لعملية “طَمس” ممنهجة؛ حيث تم تجاهل قيمته الجمالية والفكرية، بل وأُسيء فهمه وتصنيفه ضمن “البدائية”، في سياقٍ خدم النظرة الاستعلائية الاستعمارية، والتي سعت إلى تبرير الاحتلال الثقافي والمادي.
وقد رافق ذلك نَقْل أعداد هائلة من الأعمال الفنية الإفريقية إلى المتاحف الغربية؛ حيث عُرضت في قاعات الإثنوغرافيا بدلًا من قاعات الفنون الجميلة، مما رسَّخ النظرة الاستشراقية والدونية لهذا الإرث الحضاري العظيم.
ومع مطلع القرن العشرين، بدأ الفن الإفريقي يفرض حضوره بقوة في المشهد الغربي، مؤثرًا بعمق على العديد من الحركات الفنية الحديثة؛ إذ ألهمت رموزه وأشكاله الفنانين الغربيين، الذين وجدوا فيه مصادر جديدة للرؤية وللتحرُّر من القيود الأكاديمية التقليدية.
في هذا السياق، اكتشف الفنانون الطليعيون في أوروبا، وعلى رأسهم بابلو بيكاسو، غِنَى الفن الإفريقي وقِيَمه التعبيرية العالية. فتأثّروا بأشكاله التجريدية وطابعه الرمزي، مما ساهم في ولادة حركات فنية رائدة كالتكعيبية والتجريدية والسريالية. ومِن ثَمَّ، فإن الفن الإفريقي لم يكن مجرد مُلْهِم لهذه الحركات، بل كان مُساهمًا فعليًّا في تفكيك البنى التقليدية للفن الغربي وإعادة تشكيل معاييره الجمالية.
ولأهمية الموضوع تسعى الدراسة إلى تحليل مسار الفن الإفريقي خلال الحقبة الاستعمارية، إلى لحظة استعادته التدريجية لمكانته بوصفه مصدرًا أساسيًّا من مصادر التجديد الفني العالمي. كما تهدف إلى استكشاف مسيرة الفن الإفريقي بين الطمس والاستلهام، وتحليل الكيفية التي ساهم بها في إعادة تشكيل ملامح الفن الغربي الحديث.
الفن والثقافة:
“إن الفن هو الخير الخاص، أو الخير الذي هو في حدّ ذاته خير للإنسان، والذي يُحدّد أهمية الحياة البشرية”. وعلاوة على ذلك، فإن الطابع الأساسي للفن في امتداده الكامل هو تعليمنا كيف نصنع شيئًا ما. إن الفن هو عملية خلق شيء من شيء ما، بحيث يتم بناؤه أو تشكيله أو ترتيبه كما ينبغي أن يكون. وبالتالي، ينتمي الفن إلى النظام العملي لصنع شيء من شيء ما، بمعنى أنه يُعلّمنا كيف نصنع شيئًا ما، مع مراعاة الطريقة التي يجب أن يتم بها تنفيذ العمل بحدّ ذاته. وبالتالي، فالفن يهتمّ بما يجب صنعه والقابل للتنفيذ([1]).
من الممكن فَهْم عقلية شعب ما، ومخاوفه وآماله، وتطلعاته وأهدافه، وتصوراته للحياة والعالم؛ من خلال دراسة أشكاله الفنية؛ حيث تكشف أشكال الفن عن العالم الذهني لشعب أو ثقافة ما. إن السمات المميزة لجميع الثقافات تتجلَّى في أشكالها الفنية؛ وهذا يُفسِّر لماذا يستطيع أولئك الذين هم على دراية بالأشكال الفنية اليونانية والأوروبية والإفريقية والهندية والصينية -على سبيل المثال-، أن يتعرفوا بسهولة على الأشياء الفنية في كلّ من هذه الثقافات. إن اختلاف أشكال الفنّ هو مظهر من مظاهر اختلاف رؤى العالم، وأساليب الإدراك والمعرفة([2]).
تاريخ الفنون الإفريقية:
إن الفن الإفريقي فنّ متميز بذاته، وله طابعه الخاص، ويرجع عطاء القارة السمراء في مجال الفن إلى عصور ما قبل التاريخ، كما نجد الرسوم والصور المتنوّعة الموجودة على جدران الكهوف الصخرية المنتشرة في الصحاري الإفريقية التي يرجع تاريخها إلى العصر الحجري القديم. ويعود تاريخ الفن الإفريقي إلى مصر الفرعونية؛ حيث وجدوا أن المصري القديم عبَّر عن أفكاره بأساليب متعددة بما في ذلك النحت والرسم والنقش البارز والعمارة، وقد جمع بين الشؤون الدنيوية، وبين الحياة والبعث بعد الموت، فكان فنّهم مُعبِّرًا؛ لأنه عكَس معتقداتهم، وكان الفن غالبًا تفسيرات تجريدية للحيوانات، والحياة النباتية، أو التصاميم والأشكال الطبيعية. وقد انتقلت هذه الفنون إلى إفريقيا([3]). إن هذه الأشياء التي يتم صنعها في إفريقيا، تُشكّل حدودًا لجميع أشكال التدخل الإفريقي في الطبيعة باسم الإبداع أو الاستنساخ أو التمثيل في الواقع. إن فنّ إفريقيا هو تراث ثقافي يقودنا إلى رحلة تاريخية وبيئة جغرافية([4]).
وتُعدّ الأقنعة أحد مفردات الثقافة الإفريقية بأجوائها الطقسية ورموزها التي تحمل تراكمًا هائلاً من المعتقدات والعادات والحكايات عن القارة السمراء، وتُشكّل الأقنعة نوعًا فريدًا من الفنون، وقد حظيت الأقنعة الإفريقية بالاعتراف دوليًّا بجمالها كقِطَع فنية. وللقناع الإفريقي (أو النحت الزنجي عمومًا) الفضل في تطوُّر الكثير من الفنون الحديثة، وهو فنّ رمزي يحاول الفنان من خلاله أن يتقمَّص أرواح الأجداد وإبراز الأفكار والنصائح القديمة وبثّها للأجيال المتلاحقة([5]).
وتُعدّ الأقنعة من أكثر الفنون الإفريقية انتشارًا وتنوعًا، والتي تكشف عن مدى تأثر بيكاسو رائد الفن التشكيلي الحديث في أوروبا بها، وهو ما كان بمثابة الشرارة التي فجَّرت ثورة الفن الحديث بظهور التكعيبية والتجريد، وما أصبح فيما بعد من التيارات السائدة في الفن المعاصر عالميًّا. وبجانب تأثير فنون الرسم والنحت الإفريقية على الفنون الأوروبية الحديثة والمعاصرة، نجد تأثير الموسيقى الإفريقية في الإيقاع الموسيقى في الأمريكيتين وفي جزر الكاريبي وفي موسيقى الجاز، والتي بدورها أثَّرت في أغلب موسيقى القرن العشرين([6]).
لقد لعب الفن الإفريقي دورًا أساسيًّا في تطوير الفن المعاصر الأوروبي والدولي. ومع ذلك، لا يزال النُّقاد لا يعترفون بوظيفته، حتى وإن كانت بالغة الأهمية، خاصةً بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. في هذه الفترة، مارَس الفن الإفريقي تأثيرًا مهمًّا على فنانين مثل ماتيس Matisse وموديجلياني Modigliani وبرانكوسي Brancusi وكذلك على بيكاسو Picasso وبراك Braque، آباء التكعيبية. استقى هؤلاء الفنانون، الذين اجتمعوا تحت “المدرسة الباريسية”، إلى حدّ كبير من الأقنعة والمنحوتات الإفريقية، وأعادوا تشكيل أسلوبهم في أعمال أصلية وثورية([7]). وبناءً على ما سبق يبدو واضحًا تأثير الفنون الإفريقية والتي ساهمت بشكل فعال في إثراء الفنون الغربية.
الاستعمار وتخلُّف إفريقيا:
تُعدّ واحدة من أكثر الأحداث إثارةً في التاريخ الحديث: تقسيم إفريقيا عام 1884م في مؤتمر برلين. فبالنسبة للأوروبيين، كانت إفريقيا لا تزال قارة مجهولة في عام 1880م. وبعد ثلاثين عامًا، كانت إفريقيا بالكامل تقريبًا تحت السيطرة الأوروبي. كان الاستعمار الجديد هو الاستغلال والغزو والضمّ والتقسيم والاستعمار لمعظم إفريقيا مِن قِبَل سبع قوى أوروبية غربية خلال فترة قصيرة عرُفت باسم الإمبريالية الجديدة بين عامي (1881، 1914م).
التراث المسروق:
كتاب “الأصول المصرية للفلسفة الغربية” بقلم جورج جيمس، يطرح مقدمة جديدة تتحدَّى فكرة أن الحضارة بدأت في اليونان. ويحاول هذا التقييم الشامل عبر الإنترنت لهذا العمل الكلاسيكي الذي لا يقبل المساومة إثبات أن المؤلفين الحقيقيين للفلسفة اليونانية لم يكونوا يونانيين بل مصريين. ويؤكد النص أن الثناء والتكريم الأعمى الذي حظي به اليونانيون لقرون من الزمان ينتمي بحق إلى شعب إفريقيا، ويزعم أن سرقة هذا الإرث الإفريقي العظيم أدَّت إلى الرأي العالمي الخاطئ بأن القارة الإفريقية لم تُقدّم أيّ مساهمة في الحضارة. ويستشهد بعلماء يونانيين مشهورين مثل هيرودوت وأبقراط وأرسطو وفيثاغورس، الذين يعترفون بتأثير الفلسفة المصرية في أعمالهم. التراث مسروق كان أحد الأعمال العلمية الأولى التي حاولت استعادة تاريخ ضائع الحضارة الإفريقية المبكرة([8]).
