يُعدّ مواليمو جوليوس كامباراج نيريري (1922- 1999م)، أحد أكثر الزعماء الأفارقة نفوذًا وتمسُّكًا بالمبادئ؛ حيث شغل منصب أول رئيس لتنزانيا منذ الاستقلال عام 1964م حتى تقاعده الطوعي عام 1985م. وعادةً ما يُطلَق عليه الرئيس الفيلسوف؛ حيث كان التكوين الفكري له استثنائيًّا بالنسبة لجيله، مما جعله أول تنجانيقي يدرس في جامعة بريطانية عندما حصل على درجة الماجستير في التاريخ والاقتصاد من جامعة إدنبرة عام 1952م.
وقد ساهم هذا الأساس التعليمي، إلى جانب إيمانه الكاثوليكي العميق وأفكار الاشتراكية الفابية، في تشكيل فلسفته السياسية المميزة التي تجلَّت لاحقًا في مفهوم “أوجاما”، وهو شَكْل فريد من أشكال الاشتراكية الإفريقية سعى من خلاله إلى تحديث تنزانيا مع الحفاظ على القِيَم المجتمعية التقليدية.
وبصفته الزعيم المُؤسِّس للاتحاد الوطني الإفريقي التنجانيقي (تانو) عام 1954م، كان نيريري رائدًا في المنهج السلمي لإنهاء الاستعمار؛ حيث شدَّد على المقاومة غير العنيفة والتعاون متعدّد الأعراق والوحدة الوطنية بين المجموعات العرقية التي تربو على المائة في تنزانيا. وبالفعل تُوِّجت قيادته الناجحة لحركة التحرر الوطني باستقلال تنجانيقا في ديسمبر 1961م، تلاه الاتحاد التاريخي مع زنجبار عام 1964م لتشكيل جمهورية تنزانيا المتحدة.
وقد تميَّزت رئاسة نيريري بتحوُّل اجتماعي طموح من خلال فلسفته “أوجاما”، التي عزَّزت الملكية الجماعية، والاعتماد على الذات، والتنمية المتساوية. كما حدَّد إعلان أروشا لعام 1967م رؤيته لبناء مجتمع اشتراكي قائم على القِيَم الإفريقية التقليدية المتمثلة في التعاون والتضامن، ممَّا أدَّى إلى برامج واسعة النطاق لتنمية القرى وتأميم الصناعات الرئيسية. وبينما حقَّقت هذه السياسات نجاحًا ملحوظًا في زيادة نسبة محو الأمية من 17٪ إلى 63٪، وتحسين فرص الحصول على الرعاية الصحية؛ إلا أنها أثبتت في النهاية أنها تُشكِّل تحديًّا اقتصاديًّا، مما ساهم في تحوُّل تنزانيا من أكبر مُصدِّر للأغذية في إفريقيا إلى أكبر مستورد لها.
وبعيدًا عن السياسة الداخلية، برز نيريري كشخصية بارزة في حركات التحرير الإفريقية؛ حيث قدَّم دعمًا حاسمًا للمقاتلين من أجل الحرية في جميع أنحاء جنوب إفريقيا، وكان أحد الآباء المُؤسِّسين لمنظمة الوحدة الإفريقية. كما امتدت سلطته الأخلاقية عالميًّا؛ حيث رسخت قيادته الحكيمة، وأسلوب حياته المتواضع، وتقاعده الطوعي عام 1985م، مكانته كمثال نادر على حُكم الآباء المؤسسين في إفريقيا ما بعد الاستقلال. وقد لمست بعضًا من صفاته، ولا سيما تواضعه الجمّ، عندما حظيت بلقائه في نيودلهي منتصف التسعينيات من القرن الماضي.
ويسعى هذا المقال لإبراز بعض جوانب إرث نيريري، وماذا حدث لأبنائه من بعده على مدى العقود الماضية.
ما بعد نيريري وتبنّي التعددية المقيَّدة:
كان تقاعد نيريري الطوعي والتعديل الدستوري لعام 1992م دافعًا لتبنّي سياسة التعددية الحزبية، وتحقيق قدر من الاستقرار السياسي؛ فقد أتاحت انتخابات عامي 1995 و2000م، رغم انتصارات الحزب الثوري الحاكم، لشخصيات معارضة مثل أوغستينو مريما وإبراهيم ليبومبا مساحة للحركة -وإن كانت مقيَّدة-، ووصلت نسبة المشاركة في التصويت لأكثر من70%. ومع ذلك، ظلت البنى التحتية للدولة وشبكات المحسوبية والهيمنة التنفيذية الموروثة من حقبة اشتراكية أوجاما سليمة لم تُمَسّ، مما مكَّن الحزب الحاكم من إعادة ضبط نفسه عندما انخفضت حصته من الأصوات إلى 58% في عام 2015م.
