د. جيهان عبد السلام عباس
أستاذ الاقتصاد المساعد – كلية الدراسات الافريقية العليا– جامعة القاهرة
مقدمة:
تشهد القارة الإفريقية في السنوات الأخيرة تحولاً رقميًّا متسارعًا، شمل مختلف القطاعات الحيوية، وعلى رأسها قطاع الهوية الرقمية، الذي بات يُشكِّل ركيزةً أساسيةً لتمكين الأفراد من الوصول إلى الحقوق والخدمات.
وفي هذا الإطار، برز مفهوم الهوية الرقمية كأداة مركزية لتحقيق الشمول الرقمي والاجتماعي والاقتصادي في إفريقيا. وتعني الهوية الرقمية استخدام التكنولوجيا للتحقُّق من هوية الأفراد وتوثيقها بشكلٍ آمِن وموثوق، بما يُمثّل نقلة نوعية في مسار التحديث الإداري والحوكمة الرشيدة، لا سيّما في ظل ما تعانيه العديد من دول القارة من تحديات تتعلق بعدم امتلاك شرائح واسعة من السكان لهويات قانونية رسمية، ما يُعيق حصولهم على الخدمات الأساسية؛ مثل: التعليم، والرعاية الصحية، والحماية الاجتماعية، والمعاملات المالية، وغيرها.
وتسعى الدول الإفريقية، بدعم من شركاء التنمية والمؤسسات الدولية إلى تسريع اعتماد أنظمة الهوية الرقمية، بما في ذلك بطاقات الهوية البيومترية، ومنصات التسجيل الإلكتروني، ونظم التعريف الوطنية المتكاملة، وذلك في إطار جهودها لتحقيق أهداف التنمية المستدامة وأجندة إفريقيا 2063.
ومن هذا المنطلق، عُقِدَت فعاليات مؤتمر “الهوية من أجل التنمية في إفريقيا “(ID4Africa 2025)، في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا خلال الفترة من 20 إلى 23 مايو 2025م، بحضور رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد”، ومشاركة أكثر من 2.300 مندوب من أكثر من 100 دولة، بما في ذلك 50 دولة إفريقية، مما يجعله أكبر تجمع في تاريخ المؤتمر منذ انطلاقه عام 2014م، وركّز على ثلاث ركائز أساسية؛ وهي: توسيع نطاق أنظمة الهوية الرقمية، وبناء بنية تحتية رقمية عامة (DPI) قادرة على خدمة جميع السكان، وكذلك تحفيز الطلب على الهوية الرقمية من خلال دمج الهوية الرقمية في الخدمات الحكومية والخاصة لتسهيل الوصول إليها([1]).
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه سبق وأعلنت إثيوبيا عن عدة مبادرات فى مجال الهوية الرقمية تشمل: نظام “فايدا” (Fayda) من خلال إعلان الحكومة الإثيوبية عن تسجيل 15 مليون مواطن في نظام الهوية الرقمية الوطني “فايدا”، مع خطة لتوسيع التغطية إلى 90 مليون بحلول عام 2027م إذا تم دمج “فايدا” مع 55 خدمة حكومية وخاصة، مما يُعزّز الشمول المالي والوصول إلى الخدمات الأساسية. وكذلك محفظة “فايدا باس“ كمحفظة رقمية جديدة تهدف إلى تعزيز الشمول المالي، وتسهيل الوصول إلى الخدمات الحكومية([2]).
ويهدف هذا المقال إلى تسليط الضوء على أهمية الهوية الرقمية كركيزة أساسية لتحقيق الشمول المالي والاجتماعي، وتعزيز التحول الرقمي في إفريقيا؛ من خلال استعراض واقع استخدامها، والتحديات التي تواجه انتشارها، والفرص التنموية التي توفرها. كما يهدف إلى إبراز دور الهوية الرقمية في تمكين الأفراد من الوصول إلى الخدمات الحكومية والمالية والصحية والتعليمية، مع التأكيد على الحاجة إلى وضع أُطُر تشريعية وتقنية تضمن الأمن والخصوصية والعدالة الرقمية.
