بقلم: صفاء عزب
يُعدّ التعدين من الأنشطة البشرية المهمة والمؤثرة في النمو الاقتصادي باعتباره مصدرًا أساسيًّا للحصول على الموارد الطبيعية الموجودة في باطن الأرض واستخراجها منها للاستفادة بها في مختلف مجالات الحياة. كما يُعتبر التعدين نافذة حيوية ومهمة للعديد من الأيدي العاملة التي تحاول الهرب من أزمة البطالة، والسعي وراء عمل يُدِرّ دخلاً غير قليل يُمثّل ثروة للفقراء الذين يُشكّلون نسبة كبيرة من بلدان القارة السمراء بما فيها تلك الدول الغنية بالثروات الدفينة.
وتحظى القارة الإفريقية بنصيب كبير من هذه الموارد التي تتهافت عليها شركات التنقيب المتخصصة من شتى أنحاء العالم. وتُعتبر منطقة إفريقيا جنوب الصحراء من المناطق الثرية بالموارد الطبيعية والنفيسة التي يسيل لها اللعاب والمُحفّزة على البحث عنها كثروات مدفونة تحت الأرض، إلا أن هذه المنطقة تعاني من ظاهرة سلبية ترتبط بهذا النشاط البشري، تتمثل في ممارسة البعض لصُوَرٍ غير قانونية من التعدين بشكل يؤدي إلى حدوث مشكلات خطيرة على البيئة والبشر، وقد تمتدّ آثارها لفترات زمنية طويلة؛ مما يزيد من حجم الخسائر ومداها.
ومن منطلق دقّ ناقوس الخطر وإطلاق جرس إنذار ضد هذه الممارسات السلبية في مجال التعدين والدعوة إلى معالجة الثغرات الكامنة وراء الظاهرة؛ يتناول هذا المقال ظاهرة التعدين غير القانوني والملابسات المحيطة بها؛ للوقوف على أسبابها ونتائجها وكيفية مواجهتها.
يجدر بنا قبل تناول الظاهرة المذكورة في دول إفريقيا جنوب الصحراء، أن نعرف ما المقصود بالتعدين غير القانوني، ومدى ارتباطه بالأنشطة الإنسانية الأخرى الخارجة عن القانون وآثاره المختلفة.
التعدين غير القانوني
واقع الأمر أنه لا يوجد تعريف متفق عليه عالميًّا للتعدين غير القانوني، ولكنّه مصطلح يشير إلى أنشطة التعدين التي تنتهك القوانين التنظيمية، باستخدام معدات وموادّ كيميائية محظورة. وهو يُعدّ جريمة بيئية جسيمة، ومن أكثر الأنشطة الإجرامية ضررًا وتوسعًا وربحًا في العالم. وقد أشار مكتب الأمم المتحدة المعني بالجرائم، إلى أن عواقب التعدين غير القانوني واسعة النطاق وبعيدة المدى، وتؤثر سلبًا على البيئة والحياة البشرية والحيوانية، والمجتمعات الأصلية وسُبُل عيشها، والصحة العامة، والاقتصادات، والتنمية، وسيادة القانون.
وقد وصفت الأمم المتحدة التعدين غير القانوني بأنه وسيلة حيوية لتوسع الجماعات المسلحة غير الحكومية، حيث يُوفِّر مصدر دخل كبير للميليشيات، وأمراء الحرب، وجماعات الجريمة المنظمة، والمنظمات الإرهابية من خلال بيع المعادن المستخرَجة بشكل غير قانوني. كما أدَّى ذلك إلى جعل التعدين غير القانوني مركزًا لجرائم جنائية أخرى، تتقاطع مع الجريمة المنظمة، والعنف المرتبط بالنزاعات، وغسل الأموال، والتهجير القسري، والاتجار بالبشر، والضرر البيئي، والفساد.
وهناك وجه آخر للتعدين غير المقنن وهو التعدين الحِرَفِيّ صغير النطاق؛ والذي تقوم به شركات صغيرة أو مجموعة من الأفراد، ويعتمد على استخدام كثيف للعمالة اليدوية، ويمثل مصدر رزق مهمّ للسكان في المناطق غير الحضرية، ولكنه في نفس الوقت يكون سببًا لأضرار خطيرة عليهم؛ لأنه يتم في إطار غير منظم وغير رسمي ودون أن يكفل حقوقًا للعامل. ويتسبّب هذا النشاط في مشكلات اقتصادية مرتبطة بتأخر التنمية وإهدار الثروات القومية، وأخرى اجتماعية تتعلق بتسرب التلاميذ من المدارس تحت إغراء العمل في المناجم وضغوطات الفقر والظروف السيئة، إلى جانب المشكلات البيئية الناجمة عن عمليات التعدين العشوائي بشكل غير مدروس.