وفي عهد جون ماجوفولي، الرئيس البلدوزر، أعاد الحزب توحيد آلية الدولة والقوة القسرية، وكبح وسائل الإعلام واستقطاب أجهزة الأمن واستبعاد المرشحين، لتحقيق فوز رئاسي غير معقول بنسبة 84% في عام 2020م، بالإضافة إلى سيطرة برلمانية شبه كاملة، بينما انخفضت نسبة المشاركة إلى 51% (انظر جدول رقم 1).
وعلى أيّ حال لم يُعالج خطاب الرئيسة سامية حسن الإصلاحي هذه الاختلالات الهيكلية لتبدأ مرحلة جديدة من السلطوية الانتخابية في تنزانيا.
التراجع المنهجي للسياسات التعددية:
ماذا حدث لأبناء نيريري بعد نحو ثلاثة عقود من التعددية المقيَّدة؟ مع اقتراب موعد الانتخابات العامة في أكتوبر2025م، أضحت تنزانيا نموذجًا صارخًا للسلطوية الانتخابية؛ وهو نظامٌ تستمر فيه آليات الديمقراطية بينما يُفرَّغ جوهرها بشكل منهجي.
ولعل إيداع زعيم المعارضة تونديو ليسو السجن بتهمة الخيانة التي تُعاقب بالإعدام، وحرمان حزب المعارضة الرئيسي “تشاديما” من المشاركة في الانتخابات، واستبعاد مراقبي الانتخابات الإقليميين، كلها تُشير إلى ترسيخٍ دراماتيكي للحكم التسلطي في ظل إدارة الرئيسة سامية حسن. ولا يُمثِّل هذا مجرد انتكاسة مؤقتة للديمقراطية التنزانية، بل يُمثّل ذروة عملية تراجع ديمقراطي استمرت عقدًا من الزمن، والتي تسارعت وتيرتها في ظل قيادة الرئيسة الحالية.
إن الأدلة الواقعية على انحراف تنزانيا نحو الاستبداد هائلة وغير مسبوقة في نطاقها؛ إذ يكشف الأداء الانتخابي لحزب تشاما تشا مابيندوزي الحاكم عن تلاعب ممنهج بالعمليات الديمقراطية، وهو تلاعب ازداد حدةً على مدار دورات انتخابية متتالية. ففي انتخابات عام 2015م، حصد الحزب 58٪ من الأصوات، ووَاجَه تحديًا حقيقيًّا من المعارضة؛ حيث حصد مرشح حزب تشاديما، إدوارد لواسا، نحو 40٪ من الأصوات، وحصل على 70 مقعدًا برلمانيًّا. ومَثَّل هذا ذروة الديمقراطية التنافسية في تنزانيا ما بعد عام 1995م، مُظهرًا أن المنافسة الانتخابية ظلت قابلة للاستمرار في ظلّ القيود المؤسسية.
ومع ذلك، شهدت انتخابات عام 2020م تحوّلًا استبداديًّا حاسمًا. فقد مثَّلت إعادة انتخاب الرئيس جون ماجوفولي بنسبة 84٪ من الأصوات، مصحوبةً بفوز حزبه الحاكم بـ261 مقعدًا برلمانيًّا من أصل 264 (98.7٪)، ما وصفه المحللون بـ”الانهيار الاستبدادي” الذي اتَّسم بالتلاعب الانتخابي الممنهج. وقد تم استبعاد المراقبين الدوليين، وواجَه مرشحو المعارضة اعتقالات وترهيبًا واسع النطاق، وانتشرت تقارير عن بطاقات اقتراع تم تزويرها.
وأكملت انتخابات المحليات لعام 2024م هذا المسار نحو هيمنة الحزب الواحد. والفوز الرسمي للحزب الحاكم في 99.01% من المناصب على مستوى القرى، و98.83% من رؤساء البلديات، و98.26% من المناصب الفرعية في القرى؛ يُمثّل مستوًى من السيطرة الانتخابية غير مسبوق.
وتتحدى هذه النتائج المبادئ الأساسية للمنافسة الانتخابية والتوزيع الطبيعي، مما يشير إلى تلاعب منهجي على جميع مستويات الحكومة. ومن الناحية الواقعية تم إقصاء أحزاب المعارضة من خلال استبعاد المرشحين -حيث أشارت التقارير إلى منع 94% من مرشحي حزب تشاديما من المشاركة-، بينما واجَه مَن تمكّنوا مِن المنافسة مضايقات وعنفًا وقيودًا على الموارد جعلت المنافسة الجادة مستحيلة.