أولًا: وضع الهوية الرقمية في إفريقيا
تعرف الهوية الرقمية على أنها وسيلة لتحديد هوية الفرد أو التحقق منها، سواءٌ عبر الإنترنت أو خارجه. إذ يمكن إنشاء الهوية الرقمية من المعلومات الموجودة على بطاقة هوية قانونية صادرة عن جهة حكومية، واستخدامها للتعرف على الفرد بدقة، ومنحه حقوقه أو استحقاقاته.
كما يمكن إنشاء هوية رقمية لتمكين الفرد من الوصول إلى الخدمات الرقمية، مثل التجارة الإلكترونية، والحكومة الإلكترونية، والخدمات المصرفية الرقمية، إلخ. ويمكن تكوين الهوية الرقمية عمليًّا عندما ينخرط الفرد في الاقتصاد الرقمي من خلال المعلومات التي يتم جمعها من مختلف أنواع البيانات التي يستخدمها، مثل بيانات الهاتف وسجل البحث وبيانات وسائل التواصل الاجتماعي… إلخ. ويمكن بعد ذلك استخدام هذه المعلومات لتحديد هوية الفرد.([3])
وتُطبّق الحكومات في جميع أنحاء إفريقيا، أنظمة الهوية الرقمية بوتيرة متسارعة لتحسين تقديم الخدمات، وتعزيز الشمول الاقتصادي، وتعزيز الأمن. ومع ذلك، يُقدّر أن 500 مليون إفريقي لا يزالون يفتقرون إلى هوية قانونية.([4])
ويختلف الحصول على بطاقة الهوية باختلاف الدولة في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. ففي مسح أجراه البنك الدولي لعامي 2021 و2022م، شمل 36 اقتصادًا من اقتصادات إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى؛ أظهرت النتائج أن 78% من الأفراد المؤهلين الذين تزيد أعمارهم عن 15 عامًا يمتلكون بطاقة هوية. وهناك اختلافات كبيرة بين البلدان. ففي 13 اقتصادًا، يمتلك أقل من 70% من البالغين بطاقة هوية، وتبرز فجوات الوصول القائمة على الجنس والدخل والإقامة الريفية بشكل خاص في الاقتصادات ذات الوصول المنخفض، مما يزيد من استبعاد هذه الفئات الضعيفة من الوصول إلى الخدمات الأساسية مثل تلقّي الدعم المالي من الحكومة، أو التقدم لوظيفة، أو استخدام الخدمات المالية. ويعتبر السبب الأكثر شيوعًا لفقدان الهوية الرقمية هو ارتفاع التكلفة والجهد المرتبطين بالحصول على الوثائق الداعمة والسفر للتسجيل للحصول على الهوية أو استلامها. وتُعدّ النساء أكثر عرضة من الرجال لهذا الفقد([5]).
شكل رقم (1): نِسَب البالغين من إجمالي السكان الذين يحملون هوية صادرة عن الحكومة 2021/2022م
Source: SANIYA ANSAR JULIA CLARK , “The importance of ID access in three charts: Insights from Sub-Saharan Africa ” , World Bank Blogs , SEPTEMBER 09, 2024, available at:
https://blogs. worldbank. org/en/digital-development/the-importance-of-id-access-in-three-charts–insights-from-sub-s
ونتيجة لذلك الوضع، أصبحت الهوية القانونية الأولوية هدفًا من أهداف التنمية المستدامة لإفريقيا 2063م، وتستكشف العديد من الحكومات الإفريقية إمكانات أنظمة الهوية الوطنية؛ بما في ذلك الهوية الرقمية. على سبيل المثال، وفَّرت أوغندا حوالي 7 ملايين دولار أمريكي في عام واحد باستخدام قاعدة بيانات وطنية للهوية للتحقق من هويات موظفيها المدنيين. ووفَّرت ملاوي 44 مليون دولار أمريكي بدمج نظامي تسجيل الناخبين والهوية الوطنية. وعلى الرغم من هذه الإمكانية لتحقيق مكاسب اقتصادية وأخرى تتعلق بالكفاءة، إلا أنه لا يزال الحصول على بطاقة هوية حكومية غير متكافئ في معظم أنحاء القارة الإفريقية([6]).