وكشف تقرير لمنظمة «سويس إيد» غير الحكومية أن هناك ما بين 321 و474 طنًّا من الذهب الإفريقي يتم استخراجه وإنتاجه من خلال التعدين الحِرَفِيّ صغير النطاق، والذي تُقَدَّر قيمته بين 24 و35 مليار دولار سنويًّا، ولا يتم التصريح عنه.
ووفقًا لنفس المنظمة، فإن تهريب الذهب الإفريقي “تسارع بأكثر من الضعف بين عامي 2012 و2022م” وهو في ازدياد.
النطاق الجغرافي
بطبيعة الحال لا يتسع المجال لتحليل الظاهرة في كلّ دول إفريقيا جنوب الصحراء، والتي يصل عددها إلى 49 دولة وفق الموسوعة البريطانية “بريتانيكا”، ومِن ثَم يتم اختيار دولٍ بعينها ممن تبرز فيها مشكلة التعدين غير القانوني بشكلٍ فجّ، وتعاني من مشكلات جراء ممارسة هذا النشاط البشري، تحت ضغط أوضاع اقتصادية واجتماعية وسياسية، لا يمكن تجاهلها عند تناول هذه القضية. كما يراعَى أن تُغطّي الدول المختارة مواقع مختلفة في القارة الإفريقية.
بصورة عامة، هناك ثلاث مناطق في نطاق دول إفريقيا جنوب الصحراء تعاني بشكل خطير من ضعف الرقابة الحكومية التي تسهم بدورها في استفحال ظاهرة التعدين غير القانوني، خاصةً في ظل ثرائها بموارد نفيسة كالذهب والماس والنحاس. وتتضمَّن هذه المناطق دولاً في غرب إفريقيا، وتشمل غانا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر وساحل العاج وسيراليون وليبيريا، وأخرى في وسط إفريقيا وهي الكونغو الديمقراطية، إلى جانب دولة جنوب إفريقيا أقصى الجنوب.
وسوف يتم اختيار نماذج متنوّعة من هذه الدول تبدأ بجنوب إفريقيا المشهورة بحقول الذهب المهجورة وعمال المناجم غير الشرعيين الذين يُطلقون عليهم “الزاما زاما”. وكذلك غانا في الغرب، التي تعاني من ظاهرة تعدين الذهب غير القانوني، وهو النشاط المعروف هناك باسم “غلامسي”. كما ينتشر التعدين غير القانوني في الذهب في الكونغو الديمقراطية إلى جانب الكوبالت والنحاس؛ حيث يُطلَق عليها معادن الصراع. ويجمع بين هذه الدول عدة عوامل مشتركة على رأسها الفقر والبطالة والفساد وضعف الرقابة الحكومية خاصةً في تلك المناطق النائية التي يَصْعُب على السلطات الوصول إليها. كما يُلاحظ أن هذه البلدان -رغم فقرها- تحتضن داخل أرضها احتياطات كبيرة من المعادن الثمينة، ولكنّ عدم استغلالها بشكل صحيح أدّى إلى إهدار عوائدها الاقتصادية وتضييع فرصة جَنْي ثمارها من استثمارها بالشكل الصحيح على شعوبها.
وعلى ذلك نستعرض ظاهرة التعدين غير القانوني في الدول الثلاث جنوب إفريقيا وغانا والكونغو الديمقراطية.
1-التعدين غير القانوني في جنوب إفريقيا
أدَّى تباطؤ الاقتصاد الصيني إلى تراجع الطلب على الموارد الطبيعية التي اعتادت أن تستوردها من جنوب إفريقيا المعروفة بثرائها وتصديرها للبلاتين والذهب والفحم والحديد والمنجنيز، مما انعكس سلبيًّا على صناعة التعدين والشركات القائمة عليها في جنوب إفريقيا.
وفي المقابل انتعش التعدين الحِرَفي الذي يتم بواسطة عمال يستخدمون أدوات بسيطة، وعلى نطاق صغير؛ للبحث عن كنوز الأرض، ويركزون في ذلك على المناجم التي توقفت عن العمل، وهو ما يُعرِّضهم كثيرًا للخطر. وغالبًا ما يكون هؤلاء العمال مهاجرين من دول مجاورة أو ممن فقدوا وظائفهم بسبب الركود الاقتصادي، ويصل عددهم إلى 6000 عامل ، وهم يمكثون لفترات طويلة تحت الأرض تصل لأشهر متواصلة لتقليل تكلفة رسوم الدخول التي يدفعونها لبعض موظفي المناجم لتوصيلهم بالمناجم المهجورة. وهناك إحصائيات أخرى تزيد عن هذه الأرقام بأضعاف؛ حيث يُقدّر عدد عمال المناجم غير القانونيين العاملين في جميع أنحاء جنوب إفريقيا بما يزيد عن 30.000 عامل. وتُعدّ جنوب إفريقيا خامس أكبر مُنتِج للذهب في العالم، ويسهم التعدين غير القانوني بما يصل إلى عُشر إنتاج الذهب السنوي فيها.