وتشير السجلات التاريخية إلى حقيقة مفادها أن الحضارة الإفريقية كانت قد ازدهرت ثم انحدرت قبل فترة طويلة من ولادة الحضارة الأوروبية من جديد في القرن الخامس عشر. ومع ذلك، فقد أشار العالم الغربي إلى كلّ ما هو إفريقي بما في ذلك لونها وأفكارها الثقافية على أنه “مظلم”.
ويُقدّم نكروما وصفًا حيًّا للصورة الوحشية التي تُصوّرها إفريقيا. فقد أشار إلى مؤلف أوروبي كتب أن “تاريخ الحضارة في القارة يبدأ، فيما يتصل بسكانها، بغزو المسلمين”، وأن إفريقيا أفقر مما يمكن تصوره في التاريخ المسجل. وفقًا لنكروما فإن الأفكار الثقافية الفنية الإفريقية التي تعرَّضت للانتقاد باعتبارها أدنى كانت القوة القوية التي أشعلت اتجاهات جديدة في التقاليد الفنية الغربية([9]).
لا يوجد فنّ يثير شكوك الأوروبيين أكثر من الفن الإفريقي. في البداية، غالبًا ما يرفضون حتى تسميته بالفن، بحيث تتسع الفجوة بين هذه الأعمال والموقف الأوروبي يتجلى في ازدراء أدَّى إلى موقف سلبي. فمنذ البداية، ينُظَر إلى الإفريقي على أنه أدنى([10]).
إن الطريقة التي تم بها تقديم الفن الإفريقي في السياقات الغربية، في كثير من الأحيان على أنه “بدائي” أو “غريب”، أدَّت بشكل غير مقصود إلى ترسيخ الصور النمطية الاستعمارية. على مدى قرون من الزمان، كان جامعي التحف والمتاحف والعلماء الغربيون يَعرضون ويصفون الفن الإفريقي من خلال عدسة أوروبية مركزية، مما ساهم في إدامة الصور النمطية الاستعمارية.
وقد نظرت هذه “النظرة الغربية” إلى الفن الإفريقي باعتباره قِطَع أثرية بدائية، متجاهلة أهميته الثقافية والفنية. وبتصنيف الفن الإفريقي باعتباره “بدائيًّا”، قلَّلت وجهات النظر الغربية من قيمة التقاليد الفنية الغنية والرمزية المعقّدة المتأصلة في هذه الإبداعات. كما أدَّى مصطلح “غريب” إلى تقليص الفن الإفريقي، مما أدَّى إلى إدامة فكرة أنه كان خارج نطاق الفن. لقد كان لهذا التشويه والتفسير الخاطئ للفن الإفريقي عواقب وخيمة؛ حيث عزَّز ديناميكيات القوة الاستعمارية وحرم الشعوب الإفريقية من إنسانيتها. كما أعاق تقدير الإنجازات الفنية الإفريقية وطمس التنوع الثقافي للقارة([11]).
فرض الفن الإفريقي في فترة ما قبل الاستعمار على الفن الغربي بأبعاد وظيفية ودينية وسحرية واجتماعية وسياسية، وذلك بهدف جعله يبدو أدنى من الفن الغربي وبطريقة تحافظ على جهاز القوة الاستعمارية. ولكن الحقيقة هي أن الفن الإفريقي في فترة ما قبل الاستعمار لم يُبْدِ أيَّ اهتمام بالقواعد الفنية الغربية التفاصيل المنظورية، والنِّسب الدقيقة، والتمثيل. بل إنه بدلًا من ذلك خلَق فنًّا مفاهيميًّا يُركّز على الأفكار المُعبَّر عنها بدلًا من الموادّ المستخدَمة فيه. لم يتم التعبير عن هذه الحقيقة الموضوعية حول الفن الإفريقي. عاش الفن المفاهيمي في إفريقيا لقرون عديدة رغم أنه لم يُسَمَّ بهذا الاسم. هذه القصة في الفن الإفريقي غير معروفة، مما دفَع بعض العلماء إلى الزعم بأن الفن المفاهيمي كان اختراعًا غربيًّا، ووصفوه بأنه الفن الناشئ([12]).
وفي حديثه عن النهج الغربي لدراسة الفن الإفريقي، وهو النهج الذي يعتمد على تقييد مجال الاستقصاء، وتحديد موقع الأشياء الفنية وتوثيقها وتحليلها؛ كتب مارسيل جريول Marcel Griaule: “لقد أدركنا أن الفن الزنجي لا يمكن أن يكون مجرد دراسة نقدية أو تحليلية”. يُعامل كَفَنِّنَا الخاص… في الواقع، يتجاوز الفن الزنجي آفاقنا. إنه يُمارَس في مناخ لا خبرة لنا به، والذي، على الرغم من ظاهره، لا نملك عنه إلا الحد الأدنى من البيانات الواقعية”. ورغم هذه القيود، يُشير مارسيل جريول إلى أن الخبراء الغربيين يعتمدون على نهجهم وبياناتهم الواقعية عن الفن الإفريقي “دون تفكير، ولأن الفن الزنجي، مهما بلغ من التقدير، لا يُعتَبر جديرًا بالاهتمام الدقيق المُخصص لكلاسيكيات نهجنا”.([13])
إن وجهات النظر الغربية حول الفنون الإفريقية غير متوازنة في بعض الأحيان. وذلك لأن كل ما لا يتوافق مع المعايير الموضوعة في الفكر الغربي لا يدخل في نطاق الفنون. وتكمن أهمية الأعمال الفنية خارج نطاق الجماليات؛ أي أن الفنون الإفريقية ليست فنونًا من أجل الفن. ورغم أن الفنون الغربية تلتزم بالقواعد، وهو ما لا أحاول إدانته، فإن الفنون الإفريقية تلتزم بها أيضًا، ولكن ربما ليس بنفس الطريقة التي تلتزم بها نظيراتها الغربية، التي تُركّز في الغالب على الشكل. ويركز الفن الإفريقي على الشكل، وعلى وجه التحديد، المحتوى؛ لأن هذا هو المكان الذي تتجسد فيه فلسفته([14]).
إن الأعمال الفنية، في أيّ مجتمع، هي نوافذ على الحياة الثقافية في ذلك المجتمع، ومؤشرات جوهرية تُعزّز فهمًا أفضل للأفكار الفنية والتعبيرات والاهتمامات الفلسفية للمجتمع. وهذا يعني أن الأعمال الفنية التي تعود إلى أصول إفريقية سابقة كانت موجودة قبل وقت طويل من لقائها بالمستعمرين كان ينبغي أن تكون بمثابة مصدر قويّ للمعرفة الفنية الإفريقية للغربيين، إذا سعوا إلى فهم التركيز المفاهيمي للفنانين الأفارقة. لقد كانت صورة من صُنعهم، عزّزها عجزهم عن تقدير الثقافة الإفريقية”.
ربما كانت ممارستهم الناجحة لتجارة الرقيق لمدة أربعة قرون مع الفظائع المكثفة التي ارتكبوها ضد شعوب القارة سببًا في هذه التصريحات ضد إفريقيا. لتعزيز قصتهم المُلفّقة عن الفن الإفريقي، درس المستعمرون الأعمال بطريقة تجعلها تبدو أدنى من الفن الغربي. وعلى العكس من ذلك، يجب فصل استخدام الفن عن المظهر، والأهم من ذلك، يجب النظر في الفكرة التي تُشكّل الفن حقًّا.([15])
إن فنّ أيّ مجتمع يُصنَع لخدمة احتياجات البشر، سواء كانت جسدية أو اجتماعية أو ثقافية أو دينية أو تعليمية، والتي لا يُشكّل الفن الإفريقي استثناء منها. يتطلب فَهْم الفن الإفريقي فهمًا شاملًا للأعمدة الإفريقية للأساس المفاهيمي الذي يدعم فنّها.
في القرن العشرين، طوّرت حركة الفن في باريس اهتمامًا بالأشكال النحتية في غرب ووسط إفريقيا، وقد لاحظها أيضًا مؤرخو الفن. وفقًا لتقارير من المتحف البريطاني، “لقد قرأوا فيها أنواع المعاني الرمزية التي كانوا يسعون إلى التعبير عنها في أعمالهم الخاصة، مما يُعزّز وجهة النظر القائلة بأن الأفارقة يمكنهم خلق الفن، ولكن من نوع خاص جدًّا”. ويُلاحظ فرانك ويليت Frank Willet، وهو باحث في الفن الإفريقي، أن “أعظم مساهمة قدَّمتها إفريقيا حتى الآن للتراث الثقافي للبشرية هي منحوتاتها المتنوعة الغنية”([16]). وفي الدراسات المعاصرة، هناك وَعْي متزايد بالحاجة إلى تصحيح هذه التشوهات التاريخية وتقديم الفن الإفريقي في سياقه الثقافي والتاريخي والفني المناسب([17]).
“الاكتشاف” الأوروبي للفن الإفريقي:
بدأ الاستعمار الأجنبي لمعظم بلدان إفريقيا عام 1840م، وتغيرت القِيَم والنظرة الجمالية عالميًّا. واكتُشِفَت كثير من القِطَع الفنية الإفريقية بوسائل مختلفة، وحتى من قبيل المصادفة مِن قِبَل المسافرين والتجار والمبشرين، لكن لم يمنح المستعمرون فنون السكان الأصليين الاهتمام الذي تستحقّه، وبالتالي لم يُوثّق الفن الإفريقي بالطريقة المناسبة. عندما جلب المستكشفون الأوروبيون الأوائل الهدايا التذكارية من رحلاتهم إلى القارة الإفريقية، لم يجدوا لها مكانًا في المتاحف، وبقيت في الأقبية المظلمة لقرون عدة. وضع بعضها في متاحف التاريخ الطبيعي مع البقايا المتحجرة والنباتات القديمة. رأوا أنها بقايا مادية من الطرق البدائية لصنع الثقافة. مع الوقت، تزايد الاهتمام بجمع الفن الإفريقي وتحليله، ما أجبر العلماء والمؤرخين والحكومات والمستثمرين على إعادة دراسة جوهر الفن الإفريقي. نقلت المجموعات الفنية التي كانت تسكن الأقبية المظلمة إلى المتاحف وصالات العرض ودور المزادات، وبدأ الباحثون في دراستها بعمق أكبر، خاصة في أوائل القرن العشرين، بعد التحولات التي حدثت في أوروبا حول معنى الفن.([18])
لقد مرَّ 500 عام منذ بدأت الرحلات الأوروبية حول العالم في جلب السلع والمعلومات من قارات أخرى إلى الوطن. قبل 250 عامًا تم تضمين بعض القطع الأثرية التي حصلوا عليها في إفريقيا ضمن “الغرائب الاصطناعية” في المجموعات النامية للمتحف البريطاني الذي تم تشكيله حديثًا. ولكن لم يكن الأمر كذلك إلا في أواخر القرن التاسع عشر عندما بدأ الأوروبيون، وخاصة علماء الأنثروبولوجيا، في التعامل مع بعض هذه الأشياء باعتبارها “فنًّا”. مع استمرار الغزو الاستعماري لإفريقيا خلال القرن التاسع عشر، ظهرت المزيد والمزيد من التحف الإفريقية في المتاحف وأسواق الفن في أوروبا. وحظيت فكرة الفن الإفريقي بدفعة كبيرة في تسعينيات القرن التاسع عشر عندما بيعت مئات التماثيل النحاسية الرائعة التي نهبت أثناء الغزو البريطاني لمدينة بنين في نيجيريا في السوق المفتوحة، ووجد العديد منها طريقه إلى المتحف البريطاني. واصل المغامرون الاستعماريون اللاحقون جلب مفاجآت جديدة عندما أعادوا إلى أوروبا مجموعات كبيرة من القطع الأثرية الغريبة بأنماط لم يسبق للأوروبيين أن رأوا مثل هذه الآثار من قبل. وكان بعضها غنائم من الحملات العسكرية، ولكنّ الكثير منها كان يُشْتَرى من أناس كانوا يُقدِّرون ثروات أوروبا وبضائعها الغريبة أكثر من المنتجات المحلية المألوفة لديهم. وقد تم تقديم بعض القِطَع الأثرية الإفريقية إلى المسؤولين الاستعماريين والمبشرين. وتم شراء بعضها، مع توثيق مفصَّل مِن قِبَل علماء الأنثروبولوجيا، وتم شراء البعض الآخر مِن قِبَل المقيمين المغتربين وجامعي التحف وتجار الفن. وقد ساهم جميع هؤلاء الأشخاص في مجموعات المتحف البريطاني([19]).
وفي باريس افتتح أول متحف للفن الغريب أو الاستعماري عام 1855م (متحف المستعمرات الدائم)(Musée permanent des colonies) ، تليها الأكثر شهرة متحف الإثنوغرافيا في تروكاديرو Musée d’Ethnographie du Trocadero 1878م، التي زارها فنانون مثل بيكاسو، وبراك، وغيرهم من الفنانين. كانت هذه المتاحف تمثل تجسيدًا للرؤية الاستعمارية لإمبراطورية شاسعة وقوية مثل إمبراطورية فرنسا في إفريقيا. كان افتتاح هذه المتاحف ذروة الموقف تجاه إفريقيا والأفارقة الذي بدأ وانتشر في فرنسا (وفي جميع أنحاء أوروبا)([20]).
في باريس، ساهم الفن الإفريقي في إحداث تغيير جذري، والتغلب على الوضعية والمادية. وروَّج الفنانون الذين تجمعوا حول المدرسة الباريسية لـ”الغريبة” و”الإفريقية”. وبدأ التعامل مع المنحوتات الإفريقية باعتبارها أعمالًا فنية حقيقية، وليس باعتبارها أعمالًا لثقافات مستعمرة. وعلى هذا، فبعد أن كانت تُباع تقليديًّا مقابل القليل من المال في أسواق السلع المستعمَلة، بدأ فنانو مدرسة باريس يعزون أهميتها إلى هذه التحف. وقد سُجِّل هذا الاتجاه في التاريخ باسم “البدائية”. وتدلّ هذه الكلمة على الاهتمام بالثقافات غير الغربية، بما في ذلك الثقافات الإفريقية وأوقيانوسيا، فضلًا عن ثقافات ما قبل كولومبوس وثقافات الهنود الحمر. أدَّى هذا الاهتمام الجديد إلى تحوُّل الفنانين إلى جامعي تحف إفريقية، حتى أنه في بداية القرن العشرين([21]).
ففي مطلع القرن العشرين، برزت باريس كمركز للإبداع الفني؛ حيث اجتذبت فنانين طليعيين من مختلف أنحاء العالم إلى شوارعها الصاخبة وورشها المزدحمة. وخلال هذه الحقبة من النشاط الثقافي، بدأت المنحوتات والأقنعة الإفريقية تتخلل متاجر الفن الباريسية والمجموعات الخاصة. وقد لفتت هذه الأشكال الفنية المثيرة للاهتمام والجديدة، التي تتميز بأشكالها المجردة وخطوطها المعبرة ورمزيتها المثيرة، انتباه فنانين مبدعين، بما في ذلك أمثال بيكاسو وبراك، ولم يكن اهتمامهم بالفن الإفريقي مجرد سحر جمالي؛ بل كان متشابكًا بشكل عميق مع الحركة الأوسع نطاقًا للبدائية. ولكن حركة البدائية كانت سلاحًا ذا حدَّيْن. فمن ناحية، كانت تدل على تقدير حقيقي لأشكال الفن غير الغربية ورغبة في التحرر من القيود الملموسة للتقاليد الفنية الغربية الكلاسيكية.([22])
لقد دعم عالم الفن العديد من الحركات الفنية التي يُشار إليها عادة باسم “المذاهب” الفنية. وتشمل هذه الحركات السريالية، الدائرية، والتعبيرية، والتكعيبية، والانطباعية، والواقعية والتجريدية. وقد نشأت هذه الحركات الفنية نتيجة لتغيُّر الأذواق في استهلاك الفن والزيادة المستمرة في التشكيك في الوضع الراهن من أجل تقديم مساهمات إبداعية في ذخيرة الفن بشكل عام. وقد تم تحديد التغيير في الأذواق الفنية رسميًّا من خلال التوجهات العرقية والإقليمية والوطنية والقارية تجاه الفن. لقد تم طمس الاختلافات في هذه التوجهات الفنية بشكل عام من خلال الاحتكاك الثقافي، والتعليم، والتجارة، والهيمنة الاستعمارية، والزيادة المفاجئة في الاختراعات والابتكارات التكنولوجية والأدوات الاتصالية المرتبطة بها والتي جعلت العالم بأَسْره قرية عالمية. وفي النهاية، زاد أيضًا الانتشار الدولي للمعلومات والأفكار حول الأحداث الإبداعية في الفنون في القرن العشرين. لم تَمْحُ عملية الثقافة في العالم الهويات العرقية والإقليمية والوطنية والقارية تمامًا، بل شجَّعت على الاقتراض الثقافي الفني بين هذه الكيانات([23]).
من السعي وراء الواقعية في عصر النهضة إلى أوقات الإنتاج الضخم للأشياء الفنية في القرن العشرين التي ميزت تقاليد الفن الغربي، كانت هناك حاجة إلى عناصر فنية جديدة. لقد بدأ الفنانون الغربيون في ذلك الوقت في النظر إلى الخارج، واستقروا في النهاية على الفن الإفريقي؛ الذي استلهموا منه الإلهام الذي أشعل حركات الفن في القرن العشرين بأكملها.
إن الاستخدام التعسفي للألوان والأفكار المفاهيمية والتجريد للواقع والأحداث الاجتماعية والثقافية في الأشكال الفنية التي تميزت بها الساحة الفنية الإفريقية حتى الآن، والتي وصفها الغرب سلبًا بأنها بدائي، شهواني، وثني، منحرف، الفن الشعبي لقد أصبح من بين آخرين، العمود الفقري الذي حفَّز فنونهم. لقد سعى العديد من الفنانين إلى الإلهام من العاطفة الخام للفن الإفريقي، إلى غرس نفس النقاء والشدة في أعمالهم. ولكن من ناحية أخرى، كان مصطلح “بدائي” نفسه، الذي يُستخدم غالبًا في الإشارة إلى الفن الإفريقي وغيره من الفنون غير الغربية، محملًا بمعاني السذاجة والبساطة وحتى الدونية. وبالتالي، كانت الحركة تدور حول التقدير المُعقَّد بقَدْر ما كانت تدور حول درجة معينة من سوء الفهم. ففي حين كان الفنانون مفتونين بالجماليات، فقد تجاهلوا أحيانًا التاريخ الغني والدلالات الروحية والسياقات الثقافية المضمنة في هذه التحف إفريقية. وعلى هذا النحو، وبينما أدَّى شغف باريس بالفن الإفريقي إلى خطوات ثورية في الفن الحديث، فإنه أدَّى أيضًا إلى مناقشات حول التمثيل والأصالة والتقدير الثقافي مقابل الاستيلاء.([24])
سمات الفن الإفريقي:
يمكن أن تنبع لغة الفن المفاهيمي من إدراك تعريف الفن كشكل أو هيئة أو أفكار يعطيها خيال المرء باستخدام خبرته الحسية وحياة الشعور داخل الزمان والمكان. يمنح الفن المفاهيمي الفنان إحساسًا بالذات والهوية والفخر والتعبير والإنجاز الذي لا يختفي أبدًا. المفاهيم هي الأفكار العامة للفرد وخواطر وفهمه، وبالتالي فإن الفن المفاهيمي كمشتق من المفهوم يتعامل مع الأعمال الفنية التي تستند إلى أفكار الفنان([25]).
إن الفن بالمعنى الإفريقي هو تجربة مُعاشَة. إنه الرابط لكل من الحياة الجسدية والروحية للأفارقة. سواء كان فنًّا مرئيًّا أو فنًّا أدائيًّا، فقد تعامل الإفريقيون معه بإستراتيجية مفاهيمية فريدة وخيال قوي بغض النظر عن الغرض الذي يخدمه في المجتمع. كإستراتيجية مفاهيمية، أدرك الفنانون الأفارقة القدماء الطبيعة كتكوين تجريدي للأشكال في كلّ من الفن المرئي والفن الأدائي بطريقة تجعل الأفكار التي تنقلها الأشكال أو الأداء هي الأكثر أهمية. يشهد فوسو Kojo Fosu أن “الفن، الإفريقي مفاهيمي وليس تمثيليًّا. إن الأفكار التي تنقلها الأشكال الفنية هي الحاسمة، وليس مجرد تمثيلها البصري. يقول فوسو “… إن الفن في إفريقيا هو أيضًا حياة يتم تنظيمها بعناية لتتوافق مع شكل المجتمع؛ حيث يتم إظهار الحقائق غير المرئية من خلال الفن من أجل تعزيز القِيَم الاجتماعية والأخلاقية القائمة. ولهذه الأسباب، فإن الفن الإفريقي التقليدي لا ينسخ ما هو عادي. بل يتم قبول الفن كعملية إبداعية تلتقط تلك الأساسيات التي تعطي معنى للحياة”([26]). ومع ذلك، فقد تم إدراج هذا الفن في القائمة السوداء واعتباره فنًّا معاديًا مِن قِبَل الغزاة الاستعماريين. وفي القرن العشرين، بدأ هذا الفن ذاته الذي وُصِفَ بأنه فنّ مُعَادٍ للفنّ في الظهور في الفن الغربي، وتم الترحيب به بشكل غريب باعتباره “فنًّا طليعيًّا”([27]).
إن أحد الجوانب المثيرة للاهتمام في إفريقيا هو فن الأداء الذي قدَّمته. كانت حياة إفريقيا القديمة أدائية. وقد استخدمت معظم أعمالها الفنية البصرية بما في ذلك الأقنعة والأواني والأقمشة والخرز والشخصيات المنحوتة أو المصبوبة في فنّ الأداء. كل ما يفعله الإفريقي من حيث الإبداع الفني يلبّي نوعًا من الاحتياجات الجمالية الدينية والأخلاقية أو الجسدية يتم صياغة الأعمال الفنية كإجابات على مشكلات وجودية مختلفة، وبالتالي تخدم إلى حد ما غايات عملية. وباعتبارها جزءًا لا يتجزأ من حياة الأفارقة، فهي ليست مصنوعة فقط من أجل الإعجاب والتقدير دون مبالاة، بل إنها طرق نشطة للتعبير والتمثيل، وأشكال رمزية إلى حد ما من “المشاركة” في الحياة الروحية (الدينية) والجسدية والاجتماعية للمجتمع، وغالبًا ما تشير إلى الذوق الإنساني للعلاقات بين الشعوب الإفريقية. خلاصة ما نَعنيه هنا هو أن الأعمال الفنية الإفريقية تعكس في الغالب منظومة القِيَم الأصلية للشعب الإفريقي([28]).
ركزت الكثير من الأبحاث القائمة في الفن الإفريقي على وظيفته ورمزيته وقدرته على التواصل واعتباراته النفسية والدينية والسياسية والجمالية. وقد تم تصوير الفنون الإفريقية على أنها فن كائن لصنع المعنى. حتى الاهتمامات الجمالية الأكاديمية بفنّها كانت تنظر إليها من منظور المعايير الجمالية الأوروبية المركزية التي تتبنى اتفاقيات شكلية لا تُولي اهتمامًا للجماليات الإفريقية التي تتعامل مع العدسات المفاهيمية والسياقية لفنّها. وقد وفَّر هذا الحجج اللازمة لتصنيف الفن الإفريقي بشكلٍ سلبيّ لأنه انحرف عن المعايير الفنية الأوروبية المركزية لما ينبغي أن يُطْلَق عليه اسم الفن. إن ما لا يعرفه الغرب عن الفنون الإفريقية؛ هو أن الأفارقة القدماء مارسوا ما يُعرَف اليوم بالفن المفاهيمي قبل وبعد قرون من لقائهم بالمستعمرين([29]).
يلاحظ إينوزور Enwezor أن مصطلح الفن المفاهيمي قد تم تأسيسه وتضييق نطاقه مع التركيز على “الخطابات الفنية لأوروبا الغربية والولايات المتحدة بعد الحرب”. وهذا يشهد على قضية الصمت السائد للمفهوم الجمالي الإفريقي من خطاب أوسع للحداثة. وقد أثار إينوزور الأسئلة التالية: “هل يُشكّل الفن المفاهيمي في إفريقيا، مثل نظيره في أوروبا وأمريكا الشمالية، تحولًا كبيرًا داخل الإطار المؤسسي السائد من أجل طرح لغة أو نموذج جديد؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هي التسميات المحددة التي أُطْلِقَت على هذا التحوُّل، وكيف تم استقبالها ومناقشتها؟ وهل تُشكّل هذه التسميات حركةً شارك فيها العديد من الفنانين؟ وبكل بساطة، هل يوجد شيء اسمه الفن المفاهيمي في إفريقيا، أم أنه مجرد مصطلح مستمَدّ كجزء من مشروع استعماري جديد لتاريخ الفن الحديث؟
في الواقع إن الفن المفاهيمي كان مُمارسًا نَشِطًا لقرون في الفن الإفريقي قبل فترة طويلة من إعادة اختراعه في الفن الغربي في القرن العشرين. لم يُطلق مبتكروه الأفارقة في الأصل على هذا الفن اسم الفن المفاهيمي. بالنسبة للأفارقة، كان الفن تجربة مُعاشَة تتجلَّى في فنهم اليومي. اتخذ الفن شكلًا أدائيًّا وبصريًّا. كانت الأشياء الموجودة والمواد المتنوعة غير المرغوب فيها المستخدمة لإبقاء فكرة فنية حية موضع استنكار في نظر العديد من الغربيين على الرغم من أن هذا الفن العام في إفريقيا أظهر حساسية تجاه البيئة.
هناك عجز علمي هائل في دراسة الفن المفاهيمي في إفريقيا. وقد دفَع هذا بعض النقاد الغربيين الأوائل، الذين بدأوا في الكتابة عن الفن الإفريقي، إلى الاهتمام المفرط بتمجيد الذات، ودرسوا التأثير الأوروبي على الفن الإفريقي وظلوا صامتين بشأن الكيفية التي جلبت بها فنون إفريقيا اهتمامًا متجددًا بفن القرن العشرين. لقد اقتصروا على دراسة الفن الإفريقي بطبيعته الرمزية ووظيفته اليومية وأبعاده الدينية السحرية والاجتماعية السياسية لرسم صور إدراكية غريبة وعادية للفن الإفريقي؛ ونتيجة لذلك، تم تصنيفه على أنه “فن بدائي”. ولكن من عجيب المفارقات أن هذا الفن ألهم الحركات الفنية في القرن العشرين. بابلو بيكاسو Pablo Picasso وهنري مور Henry Moore وقد أعلن فنانون غربيون آخرون علنًا ولاءهم للفنون الإفريقية. والاستخدام العشوائي للألوان والأفكار المفاهيمية والتجريدية التي ظهرت في الفن الغربي هي إرث مؤكد للفن الإفريقي([30]).
الدور المحوري للفن الإفريقي في التكعيبية الأوروبية:
كتب أحد مؤرخي الفن الأفارقة المشهورين، كوجو فوسو Kojo Fosu، ما يلي:
“كان الفن الإفريقي عاملًا ساعد في إنقاذ الفنانين الأوروبيين المعاصرين من الانحطاط الفني والملل. فعندما تم إدخال الفن التكعيبي والفن التعبيري إلى أوروبا لأول مرة، بعد قرون من وجودهما في إفريقيا، جلبا حيوية جديدة للمتاحف والمعارض الأوروبية، كما جلبا مكاسب اقتصادية لم تكن مستغلة لبعض جامعي وخبراء الفن الأوروبيين”. وفقًا لفانسينا Vansina لقد “بدأ الاعتراف الأوسع بالفنون الإفريقية في عام 1905م عندما اعترف بها فنانو الطليعة الأوروبيون في فرنسا ثم في ألمانيا. وتبع ذلك موجة من الحماس الهستيري تقريبًا”([31]).
في الخطاب حول الفن الإفريقي، يُحدّد هنري مور Henry Moore إلهامه من المعروضات في المتحف البريطاني ويقول: “لقد كنت مهتمًّا بشكلٍ خاصّ بالمنحوتات الإفريقية African والباسيفيكي Pacific، وشعرت أن وصف “بدائية” كان وصفًا مُضلِّلاً لها؛ حيث يُوحي بالفظاظة وعدم الكفاءة. لقد كان من الواضح بالنسبة لي أن هؤلاء الفنانين لم يحاولوا وفشلوا تمثيل الشكل البشري بطريقة طبيعية، بل كان لديهم تقاليدهم الخاصة”. ولقد تفاعل بيكاسو أيضًا مع القوة السحرية التي أحسَّ بها في أشياء “الفن القبلي”، وأعرب عن أسفه لأن “التقاليد الغربية فقدت الاتصال بالحس البدائي لصنع الصور كعملية سحرية”. وحتى أواخر القرن العشرين، كانت الحواجز الثقافية والجغرافية تُوفّر للغربيين فرصة محدودة لفحص تصورات الأفارقة عن أعمالهم الفنية. وبدون النظر إلى هذا التبصر المضمّن في الفن الإفريقي، اهتم بعض الغربيين الذين بدأوا في الكتابة عن الفن الإفريقي بدراسة التأثير الأوروبي على الفن الإفريقي، والتزموا الصمت بشأن الكيفية التي جلب بها فن إفريقيا اهتمامًا متجددًا بفن القرن العشرين. كما ركزوا فقط على طبيعته الرمزية، اليومية. وفي ذات السياق يتساءل روبين Rubin لماذا استغرق الأمر نحو نصف قرن قبل نشر ما وصفه بأنه “أول معالجة علمية شاملة” لموضوع تأثير الفن الإفريقي على الغرب، على الرغم من أن هذا التأثير كان معروفًا منذ فترة طويلة في أعمال الرسامين والنحاتين الغربيين.([32])
ويقر شوب Scheub وجونر Gunner بأنه في حين يميل العديد من المراقبين إلى تعميم الفن الإفريقي “التقليدي”، فإن القارة مليئة بالشعوب والمجتمعات والحضارات، ولكل منها ثقافة بصرية فريدة. ويتم تمثيل العديد من الفنانين الأفارقة المعاصرين في مجموعات المتاحف التي تُصوّر على أنها إرث مسروق من القوى الإمبريالية الغربية بمبدأ على الفن الإفريقي المعاصر إن الفن الإفريقي يُجسّد كل ما هو صوفي وروحي وعاطفي وجذاب في إفريقيا. يمكن أن يثير الفرح أو الخوف، والاستجابات العاطفية المتفائلة أو المذهولة. إنه خيالي ومضيء ومعقد، وفي أنقى صوره، جميل إلى حدّ لا يُقاس … الأهمية الجمالية للفن الإفريقي لعالم الفن اليوم هائلة. في ذهني، لا توجد قارة أخرى يمكن لدراسة فنونها أن تلقي مثل هذا الضوء الروحي والفكري المفيد على البنية المجتمعية لمجتمعاتها التي سكنت، وتسكن حاليًّا، هذه الكتلة الأرضية الإبداعية المذهلة والغنية بالإبداعات([33]).
وفيما يلي نماذج لبعض الفنون الغربية ذات التأثير الإفريقي:
- لوحة بيكاسو “آنسات أفينيون” Les Demoiselles d’ Avignon
انتقل الرسام الإسباني بابلو بيكاسو إلى باريس لمواصلة دراساته الفنية؛ وهناك، كما فعل العديد من فناني تلك الفترة، ذهب لزيارة متحف تروكاديرو؛ حيث عرُضت فيه قِطَع أثرية من الفن الإفريقي. ومنذ ذلك الحين، بدأ بيكاسو في جمع أشياء من الفن الإفريقي، مثل الأقنعة والمنحوتات. وقد شاركه هذا الاهتمام بالفن الإفريقي صديقه ومنافسه ماتيس. المواجهة الحقيقية بين بيكاسو والفن الإفريقي حدثت حين زار متحف تروكاديرو للمرة الأولى. وهنا، كما يتذكر بيكاسو نفسه في حوار مع مالرو Malraux، كان الانطباع الأول هو الرفض، ولم يدرك إلا في المرة الثانية الأهمية الفعلية للفن الإفريقي في لوحاته الثورية([34]).
بلغ بيكاسو ذروة فترته “الإفريقية” بلوحة “فتيات أفينيون” التي رسمها عام 1907م. غالبًا ما يُنْظَر إليها باعتبارها المُحفّز للحركة التكعيبية؛ حيث تُمثّل انحرافًا رائدًا عن المعايير الفنية التقليدية. ومن الجوانب اللافتة للنظر في هذه اللوحة التأثير الواضح للأقنعة الإفريقية في تصوير الشخصيات. في لوحة “فتيات أفينيون”، نجح بيكاسو بمهارة في دمج عناصر الفن الإفريقي، مثل استخدام الأشكال الهندسية الجريئة، والأشكال المجزأة، والتركيز على البدائية. وقد تم تصوير الشخصيات العارية الخمس في اللوحة بملامح حادة ومتقطعة، مما يستحضر اللغة البصرية للأقنعة والمنحوتات الإفريقية. وكان هذا الدمج للجماليات الإفريقية ثوريًّا في ذلك الوقت؛ حيث تحدى النهج الغربي التقليدي في التمثيل. كان اندماج التقاليد الفنية الإفريقية والغربية في هذه اللوحة بمثابة نقطة تحول ثورية في تطور الفن الحديث. كما أرسى الأساس للتكعيبية، وهي الحركة التي من شأنها أن تُغيِّر جذريًّا الطريقة التي ينظر بها الفنانون إلى العالم ويُصوّرونه([35]).
بالإضافة إلى اثنين من أهمّ رواد الحداثة، ماتيس وبيكاسو، أثر الفن الإفريقي أيضًا على فنانين مهمين آخرين، على الرغم من نجاحهم الأقل. أميديو موديلياني Amedeo Modigliani كان رسامًا إيطاليًّا فرنسيًّا من أصول يهودية، أظهر منذ صِغَره ميلًا إلى الفن، فضلاً عن مزاج متمرد، على الرغم من صحته الهشَّة. كان مساره الفني دائمًا مستقلًّا. ففي عام 1902م، قرر مغادرة مسقط رأسه، ليفورنو، والانتقال إلى فلورنسا. وهناك التقى بمدرسة العري الحرة، ثم واصل دراسته في البندقية. في عام 1906م وصل إلى باريس؛ حيث تمكّن من اللحاق بالاتجاهات الفنية المتأخرة بين شوارع مونمارتر Montmartre ومونبارناس Montparnasse. في باريس، عرف موديلياني ما الذي كان مفتونًا به. وبفضل البدائية، بدأ في دمج الأشكال الطويلة للأقنعة في لوحاته، وكذلك العيون المقطوعة، والتي فسرها على أنها مرآة الروح([36]).
- براكوا Braque والنحت الإفريقي
لعبت الجوانب اللمسية والهندسية للنحت الإفريقي دورًا محوريًّا في استكشاف جورج براك للتكعيبية التحليلية. كان انغماس النحت الإفريقي في المشهد الفني في أوروبا في أوائل القرن العشرين لحظة عميقة تركت بصمة لا تُمحَى على فنانين مثل جورج براك. تأثرت رحلة براك نحو التكعيبية التحليلية بشكل كبير بالصفات اللمسية والهندسية المتأصلة في المنحوتات الإفريقية. لقد منح الفن الإفريقي، بأشكاله المبسطة والقوية في الوقت نفسه، براك منظورًا جديدًا للتمثيل الفني. فقد ألهمته القوام الملموسة والأشكال الهندسية الجريئة الموجودة في المنحوتات الإفريقية لتفكيك الأشياء إلى أشكال هندسية أساسية وتمثيلها من وجهات نظر متعددة. وقد أدَّى هذا اللقاء التحويلي إلى تطوير التكعيبية التحليلية، وهي حركة تتميز بالتراكيب المعقدة والتركيز على جوهر الأشكال. إن مشاركة براك في النحت الإفريقي تُوضّح كيف يمكن للتبادل الفني أن يدفع الابتكار ويفتح الباب أمام حركات رائدة. لم يعمل الفن الإفريقي على توسيع مفردات براك الفنية فحسب، بل أثرى أيضًا المشهد الأوسع للفن الحديث من خلال تحدي المفاهيم التقليدية للتمثيل والمنظور. في هذا السياق، يظل تأثير النحت الإفريقي على أعمال براك شهادة على التفاعل العالمي للأفكار الفنية والتأثير الدائم للتبادل الثقافي في عالم الفن([37]).