ثانيًا: إلى أيّ مدًى يؤثر فقدان الهوية الرقمية على الحراك الاقتصادي في إفريقيا؟
يُشكّل غياب الهوية العديد من التحديات التنموية والاقتصادية، يتمثل أهمها فيما يلي:
- صعوبة الاتصال الرقمي: حيث لا يستطيع البالغون المتضررون شراء شريحة SIM وهي الأساس لاستخدام الهاتف المحمول، وهذا يُعيق الاتصال الرقمي بشكل كبير، ففي تنزانيا على سبيل المثال، يُواجه 57% من البالغين الذين لا يحملون هوية (ربع البالغين) هذا التحدي.
- صعوبة فتح الحسابات البنكية والحصول على الخدمات المالية: معظم البنوك والمؤسسات المالية في إفريقيا تشترط تقديم هوية قانونية رقمية كشرط أساسي لفتح حساب مصرفي. والأفراد الذين لا يمتلكون هوية رقمية (خاصة في المناطق الريفية أو المهمّشة) يُستبعَدون تلقائيًّا من النظام البنكي، مما يُعزّز الإقصاء المالي، كما يضطرون عند الدفع، لحمل النقود -مُعرّضين أنفسهم لخطر السرقة، أو يأخذون إجازة من العمل لمجرد تحويل الأموال شخصيًّا.
وترجع أسباب عدم امتلاك نسبة كبيرة من البالغين لحسابات مصرفية في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى إلى عدم كفاية الوثائق (بما في ذلك بطاقات الهوية)، ولكن في الحقيقة الهوية ليست هي العائق الوحيد الذي يُواجهه الأشخاص الذين لا يملكون حسابات مصرفية بسبب الوثائق. غالبًا ما يحتاج مقدمو الخدمات المالية إلى مستندات إضافية، مثل فواتير الخدمات العامة، لتلبية متطلبات العناية الواجبة بالعملاء. ونتيجةً لذلك، فقد لا يتمكن حتى حاملو الهوية الوطنية من فتح حساب مالي.
يُضاف إلى ذلك أنه مع تزايد الاعتماد على المحافظ الإلكترونية، وخدمات الدفع الرقمي (مثل: M-PESA في كينيا)، أصبحت الهوية الرقمية ضرورية لتسجيل الدخول، والتحقق من المعاملات، واستعادة الحسابات في حال فقدان البيانات. كما أن غياب الهوية الرقمية يُقيِّد الوصول إلى الخدمات مثل القروض الصغيرة، التحويلات، التأمين الرقمي، والتمويل الجماعي.
شكل رقم (2): نسبة البالغين الذين ليس لديهم حساب مصرفي والذين يُبلّغون عن عدم وجود الهوية كعائق أمام امتلاك حساب 2021/2022م
Source: SANIYA ANSAR JULIA CLARK , “The importance of ID access in three charts: Insights from Sub-Saharan Africa ” , World Bank Blogs , SEPTEMBER 09, 2024, available at:
https://blogs. worldbank. org/en/digital-development/the-importance-of-id-access-in-three-charts–insights-from-sub-s
- صعوبة الحصول على الخدمات والمساعدات الحكومية: في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، قد يحتاج البالغون أيضًا إلى إظهار هويتهم لتلقي إعانات حكومية أو لتسجيل أطفالهم في المدارس. وبدون هوية، غالبًا ما يجد الناس أنفسهم محرومين من الخدمات الأساسية مثل الخدمات الصحية والتعليمية وغيرها من الخدمات الأساسية التي تُعزّز الحراك الاقتصادي والأمن في الحياة اليومية، وتُحسّن سبل التنمية البشرية([7]).
ومن خلال العوائق السابق ذِكْرها يتضح أن أنظمة الهوية الرقمية في إفريقيا تُتيح فرصًا كبيرة للدول الإفريقية؛ إذ تُمهّد الطريق نحو شمول مالي أكبر، وتحسين تقديم الخدمات، وحوكمة أقوى. ومن أهم هذه الفوائد: التمكين الاقتصادي؛ حيث تتوقع اللجنة الاقتصادية لإفريقيا التابعة للأمم المتحدة أن يُسهم التطبيق الفعَّال لأنظمة الهوية الرقمية في نموّ الناتج المحلي الإجمالي لإفريقيا بنسبة تتراوح بين 3% و13% بحلول عام 2030م. كما تُعزّز هذه الأنظمة الشمول المالي من خلال تمكين الوصول إلى الخدمات المصرفية والائتمانية والأسواق الرسمية.
