طرأت مستجدات وتغيّرات في السودان بقيام الدولة الجديدة في الجنوب، الأمر الذي ستكون له آثاره على مجمل الأوضاع في الشمال والجنوب على حدٍّ سواء، وأوضاع المسلمين بصورة خاصة في جنوب السودان.
نحاول في هذا المقال، من خلال قراءة التاريخ والأوضاع الحالية وتداعياتها، تحليل واقع المسلمين، واستشراف مستقبل الإسلام في الدولة الجديدة في جنوب السودان، متبعين في ذلك المنهج الوصفي التاريخي التحليلي، ونأمل أن تسهم النتائج المنهجية والفكرية من هذه الدراسة في إعادة توجيه حركة الإسلام في «جنوب السودان» الحديث، وذلك بعد انفصاله وقيامه على أنقاض جنوب السودان القديم.
وسوف نتناول «جنوب السودان» تاريخياً وجغرافياً باختصار، فتاريخياً نشير إلى عهود الممالك الإسلامية التي قامت في المناطق المعروفة الآن بجبال النوبة، والنيل الأزرق، ودارفور المتجاورة مع الجنوب، والتي شاركت في الحرب التي أنهتها اتفاقية السلام الشامل بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية، ودور الحكم الثنائي في جنوب السودان.
ومن خلال الجغرافيا السياسية لجنوب السودان؛ نتناول الموقع والحدود والسكان والموارد الاقتصادية، ثم نتناول واقع الإسلام ومستقبله في دولة الجنوب الجديدة..
أولاً: خلفية تاريخية سياسية:
يُعد التاريخ السياسي لإقليم جنوب السودان من الملفات المهمة لفهم طبيعة السودان الخاصة؛ حيث تضافرت مجموعة من العوامل، وبخاصة في فترة الاستعمار البريطاني على تقسيم السودان معنوياً قبل تقسيمه حدودياً، وعلى تأجيج كثير من الصراعات فيه.
فترة ما قبل العهد التركي – المصري:
تبلورت صورة السودان الحالية في العهد التركي – المصري 1820 – 1885م، وقبل ذلك ساد الصراع القبلي وهيمنة بعض القبائل على غيرها، وقامت السلطنات الإقليمية كسلطنة الفونج في أواسط السودان، وتُسمّى أيضاً مملكة سنار، والسلطنة الزرقاء وعاصمتها سنار، ومملكة الفور في غرب السودان وعاصمتها الفاشر، وتمتد حدودها من «وداي» غرباً حتى حدود كردفان شرقاً.
وقامت في كردفان مملكتان، هما: مملكة تقلي في الجنوب، والمسبعات في الشمال، ويُطلق اسم مملكة كردفان أحياناً ليعني تجوزاً مملكة المسبعات، وكانت عاصمتها الأبيض[1].
وبما أن السلطنات الثلاث كانت جغرافياً مجاورة للجنوب، إلا أن الجنوب لم يتأثر بإسلامية أي منها لأسباب تخص كل سلطنة والمجموعة الجنوبية المجاورة لها.
فترة الحكم المصري – التركي (1820 – 1885م):
اهتم الحكم التركي بجمع المال وتجنيد الرجال، ولم يؤسّس دولة حديثة إلا فيما يختص بالمقدار الذي يحقق أهدافه الأساسية، ومع ذلك أخذ الإسلام طريقه إلى الجنوب مع العناصر التركية التي وصلت إلى الجنوب في ذلك الوقت.
عهد الحركة المهدية:
اقتصرت المهدية – نسبة إلى محمد أحمد المهدي[2] (1844 – 1885م) – على كونها حركة شعبية دينية ساعدت على تنامي الإحساس الوطني، ولكنها لم تتمكن من تغيير البنية الاجتماعية لتلك المجتمعات التقليدية؛ ولذلك بقيت العصبية القبلية موجودة، فقام الحكم الإنجليزي – المصري بإحيائها في إطار الإدارة الأهلية، ونقض سياسة المهدية التي حاولت استبدال القبلية بمفهوم الدعوة المهدية.