تعلم النحات الروماني قسطنطين برانكوسي Constantin Brancusi الأسلوب البسيط للفن الروماني، في المرة الأولى كنجار، ودرس في عام 1898م في أكاديمية الفنون الجميلة في بوخارست. ثم قرر مغادرة بلاده، وانتقل إلى ميونيخ حيث عاش عام 1904م، ثم إلى باريس. وهناك، بعد العمل لمدة عامين أقام أول معرض له في باريس عام 1906م؛ وقد حقَّق نجاحًا كبيرًا في الولايات المتحدة، وذلك بفضل معرض أقيم في عام 1913م في نيويورك؛ حيث عرض خمسة من أعماله. وبفضل برانكوسي أيضًا، انفتحت السوق الفنية الأمريكية على الفن الإفريقي، الذي يُنْظَر إليه الآن باعتباره تعبيرًا جماليًّا فعليًّا. اشتهر برانكوسي بالأشكال الشبكية والنحت المباشر لمنحوتاته، في البداية على الخشب، ثم على البرونز أو الرخام. ورغم أنه لم يكن يعرف سوى القليل عن الفن الإفريقي، إلا أنه أثَّر عليه بشكل ملحوظ. وكما حدث مع الفن الشعبي الروماني، فقد استخدم في حالة الفن الإفريقي أيضًا تقنيات النجارة ورمزيتها وسحرها. تماثيل مثل الزنجية البيضاء وزنجية شقراء إن هذه الأعمال تكشف عن تأثير مباشر للنحت الإفريقي على برانكوسى، كما اعترف الفنان نفسه([38]).
- روثكو Rothko والحقيقة الكونية
ورغم أنها أقل وضوحًا، فإن العمق والدلالات الروحية في أعمال روثكو تعكس الغموض الذي يحيط بها. الروحانية والنزعة التصوفية موجودة في العديد من القطع الفنية الإفريقية. يُعتبر مارك روثكو، أحد الشخصيات البارزة في التعبيرية التجريدية، مشهورًا باستخدامه الجذاب للألوان والأشكال. ورغم أن أعماله قد لا تثير مقارنات مع الفن الإفريقي على الفور، فإن الفحص العميق يكشف عن أوجه تشابه دقيقة في جوهرها الروحي الأساسي. في لوحات روثكو، تخلق طبقات الألوان والملمس تجربة غامرة للمشاهد، وتدعوه إلى التأمل والتأمل ويتردد صدى هذا النهج مع الصفات الروحية والصوفية التي غالبًا ما تُنْسَب إلى الفن الإفريقي. وتشترك لوحات روثكو والأعمال الفنية الإفريقية في هدف مشترك: تجاوز العالم المادي والفيزيائي والاستفادة من حقيقة عالمية أو وعي أعلى([39]).
استمر الفن الإفريقي في ممارسة تأثيره، من خلال التكعيبية وممثلها الرئيسي بيكاسو، حتى بعد النهاية المثالية لفترته “الإفريقية”، في عام 1909م. وفي كلتا مرحلتي التكعيبية، التحليلية والتركيبية، كان هذا التأثير مستمرًّا، على الأقل من وجهة نظر مفاهيمية وجمالية، وإن لم يكن فيما يتعلق بتقنيات الرسم المحددة. إن الغرب وإفريقيا يتفاعلان اليوم بشكل كبير وقد أعطانا ميغيل بارسيلو Miquel Barceló الرسام الإسباني نظرة ثاقبة في هذا التفاعل، يتعين علينا أن نأخذ إشارة من نهجه تجاه الفن الإفريقي والثقافة من أجل فَهْم أنفسنا وتعليمها وإثرائها بشكل أفضل.
يمكن للعقل الإفريقي والعقل الغربي أن يلتقيا عند نقطة التقاء. ومن خلال التعرف على الاتجاهات الحالية في الفن الإفريقي، يمكننا أن نرى مدى تغيُّره بشكل كبير على مر الزمن. وعلى الرغم من التغيرات في الموقف تجاه الشعب الإفريقي وثقافته، ومازالت قيمتها الفنية بعيدة كل البعد عما تستحقه بشدة، فقد لعب الفنانون الأوروبيون دورًا في عرض هذه الثقافة للعالم الغربي. ميغيل بارسيلو هو مثال لهذا التغيير الذي طرأ على وعي العقل الغربي. ومن خلال استكشاف ميغيل من خلال أعمال بارسيلو والتجارب التي ألهمت تعبيراته، يمكننا أن نرى كيف أن هذه التغييرات مهمة لفهمنا للعلاقة المعاصرة بين الفن والثقافة الإفريقية وتأثيرها على الفن الغربي. وتكمن الأهمية بين بارسيلو وبقية تاريخ الفن الأوروبي خلفه. فهو يُقدّم إفريقيا كما هي، باحترام وكرامة، وبدون أن يكون مجرد صورة كاريكاتورية لما يراه العالم منه، وفي الوقت نفسه يكون هو نفسه غربيًّا، متفرجًا، وصديقًا، ليس أكثر من ذلك. هذا التعبير عن إفريقيا مَن يجسّد ميغيل بارسيلو العلاقة المعاصرة مع إفريقيا([40]).
من خلال عمل بارسيلو، فقد لعبت إفريقيا دورًا هائلًا في كل جانب من جوانب نهجه، سواء من خلال الموضوع أو النهج، أو ببساطة في الطريقة التي تؤثر بها عناصر البيئة على السطح. لقد أظهر بارسيلو قدرته على السماح لإفريقيا بترك بصمة على شخصيته. لقد منحنا من خلال عمله مكانًا محتملًا للتبادل الصادق والفحص السليم، دون أن يفقد المرء هويته في هذه العملية، ودون أن يمس كرامة الآخرين. الأشخاص المعنيون. وقد سمح هذا لعلاقته بإفريقيا بأن تؤدي إلى علاقة غنية وديناميكية واتصال قوي([41]).
على مدى أكثر من قرن من الزمان، كان الفن الإفريقي يتمتع بجاذبية ساحرة بالنسبة للفنانين الغربيين؛ حيث جذبهم إلى عالمه من الأشكال المجردة والخطوط المعبرة والرمزية العميقة. ولا يمكن إنكار تأثيره على الفن الغربي؛ حيث تغلغل في إبداعات كبار الفنانين، وأثَّر على الحركات الفنية بأكملها. وقد نسج هذا الافتتان عبر الثقافات نسيجًا غنيًّا من الإلهام والتكيُّف. لقد انبهر الفنانون الغربيون بالعمق الروحي للفن الإفريقي. ولقد أشعلت لقاءاتهم بالأقنعة والمنحوتات والمنسوجات الإفريقية شرارة إبداعية. وقد أعاد هؤلاء الفنانون الغربيون تفسير الجماليات الإفريقية، وتحرروا من القيود التقليدية، واستكشفوا أبعادًا جديدة للتعبير([42]).
الفن وكيفية تفسيره للحقيقة والتاريخ:
يرى مارتن هايدجر أن الفن عبارة عن معيار تكشف من خلاله الحقيقة عن نفسها، ويصنع التاريخ، ويستمر الواقع في التكشف بكامله. وعلى حد تعبيره: الفن هو نشوء الحقيقة وحدوثها. ويمضي إلى أبعد من ذلك فيؤكد أن الفن “يؤسس التاريخ”؛ من خلال “السماح للحقيقة بالظهور”. وبالاستدلال على ذلك، فإن الحقيقة تُفسِّر في الفن. ويكفي أن نقول: إن الفن يُمهّد الطريق إلى الكشف عن “ما هو موجود” والحفاظ عليه. ومن ناحية أخرى، سوف نستكشف المفهوم الإفريقي للفن، وكيف يرتبط بالتاريخ ويشرح بعض المفاهيم والمثل الفلسفية. بالنسبة للأفارقة، الفن هو جانب من جوانب التاريخ، ومن خلال هذا، الواقع والأفكار المفاهيمية يتم شرحها من خلال الفن. الفن لا ينفصل أبدًا عن الثقافة وبعض الظواهر والقيم التقليدية. إنه يتحدَّث ويُوجّه ويُحدّد ويحيي بعض الأفكار الفلسفية المهمة والقيم الأساسية([43]).