علاوة على ذلك، تُعزز أنظمة الهوية الرقمية كفاءة الخدمات العامة من خلال تبسيط تقديم برامج الرعاية الصحية والتعليم والحماية الاجتماعية. ويُمكن للمواطنين الوصول إلى الخدمات الحكومية بسهولة أكبر، مما يُقلل من العقبات البيروقراطية، ويُحسّن دقة تقديم الخدمات. في رواندا، يُسجّل أكثر من 98% من البالغين في نظام الهوية الوطني، الذي يُعتبر على نطاق واسع أحد أقوى أنظمة الهوية الأساسية في إفريقيا. ويُؤكد البنك الدولي أن أنظمة الهوية الرقمية القوية لا تُحسِّن المشاركة الاقتصادية فحسب، بل تُقلل أيضًا من الاحتيال في برامج الرعاية الاجتماعية. وقد أتاحت مبادرات الهوية الرقمية في رواندا توجيهًا أفضل لبرامج الرعاية الاجتماعية، ويسّرت الوصول إلى الخدمات الصحية، لا سيما للفئات المهمشة.
يضاف إلى ذلك أن الهوية الرقمية تُعدّ عنصرًا أساسيًّا في إنجاح منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية (AfCFTA)، التي تهدف إلى تعزيز التجارة البينية، وتحفيز النمو الاقتصادي، وتسهيل حركة الأشخاص والبضائع والخدمات بين الدول الإفريقية؛ إذ لا يمكن تحقيق التكامل الاقتصادي الفِعْلي دون وجود منظومة رقمية موثوقة تثبت هوية الأفراد والشركات بطريقة آمِنَة وفعّالة؛ إذ تُسهّل الهويات الرقمية التجارة عبر الحدود وحركة العمالة مما يُقلّل من التأخير ويُعزّز الثقة في المعاملات الاقتصادية، كما تساعد في بناء الثقة بين الأطراف المتعاملة في التجارة الإلكترونية تُمكّن الهوية الرقمية من ربط الأنظمة الوطنية معًا، مما يُعزّز قابلية التشغيل البيني بين الدول الأعضاء في AfCFTA.([8])
ثالثًا: هل تُشكّل الهويات الرقمية تهديدًا للخصوصية والحريات المدنية؟
تتزايد المخاوف بشأن الخصوصية والأمن المتعلقة بسبل تنفيذ الهوية الرقمية خاصة تلك المتعلقة ببطاقة الهوية البيومترية التى تعتمد أيضًا على بصمات الأصابع، وصورة الوجه ثلاثية الأبعاد، والتوقيع الإلكتروني … إلخ؛ حيث ظهر التحذير بشأن ضرورة أخذ ضمانات قوية، حتى لا يصبح حلم إفريقيا بالهوية الرقمية بأن يصبح كابوسًا مُرهقًا للمراقبة”.
وتُثير خروقات البيانات والأُطُر القانونية غير الملائمة تساؤلاتٍ إضافية حول ما إذا كانت هذه البرامج تُمكّن المواطنين أم تُعرّضهم لثغراتٍ جديدة تتمثل فيما يلي:
- مخاوف الخصوصية ومخاطرها: يُعدّ أمن البيانات أحد المخاطر الرئيسية؛ حيث تُصبح قواعد البيانات المركزية أهدافًا رئيسية للهجمات الإلكترونية والوصول غير المُصرّح به. وقد شهدت الدول التي تُطبّق برامج الهوية الرقمية، مثل نيجيريا وكينيا، خروقات للبيانات، مما أثار مخاوف بشأن مدى قدرة الحكومات على حماية المعلومات الشخصية الحساسة.
- المخاوف الأمنية، ثمة مخاوف من المراقبة الحكومية وإساءة استخدام البيانات، وإمكانية استخدام أنظمة الهوية الرقمية لمراقبة المواطنين، وكبح المعارضة، وانتهاك الحقوق الأساسية. وفي غياب سياسات واضحة وقابلة للتنفيذ لحماية البيانات، ثمة خطر من استغلال البيانات الشخصية التي تُجمَع لأغراض تحديد الهوية لتحقيق مكاسب سياسية أو تجارية.
