“لا أستطيع أن أكتب عن حياتي لأني قد نسيت الكثير من كلامي وكذلك كلام العرب. يا إخواني، سألتكم بالله لا تلوموني، وذلك لضعف عيني وجسدي كذلك. اسمي عمر بن سعيد، مكان مولدي هو فوتا تورو، ما بين النهرين.. وقد طلبت العلم لمده 25 سنة. الى أن جاء إلى بلدنا جيش كبير. وقتل الكثير من الناس، وأسروني وسارو بي إلى بحر كبير، وقد باعوني الى رجل مسيحي اشتراني وسار بي إلى سفينة كبيرة في بحر كبير. أبحر بنا لمدة شهر ونصف حتى وصلنا إلى مكان يسمى شارلستون “
عمر بن سعيد (المتوفي 1863)
ماذا يعني أن تكون عالمًا مقدرًا في قومك، ثم تجد نفسك مستعبدًا في أرض لا تعترف بإيمانك ولا بعقلك؟ إنه عمر بن سعيد، أحد علماء غرب إفريقيا، الذي دفعت به الأقدار بعيدًا عن مدارس فوتا تورو القرآنية ليقع في فخ العبودية الأمريكية المتوحشة.
تفرض علينا قصته مواجهة هذا السؤال الذي يطرح أكثر من علامة استفهام واحدة. إذ تتحدى حياته، الممتدة من ضفاف نهر السنغال إلى مزارع كارولينا الشمالية، الرواية الأمريكية الشائعة التي تُعادل العبودية بفقدان الهوية الأصلية والاستلاب الثقافي.
وعلى عكس أي شخص مُستعبد آخر في تاريخ الولايات المتحدة، ترك عمر وراءه سيرة ذاتية باللغة العربية – شعاعًا مُنيرًا من المقاومة منسوجًا بالحبر والإيمان.
إنها ليست مجرد وثيقة؛ إنها دحض لسردية من يحاولون تغيير الوقائع التاريخية وتزييفها. دحض لأسطورة العبد السلبي، ولأسطورة التحول إلى المسيحية، ولأسطورة الصمت الفكري بين المُستعبدين. إن تحريف كلماته لاحقًا من قِبل المدافعين عن العبودية يُعمّق الحاجة المُلِحّة للعودة إلى صوته الأصلي – صوتٌ مُشبعٌ بالآيات القرآنية، والمنطق الشرعي، والتحدي الهادئ.
إن قصة عمر أو كما يحلو للبعض أن يطلق عليه اسم العم مورو ليست استثناءً؛ بل هي بوابة يمكن أن نُلقي من خلالها نظرةً فاحصة على الأبعاد الإسلامية المسكوت عنها لأمريكا السوداء في بداياتها، ومعها، الحاجة إلى إعادة صياغة كيفية حديثنا عن الإيمان، والقراءة والكتابة، والمقاومة في ظلّ تاريخ العبودية الطويل.
وهنا تأتي أهمية كتاب “لا أستطيع الكتابة عن حياتي” لكل من الباحث السنغالي امباي لو بشير وكارل دبليو. إرنست بحسبانه إنجاز أكاديمي رائد يستعيد صوت ودور عمر بن سعيد، العالم الإسلامي الفولبي من غرب إفريقيا، الذي عاش تجربة الأسر والعبور الأطلسي والاستعباد لعقود في ولاية كارولاينا الشمالية.
من خلال ترجمات جديدة، وتحليل سياقي وثقافي دقيق، يكشف المؤلفان عن صورة مغايرة لعمر، لا كمعتنق سلبي للمسيحية أو شخصية مطيعة كما تم تصويره في السرديات الأمريكية، بل كمثقف مسلم تَشهد كتاباته على صموده الروحي ومقاومته الفكرية.
هذا العمل يتحدى التشويهات المتجذّرة في تمثيل هوية عمر، ويُعيد وضعه في سياق أوسع لحضور المسلمين الأفارقة في التاريخ الأمريكي.
