يقول “المرصد الصحي الإفريقي المتكامل” التابع لـلأمم المتحدة إن القارة لديها أحد أعلى معدلات الانتحار في العالم. وبحسب أرقامه، يقدم بمعدل 11.2 شخصا من بين كل 100 ألف نسمة على إنهاء حياتهم كل عام.
وتسجل بعض الدول أعلى حالات انتحار، من بينها ليسوتو وإسواتيني وزيمبابوي وجنوب إفريقيا وموزامبيق وجمهورية إفريقيا الوسطى وبوتسوانا وإريتريا والكاميرون وكوت ديفوار، وفق إحصاءات رسمية لعام 2019.
وتقول المديرة الإقليمية لمنظمة الصحة العالمية في إفريقيا ماتشيديسو مويتي إن الانتحار هو مشكلة صحية عامة كبرى، ونادرا ما تكون الوقاية منه أولوية في البرامج الصحية للدول، وتضيف أنه لا بد من استثمار جهد كبير لمعالجة العبء المتزايد على إفريقيا جراء الإصابات المزمنة بحالات غير معدية مثل الاضطرابات العقلية التي يمكن أن تساهم في الانتحار.
فعلى سبيل المثال، تخصص أوغندا قرابة 10% من الناتج المحلي على الإنفاق الصحي، لكن جزءا لا يزيد على 1% من مجمل المبالغ يخصص للرعاية العقلية والنفسية، بحسب وزارة الصحة في البلاد. وهو ما يصعب من إمكانية الوصول للخدمات الصحية والدعم النفسي.
وبحسب المديرة الإقليمية لمؤسسة “سترونغ مايندز” في أوغندا كريستينا نتولو، فإن ضعف القدرة على الوصول إلى الرعاية الصحية العقلية في العديد من البلدان الإفريقية سببه انخفاض الاستثمار الحكومي.
ويتخطى تأثير تدهور الصحة النفسية والعقلية بشكل عميق في المجتمعات، وفي إفريقيا التي عانت على مدى قرون من الاستعمار والتمييز، ويصبح التأثير أكثر حدة. وتقول الباحثة في معهد الدراسات الأمنية في بريتوريا إيسيل راس إن الصدمة في إفريقيا غالبا ما تكون عابرة للأجيال، وتؤثر على الرفاهية النفسية الجماعية.
إلى جانب العوامل النفسية والبيولوجية الفردية، يزيد التعرض لظروف اجتماعية واقتصادية وجيوسياسية غير مؤاتية، بما في ذلك الفقر والعنف وعدم المساواة، خطر التعرض لمشاكل في الصحة النفسية. ويُعد الاكتئاب وخطر إيذاء النفس واضطرابات القلق واضطراب ما بعد الصدمة من أكثر الإصابات انتشارا.
وتقدم دراسة أعدها باحثون في جامعة نيروبي عام 2006 في عدد من الدول التي شهدت اضطرابات أهلية وتجارب نزوح، أرقاما مقلقة. ووفق الدراسة، فإن الاضطرابات النفسية الأكثر شيوعا في أوغندا بداية القرن الحالي ومجتمعات النازحين في كينيا هي اضطراب ما بعد الصدمة بنسبة 39.9% والاكتئاب بنسبة 52%.
وتقدر وزارة الصحة الأوغندية أن نحو 14 مليون شخص في البلاد من أصل 44 مليون نسمة يعانون من اضطراب نفسي. وتوضح أن ارتفاع النسبة إلى أكثر من 30% من عدد السكان يعود -بشكل أساسي- إلى ضعف نظام الرعاية الصحية في البلاد، والذي شهد تراجعا إضافيا بسبب جائحة كورونا.
أما منظمة الصحة العالمية، فتقدم أرقاما أوسع للوضع العام في القارة، وتفيد بأن قرابة 116 مليون شخص في إفريقيا يعانون بالفعل من صدمات نفسية وأمراض عقلية. وتعرّف الصحة النفسية بوصفها “حالة من الرفاه النفسي التي تمكن الأفراد من مواجهة ضغوط الحياة، والمساهمة في مجتمعاتهم المحلية والوطنية، وأنها حق أساسي من حقوق الإنسان”.
ويُعد نقص التمويل في تقديم خدمات الصحة العقلية والدعم النفسي وتركزها في المدن، من أهم التحديات التي تواجهها القارة، يضاف إليها نقص الموارد البشرية والوصمة الاجتماعية.
وتقدر الصحة العالمية أن معدل إنفاق وزارات الصحة الإفريقية على الصحة العقلية والنفسية يصل لنحو 50 سنتا أميركيا عن كل مواطن، بينما يعتبر حاجز دولارين للفرد هو الحد الموصى به للدول ذات الدخل المنخفض.
وينسحب انخفاض الإنفاق والاستثمار أيضا على الكوادر الطبية المؤهلة، فلا يتجاوز متوسط عدد الأطباء النفسيين في إفريقيا معدل 0.1 طبيبا لكل 100 ألف شخص. يضاف إليها الوصمات الاجتماعية التي تعيق تشخيص الإصابات بسبب المعلومات المضللة حول المرض العقلي والصدمات.
وتحاول منظمة الصحة العالمية مساندة الدول الإفريقية في الانتقال إلى نظام صحي أكثر شمولية وتعزيز الإنفاق على الصحة العقلية والنفسية، وتعمل “بشكل وثيق مع هذه الدول لتعزيز الاستجابة الشاملة لتحديات الصحة العقلية والنفسية”، حسبما تقول الدكتورة مويتي.
ومنذ أكثر من عقد، بلورت المنظمة ما سمتها “خطة العمل الشاملة للصحة العقلية”، وهي إطار عمل صمم لتحسين خدمات الصحة العقلية في جميع أنحاء العالم، وخاصة في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، ويفترض اكتماله بحلول عام 2030.
واستجابت الدول الإفريقية للخطة ونجحت -بالفعل- 28% منها في دمج الصحة العقلية والدعم النفسي والاجتماعي في خططها للاستعداد للأزمات الصحية المستقبلية. لكن 8 دول من أصل 47 نجحت في إرساء برامج لتعزيز الصحة النفسية.
وتُعد تنزانيا من التجارب الواعدة في مجال الصحة النفسية والعقلية في إفريقيا، أطلقت ما سمته “حوارا وطنيا للصحة العقلية”. وتعتبر أنه ضروري من أجل القيام بما يلزم لتحضير البيئة المواتية التي تعزز الصحة العقلية، بحسب ستانسلاوس نيونجو نائب وزير الدولة للتخطيط والاستثمار. وأضاف نيونجو أن الخطوات يمكن أن تشمل أيضا اتخاذ إجراءات على مستوى الإصلاحات السياسية والتشريعية.
وشهدت البلاد في السنوات الأخيرة ارتفاعا ملحوظا في الإنفاق على قضايا الصحة العقلية والنفسية مدفوعا بزيادة خدمات الصحة النفسية وإمكانية الوصول إليها في العيادات والمستشفيات ومراكز العلاج المتخصصة في جميع أنحاء البلاد، رغم بقاء التحدي الأهم المتمثل في وجود عدد محدود من الأطباء النفسيين وعلماء النفس المتاحين، بحسب مركز “ستاتيستا” للإحصاء. وسمح النمو الاقتصادي الثابت -الذي شهدته تنزانيا في السنوات الأخيرة وارتفاع المداخيل للسكان- بتخصيص المزيد من الموارد المالية نحو صحتهم العقلية.











