ويستهدف العاملون عادة المواقع المهجورة بجانب المواقع العاملة؛ وذلك للبحث عن معدن الذهب النفيس ويقومون ببيعه إلى تجار محليين، وأحيانًا إلى مُصدِّرين لو كانت الكميات المستخرجة كبيرة. ومِن المُثير في الأمر أنه قد يقوم مستثمرون بالمشاركة في هذه العملية بتوفير معدات التنقيب مقابل حصولهم على نسبة من الأرباح.
ونظرًا لكونه عملًا يتم من وراء القوانين، وبدون تنظيم رسمي من الدولة؛ فإنه ينطوي على مخاطر جسيمة، لعدم توافر إجراءت السلامة، والذي قد يؤدي لتعريض العمال لحوادث انهيارات المناجم وسقوط الصخور، كما يسهم في تأجيج العنف وحوادث السطو على ما يتم استخراجه، والصراع على النفوذ والتقاتل على المناطق التي يحتمل وجود ثروات معدنية فيها. كما يتسبَّب هذا النشاط في حرمان خزينة الدولة من موارد مهمة كان يمكن توفيرها في حال تقنين الأوضاع. وتكشف البيانات أنه في عام ٢٠١٠م خسرت حكومة جنوب إفريقيا ٥٠٠ مليون دولار من عائدات الضرائب وصادرات الذهب وحده جراء التعدين غير القانوني.
كما اعترفت الحكومة بأن هذه الممارسات تسبَّبت في خسارة سنوية قدرها ٤ ملايين دولار من التعدين غير القانوني لمعدن الذهب وحده ما يعكس حجم الخسائر الهائلة لإجمالي قطاع التعدين جراء هذا النشاط غير المقنن.
ويتسبّب بريق الذهب الجنوب إفريقي في التكالب والإقبال على البحث عنه بطرق غير قانونية تؤدي لعواقب وخيمة تتمثل في خسائر الأرواح والإيرادات والخسائر البيئية.
وأمام هذا الوضع دعا بعض المواطنين والباحثين حكومة بلادهم في جنوب إفريقيا إلى اتخاذ إجراءات رادعة وفرض عقوبات على التعدين الصغير وغير القانوني، والعمل على تنظيم هذا النشاط وتقنين أوضاع المستثمرين فيه؛ ليعملوا في النور وتحت مظلة القانون، إلا أن وزارة الموارد المعدنية هناك رفضت منحهم تراخيص التعدين.
ويُفسّر هذا الرفض بأن حكومة جنوب إفريقيا تَعتبر تزايد عمال المناجم الحِرَفيين أمرًا غير مناسب. وفي الوقت الذي تسعى فيه لمنع أو وقف هذه العمليات، فإن أجهزة الأمن والهيئات التنظيمية الحكومية لا تملك الموارد أو الخبرة الكافية لإنفاذ القوانين المتعلقة بالتعدين غير القانوني. كما أن الشرطة غير مستعدَّة لتحمُّل المخاطر الكبيرة اللازمة للدخول إلى المناجم العميقة لمواجهة الظاهرة.
وبناء على ذلك، فإنه لا يبدو في الأفق حدوث أيّ تراجع لتزايد عمال المناجم الحرفيين في جنوب إفريقيا وأن هناك استمرارًا في هذا النشاط بدافع البحث عن الربح في ظل عدم وجود حلول حكومية لتقنين الأوضاع المخالفة، أو إيجاد عمل بديل للأعداد الكبيرة من الشباب الذين يعانون من البطالة التي تتجاوز معدلاتها 30%.(
2-التعدين صغير النطاق في غانا
بالتحرك نحو غرب القارة الإفريقية؛ حيث تقبع غانا نجد ممارسة عمليات التعدين المُرخَّصة وغير المرخصة على حدّ سواء منذ عقود، بل قرون طويلة، وقد حاولت السلطات إضفاء الشرعية على النشاط التعديني غير القانوني، وإحياء القطاع الفرعي لتعدين الذهب على نطاق صغير بإصدار قانون PNDC رقم 218 لعام 1989م والذي أدَّى إلى زيادة عدد عمال المناجم على نطاق صغير بسرعة بنسبة 941.73٪ من عام 1984م إلى عام 2004م. ورغم حدوث بعض التحسُّن في هذه العملية إلا أن المخاطر والمشكلات المحيطة بهذا النشاط لا تزال قائمة. وهي مخاطر تتعلق بالحوادث التي تنتهي بوقوع وفيات أو إصابات خطيرة كما يُهدّد الغبار والأبخرة الناتجة عن حفر وتفجير الخامات صحة العمال نتيجة سوء التهوية.