كما يواجه الآليات الاستعمارية والدينية والأكاديمية التي ساهمت في إسكات أو إعادة تشكيل قصته لخدمة أهداف دعائية مؤيدة للعبودية أو التبشير المسيحي.
صدر الكتاب ضمن سلسلة “الحضارة الإسلامية وشبكات المسلمين” الصادرة عن مطبعة جامعة نورث كارولاينا، ويهدف إلى نزع المصداقية عن التصورات السائدة حول الماضي الديني لأمريكا. يعتمد لو وإرنست على منهج متعدد الأدوات يجمع بين السيرة الذاتية والتحليل الفيلولوجي والنقد التاريخي. ولذلك يتعمق كل فصل في جوانب مختلفة من حياة عمر: ابتداءً من الجذور في بيئة علمية غنية بمنطقة سنغامبيا، إلى تأليفه نصوصًا عربية وهو تحت وطأة الاستعباد.
كما يناقش الكتاب سيرته الذاتية باعتبارها فعل مقاوم يكشف من خلال خطبه رسائل هادفة، كما يفضح محاولات فرض صورة زائفة عن اعتناقه المسيحية.
أضف إلى ذلك يقدّم الكتاب نقدًا قويًا لقصور بعض الباحثين السابقين والمعاصرين، ويُرفق ملاحق تشمل ترجمات دقيقة لجميع الوثائق الثمانية عشر المتبقية التي كتبها عمر، من رسائل وآيات قرآنية وأدعية وتمائم، ما يجعل هذا الكتاب معيارًا جديدًا في دراسة الإسلام والعبودية والتقاليد الفكرية السوداء في العالم الأطلسي.
الاسهامات والأفكار الكبرى:
يعد عمل امباي لو وكارل إرنست بمثابة دراسة معتبرة تعيد تقديم عمر بن سعيد، ليس كشخصية استثنائية فحسب، بل كممثل لحياة فكرية غنية عاشها كثير من الأفارقة المسلمين المستعبدين في أمريكا.
يكشف المؤلفان من خلال تحليل دقيق أن عمر لم يكن مجرد عبد يجيد القراءة والكتابة، بل كان عالمًا تأثر بتقاليد إسلامية راسخة في غرب إفريقيا، مثل التعليم الديني الشفوي، والتصوف، والدراسات القرآنية. ويبيّنان أن سيرته الذاتية التي كتبها وهو مستعبد تعبّر عن تمسكه بالإسلام، لكنها في الوقت نفسه تعكس الصعوبات التي واجهها في قول الحقيقة بسبب القمع والصمت المفروض عليه.
كما يؤكد الكتاب أن كلمات عمر تم تحريفها عمدًا، سواء من قبل مؤيدي العبودية الذين صوّروه كعبد سعيد بحاله وبحياته كمسيحي متحول، أو من خلال محاولات لاحقة لتقديمه كرمز للتسامح أو “العبد الملكي” المختلف عن بقية الأفارقة.
يقدّم المؤلفان ترجمات جديدة ودقيقة لنصوصه، ويكشفان كيف أن كتاباته كانت مليئة بالإشارات القرآنية والدينية، موجهة لفهم المسلمين فقط، وبعيدة عن إدراك مالكيه. ويؤكد الكتاب أن اللغة العربية كانت جزءًا من الثقافة الأمريكية، لكنها همّشت عمدًا.
وفي النهاية، يعيد الكتاب وضع المسلمين الأفارقة، مثل عمر، في قلب التاريخ الأمريكي، لا في هامشه، ويبرز مساهماتهم الفكرية والروحية التي طالما تم تجاهلها.