ويُشير المركز الأوروبي لإدارة سياسات التنمية (ECDPM)، إلى أن الحكومات الإفريقية دأبت على تطوير قواعد بيانات بيومترية وأنظمة هوية رقمية، في الغالب قبل وضع أُطُر عمل متينة لحوكمة البيانات، مثل قوانين حماية البيانات والأمن السيبراني؛ ونتيجة لذلك، قد لا يفهم العديد من الأفراد المسجلين في هذه الأنظمة تمامًا كيفية استخدام بياناتهم أو مشاركتها.
- ثقة الجمهور وتحديات التبني: تواجه ثقة الجمهور بالهوية الرقمية عدة عقبات؛ حيث أجرت الشبكة الإفريقية للحقوق الرقمية (ADRN) بحثًا يشير إلى أن المواطنين في العديد من الدول الإفريقية لديهم تحفظات بشأن كيفية التعامل مع بياناتهم في أنظمة الهوية الرقمية. وقد وُثِّقت مخاوف بشأن حقوق الخصوصية والمراقبة المحتملة، لا سيما فيما يتعلق بتسجيلات بطاقات SIM المرتبطة بالهويات الرقمية. وهذا يُؤكّد الحاجة إلى ضمانات قانونية قوية لحماية بيانات المواطنين وبناء الثقة في مبادرات الهوية الرقمية([9]).
- ضعف الإلمام الرقمي: يمثل عائقًا رئيسيًّا آخر أمام تبنّي أنظمة الهوية الرقمية في جميع أنحاء إفريقيا. يفتقر العديد من المواطنين، لا سيما في المجتمعات الريفية والمحرومة، إلى المهارات اللازمة للتفاعل الفعَّال مع المنصات الرقمية. ويُسلِّط تقريرٌ صادرٌ عن البنك الدولي عام ٢٠٢٢م الضوء على ضعف المهارات الرقمية في إفريقيا؛ حيث تُسجِّل العديد من الدول نتائجَ أقلّ من المتوسط العالمي، بالإضافة إلى نقص التدريب الرسمي في مجال محو الأمية الرقمية. كما أدرك مكتب حماية البيانات في دول إفريقية مثل نيجيريا هذا الأمر، عندما دعا اللجنة الوطنية لإدارة الهوية إلى وضع معايير عالية للخصوصية وحماية البيانات كوسيلة لتعزيز نظام الهوية الرقمية في البلاد([10]).
رابعًا: الأُطُر والمبادرات الدولية والإقليمية لتعزيز الهوية الرقمية في إفريقيا
تعمل الحكومات الإفريقية بشكل متزايد على دراسة تطبيق حلول الهوية الرقمية، وهو ما يتم أحيانًا بدعم من جهات مانحة دولية مثل مبادرة البنك الدولي “الهوية من أجل التنمية”(ID4D) ، والتي تضم 49 دولة، منها رواندا ونيجيريا وتونس.
وقد تمَّت الموافقة على مشروع رواندا لتسريع التحول الرقمي عام 2021م، بما في ذلك: تحديث نظام الهوية الوطنية، وكذا إدخال هوية رقمية للمعاملات الإلكترونية، ورقمنة سجلات الأحوال المدنية. وفي نيجيريا، تمت الموافقة على مشروع “الهوية الرقمية من أجل التنمية” في فبراير 2020م، وفي عام 2021م، قُدِّمت مساعدة فنية لتنفيذ المشروع، مع التركيز، من بين أمور أخرى، على تعزيز الأُطُر القانونية، وإدخال ضمانات لحماية البيانات، وتحسين الأمن السيبراني. واستفادت تونس من مساعدة فنية لوضع خارطة طريق للهويات الرقمية. كما يُقدّم الدعم لتطوير نماذج للمصادقة الرقمية وتفعيل مُعرّف فريد للمواطن.
هذا فضلاً عن الأُطُر والمبادرات القارية والإقليمية؛ إذ تعتبر إستراتيجية الاتحاد الإفريقي للتحول الرقمي الهويات الرقمية أحد المجالات الرئيسية الشاملة لدعم المنظومة الرقمية، وآلية رئيسية لتعزيز مفهوم الأمم المتحدة “الهوية القانونية للجميع”، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة وأجندة 2063.