الآليات المؤسسية للرقابة الانتخابية:
تم تسهيل تحوُّل تنزانيا إلى نظام السلطوية الانتخابية من خلال التلاعب المنهجي بالمؤسسات الانتخابية والأُطُر القانونية التي تحافظ على مظهر الشرعية الديمقراطية مع ضمان نتائج مُحدَّدة مسبقًا. وعلى سبيل المثال لا تزال اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات، على الرغم من استقلالها الاسمي، تحت السيطرة الرئاسية من خلال آليات التعيين التي تضمن الولاء للحزب الحاكم. إذ تحتفظ رئيسة الدولة بسلطة تعيين جميع أعضاء اللجنة، مما يخلق حوافز هيكلية لمسؤولي الانتخابات لخدمة النظام بدلاً من المعايير الديمقراطية.
وقد تم استغلال البنية القانونية المحيطة بالانتخابات لاستبعاد مشاركة المعارضة. ولعل أبرز مثال على ذلك يتمثل في شرط توقيع الأحزاب على مدونة قواعد السلوك الانتخابي -المُستخدم لاستبعاد حزب تشاديما من انتخابات عام 2025م–؛ حيث يظهر كيفية التلاعب بالمتطلبات الإجرائية لتحقيق استبعاد جوهري. وقد وفَّر رفض تشاديما التوقيع على هذه المدونة -كجزء من حملته “لا إصلاحات، لا انتخابات”-، للسلطات مبرّرًا قانونيًّا لاستبعاده، على الرغم من مخاوف الحزب المشروعة بشأن نزاهة الانتخابات والتحيُّز المؤسسي.
وتُمثّل محاكمة تونديو ليسو بتهمة الخيانة تجريمًا للمعارضة السياسية من خلال تطبيق انتقائي لقوانين الحقبة الاستعمارية.
وقد فُسِّر تصريح ليسو المزعوم بـ”أن تشاديما “ستمنع الانتخابات” و”تُثير التمرد”، إذا لم تُنفَّذ الإصلاحات”؛ على أنه خيانة وليس احتجاجًا سياسيًّا مشروعًا. وعليه فإن استخدام تُهَم الخيانة -التي قد تُؤدّي إلى أحكام بالإعدام والحرمان من الحقوق السياسية-، يخلق جوًّا من الخوف يتجاوز الحالات الفردية ليشمل نشاط المعارضة الأوسع. ولا شك أن هذه الإستراتيجية القانونية تُحوِّل المنافسة السياسية الاعتيادية إلى نشاطٍ يُحتمل أن يُهدِّد الحياة، مُغيّرةً جذريًا حسابات التكلفة والعائد للسياسيين المعارضين ومؤيديهم.
الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية للرقابة الانتخابية:
تعمل السلطوية الانتخابية في تنزانيا من خلال شبكات متطورة من السيطرة الاقتصادية والتلاعب الاجتماعي، تتجاوز بكثير المؤسسات السياسية الرسمية. لقد أدَّى حكم الحزب الثوري، الذي استمر ستة عقود، إلى إرساء أنظمة محسوبية راسخة، تربط الولاء السياسي بالبقاء الاقتصادي لشرائح واسعة من السكان. وليس بِخَافٍ أن جميع الوظائف الحكومية، وتراخيص الأعمال، والدعم الزراعي، والخدمات الاجتماعية، تتم عبر شبكات يسيطر عليها الحزب، مما يجعل النشاط السياسي المعارض مُكلِّفًا اقتصاديًّا للأفراد والمجتمعات.
إن سيطرة الحزب على هياكل الحكم المحلي -التي تتجلى في نِسَب فوز وصلت 99% في الانتخابات المحلية لعام 2024م-، تترجم إلى سيطرة شاملة على تخصيص الموارد على المستويات الشعبية. ويتحكم رؤساء القرى، وأعضاء لجان الشوارع، وزعماء القرى الفرعية في الوصول إلى مشاريع التنمية، والمدخلات الزراعية، والخدمات الحكومية التي تُشكِّل أساس سبل العيش الريفية. وهذا بدوره يَخْلُق حوافز هيكلية للتوافق السياسي تعمل بشكل مستقل عن التفضيلات الانتخابية، مما يجعل المنافسة السياسية الحقيقية صعبة للغاية حتى عند السماح بها رسميًّا.
كما تُواجه المناطق الحضرية أشكالًا مختلفة، ولكنها متساوية الفعالية، من السيطرة الاقتصادية. وتعتمد تراخيص الأعمال، والعقود الحكومية، والتوظيف في المؤسسات شِبْه الحكومية، والحصول على الائتمان، جميعها على الحفاظ على علاقات مقبولة مع الهياكل الحزبية.
إن المضايقة المنهجية لمؤيدي المعارضة، من خلال التحقيقات الضريبية، وتطبيق اللوائح، وإلغاء التراخيص، تُنشئ عوائق قوية أمام المعارضة السياسية. واللافت أن هذه الآليات تعمل دون أدنى اهتمام مِن قِبَل أصحاب المصلحة الدولية، بينما تُقيّد المعارضة السياسية بفعالية من خلال الضغط الاقتصادي بدلاً من الإكراه المباشر.
السيطرة على الإعلام وحرب المعلومات:
من جهة أخرى، تُمثِّل السيطرة المنهجية على المعلومات عنصرًا أساسيًّا في منظومة السلطوية الانتخابية في تنزانيا، مع تزايد القيود على الإعلام مع اقتراب موعد الانتخابات. ويُظهر تعليق العديد من منصات الأخبار الإلكترونية -بما في ذلك “ذا سيتيزن” The Citizen، و”موانانشي” Mwananchi، و”موانا سبوتي” Mwanaspoti؛ لنشرها رسومًا كاريكاتورية تنتقد الرئيسة سامية حسن-؛ ضِيق حدود الخطاب المقبول.
وعادةً ما يتم صياغة الاتهامات الحكومية بلغة فضفاضة الصياغة حول “نشر معلومات كاذبة”، مما يُثير حالة من عدم اليقين بين الصحفيين وأصحاب وسائل الإعلام بشأن الخطوط الحمراء للسياسات التحريرية. كما أصبحت قيود وسائل التواصل الاجتماعي أكثر تعقيدًا؛ حيث تجاوزت مجرد حظر المنصات إلى عمليات تعطيل مُستهدَفة خلال فترات سياسية حساسة. ويعكس رد الحكومة على استخدام المعارضة لأدوات التنظيم الرقمي -بما في ذلك القيود المفروضة على استخدام الشبكات الافتراضية الخاصة (VPN)، ومراقبة الاتصالات الخاصة-؛ إدراكًا بأن الرقابة التقليدية على وسائل الإعلام غير كافية في بيئات المعلومات المعاصرة.
وعلى أيّ حال، لا تُمثّل انتخابات أكتوبر2025م ممارسة ديمقراطية تنافسية، بل تُعدّ تصديقًا رسميًّا على حكم الحزب الواحد الذي تحقَّق من خلال التدمير المنهجي لقُدرات المعارضة والتلاعب بالانتخابات. ومع استبعاد حزب تشاديما، وسجن ليسو، ومنع المراقبين الدوليين، ستُستخدَم الانتخابات في المقام الأول لإضفاء الشرعية على نتائج مُحددة مُسبقًا، بدلًا من أن تكون وسيلةً للاختيار الديمقراطي.
ويبدو أن مسار السلطوية الانتخابية لا رجعة فيه في ظل الظروف الحالية، مع عرقلة الإصلاحات المؤسسية، وتجريم قيادة المعارضة، وتقييد المجتمع المدني بالضغوط القانونية والاقتصادية. وتشير ثقة الحزب الحاكم في استبعاد حتى المراقبين الإقليميين، وفقًا لتقييم النظام، إلى أن التكاليف الدولية للتلاعب بالانتخابات لا تزال في المتناول مقارنةً بالفوائد السياسية المحلية للحفاظ على سلطة دون منازع.
ويمكن القول:
إن تجربة تنزانيا تُظهر كيف يُمكن ترسيخ السلطوية الانتخابية تدريجيًّا من خلال الآليات القانونية والمؤسسية مع الحفاظ على واجهات الشرعية الديمقراطية. كما أن الطبيعة المنهجية لهذا التحول -الذي يشمل القانون الانتخابي، والأنظمة القضائية، وتنظيم الإعلام، والسيطرة الاقتصادية-، تُنشئ آليات مُعزّزة تجعل مسألة التعافي الديمقراطي أمرًا صعبًا للغاية دون تدخُّل خارجي أو انقسامات داخلية في النظام. وبالنسبة للمجتمع الدولي، تُمثّل تنزانيا حالة اختبارية لكيفية التعامل مع السلطوية الانتخابية في الدول ذات الأهمية الاستراتيجية؛ حيث آليات الضغط التقليدية محدودة الفعالية.