مازلت أتذكر منذ بداية شغفي بدراسة أحوال إفريقيا لحظة تكريم الزعيم الغيني الثائر أحمد سيكوتوري بمنحه الدكتوراه الفخرية في جامعة الأزهر عام 1982 في ظل مشيخة الإمام جاد الحق ورئاسة الإمام الطيب.
فكرت مليا ورحت أبحث في تاريخ الرجل وماهي اسهاماته التي اعترف بها الأزهر. كانت غينيا تعرف في العادة باسم غينيا الفرنسية او غينيا كوناكري تمييزا لها عن غينيا بيساو البرتغالية أو غينيا الاستوائية الإسبانية. بيد أن سيكوتوري الذي وقف في وجه دستور ديجول ورفض الاندماج في الرابطة الفرنسية عام 1958 جعل بلاده مركزا لقيادة النضال ضد الاستعمار بكافة أشكاله.
وربما لفت انتباهي ونحن ندرس مقرر النظم السياسية الإفريقية أثناء الدراسة الجامعية أهمية “أفرقة” المفاهيم والمصطلحات بشكل عام حتى يتم استكمال عملية التحرر والانعتاق الثقافي من عبء المركزية الأوروبية وسرديتها المهيمنة. ومن حسن الحظ أنني وجدت كتابا يحمل نفس الاسم صدر عام 1959 ألفه أحمد سيكوتوري نفسه.
في كتاب “نحو إعادة كاملة للأفرقة: سياسة ومبادئ الحزب الديموقراطي الغيني” يبدأ توري، مثل فانون وكابرال، بالفهم الأساسي المتمثل في أن اضطهاد الأفارقة زمن الاستعمار لم يكن سياسيًا واقتصاديًا فحسب، بل ثقافيًا أيضًا. الأمر لم يكن يتعلق فقط بالعنف الجسدي والسيطرة السياسية والاستغلال الاقتصادي، بل يتعلق بتغيير وتفريغ العقول وقتل الذاكرة، ومحو التاريخ، وغرس الخوف وكراهية الذات، وتربية الخضوع والعبودية وتشويه الذات.
باختصار، الأمر يتعلق بالقمع الثقافي ومحو الذاكرة الجمعية للشعوب وكأن إفريقيا لا تاريخ لها إلا مع مقدم الأوروبيين. ويطلق توري على هذه العملية اسم “نزع الطابع الإفريقي”، وهو جانب أساسي من استعمار غينيا وإفريقيا ككل. ومن ثم فإن تصوره للاستقلال والتحرر أكبر بكثير من مجرد تولي السيطرة السياسية والاقتصادية على البلاد. إنه مهتم بعودة الروح إذا استخدمنا لغة كاتبنا الكبير توفيق الحكيم. ومن ثم فهو يدعو إلى إعادة أفرقة الأشخاص والممارسات والمؤسسات.
متطلبات الأفرقة:
أولا: بالنسبة لتوري، فإن إعادة الطابع الإفريقي أو الأفرقة تتطلب القوة والإرادة الواعية لكل شخص من أجل “إنهاء استعمار” قلبه وعقله و”العودة إلى إفريقيا” ثقافيا وأخلاقيا.
يقول توري: “بما أن كل واحد منا يحمل في داخله جزءًا من التعليم الذي قدمه النظام الاستعماري، ولهذا السبب بالذات، “عقدة” معينة موروثة من هذا النظام، (يطلق عليها أهل مصر بشيء من الطرافة عقدة الخواجة) يجب علينا أن نضع لأنفسنا مهمة تحقيق إعادة تأهيلنا الكامل”.
ويستخدم توري مفاهيم إعادة التأهيل وإعادة التحويل لمناقشة إعادة الأفرقة، مع التركيز على المهام الثورية المتمثلة في إصلاح وإعادة فهم وإعادة بناء وتجديد أنفسنا والعالم بما يخدم مصلحة إفريقيا والإنسان. وللقيام بذلك، يجب علينا أن نستفيد من أفضل الأفكار والممارسات في ثقافتنا الوطنية. يقول: “إن العودة إلى الأفرقة ليست فقط بالمعنى السياسي للكلمة، بل أيضاً بالمعنى الثقافي وبالمعنى الأخلاقي، (و) بالمعنى الديمقراطي. ومن ثم، يجب على كل فرد أن يعود إلى المصادر الثقافية والأخلاقية الإفريقية، وأن يستعيد وعيه، ويعيد تحويل نفسه في أفكاره وأفعاله إلى قيم وظروف ومصالح أفريقيا والشعب الإفريقي”.
ثانيًا: من أجل فاعلية أفريقيا وتعظيم دورها في الساحة الدولية يتعين على الأفارقة التوكيد على العمل الجماعي والمسؤولية.
لأنه ليس هناك خلاص منفصل أو واحد لشخص ما، بل فقط التحرر الشامل والجماعي لشعب بأكمله. وهكذا، كما يقول، “بما أن النتيجة التي نتوقعها تعتمد بشكل مباشر على مجموع جهودنا الجماعية، فيجب على كل فرد أن يساعد جاره على إعادة تحصين نفسه، وإثراء نفسه من خلال التقدم”.
ثالثًا: يخبرنا توري أنه يجب علينا أن نقدر ونحب شعبنا، ليس بشكل مجرد، ولكن في سياق ثقافتنا، في تقدير عميق للطريقة المتميزة والخاصة والصالحة والقيمة على حد سواء لكوننا أفارقة وجزء من المجتمع الإنساني.
وبالتالي، فإن هذا يتطلب بالضرورة رفضًا عادلاً لدافع النظام القائم إلى نزع الطابع الإفريقي عنا، ومحو هويتنا، وإلقاء اللوم على قمعنا لفشلنا في الامتثال، والتعاون. وهكذا، يطرح توري المطلب الثوري المتمثل في “الثقة في الشعب، وحب الشعب (و) امتلاك وعي مدرك للدور البارز الذي يلعبه الشعب في كل حركة تقدم”.
ومن الواضح أن إعادة الأفرقة، كما قال توري، تتطلب التحرر والمساواة والمسؤولية المشتركة للمرأة. إذ يقول إنه يتعين علينا أن نعود إلى النماذج الإفريقية القديمة والتعاليم الأخلاقية المتعلقة بمساواة المرأة وأن نتصرف وفقا لذلك؛ والاعتراف وتصحيح التناقض بين الادعاء بمكافحة الاستغلال وعدم المساواة وممارستها فيما يتعلق بالمرأة.
ويقول للرجال: “ليس لدينا الحق في التقليل من قدرات المرأة الإفريقية والحفاظ على مجالات عمل معينة لها مسبقًا”. حيث تتطلب العدالة الاجتماعية واحترام الحاجة إلى الحرية وتحرر الشخصية الإنسانية نفسها ومتطلبات النضال المساواة والمسؤولية المشتركة في كل مجالات الحياة. “لقد تقبلنا هذه الدروس في أواخر الستينيات بعد المناقشات الداخلية وإعادة التقييم التي قادتها النسوة في مجتمعاتنا”.
نحو أفرقة العالم:
لقد كانت وجهات النظر الأوروبية المركزية تهيمن على الخطاب المحيط بالاقتصاد السياسي العالمي لفترة طويلة، متجاهلة المساهمات الغنية والعميقة من الباحثين الأفارقة. يؤدي هذا الإغفال إلى إدامة قصة التهميش، حيث يتم تهميش الأصوات الإفريقية ورفض أفكارها. ومع ذلك، فمن الضروري الاعتراف والاحتفال بالمساهمة الإفريقية الكبيرة في فهم قضايا النظام الدولي، والتي تشمل مجموعة متنوعة من الأيديولوجيات والفلسفات والحركات السياسية الفريدة من نوعها في القارة.
فقد انتقد علماء أفارقة مثل أولوكايودي فايلي وسمير أمين على نطاق واسع الطبيعة الضيقة لدراسات الاقتصاد السياسي، وسلطوا الضوء على التحيزات المتأصلة التي تقوض صحة التنظير الإفريقي. ويؤكد أمين بشكل خاص على التأثير الضار للسياسات التعليمية المتمحورة حول الغرب على الفكر النقدي الإفريقي، مما يؤدي إلى إدامة دائرة الاعتماد على المؤهلات الغربية لإضفاء الشرعية على خطاب العلاقات الدولية. هذا الفرض المهيمن لنظرية المعرفة الغربية يخنق ويكبل جهود بناء النظرية المحلية ويديم تهميش وجهات النظر الإفريقية في هذا المجال.
ولعل أحد الأطر الأكثر تأثيرًا التي ساهم من خلالها العلماء الأفارقة في أفرقة النظام العالمي هو مفهوم “ما بعد الكولونيالية” الذي يقدم رؤى نقدية حول قضايا “الآخر” والمقاومة. لقد تحدت شخصيات مثل تشينوا أتشيبي ونجوجي وا ثيونغو الهيمنة الغربية من خلال استعادة المطالبات بالمعرفة الأفريقية والدعوة إلى إنهاء الاستعمار الذاتي.
وفي الواقع لا تكشف أعمال هؤلاء الكتاب العظام مخاطر نظرية المعرفة الأوروبية المركزية فحسب، بل تقدم أيضًا روايات بديلة تركز على التجارب ووجهات النظر الإفريقية.
علاوة على ذلك، تبرز في هذا السياق سردية الوحدة الإفريقية باعتبارها إيديولوجية مؤثرة تتجاوز الحدود، وتوحد المنحدرين من أصل إفريقي في جميع أنحاء العالم في التضامن والوعي الذاتي. ومنذ نشأتها كحركة سياسية ضد الاستعمار إلى تطورها إلى فلسفة الوحدة الثقافية والاستقلال السياسي، دافع عن الوحدة الإفريقية مثقفون أفارقة من جيل الرواد مثل كوامي نكروما وليوبولد سيدار سنغور وسكوتوري وناصر. ولم تؤدي مساهماتهم إلى تعزيز العلاقات بين الدول الإفريقية فحسب، بل أرست أيضًا الأساس لنهج إفريقي متميز لفهم النظام العالمي.
ولا يمكن ونحن نتحدث عن أعلام أفارقة عظام تحدوا مفاهيم المركزية الأوروبية أن ننسي ثانديكا مكانداوير باعتباره أحد أعلام الاقتصاد الساسي، حيث تحدى نظريات العلاقات الدولية التقليدية ووضع إفريقيا في طليعة خطاب الاقتصاد السياسي. وتؤكد انتقاداته للنزعة الأبوية الجديدة وبرامج التكيف الهيكلي على الحاجة الملحة إلى حلول تقودها إفريقيا للتحديات الاقتصادية التي تواجهها القارة. ومن خلال الدعوة إلى نهج اجتماعي للسياسة الاقتصادية والحوكمة، عمل مكانداوير على تمكين الباحثين الأفارقة من المشاركة بنشاط في تشكيل مسار الاقتصاد العالمي.
وفي الختام، فإن المساهمة الإفريقية في أفرقة النظام الدولي هي شهادة على مرونة القارة وبراعتها الفكرية. ومن خلال الاعتماد على أيديولوجيات وفلسفات وحركات سياسية متنوعة، نجح الباحثون الأفارقة أمثال سيكوتوري ونكروما وسمير أمين في إثراء فهمنا لقضايا النظام العالمي وتحدي الهياكل المهيمنة التي تسعى إلى تهميش أصواتهم. ومن الضروري أن ندرك ونعمل على دعم وزيادة الوعي بوجهات النظر هذه في الخطاب السائد بغية الوصول إلى فهم أكثر شمولاً وإنصافًا لقضايا النظام الدولي ولاسيما ونحن على مشارف قمة الأمم المتحدة للمستقبل في سبتمبر 2024.