ويعاني التعدين صغير النطاق في غانا من مشكلات كبيرة تتعلق باعتبارات السلامة المهنية، بحيث تجعل الممارسات غير آمنة؛ حيث يؤدي العمل بشكل عشوائي وغير قانوني، بعيدًا عن الرقابة، إلى حدوث تدهور للأراضي قد ينجم عنه انهيار للحواجز وتساقط للصخور، وهي مخاطر تزداد معدلاتها في ظل سوء اختيار أدوات العمل وافتقاد المعدات الضرورية للحماية. كما يسهم إقبال العمال الأجانب على العمل في المناجم غير الشرعية في زيادة ظاهرة التعدين غير القانوني في غانا، ما اضطر الحكومة لترحيل آلاف العمال عام 2013م في إطار مبادرة ضبط الوضع.
وتمتد الآثار السلبية والمخاطر المرتبطة بالتعدين غير القانوني في غانا إلى نطاق بيئي واسع؛ لما يسببه من تلوث خطير في مياه الأنهار نتيجة لترسُّب الذهب الرسوبي في المياه الجوفية خلال عملية التجريف وغسل المعدن النفيس في الماء.
وقد تسبَّب ذلك في توابع جسيمة مثل نفوق الأسماك والكائنات المائية الأخرى، ومِن ثَم أزمات كبيرة للصيادين الذين يعتمدون على هذه الأسماك في توفير قوت يومهم. كما يتسبَّب التعدين بدون معايير صحيحة علميًّا في توليد غبار وانبعاث غازات المناجم وتراكمها بشكل خطير على زيادة تلوث الهواء لعدم توفر أنظمة تهوية جيدة ما يعني تهديدًا جسيمًا لصحة الإنسان في هذه المناطق، وخاصةً عمال المناجم.
يُضاف إلى ذلك الكوارث البيئية الناتجة عن استخدام الزئبق السام في معالجة الخام، والذي يؤدي إلى مشكلات كارثية على النظام البيئي بكل مشتملاته وصولاً للإنسان، وهو ما أكَّدته دراسة لمنظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (يونيدو) لتحديد الآثار البيئية للزئبق بتحليل عينات من مياه الأنهار والتربة والأسماك المأخوذة من قرية دوماسي غرب غانا، والتي يمارس أهلها التعدين صغير النطاق؛ حيث كشفت النتائج عن وجود تلوث بمستويات كبيرة في رواسب التربة، وكذلك احتوت معظم شرائح السمك على مستويات متراكمة من الزئبق تتجاوز المستوى المسموح به، والجزم بأنها غير صالحة للاستهلاك.
وعلى الرغم من الأهمية الاقتصادية لإسهامات قطاع التعدين صغير النطاق في غانا في النمو الاقتصادي وحل أزمة البطالة، وتوفير عائدات للنقد الأجنبي، لكن غياب القطاع عن الرقابة والمظلة القانونية ونقص الرصد الفعَّال مِن قِبَل لجنة المعادن في غانا أدَّى إلى مشكلات كثيرة بسبب نقص الضرورات الفنية، وغياب أهل العلم والكفاءة والمتخصصين عن العملية انعكس سلبًا على البُعْد عن الالتزام ببروتوكولات السلامة. وهناك بعض الحوادث الشهيرة التي شهدتها غانا نتيجة لذلك منها حادثة حفار داكيتي عام 2013م.
إنتاج الذهب في غانا بالمليون كيلو جرام خلال الفترة 2012-2023م

ولا يزال استخراج الذهب من المناجم الصغيرة من الأنشطة التي يسيل لها اللعاب في غانا، ومن الصعب توقُّع تراجعه بشكل ملحوظ في الوقت الحالي، خاصةً أنه يُسهم في النمو الاقتصادي والاجتماعي ويُقدم حلولًا للحكومة لمشكلة الفقر والبطالة، وهو ما يعني استمرار المخاطر التي تُحيط بهذا النشاط، لا سيما في ظل عجز هيئة المعادن في غانا عن إجراءات المراقبة الكاملة وإنفاذ السياسات واللوائح المعنية باشتراطات ومعايير السلامة والأمن. وقد شنّت غانا حملةً صارمةً على تعدين الذهب غير القانوني. في عام ٢٠٢٢م، لكنَّ الأمر لا يزال يتطلب المزيد من الإجراءات الصارمة.