فترة الاستعمار البريطاني:
قامت السياسات الاستعمارية على إظهار الاختلافات الإثنية واللغوية والعرقية والدينية، وفرّقت بريطانيا في التعامل مع الجنوب والشمال في عدة قضايا، من أهمها التعليم، فبدأت تظهر الاختلافات الثقافية.
وقد قامت الإدارة الإنجليزية بين 1900م و 1920م بقمع الحركات القبلية في الجنوب التي رفضت الخضوع لها، وظلت الإدارة البريطانية في السودان في خلال هذه الفترة تمارس سياسة فصل الجنوب دون أن تدعو صراحة إلى ذلك، وإنما تحت ستار تطوير الحكم المحلي فيه، فلم تعارض انتشار الإسلام، ولكنها أوصت بعدم تشجيعه.
كما عملت الإدارة البريطانية على تنصير الجنوب؛ ففتحت الطريق للإرساليات المسيحية لتتولى مهمة التعليم ونشر المسيحية بين الجنوبيين، وفي عام 1917م تم تكوين الفرقة الاستوائية بعد إجلاء جميع الشماليين من الجنوب، وجعل يوم الأحد عطلة رسمية عامة في الجنوب، وفي 1918م أصبحت اللغة الإنجليزية اللغة الرسمية في الجنوب.
وفي عام 1921م أصبح مديرو المديريات الجنوبية لا يحضرون اجتماعات مديري مديريات السودان في الخرطوم، ويعقدون اجتماعاتهم في الجنوب.
وفي سنة 1922م صدر «قانون الجوازات والسفر»، وتبعه أمر «المناطق المقفولة».
وفي سنة 1930م وضع السكرتير الإداري مذكرة ضمّنها الخطط العامة للاستراتيجية البريطانية التي عُرفت بـ «السياسة الجنوبية»، والتي بقيت مطبقة حتى عام 1945م، وتقوم على المرتكزات الآتية:
1 – بناء سلسلة من الوحدات العرقية القبلية المكتفية ذاتياً، التي تقوم هياكلها على الأعراف والتقاليد المحلية.
2 – إبعاد الإداريين والكتبة والفنيين الشماليين بالتدرج، واستبدال عناصر جنوبية بهم.
3 – معرفة البريطانيين لعادات وتقاليد ولغات أهل الجنوب.
4 – استعمال اللغة الإنجليزية، وإذا تعذّر تُستعمل اللهجات المحلية[3].
وترك الاحتلال منطقة الجنوب السوداني تحت سيطرة الإرساليات المسيحية الكاثوليكية والبروتستاتنية؛ حيث قسموا الجنوب إلى مناطق نفوذ بين الإرساليتين، حتى القبيلة تم تقسيمها بين إرساليتين مختلفتين، وذلك إمعاناً في زرع الاختلاف وعدم التوحّد حتى في المسيحية بين أبناء القبيلة الواحدة.
وعملوا على أن يكون الجنوب يختلف عن الشمال في كلّ شيء؛ بحجة المحافظة على خصوصيته! فمنعوا حركة التجار الشماليين المسلمين في الجنوب، وحرّموا كل ما له صلة بالإسلام من التداول في الجنوب، حتى الكنيسة القبطية نظراً لاستخدامها اللغة العربية!!
ثم ترك مهمة التعليم والخدمات الاجتماعية في يد الإرساليات الكنسية، واستمرت الإرساليات في السيطرة على التعليم في الجنوب حتى عام 1926م، وذلك حين رأت الحكومة أن تعطي الأمر عناية أكبر[4]، وهو ما أدى إلى إحجام بعض المسلمين في الجنوب عن الالتحاق بالتعليم الكنسي، وهو ما أدى إلى تخلّفهم اجتماعياً وثقافياً وفكرياً، وقد عمد الاستعمار كذلك إلى إبقاء الجنوب متخلّفاً اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وفكرياً.