إن الفن كمفهوم بالنسبة لهايدجر لا يمكن تفسيره أبدًا بدون مفهومي الوجود والحقيقة. فهو وسيلة “تأتي الحقيقة من خلالها لتتحقق وتكون في العالم “الواقعي”. ومن خلال الفن، يأتي “ما هو موجود” بوضوح إلى الكشف والحفظ. ويزعم هايدغر أن الفرد المبدع في العمل الفني يكشف “حقيقة الوجود” داخل منطقة الخطاب. ويُلقي الضوء على عالم غير مألوف أو منسي.
ويرى هايدجر أن الفن هو جانب لا غِنَى عنه من جوانب الواقع؛ حيث ينشأ التاريخ من خلاله، أو يظل مستمرًّا من أجل الأجيال القادمة. والفن ليس سوى معيار تكشف من خلاله الحقيقة عن نفسها، ويصنع التاريخ، ويستمر كل شيء في التكشف. إن جوهر الفن من حيث مفهومي الوجود والحقيقة، هو أنه لا يُشكّل وسيلة للتعبير عن عنصر الحقيقة في ثقافة ما فحسب، بل إنه يُشكّل وسيلة لخلق هذه الحقيقة وتوفير نقطة انطلاق يمكن من خلالها الكشف عن “ما هو موجود”. إن هايدجر يهتم أكثر بكيفية جعل الوجود يظهر من خلال الأعمال الفنية. فهو يرى أن الفن لا ينبغي أن يكون تمثيليًّا، بل ينبغي أن يكون متورطًا وناشئًا ذاتيًّا. وهو يزعم أن الجماليات وحركاتها نجحت في إخفاء أو إخفاء الفهم الحقيقي أو التنوير للوجود حتى يتسنى لنا أن نقترب من الوجود ونعرفه بوضوح وشمول([44]).
بالنسبة للمفهوم الإفريقي للفن هو أحد جوانب الحياة الغامضة بالنظر إلى إبداعه. فهو يتجاوز في الأساس مجرد التمثيل المادي لشخص أو ظاهرة. فهو يتجاوز العمل الفني بذكاء ليُصوّر الواقع والتاريخ. ويتفق بيواجي Bewaji مع هذا الرأي عندما يكتب: “يشمل الفن الإفريقي العناصر المرئية وغير المرئية، الملموسة وغير الملموسة للتمثيل والتقديم الفني؛ بحيث يُشكّل كل جانب تقريبًا من جوانب الحياة مجالًا حقيقيًّا للحفاظ على الفن وتطبيقه”.
من خلال الفن، يُعبِّر الإنسان عن كيانه الداخلي وقدرته على الإبداع والتعبير عن الكيان الذي يكمن وراء هذا الإبداع. في المنظور الإفريقي، لا يمكن المبالغة في أهمية الأعمال الفنية وتداعياتها الأساسية حيث تمسّ الفنون كل جانب من جوانب الحياة الإفريقية. بالنسبة للأفارقة، يحمل الفن في حدّ ذاته التاريخ، ويمثل حقيقة ظاهرة أو حدثًا، وما إلى ذلك. لا يمكن تفسير الميتافيزيقيا الإفريقية ونظرة العالم بالكامل دون أن تُعبِّر الأعمال الفنية عن الروح أو الآلهة التي تنقلها وجوانب الواقع الإلهي المرتبطة بها عمليًّا([45]).
من خلال الفنون وتمثيل غير المرئي، تتجلى حقيقة الممثل غير المرئي. وبالتالي، تقف الأعمال الفنية كوسيلة للاتصال بين المرئي وغير المرئي. وبالتالي، فإن التمثيل العملي للآلهة في الأعمال الفنية يضع في الواقعية والتجريبية المثالية والتجريدية التي كانت بعيدة عن متناول المفاهيم. إنها تُقرِّب حضور غير المرئي من المرئي من أجل التأثيرات الوجودية.
إن فكرة الأعمال الفنية تفترض فكرة التاريخ، فالأعمال الفنية تقدم تاريخًا متطابقًا لشعب ما. ومن منظور ديني للشعب، تظهر الأعمال الفنية التحول في أنشطته الدينية من وقتٍ لآخر. إن فنون الإيغبو كما أثبتتها الحفريات تُعطي أساسًا معرفيًّا تاريخيًّا فيما يتعلق بشعب الإيغبو. تُصوّر هذه الظواهر الفنية عصر الحضارة والإبداع لدى شعب الإيغبو. كما تشرح الإستراتيجيات الاقتصادية وأنماط ريادة الأعمال التي انخرط فيها هذا الشعب، والتي من خلالها يُعزِّزون قوتهم الاقتصادية. يتحدَّث الناس ويعرضون جمالهم من خلال هذه الفنون. ومن خلال هذا، يصورون حقيقة وجود الإيغبو وتجربته([46]). بالنسبة للأفارقة، وكما يمكن أن يقال عن هايدجر، فإن الفن يُعبِّر عن حقيقة عصر ما والأحداث التي جرت في ذلك العصر بالذات. إنه أرشيف في حد ذاته. إنه يُسجّل الأحداث. إنه جزء من التاريخ ويقف كدليل على حقيقة أو حقيقة وجود أو ظاهرة ما.
إن ما يُميّز الفن الإفريقي الحديث على وجه التحديد هو التأثير الذي لحق بالفن الزنجي. فقد دمج مبدعو الفن الإفريقي الحديث الأفكار والقِيَم المحددة للفن التقليدي لإظهار انفتاح الروح البشرية على حقائق أخرى. وقد أدَّى هذا إلى تأملات تؤدي إلى تغييرات مهمة في طريقة إدراك الأشياء الفنية. ويصف الفن الإفريقي الحديث السوابق التاريخية والتجارب الاجتماعية والسياسية الحالية ومستقبل الشعب الإفريقي. وقد استوحى الفن الإفريقي الحديث إلهامه من التجارب الدينية التقليدية فيما يتصل بإنشاء الفن التقليدي لاختراق الحقيقة المخفية. ومن المنظور نفسه، أثَّر الفن التقليدي الإفريقي على الفن الأوروبي الحديث. فلم يعد الفن الأوروبي الحديث مجرد كائن جمالي، بل أصبح يحمل “معنًى روحيًّا كاملًا” “للحوار بين الموتى والأحياء”، وهذا يعني أنه بالإضافة إلى الجوانب، الجمالية، يدمج الفنانون الأوروبيون الحديثون الجانب التاريخي والتجربة الإنسانية([47]).
خاتمة:
لقد شكَّل الفن الإفريقي، رغم كلّ محاولات الطمس والتهميش التي تعرَّض لها خلال الحقبة الاستعمارية، قوة إبداعية عصية على الإلغاء. فقد ظلّ حاملًا لروح الشعوب الإفريقية، مُعبِّرًا عن رؤيتها العميقة للعالم، ومُجسِّدًا لمزيج فريد من الرمزية والتجريدة والطقسية. ومع انفتاح الفن الغربي في بدايات القرن العشرين على مصادر إلهام جديدة، دخل الفن الإفريقي إلى قلب الحركات الطليعية، مؤثرًا بشكل مباشر على تطور مفاهيم الشكل، واللون، والفراغ، ومعيدًا صياغة الأسس الجمالية التي كانت تحكم الفن الأوروبي التقليدي.
ومع ذلك، لم يكن هذا التفاعل خاليًا من التعقيدات. فقد جرى غالبًا عبر نظرة استشراقية تقتطع الأعمال الإفريقية من سياقها الثقافي والروحي، لتعيد توظيفها ضمن رؤى غربية حداثية. إلا أن هذه العلاقة المعقدة كشفت في الوقت نفسه عن قدرة الفن الإفريقي على تجاوز الحدود، والتأثير العميق الذي يمكن أن تمارسه الثقافات المهمشة على مراكز الإبداع العالمية.
في النهاية، يؤكد تاريخ التفاعل بين الفن الإفريقي والفن الغربي على حقيقة مركزية: أن الإبداع لا يعرف حدودًا ثابتة، وأن الحوارات الفنية، مهما شابَها من اختلالات، تبقى قادرة على تجديد الرؤية الجمالية للإنسان، وعلى إبراز الغنى الكامن في تنوع التعبير الثقافي عبر الأزمنة والفضاءات. لقد كان تفاعل الفنانين الغربيين مع الفن الإفريقي رحلة اتسمت بالاكتشاف والافتتان وسوء التفسير في بعض الأحيان. ويؤكد هذا التفاعل الديناميكي على ضرورة التفاهم والاحترام بين الثقافات في الساحة الفنية العالمية. وعلى الرغم من التحديات، فإن ما يظل لا يمكن إنكاره هو التأثير العميق والدائم للفن الإفريقي على تطور الفن الغربي الحديث. وهو بمثابة شهادة على عالمية التعبير الفني والإبداع البشري. لقد استلهم الفنانون الغربيون أعمالهم من الأشكال الجريئة والتصاميم المعقَّدة والعمق الروحي للفن الإفريقي. ومن افتتان التكعيبيين بالأقنعة الإفريقية إلى استكشاف التعبيريين التجريديين للجماليات الإفريقية، كان هذا التأثير واضحًا في العديد من الحركات الفنية. لقد أثرى الفن الإفريقي المفردات الفنية الغربية وتحدى المفاهيم التقليدية للتمثيل، وألْهَم الإبداعات المتنوعة.
وبناءً على ما تقدّم يمكن حَصْر أهم الاستنتاجات في النقاط التالية:
- شكّل الفن الإفريقي منظومة جمالية وثقافية غنية، عكست عبر رموزه وأشكاله الروح الجماعية للشعوب الإفريقية.
- خلال الحقبة الاستعمارية، تعرَّض الفن الإفريقي لمحاولات طمس وتهميش ممنهجة؛ حيث صُوِّر كفَنّ “بدائي” فاقد للقيمة الحضارية.
- على الرغم من هذه المحاولات، ظل الفن الإفريقي محتفظًا بجوهره التعبيري القوي، وظل مصدر إلهام حي ومتجدد.
- مع بدايات القرن العشرين، جذب الفن الإفريقي انتباه الفنانين الغربيين، الباحثين عن أشكال تعبير جديدة خارج الأُطُر الأكاديمية التقليدية.
- كان للفن الإفريقي تأثير واضح في نشأة حركات فنية غربية كبرى مثل التكعيبية والسريالية، من خلال تقديم رؤى مغايرة لمفاهيم الشكل والفراغ والرمز.
- تميَّز هذا التفاعل بين الفن الإفريقي والغربي بالتعقيد؛ إذ حمل في طياته جوانب من الإلهام والإبداع، وجوانب أخرى من الاقتطاع والاستغلال الثقافي.
- كشف هذا التفاعل عن أهمية التنوع الثقافي كقوة خلاقة في تطوير الفنون العالمية، وكسر الحواجز التقليدية بين ما كان يُسمى “المركز” و”الهامش”.
- يؤكد الفن الإفريقي، بتأثيره العابر للحدود، أن الإبداع الإنساني مشترك، وأن الحوار الثقافي، رغم عثراته، يظل أداة أساسية لتجديد الرؤى الفنية وتوسيع آفاق التعبير الجمالي.
…………………………….
[1] – Onebunne, Jude I. (2023). AFRICAN PHILOSOPHY OF ARTS AND LITERATURE A Critical Appreciation in a Global Community. Nnadiebube Journal of Languages and Literatures (NJLL). Vol 1, No 1. P. 13.
[2] – ANYANWU, K. (1987). The idea of art in African thought. Contemporary philosophy. A new surve y. Martinus Nijho ff Publishers, Dordrecht/Boston/Lancaster. Vol. 5. pp. 235—260. P. 235, 236.
[3] – الفــن الإفريقي يأخذك إلى عوالم أسطورية. (2019). https://africa.sis.gov.eg/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%83%D8%AA%D8%A8%D8%A9/%D8%AF%D8%B1%D8
[4] – Onebunne, Jude I. (2023). AFRICAN PHILOSOPHY OF ARTS AND LITERATURE A Critical Appreciation in a Global Community. P. 22.
[5] – الفــن الإفريقي يأخذك إلى عوالم أسطورية. (2019). https://africa.sis.gov.eg/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%83%D8%AA%D8%A8%D8%A
[6] – المرجع السابق
[7] – Bussotti, S. M., & Bussotti, L. (2022). The Africanization of the European Art: A Short History and Its Contemporary Evolution (19th-21st Centuries). Advances in Historical Studies, 11, 65-80. p.65. https://doi.org/10.4236/ahs.2022.112007
[8] – Onebunne, Jude I. (2023). AFRICAN PHILOSOPHY OF ARTS AND LITERATURE A Critical Appreciation in a Global Community. P. 3.
[9] – Essel, Osuanyi Quaicoo & Acquah, Ebenezer Kwabena. (2016). Conceptual Art: The Untold Story of African Art. Journal of Literature and Art Studies. Vol. 6., No. 10. P. 1207.
[10] – BOYLAN, MEGHAN. (2009). A CONTEMPORARY DISCUSSION ABOUT THE INFLUENCE OF AFRICAN ART AND CULTURE ON EUROPEAN ART WITH AN EMPHASIS ON MIQUEL BARCELÓ. P. 15.
[11] – Liu, Yuhan. (2024). Identity and Expression: The Influence of African Art on Modern Western Artists. P. 367. https://www.researchgate.net/publication/379315589
[12] – Essel, Osuanyi Quaicoo & Acquah, Ebenezer Kwabena. (2016). Conceptual Art: The Untold Story of African Art. P. 1205.
[13] – ANYANWU, K. (1987). The idea of art in African thought. Contemporary philosophy. P. 244, 245.
[14] – Adesuyi, Olukayode R. African Arts as Bedrock of African Philosophy. UJAH: Unizik Journal of Arts and Humanities. P. 116.
[15] – Essel, Osuanyi Quaicoo & Acquah, Ebenezer Kwabena. (2016). Conceptual Art: The Untold Story of African Art. P. 1208.
[16] – Ibid.
[17] – Liu, Yuhan. (2024). Identity and Expression: The Influence of African Art on Modern Western Artists. P. 367.
[18] – عابدين، سارة. (2022). تاريخ الفن الإفريقي بين الاستعمار والحداثة. https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/print//arts/2022/1/23
[19] – Burt, Ben. WHAT IS AFRICAN ART? SUPPORT NOTES FOR TEACHERS. P. 5,6.
[20] – Bussotti, S. M., & Bussotti, L. (2022). The Africanization of the European Art: A Short History and Its Contemporary Evolution (19th-21st Centuries). P. 66.
[21] – Ibid. P. 68.
[22] – Liu, Yuhan. (2024). Identity and Expression: The Influence of African Art on Modern Western Artists. P. 363.
[23] – Essel, Osuanyi Quaicoo & Acquah, Ebenezer Kwabena. (2016). Conceptual Art: The Untold Story of African Art. P. 1203.
[24] – Liu, Yuhan. (2024). Identity and Expression: The Influence of African Art on Modern Western Artists. P. 363.
[25] – Essel, Osuanyi Quaicoo & Acquah, Ebenezer Kwabena. (2016). Conceptual Art: The Untold Story of African Art. P. 1209.
[26] – Fosu, K. (1975). Art and sculpture of the black peoples of Africa. In World encyclopedia of black peoples (Vol. 1, pp. 33-44). Michigan: Scholarly Press, Inc. p. 34.
[27] – Essel, Osuanyi Quaicoo & Acquah, Ebenezer Kwabena. (2016). P. 1211.
[28] – Njiofor, Justin C. (2018). the CONCEPT OF BEAUTY: A STUDY IN AFRICAN AESTHETICS. Asian Journal of Social Sciences & Humanities Vol. 7(3). P. 32.
[29] – Essel, Osuanyi Quaicoo & Acquah, Ebenezer Kwabena. (2016). Conceptual Art: The Untold Story of African Art. P. 1217.
[30] – Essel, Osuanyi Quaicoo & Acquah, Ebenezer Kwabena. (2016). Conceptual Art: The Untold Story of African Art. P. 1218.
[31] – Ibid. P. 1204.
[32] – Ibid.
[33] – Onebunne, Jude I. (2023). AFRICAN PHILOSOPHY OF ARTS AND LITERATURE A Critical Appreciation in a Global Community. P. 22.
[34] – Bussotti, S. M., & Bussotti, L. (2022). The Africanization of the European Art: A Short History and Its Contemporary Evolution (19th-21st Centuries). P. 69.
[35] – Liu, Yuhan. (2024). Identity and Expression: The Influence of African Art on Modern Western Artists. P. 364.
[36] – Bussotti, S. M., & Bussotti, L. (2022). The Africanization of the European Art: A Short History and Its Contemporary Evolution (19th-21st Centuries). P. 71.
[37] – Liu, Yuhan. (2024). Identity and Expression: The Influence of African Art on Modern Western Artists. P. 365.
[38] – Bussotti, S. M., & Bussotti, L. (2022). The Africanization of the European Art: A Short History and Its Contemporary Evolution (19th-21st Centuries). P. 73.
[39] – Liu, Yuhan. (2024). Identity and Expression: The Influence of African Art on Modern Western Artists. P. 366.
[40] – BOYLAN, MEGHAN. (2009). A CONTEMPORARY DISCUSSION ABOUT THE INFLUENCE OF AFRICAN ART AND CULTURE ON EUROPEAN ART WITH AN EMPHASIS ON MIQUEL BARCELÓ. P. 29, 30.
[41] – Ibid. P. 53.
[42] – Liu, Yuhan. (2024). Identity and Expression: The Influence of African Art on Modern Western Artists. P. 363.
[43] – Ugwu, A. Kingsley & Ngwoke, H. Chimezie. (2021). HEIDEGGER’S CONCEPT OF ART AND THE AFRICAN CONCEPT OF ART: AN INSIGHT INTO THE DISCOURSE OF BEING AND TRUTH. Philosophy and Praxis, Vol. 11. No. 2. P. 35, 36.
[44] – Ibid. P. 38, 39.
[45] – Ibid. P. 40.
[46] – Ibid. P. 44.
[47] – Uchechukwu, ONAH Aloysius. (2023). ATRADITIONAL ART, MODERN AFRICAN ART AND AFRICAN MASKS: AN EXPRESSION OF GLOBAL SEARCH FOR THE ABSOLUTE. AKU: AN AFRICAN JOURNAL OF CONTEMPORARY RESEARCH. Vol. 4 No. 4. P. 27.