3-التعدين غير القانوني في الكونغو الديمقراطية
إلى الوسط من إفريقيا نتّجه؛ حيث تقع جمهورية الكونغو الديمقراطية التي تعاني من وجود شركات عديدة للتعدين غير القانوني، وهو ما أكدته تصريحات وزير المناجم الإقليمي توماس سيزار مسيمو؛ حيث توجد 142 شركة في بلاده حوَّلت تصاريح بحث بسيطة إلى أنشطة استخراج دون استيفاء الإجراءات القانونية اللازمة.
وتنتشر عمليات بحث الأجانب عن ثروات الكونغو، وخاصةً الذهب بشكلٍ يُثير غضب الأهالي الذين قاموا باحتجاجات ضد الصينيين الذين أُلقي القبض عليهم للاشتباه في تنقيبهم عن الذهب بشكل غير قانوني، وكثيرًا ما يتم تهريب هذه الثروات خلسةً بعيدًا عن أصحاب الأرض، مما يحرم شعب الكونغو الديمقراطية من الاستفادة من ثروات بلادهم.
ويوجد أكثر من 450 شركة تعدين في مقاطعة كيفو الجنوبية، وهي شركات تعمل بشكل غير قانوني بسبب عدم امتثالها لقوانين التعدين الكونغولية الحالية، وغالبًا ما يقوم الأجانب الصينيون بهذه الممارسات. وقد تم القبض على ثلاثة مواطنين صينيين وبحوزتهم 10 سبائك ذهب و400 ألف دولار نقدًا في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية في يناير الماضي، وفق ما كشفته مصادر من مكتب حاكم مقاطعة كيفو الجنوبية.
إلى جانب الخسائر الاقتصادية يتسبَّب نشاط التعدين غير القانوني في الكونغو الديمقراطية في تصاعد العنف نتيجة للحرب المستمرة التي تُغذّيها المعادن الحيوية. معظم المواقع التي سيطرت عليها جماعة إم23 المتمردة -بما في ذلك نومبي، ولومبيشي، وشانجي، ومينوفا- في مقاطعة كيفو الجنوبية، غنية باحتياطيات وفيرة من الذهب ومعادن أخرى، بالإضافة إلى روبايا في مقاطعة كيفو الشمالية، التي تضم أيضًا معظم احتياطي الكولتان في البلاد.
ومنذ عام ١٩٩٦م، تشهد جمهورية الكونغو الديمقراطية حروبًا مستمرة، تُغذّيها بشكل رئيسي عمليات التعدين غير القانونية التي تقوم بها الجماعات المسلحة، مما أدَّى إلى تعرُّض المجتمعات المحلية للعديد من المشكلات المتشابكة، إلى جانب مقتل أكثر من 10 ملايين شخص في هذه الحروب. يأتي ذلك في الوقت الذي ساهمت فيه المواد الخام الكونغولية في ثورة صناعة التكنولوجيا العالمية في القرن الحادي والعشرين.
وتُعدّ جمهورية الكونغو الديمقراطية موطنًا لبعضٍ من أهم المعادن المستخدمة في التكنولوجيا والصناعة الحديثة، وتمدّ العالم بنِسَب كبيرة منها، من أهمها: 57% من إنتاج الكوبالت العالمي، و70% من الكولتان المستخدَم في الصناعات الإلكترونية، و10% من النحاس، و4% من الليثيوم، كما تُسهم في إنتاج 20% من الماس و2% من إنتاج الذهب في العالم. كما يوجد في الكونغو الديمقراطية ما قيمته 24 تريليون دولار من الرواسب المعدنية غير المستغلَّة، مما يجعلها واحدة من أغنى بلدان العالم من حيث الموارد الطبيعية. ومع ذلك يعاني شعب الكونغو من الفقر على نطاق كبير؛ نظرًا لأن عائدات هذه الثروات لا تعود عليه بالنفع، بل يستخدمها زعماء الفصائل المتناحرة في تعزيز نفوذهم.
فرغم امتلاك الكونغو الديمقراطية حصة كبيرة من الثروة المعدنية العالمية، إلا أن الشعب الكونغولي لا يستفيد منها كثيرًا؛ إذ تسيطر الجماعات المسلحة والمصالح الأجنبية على معظم عمليات الاستخراج والتجارة. ولذلك تسمَّى مواردها المعدنية مثل القصدير والذهب والتنتالوم والتنغستن الأساسية في الصناعات العالمية الحديثة بأنها “معادن الصراع”؛ لأنها تشكل محور العنف بالمنطقة.
وتتقاتل الجماعات المسلحة والميليشيات على مناطق التعدين مستخدمةً أرباح استخراجها وتهريبها في تمويل عملياتها وشراء الأسلحة.
وتنعكس هذه الأوضاع سلبًا على التعدين القانوني؛ حيث تضطر العديد من الشركات الأجنبية إلى الاعتماد على عمال المناجم الحرفيين في الحصول على المعادن دون أن تقوم بعملية التعدين بنفسها. ويعمل ما بين 150 ألفًا و200 ألف عامل منجم حرفي في رواسب الكوبالت وحدها في جمهورية الكونغو الديمقراطية، ويعتمد مليون شخص آخر على دخل هؤلاء العمال.
ويؤدي ضعف التنظيم وغياب الرقابة الحكومية إلى صعوبة تتبُّع هذه الممارسات على طول سلسلة التوريد، من عمال المناجم الحرفيين إلى الشركات متعددة الجنسيات. كما يُساعد الفساد على الحدود مع زامبيا وبوروندي وتنزانيا في التهريب. وتتسبب هذه الممارسات غير القانونية في خسارة البلاد مبالغ طائلة من الإيرادات بسبب الإنتاج غير المشروع للمعادن وخاصة الكوبالت. في عام ٢٠٢٣م، صرّح وزير المالية نيكولاس كازادي بأن جمهورية الكونغو الديمقراطية تخسر ما يقارب مليار دولار أمريكي سنويًّا من المعادن المُهرَّبة بشكل غير قانوني إلى رواندا وحدها. وهذا يُشكِّل ضررًا كبيرًا لاقتصاد البلاد، ويُمثّل فرصة ضائعة لإثراء خزينة الدولة، والتخفيف من حدة الفقر، وتعزيز نتائج التنمية.
كما يسبّب الاستغلال غير المشروع للمعادن، وخاصةً الكوبالت، الضرر بالسكان المحليين والبيئة. غالبًا لا يرتدي العمال أقنعة واقية، ويؤدي استنشاق مستويات عالية منه إلى مشكلات صحية خطيرة، بما في ذلك السرطان وأمراض الجهاز التنفسي وأمراض القلب. ويصاحب تعدين الكوبالت عملية إلقاء النفايات السامة التي تُدمّر المناظر الطبيعية، وتُلوّث المياه، والمحاصيل، كما يؤدي التعرُّض لمنتجات التعدين الثانوية الناتجة عن التعدين المهني إلى زيادة نسبة التشوهات الخلقية في المجتمعات الغنية بهذه المعادن.
بطبيعة الحال، توجد آثار جانبية خطيرة أخرى للتعدين غير القانوني في الكونغو الديمقراطية تتمثل في تدهور النظام البيئي بشكل خطير، وتُعرّض الغابات المطيرة للانجراف.
لذلك تسعى الدولة لمواجهة مشكلة التعدين غير القانوني من خلال إصلاح تنظيم قطاع التعدين الحرفي، وتعزيز الأمن وإنفاذ القانون على طول سلسلة توريد الكوبالت، وتحسين إمكانية تتبُّع المعادن. وفي هذا الإطار أعلنت الحكومة في الكونغو الديمقراطية في عام 2021م عن رغبتها في معالجة المواد الخام محليًّا وفق تأكيدات فوكو ندوندو كاكولي، نائب المدير التنفيذي لمجلس البطاريات الكونغولي، بأن بلاده تهدف إلى أن تصبح من أبرز منتجي البطاريات في العالم بحلول عام 2030م أو 2040م. وهي تعمل حاليًّا مع زامبيا لإنشاء منطقة اقتصادية متخصصة؛ حيث يمكن تحويل المواد الخام إلى منتجات أولية لسلسلة توريد البطاريات.
وبعد استعراض الحالات الثلاثة للتعدين غير القانوني في مناطق متباينة من إفريقيا جنوب الصحراء، نتوقف عند العوامل والأسباب التي أدت إلى انتشار ظاهرة التعدين غير القانوني.
أسباب انتشار التعدين غير القانوني:
1-الفقر والبطالة
تمتلك منطقة إفريقيا جنوب الصحراء 95% من احتياطي الماس العالمي، و90% من احتياطي البلاتين، وتنتج 60% من الإنتاج العالمي من الذهب و33% من النحاس. على الرغم من هذا الثراء في المعادن النفيسة، وعلى رأسها الذهب والماس والمعادن ذات الأهمية الحيوية في الصناعات الحديثة والمتقدمة، بجانب الثروة الحيوانية والسمكية إلا أن منطقة إفريقيا جنوب الصحراء تعاني من ارتفاع نِسَب الفقر وانخفاض مستويات المعيشة بين شعوبها، ويصل الأمر لدرجة الجوع الذي يُهدّد ثلث السكان، وهو ما يرجع إلى كثرة الحروب والنزاعات الداخلية وسوء استغلال الموارد وانتشار الفساد الذي يُمثل تحديًا خطيرًا لمحاولات التنمية والبناء في المنطقة. ووفقًا لبيانات البنك الدولي عن نِسَب الفقر، تحتل إفريقيا جنوب الصحراء أعلى معدلات الفقر الذي تتجاوز نسبته 35.5%. وازدادت أعداد الفقراء من عام 1990م إلى عام 2016م بمعدل 110 مليون فقير.
كما يشهد معدل البطالة ارتفاعًا ملحوظًا في المنطقة؛ حيث بلغ ذروته عام 2021م بنسبة 7%، وانخفض قليلاً حتى وصل 6.2% عام 2022م، و5.8% عام 2024م، وذلك بحسب تقديرات البنك الدولي.(
وهي تقديرات تحتمل تغيرات بالزيادة الكبيرة تختلف باختلاف الزمان والمكان. وعلى سبيل المثال فإن تقريرًا لوكالة الإحصاء الوطنية بجنوب إفريقيا كشف عن ارتفاع ملحوظ في معدلات البطالة خلال عام 2024م وذكر أن 8.4 مليون شخص كانوا عاطلين عن العمل مقابل 5.2 مليون عام 2014م، مشيرًا إلى اتجاه المؤشر على مدار العقد الماضي نحو زيادة عدد العاطلين بأكثر من 60% . ولذلك فإن إغراء العمل في مجال التعدين حتى لو بشكل غير قانوني له بريقه في ظل الفقر والعوز والبطالة خاصةً مع ارتفاع أسعار المعادن التي يتم استخراجها وبيعها أو تهريبها.
2-انتشار الفساد وضعف الرقابة الحكومية
تُعدّ دول إفريقيا جنوب الصحراء من أكثر الدول في العالم تأثرًا بالفساد السياسي، وتتصدر بعض الدول مثل الصومال وغينيا والكونغو قائمة الدول الأكثر فسادًا في العالم بحسب إحصائيات منظمة الأمم المتحدة لمدركات الفساد عام 2024م. كما تعاني مؤسساتها من ضعف البنية والقدرات ، بشكل يجعلها غير قادرة على أداء مهامها الرقابية كاملة ما يُشجّع المخالفين على ممارسات غير قانونية لضمان عدم العقوبة أو حتى اكتشافهم.
3-الجماعات المسلحة
تعاني منطقة إفريقيا جنوب الصحراء من مخاطر انتشار الجماعات المسلحة باختلاف خلفياتها وأنواعها، كما يرتفع فيها مؤشر الإرهاب بحسب أحدث تقرير لعام 2025م، أصدره معهد الاقتصاد والسلام الدولي، والذي أكد تصدُّر دول إقليم الساحل والصحراء قائمة الدول الأكثر تأثرًا بظاهرة الإرهاب خلال عام 2024م وحذَّر من تنامي الظاهرة لوجود عوامل محفزة له منها ضعف الحكومات المركزية والأجهزة الأمنية والصراعات العرقية، مما أتاح لتنظيمات إرهابية مثل داعش والقاعدة الاختراق، وهي جماعات تسعى للحصول على المال بشتى الطرق؛ مما يدفعها لممارسة التعدين غير القانوني طمعًا في استخراج الثروات وبيعها بشكل غير قانوني لتمويل أنشطتهم.
مخاطر وتداعيات التعدين غير القانوني:
من خلال استعراضنا للحالات الثلاث في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء؛ نجد أن للتعدين غير القانوني تداعيات سلبية كثيرة وخطيرة على كافة المستويات، وقد تمتد زمانًا ومكانًا بحسب تفاصيل ما يتم خلال عمليات التعدين، ونوع المعادن المستخرَجة. ويمكن تقسيمها إلى مخاطر صحية وبيئية واقتصادية وأمنية واجتماعية.
وتشمل المخاطر الصحية الإصابات والحوادث نتيجة عدم توافر معدات الوقاية في أماكن التعدين، والتعرض للمواد الكيماوية السامة دون دراية بكيفية التعامل العلمي معها، بجانب التعرُّض للأمراض المعدية نتيجة للتكدس والتزاحم في أماكن مغلقة أثناء العمل.
أما المخاطر البيئية فتشمل تدهور البيئة نتيجة لقطع الغابات وفقدان التنوع البيولوجي، وتآكل التربة، والتصحر، وحدوث تلوث في التربة والمياه بمواد خطيرة سامة مثل الزئبق والسيانيد.
وفيما يتعلق بالتداعيات الاقتصادية نجد أن الدول التي تعاني من التعدين غير القانوني تتعرَّض لخسائر كبيرة لحرمانها من إيرادات مهمة خاصةً بالضرائب والرسوم المستحقة على استغلال الموارد الطبيعية إلى جانب حرمان خزينة الدولة من قيمة الموارد الثمينة المستخرجة سرًّا، والتي يتم تهريبها خلسة. كما يتسبب التعدين غير القانوني في حدوث خلل في خارطة النشاط الاقتصادي؛ نظرًا لتكالب الكثيرين عليه على حساب أنشطة اقتصادية أخرى.
ويرتبط بذلك حدوث مخاطر اجتماعية جسيمة تتمثل في النزاعات بين أفراد المجتمع نتيجة هذا التكالب والسعي وراء الثراء والصراع على الكنوز الدفينة، مما يتسبَّب في تكدير صفو أمن المجتمع واستقراره، إلى جانب انتهاك حقوق الإنسان من خلال الاستغلال السيئ للعمالة دون حقوق وكذلك عمالة الأطفال.
ولا ينفصل ذلك عن مخاطر جسيمة تتعلق بالجوانب الأمنية لارتباط نشاط التعدين غير القانوني بالجرائم الأخرى، وخاصةً الجريمة المنظمة والإرهاب؛ حيث يتم استغلال عوائد المعادن المستخرجة في تمويل الأنشطة المجرمة مما يُهدّد الأمن القومي للبلاد والأمن الإقليمي.
الخلاصة
مما سبق تتضح خطورة التعدين غير القانوني وتداعياته الخطيرة على الحجر والبشر، وقد تستمر آثارها السلبية لسنوات طويلة، كما تتسبب في تهديد الأمن المجتمعي والقومي والإقليمي، وتلحق خسائر كبيرة باقتصاديات الدول على حساب خطط التنمية والنمو.
كما بدا جليًّا تشابك العوامل والأسباب التي تكمن وراء انتشار التعدين غير القانوني في إفريقيا جنوب الصحراء من فقر وبطالة وعدم وعي تعليمي بمخاطر هذه العمليات غير المقننة، ومدى الاستغلال السيئ لها مِن قِبَل الجماعات المسلحة وقوى الإرهاب لتمويل أنشطتهم، وارتباط كل ذلك بضعف المؤسسات الحكومية المعنية بمراقبة هذا النشاط وضعف الإمكانيات الشرطية والأمنية للوصول إلى أماكن المناجم النائية والمهجورة، إلى جانب استشراء الفساد وتمكُّنه من المفاصل الحيوية.
وأمام هذا الوضع لا بد من تضافر دول الإقليم وتعاونهم لمواجهة هذه الأسباب ومحاصرة المخالفين وتعزيز قدراتهم الرقابية، وتفعيل القوانين ذات الصلة بصرامة خاصةً ما يتعلق باشتراطات السلامة والأمن، وكافة أنواع الجرائم، مع العمل على حلّ مشكلات البطالة والفقر بخلق أنشطة ومجالات متنوعة إلى جانب توفيق أوضاع العاملين بالتعدين ضيّق النطاق وتقنينه؛ حتى يكون تحت مظلة رسمية وسيطرة حكومية تضمن عدم حرمان خزينة الدولة من الإيرادات التي تضيع عليها جراء عدم التقنين. كما يستلزم الأمر مكافحة الفساد وزيادة الشفافية والمساءلة مع إشراك المجتمعات المحلية في صنع القرارات المتعلقة بالتعدين.
للاطلاع على المزيد:
- مشروع سيماندو الضخم… عقود ضائعة وإمكانات تنموية هائلة
- دور شركات التعدين في التنمية المجتمعية في إفريقيا: بالتطبيق على رواندا
- عقود التعدين مع الصين: ساعة الحساب في الكونغو الديمقراطية
- صراع المعادن: هل تنجح محادثات ترامب في كسر هيمنة الصين على كنوز الكونغو؟
- التعدين غير القانوني في الذهب “الجالامسي” في غانا: الأسباب والآثار ومحاولات المكافحة