ثانياً: مرحلة ما بعد الاستعمار (الحكومات الوطنية):
بعد الاستقلال (1955م) تعاقبت الحكومات الوطنية (مدنية وعسكرية)، واهتمت بالتعليم والصحة، وصاحب ذلك زيادة في أعداد الإنسان والحيوان، ولكن لم يصاحب ذلك تحوّل في البنية الاجتماعية والاقتصادية، وظلّت الزراعة التقليدية والرعي التقليدي المتنقل يشكّلان السمة الأساسية لتلك المجتمعات، بل انضمت قيادات الإدارة الأهلية إلى الحزبين السائدين في البلاد، فنقلت التناقضات الحضرية إلى النسيج الاجتماعي في الريف، الأمر الذي فاقم الفجوة العدائية الناتجة عن التنافس حول الموارد الطبيعية.
بدايات التمرد مع أول حكومة وطنية:
بعد جلاء القوات بريطانيا وانفصال السودان عن مصر؛ طالب الجنوبيون أن يكون لهم نظام خاص بهم داخل الدولة السودانية الموحَّدة، وهو الأخذ بنظام الفيدرالية، ولكن الحكومة رفضت الاقتراح معللة بأنه سيؤدي إلى انفصال الجنوب.
وفي أغسطس 1955م تمرّد بعض أعضاء الفرقة الجنوبية من الجيش السوداني؛ حيث كانت هناك شكوك لدى الجنوبيين في سياسات وزارة إسماعيل الأزهري التي تشكّلت في يناير من العام نفسه.
في ظل حكومة عبود العسكرية عام 1958م:
بعد تولّي إبراهيم عبود السلطة قامت الحكومة العسكرية باتباع سياسة التذويب بالقوة مع الجنوبيين (أسلمة، وتعريب)، وقد أدى ذلك إلى مطالبة الأحزاب الجنوبية، وعلى رأسها «حزب سانو» باستقلال الجنوب، كما تم تشكيل «حركة أنانيا» التي بدأت عملياتها العسكرية في عام 1963م، وبعد الشد والجذب تم بحث تسوية سلمية للصراع.
فترة الحكم الديمقراطي 1964 – 1970م وجهود التسوية السلمية:
عُقد مؤتمر المائدة المستديرة عام 1965م، وفي عام 1972م في عهد حكم الرئيس جعفر النميري تم توقيع اتفاقية أديس أبابا، والتي أعطت للإقليم الجنوبي الحكم الذاتي في إطار السودان الموحَّد.
فترة حكم جعفر النميري، وقيام الحركة الشعبية لتحرير السودان:
في عام 1972م في عهد حكم الرئيس جعفر النميري – كما تقدم – تم توقيع اتفاقية أديس أبابا، والتي أعطت للإقليم الجنوبي الحكم الذاتي في إطار السودان الموحَّد، إلا أنه في يوليو وسبتمبر من عام 1983م أصدر الرئيس جعفر نميري عدة قرارات أطاحت بالاتفاقية، ومن تلك القرارت تقسيم الجنوب إلى ثلاثة أقاليم، ونقل الكتيبة (105) وبعض الجنود إلى الشمال، واتهام قائدها كاربينو كوانين باختلاس أموال، كما تم إرسال قوات لإخضاعها، فأدى ذلك إلى هروبها إلى الأدغال الاستوائية، لتصبح فيما بعد نواة للجيش الشعبي، ثم حدث تمرد وليم نون بنج، وانضمام العقيد جون قرنق للتمرد.
ثم تأسست الحركة الشعبية لتحرير السودان، والجناح العسكري (الجيش الشعبي لتحرير السودان)، وقامت بإعلان هدف الحركة، وهو «تأسيس سودان علماني جديد» قائم على المساواة والعدل الاقتصادي والاجتماعي في إطار سودان موحَّد، وقامت برفع شعارات يسارية فحصلت على دعم من الرئيس الإثيوبي منغستو هيلا ميريام.
الحكومة الديمقراطية بعد النميري: