بقلم/ حسناء بهاء رشاد
باحثة ومترجمة مصرية
مقدمة:
شهدت ليبيريا حربين أهليتين مُدمّرتين بين عامي (1989- 2003م)، تسبَّبتا في مقتل مئات الآلاف ونزوح الملايين. وسط هذا الدمار، برزت امرأة ليبيرية تُدْعَى ليما غبوي (Leymah Gbowee) كواحدة من أبرز القيادات النسوية في مجال بناء السلام.
لعبت غبوي دورًا محوريًّا في تعبئة النساء من مختلف الخلفيات الدينية والعرقية للضغط على أطراف النزاع من أجل التوصل إلى تسوية سلمية.
بالإضافة إلى كونها مُؤسِّسة وقائدة حركة “النساء الليبيريات من أجل السلام”؛ حيث نجحت في توحيد النساء المسيحيات والمسلمات، مما أسهم في إنهاء الحرب الأهلية الليبيرية الثانية عام 2003م، وفتح الطريق أمام تحقيق السلام في الجمهورية الليبيرية، التي لا تزال تواجه تحديات الاستقرار حتى اليوم([1]).
نشأة “ليما غبوي” وتأسيس حركة “النساء الليبيريات من أجل السلام”:
وُلِدَت “ليما غبوي” عام 1972م في ليبيريا مع بداية الحرب الأولى، كانت شابَّة تدرس في مجال الصحة، لكنها سرعان ما أصبحت شاهدةً على ويلات الحرب وآثارها النفسية على الناجين، خاصةً النساء والأطفال. هذا دفَعها الوعي إلى الانخراط في برامج الدعم النفسي والاجتماعي، ثم اتجهت إلى النشاط المدني والسياسي.
عملت بجد مع زميلتها إيلين جونسون سيرليف Ellen Johnson-Sirleaf، الناشطة في مجال حقوق المرأة، والتي شغلت لاحقًا منصب رئيسة ليبيريا في الفترة من 2006م وحتى عام 2018م، لتحسين أوضاع النساء المتأثرات بالحرب. وعندما تخرجت من المدرسة الثانوية، كانت تُخطِّط لمستقبلها وتضع خططًا طموحة، لكنّ اندلاع الحرب الأهلية الليبيرية الأولى عام 1989م غيَّر مسار حياتها بشكل جذري.
برزت “ليما” قائدةً لحركة سلمية جمعت بين النساء المسيحيات والمسلمات؛ حيث لعبن دورًا حيويًّا في إنهاء الحرب الأهلية الليبيرية المُدمّرة التي استمرت أربعة عشر عامًا في عام 2003م. وقد مهَّد هذا الإنجاز التاريخي الطريق لانتخاب إيلين جونسون سيرليف، أول رئيسة دولة إفريقية. كما شكّلت هذه الحركة بداية لظهور جيل جديد من النساء اللواتي أظهرن دورًا فاعلًا ومؤثرًا على الساحة العالمية في جهود تحقيق السلام والأمن المستدامين.
كانت “ليما” في السابعة عشرة من عمرها عندما اندلعت الحرب الأهلية في ليبيريا، مما حوَّلها، كما تصف، “من طفلة إلى بالغة في غضون ساعات”. ومع تصاعد الصراع، أصبحت أُمًّا شابَّة، وتلقت تدريبًا لتصبح أخصائية اجتماعية ومستشارة في مجال الصدمات؛ حيث عملت مع الأطفال الجنود السابقين.
تطورت قناعاتها لتشمل أهمية دور المرأة في العمل من أجل الجيل القادم واستعادة السلام، مما جعلها عضوًا مُؤسِّسًا ومنسِّقة لشبكة المرأة في بناء السلام (WIPNET) التابعة لشبكة غرب إفريقيا لبناء السلام (WANEP). مستلهمة من حلمها، وبفضل إيمانها، قامت بتنظيم زميلاتها المسيحيات للتعبئة من أجل السلام. كما تعاونت مع شركاء مسلمين لتأسيس تحالف غير مسبوق مع النساء المسلمات، مما أدى إلى ظهور الحركة المعروفة باسم “العمل الجماعي لنساء ليبيريا من أجل السلام”، والتي كانت تعمل تحت رعاية WIPNET.
تم تعيين “ليما” متحدثة باسم الحركة النسائية؛ حيث قادت النساء في احتجاجات عامة استمرت لأسابيع، ونجحت في جذب آلاف المشاركات الملتزمات. كما قادت “ليما” أعضاء حركة “نساء ليبيريا للعمل الجماعي من أجل السلام” في مظاهرات أجبرت رئيس ليبيريا آنذاك، تشارلز تايلور Charles Taylor، على مقابلتهن والموافقة على الانخراط في محادثات سلام رسمية في أكرا، غانا.
وتوجهت مع وفد نسائي إلى أكرا؛ حيث مارسن ضغطًا إستراتيجيًّا لضمان تحقيق تقدُّم في المفاوضات. وفي لحظة حاسمة، عندما بدت المحادثات متوقفة، قامت “ليما” ونحو 200 امرأة بتشكيل حاجز بشري لمنع ممثلي تايلور وأمراء الحرب المتمردين من مغادرة قاعة الاجتماع للحصول على الطعام أو لأي سبب آخر، حتى يتمكن الرجال، كما طالبت النساء، من التوصل إلى اتفاق سلام.
عندما حاولت قوات الأمن اعتقال “ليما”، أظهرت براعةً تكتيكية من خلال تهديدها بخلع ملابسها، وهو تصرُّف يُعتقَد تقليديًّا أنه يجلب لعنة وسوء حظ كبيرين للرجال. كان لهذا التهديد تأثير كبير؛ حيث شكَّل نقطة تحوُّل حاسمة في عملية السلام. وبعد أسابيع قليلة، استقال تايلور من منصبه كرئيس، وذهب إلى المنفى، وتم توقيع معاهدة سلام تؤدي إلى تشكيل حكومة انتقالية.
بدأ تأثير “ليما” على الساحة العالمية يتجلى؛ حيث أصبحت قائدة معترفًا بها، وازدادت الدعوات لمشاركتها في اجتماعات لجنة الأمم المتحدة المعنية بوضع المرأة، وغيرها من المؤتمرات الدولية البارزة([2]).
في عام 2003م، أسَّست “غبوي” حركة “النساء الليبيريات من أجل السلام”، والتي جمعت مسلمات ومسيحيات ليبيريات في تحالف نسوي غير مسبوق. بدأت الحركة باعتصامات سلمية، وارتدت النساء ملابس بيضاء ترمز للسلام، واعتصمن في الشوارع وفي مقر الحكومة، مطالبات بوقف القتال وبدء مفاوضات سياسية.
بعد الحرب، واصلت “غبوي” الدعوة إلى السلام وتمكين المرأة. وشغلت منصب مفوضة في ليبيريا للجنة الحقيقة والمصالحة (2004- 2005م). وفي عام 2006م، كانت من مُؤسِّسي شبكة المرأة للسلام والأمن- إفريقيا (WIPSEN-Africa)، وهي منظمة ناشطة في عدة دول غرب إفريقيا، تُشجّع مشاركة المرأة في قضايا السلام والأمن والحوكمة. عُيّنت مديرةً تنفيذيةً لشبكة المرأة للسلام والأمن في إفريقيا في العام التالي. وفي عام 2007م، حصلت على درجة الماجستير في تحويل النزاعات من جامعة إيسترن مينونايت في هاريسونبورغ، فرجينيا([3]).
حركة النساء الليبيراليات من أجل السلام وتأثيرها في المسار التفاوضي:
بلغ نضال النساء ذروته حين سافرن إلى أكرا، عاصمة غانا؛ حيث كانت تُعقَد محادثات السلام بين الحكومة والمتمردين. هناك، نظَّمن اعتصامًا أمام مقر المحادثات، ومنعن المسؤولين من مغادرة القاعة حتى يتم التوصل إلى اتفاق. كانت هذه الخطوة حاسمة في دفع الأطراف المتفاوضة إلى التوصل إلى تسوية أنهت الحرب رسميًّا في أغسطس 2003م.
رغم مكانتها المرموقة كناشطة سلام دولية ومدافعة عن حقوق المرأة؛ حرصت “ليما غبوي” على الحفاظ على خصوصيتها. ففي سيرتها الذاتية، استخدمت أسماءً مستعارة عند الإشارة إلى الرجال في حياتها اليوم، هي متزوجة وتعيش بسعادة مع أسرتها المختلطة التي تضم ثمانية أطفال. وقد اتبع ابنها جوشوا خطاها؛ حيث يدرس في جامعة إيسترن مينونايت([4]).
تركت ليما غبوي أطفالها تحت رعاية شقيقاتها، وسافرت إلى الولايات المتحدة لدراسة صنع السلام وحل النزاعات. في جامعة إيسترن مينونايت (EMU) في فرجينيا، التي التحق بها عدد من مرشديها في WANEP، درست مفهوم “العدالة التصالحية”؛ حيث يتم تحقيق الشفاء من خلال التعاون بين الضحايا والجناة. كانت تسعى لوضع حد لـ”ثقافة الإفلات من العقاب” التي مكَّنت بعض القادة الأفارقة السابقين من التهرب من المسؤولية عن الجرائم التي ارتكبوها أثناء توليهم مناصبهم([5]).
بدأت حركة “ليما غبوي” السلمية تجني ثمار جهودها تدريجيًّا؛ حيث استجاب الرئيس تشارلز تايلور للدعوة للجلوس مع الفصائل المتمردة على طاولة الحوار. وحضرت “ليما” مع مجموعة من نساء الحركة إلى أكرا، وأصبحت جزءًا أساسيًّا في الضغط على الأطراف المتفاوضة. عندما شعرت النساء بأن المحادثات لم تكن تسير بجدية، واصلت نضالها من خلال إغلاق أبواب قاعة المفاوضات والاعتصام داخلها، مما أجبَر الأطراف المتفاوضة على البقاء في القاعة ومواصلة التفاوض بجدية.
وصلت أصداء الحركة النسائية التي أسَّستها إلى وسائل الإعلام العالمية، وحظيت باهتمام دولي، مما زاد من الضغط على الأطراف المتصارعة في ليبيريا، وشجَّعت “ليما” المجتمع الدولي على التدخل للضغط على الفصائل المتحاربة. وأسفرت جهود هذه الحركة في النهاية عن توقيع اتفاقية سلام شاملة في أغسطس من عام 2003م، وضعت حدًّا للحرب الأهلية في ليبيريا. وبعد توقيع الاتفاقية، تنحَّى تشارلز تايلور عن السلطة وغادر البلاد. وفي عام 2005م، أُجريت انتخابات حرة في ليبيريا، أسفرت عن فوز “إلين جونسون سيرليف” برئاسة البلاد، لتصبح أول امرأة تتولى رئاسة دولة في إفريقيا([6]).
وقد ارتكزت “حركة النساء الليبيراليات من أجل السلام” بقيادة “ليما غبوي” على مجموعة من الإستراتيجيات للضغط السياسي ودفع المسار التفاوضي بين الحكومة الليبيرالية وقادة المتمردين، أهمها:
- الاحتجاج السلمي: نظَّمت النساء اعتصامات أمام القصر الرئاسي وفي أماكن عامة، مطالبات بلقاء الرئيس.
- الضغط السياسي: مارسن ضغطًا مباشرًا على الأطراف المتحاربة وعلى المجتمع الدولي.
- المشاركة في مفاوضات السلام: عندما بدأت مفاوضات السلام في أكرا، لحقت النساء بالوفد الرسمي، واعتصمن خارج مقر التفاوض، ما أجبَر الأطراف على التوصل إلى اتفاق.
نتائج جهود “ليما غبوي” وحركتها:
أثمرت هذه الجهود عن توقيع اتفاقية السلام الشامل في أكرا في أغسطس 2003م، التي أدَّت إلى استقالة تايلور ونفيه، وتشكيل حكومة انتقالية؛ حيث كان لـ”غبوي” دور محوريّ في هذه اللحظة، عندما تمكَّنت من إدارة العمل الجماهيري بكفاءة، وأثبتت أن القوة الشعبية قادرة على فرض السلام.
بالإضافة إلى ذلك، فإن قصة “ليما”، كما تم تقديمها في الفيلم الوثائقي “صلِّ لكي يعود الشيطان إلى الجحيم” عام 2008م، ومذكراتها التي صدرت عام 2011م”، إلى جانب محاضراتها ونقاشاتها مع مجموعات كبيرة وصغيرة، قد أثّرت وألهمت وحفّزت عددًا لا يُحْصَى من الأشخاص حول العالم. في عام 2011م، نالت “ليما غبوي” جائزة نوبل للسلام مناصفة مع الرئيسة الليبيرية إلين جونسون سيرليف والناشطة اليمنية توكل كرمان؛ تقديرًا “لنضالهن السلمي من أجل سلامة المرأة وحقوقها في المشاركة في عمليات السلام”([7]).
بالإضافة إلى جائزة نوبل للسلام لعام 2011م، حصلت “غبوي” على العديد من الجوائز الأخرى، بما في ذلك جائزة الشريط الأزرق للسلام (2007م)، التي منحها مجلس القيادة النسائية في كلية “جون إف كينيدي” للحكومة بجامعة هارفارد، وجائزة جون إف كينيدي للشجاعة (2009م)، وجائزة القيادة العالمية من كلية الشؤون الدولية والعامة بجامعة كولومبيا (2019م) ، وجائزة مارتن وكوريتا كينج الدولية للسلام والعدالة (2020م). وظهرت في الفيلم الوثائقي لعام 2008م بعنوان “صلّوا ليعود الشيطان إلى الجحيم”، والذي سلط الضوء على محاولات العديد من النساء الليبيريات لفرض نهاية للحرب الأهلية في ليبيريا.
في عام 2011م، نشرت “غبوي” مذكراتها بعنوان “قوتنا عظيمة: كيف غيَّرت الأخوة والصلاة والجنس أمة في حالة حرب” مع كارول ميثرز، وفي عام 2024م، نشرت كتاب “دوافع أيام الاثنين: تأملات خلال جائحة”، كما ألّفت “غبوي” كتبًا للأطفال، منها “سرير ما” الذي صدر عام 2021م، وأيضًا “ما هي الأخوة الإنسانية” الذي نُشر قبل عامين([8]).
خاتمة:
يمكن القول: إن “ليما غبوي” تُمثّل نموذجًا مُلهمًا للمرأة الإفريقية التي استطاعت، -بفضل إيمانها القوي وشجاعتها-، أن تُحْدِث تغييرًا حقيقيًّا في واقع وطنها. فقد كانت لها دور محوري في إنهاء الحرب الأهلية في ليبيريا، من خلال قيادتها لحركة نسائية سلمية تجاوزت الانقسامات الدينية والعرقية، مما أجبر القادة السياسيين على الجلوس إلى طاولة الحوار.
لم يكن نضال “ليما غبوي” سياسيًّا فحسب، بل كان إنسانيًّا وأخلاقيًّا بامتياز، وقد تم تكريمها بجائزة نوبل للسلام عام 2011م؛ اعترافًا بجهودها في تعزيز السلام وتمكين المرأة.
وتظل تجربتها دليلًا على قدرة الأفراد، وخاصة النساء، على تغيير مسار التاريخ عندما يتسلحوا بالإرادة والإيمان بالعدالة.
………………………………………………………
([1]) Hafeeza Rashed Leymah Gbowee Biographical, The Nobel Foundation, 2013 متاح على ,https://www-nobelprize org.translate.goog/prizes/peace/2011/gbowee/biographical/
([3]) https://www-britannica-com.translate.goog/biography/Leymah-Gbowee
([4]) https://achievement-org.translate.goog/achiever/leymah-gbowee/
([5]) الامارات اليوم: ليما غبوي تستعرض إسهامها في إحلال السلام بليبيريا، نشرفي 28 نوفمبر 2024م، متاح على، https://www.emaratalyoum.com/life/four-sides/2024-11-28-1.1900745
([6]) الأمة برس: سيدة السلام التي ساعدت في إنهاء الحرب في بلادها … تعرف على ليما غبوي، نشر في 6 سبتمبر2024م، https://thenationpress.net/news-245558.html?utm_campaign=nabdapp.com&utm_medium=referral&utm_source
([7]) https://achievement-org.translate.goog/achiever/leymah-gbowee/
([8]) https://www-britannica-com.translate.goog/biography/Leymah-Gbowee