كما ظهرت مبادرة إفريقيا الذكية (Smart Africa Initiative)والتي أطلقت المبادرة رسميًّا في قمة التحول الرقمي في كيغالي، رواندا عام 2013م. كمبادرة قارية أُطلقت بهدف تسريع التنمية الاجتماعية والاقتصادية في إفريقيا من خلال الاستفادة من تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (ICT)، وتحويل القارة إلى سوق رقمية موحدة. وهي التزام جريء ومبتكر من رؤساء الدول والحكومات الإفريقية لتسريع الإدماج الاجتماعي والاقتصادي المستدام والتنمية في القارة من خلال استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. ولتحقيق هذا الهدف، تتوافق إفريقيا الذكية بشكل وثيق مع المبادرات الرئيسية الأخرى مثل اتفاقية التجارة الحرة القارية الإفريقية، وإستراتيجية الاتحاد الإفريقي للتحول الرقمي لإفريقيا، واتفاقية مالابو بشأن الأمن السيبراني وحماية البيانات الشخصية، وإطار الثقة الإفريقية للجنة الاقتصادية لإفريقيا التابعة للأمم المتحدة، ومبادرة تحديد الهوية من أجل التنمية لمجموعة البنك الدولي، والعديد من المبادرات والجهات الفاعلة المحلية والإقليمية والدولية الأخرى.([11])
وعلى المستوى الإقليمي، تمت الموافقة على بطاقة الهوية البيومترية الوطنية الإقليمية للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (ECOWAS) عام 2015م، لتسهيل حرية التنقل لمواطني منطقة المجموعة البالغ عددهم 320 مليون نسمة. وأتاحت هذه البطاقة لمواطني الدول الأعضاء التنقل في جميع أنحاء منطقة المجموعة؛ حيث تعمل بمثابة تصريح إقامة وجواز سفر وإثبات هوية. ومن المتوقع إضافة وظائف أخرى، مثل تحديد الهوية للتجارة الإلكترونية. وكانت السنغال أول دولة تطبق هذا النظام بالكامل، بينما حذت حذوها غانا ونيجيريا.
بالإضافة إلى ذلك، بدأ برنامج التعريف الفريد لغرب إفريقيا من أجل التكامل والإدماج الإقليمي (WURI)، كجزء من الشراكة بين الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا والبنك الدولي، في عام 2018م مع كوت ديفوار وغينيا لتسهيل الوصول إلى الخدمات لملايين الأشخاص في الدول الأعضاء في الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، بغضّ النظر عن الجنسية أو المواطنة أو الوضع القانوني.([12])
خاتمة:
تمثل الهوية الرقمية في إفريقيا أكثر من مجرد وسيلة للتعريف الإلكتروني؛ إنها أداة تمكين حقيقية تفتح أبواب المشاركة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لملايين الأفراد، وخاصةً في المناطق النائية والمُهمَّشة. ففي قارة تتطلع إلى تسريع جهود الشمول المالي والتحول الرقمي، باتت الهوية الرقمية عنصرًا أساسيًّا لبناء أنظمة أكثر عدالة وكفاءة وشفافية.
ورغم التحديات المرتبطة بالبنية التحتية، وضعف التشريعات، وقضايا الخصوصية وحماية البيانات، إلا أن التجارب الناجحة في بعض الدول الإفريقية، مثل موريشيوس ونيجيريا، وكينيا، وإثيوبيا، تؤكد أن الطريق نحو تعميم الهوية الرقمية ممكن إذا توافرت الإرادة السياسية، والشراكات الذكية، والاستثمارات المستدامة. وهو ما أكَّد عليه ختام المؤتمر؛ إذ أكَّد على أهمية البنية التحتية الرقمية العامة(DPI) ، مع التركيز على ضمان الأمان والخصوصية. وتعزيز التعاون الإقليمي والدولي مع دعم من الشركاء الدوليين مثل البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي. كما أوصى المشاركون بضرورة تسريع تبنّي أنظمة الهوية الرقمية لتعزيز الشمول المالي والوصول إلى الخدمات. وتعزيز الأُطُر القانونية والتنظيمية لحماية خصوصية البيانات وتضمن أمن الأنظمة.
ومن كل ما سبق عرضه، يتضح أن العديد من الدول الإفريقية تسير على الطريق الصحيح في مشاريعها الوطنية للهوية الرقمية، إلا أنه رغم هذا التقدم فقد أظهرت شهادات ما يقرب من ست جهات معنية بالهوية في اليوم الأول من مؤتمر ID4Africa أن هذه الجهات تواجه مشاكل مشتركة يمكن السيطرة عليها بفعالية إذا ما تم تطبيق حزمة الحلول المناسبة؛ ومنها: وضع الأطر التنظيمية والحوكمة، ونظم الحفاظ على خصوصية البيانات وأمنها. ولا تزال الأطر التنظيمية للهُويات الرقمية مُجزّأةً؛ حيث تُطبّق بعض الدول قوانين بيانات صارمة بينما تفتقر دولٌ أخرى إلى سياساتٍ واضحةٍ بشأن جمع البيانات وتخزينها. ووفقًا للاتحاد الدولي للاتصالات، فإنّ أقلّ من نصف الدول الإفريقية لديها أطرٌ قانونيةٌ شاملةٌ تتوافقُ مع المعايير العالمية، مثل اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR).
ومع تسارع جهود إفريقيا في التحول الرقمي، يُعدّ تحقيق التوازن بين الابتكار والخصوصية أمرًا بالغ الأهمية. ويتعين على الحكومات الإفريقية تعزيز الشفافية والأمن السيبراني والأُطُر القانونية لبناء الثقة في اعتماد الهوية الرقمية. ولتحقيق هذا التوازن، ينبغي على الدول الاستثمار في مبادرات بناء القدرات، وتطبيق أُطُر تنظيمية واضحة، وتعزيز حملات التوعية العامة. ويُعدّ التعاون بين الحكومة والمجتمع المدني والقطاع الخاص أمرًا بالغ الأهمية لإنشاء نظام هوية رقمية شامل وآمِن.
وختامًا، يمكن القول بأن مستقبل إفريقيا الرقمي يبدأ بهوية رقمية موثوقة وشاملة وآمنة. ومن هنا، فإن الاستثمار في هذا المجال ليس مجرد خيار تنموي، بل ضرورة إستراتيجية لتحقيق النمو الشامل، والحوكمة الرشيدة، والاستفادة من ثروة القارة البشرية والاقتصادية.
…………………………………….
[1]) ID4AFRICA 2025 , Addis Ababa, Ethiopia , available at: https://id4africaevents. com/
[2] ) الراصد الإثيوبي، إثيوبيا: عدد مستخدمي الهوية الرقمية يصل إلى 15 مليونًا، 21 مايو 2025م، متاح على الرابط التالي: https://www. ethiomonitor. net/14069/
[3] The Economic and Social Council (ECOSOC) of the United Nations (UN) , “What is Digital Identity, Digital Trade and Digital Economy for Africa? , 2025 , available at:https://www. uneca. org/dite-africa/what-digital-identity-digital-trade-and-digital-economy-africa
[4] ( Cecilia Maundu , “Digital ID systems in Africa: A dream of inclusion or a threat to privacy?” , 21 April 2025 , available at:
https://advox. globalvoices. org/2025/04/21/digital-id-systems-in-africa-a-dream-of-inclusion-or-a-threat-to-privacy/
[5]( SANIYA ANSAR JULIA CLARK , “The importance of ID access in three charts: Insights from Sub-Saharan Africa ” , World Bank Blogs , SEPTEMBER 09, 2024, available at:
https://blogs. worldbank. org/en/digital-development/the-importance-of-id-access-in-three-charts–insights-from-sub-s
[6] ) SANIYA ANSAR JULIA CLARK ,Op. cit.
[8]) Cecilia Maundu , Op. cit.
[9] ) Ayang Macdonald , “African nations making digital ID gains in the face of common challenges”, May 20, 2025 , available at:
https://www. biometricupdate. com/202505/african-nations-making-digital-id-gains-in-the-face-of-common-challenges
[10]) Smart Africa , “Digital ID” ,2025, available at: https://smartafrica. org/knowledge/digital-id/
[11]) Cecilia Maundu , “Digital ID systems in Africa: A dream of inclusion or a threat to privacy?” , 21/Apr/2025, available at;
https://citizenshiprightsafrica. org/digital-id-systems-in-africa-a-dream-of-inclusion-or-a-threat-to-privacy
[12] ) Sorina Teleanu | Jovan Kurbalija , “Digital identification in Africa: Frameworks and initiatives” , 2022 , available at:
https://www. diplomacy. edu/resource/report-stronger-digital-voices-from-africa/