وعلى سبيل المثال كان عمر بن سعيد على دراية بشعر أبو مدين شعيب بن الحسن الأندلسي التلمساني حيث اقتبس بعضا من أشهر قصائده:
ما لذَّةُ العيشِ إلّا صحبةُ الفقرا – هم السلاطينُ والساداتُ والأمرا
فاصحبهُم وتأدَّب في مجالسهِم – وخلِّ حظَّك مهما خلّفوكَ ورا
واستغنم الوقتَ واحضر دائماً معهم – واعلم بأن الرضى يختص من حضرا
ولازِم الصمتَ إلا إن سُئِلت فقُل- لا علم عندي وكُن بالجهلِ مستتِرا
ولا تر العيب إلّا فيكَ معتقِداً – عيباً بدا بيناً لكنَّه استتَرا
وحُطّ رأسك واستغفر بلا سببٍ -وقُم على قدم الإنصافِ معتذِرا
وإن بدا منك عيبٌ فاعترف وأقم- وجه اعتذاركَ عمّا فيك منكَ جرا
وقُل عبيدُكُم أولى بصفحِكمُ- فامحوا وخُذوا بالرفقِ يا فقَرا
ولا شك أن روح التوبة التي تتجلى في هذه القصيدة تمهد الطريق للاعتذار الرسمي الذي يوجهه عمر إلى “إخوانه” الغائبين في “السيرة الذاتية”، مؤكدًا على المكون الصوفي في مجتمعه، والذي كان أبو مدين الأندلسي يجسده في اشعاره.
تحدي السرديات المهيمنة:
يقدّم امباي لو وكارل إرنست نقدًا قويًا وضروريًا للأعمال السابقة التي تناولت حياة عمر بن سعيد، خاصة تلك التي أعادت إنتاج ترجمات خاطئة دون تمحيص، أو انساقت وراء خطاب الهوية المعاصرة دون الانتباه الكافي للسياقات التاريخية والدينية التي شكّلت نصوص عمر.
يشير المؤلفان إلى أن بعض القراءات الحديثة، رغم نواياها الحسنة، تبتعد عن المعنى الحقيقي لسيرة عمر الذاتية، وتعيد إنتاج نفس أنماط الصمت والتحريف التي مارستها الأجيال السابقة.
ويُظهر الكتاب حساسية عالية لمسألة الصوت السردي وسلطة الراوي؛ فهو لا يروي قصة عمر من الخارج، بل يُعيد بناء الحكاية من خلال كلمات عمر نفسه—من رسائله وأدعيته واقتباساته القرآنية وتعليقاته الهامشية—كبوابات لفهم عالمه الداخلي وفكره، مع الاعتراف بالفراغات المسكوت عنها التي فرضها عليه التاريخ.
ويسعى المؤلفان من خلال هذه المقاربة الموضوعية إلى استعادة صوت عمر والمحافظة على نزاهته، لا فقط كجهد أكاديمي، بل كفعل إنصاف تاريخي.
وتذهب دلالات هذا العمل إلى ما هو أبعد من مجرد تصحيح للسرد؛ فالاستماع إلى صوت عمر اليوم، بعد قرنين من التحريف، هو مواجهة مباشرة مع حقائق عميقة حول العنصرية في أمريكا، وتاريخها الديني المتعدد، والإرث المستمر للعبودية.
ويأمل المؤلفان أن تساهم استعادتهما لمعاني عمر الضائعة في التأثير على البحث الأكاديمي والنقاش العام حول مكانة إفريقيا، والإسلام، واللغة العربية في الحكاية الأمريكية.
وعلى أية حال يُعدّ كتاب “لا أستطيع الكتابة عن حياتي” لكل من لو وإرنست معلمًا بارزًا في مجال استعادة التاريخ وعلم فقه اللغة النقدي.
ومن الملاحظ أن الكتاب، بفضل دراساته الدقيقة، ومقارباته البينية متعددة التخصصات، والتزامه باستعادة الأصوات المُكبوتة، لا يُغيّر تأريخ العبودية الأمريكية وتجربة المسلمين الأفارقة فحسب، بل يُشكّل أيضًا نموذجًا للأعمال المستقبلية في دراسات ما بعد الاستعمار والتاريخ الديني.
إن ترجماته المُفصّلة، وعمقه الثقافي، ونقده لصناعة الأساطير في الماضي والحاضر، تجعله قراءةً أساسيةً لكل باحث مهتم بالعبودية، والإسلام في الأمريكتين، والتاريخ الفكري للسود، وسياسات الذاكرة عمومًا.