د. نرمين كمال طولان
مقدمة:
تقع مدينة كيلوا أو كما تسمَّى (كيلوا كيسيواني) على جزيرة قبالة سواحل تنزانيا الحديثة في المحيط الهندي، وكانت إحدى المدن التجارية الرئيسية على الساحل السواحيلي، مستفيدةً من موقعها الإستراتيجي الذي سهَّل التجارة مع المناطق الداخلية الإفريقية وبعض البلاد البعيدة مثل شبه الجزيرة العربية وبلاد فارس والهند.
وهي مثالٌ بارزٌ على كيفية تطوّر دول المدن في إفريقيا وازدهارها مع الحفاظ على حكمها الذاتي. ولم تكن “كيلوا” مدينة وحيدة على ساحل شرق إفريقيا؛ بل كان هناك عدد من الدول والمدن الأخرى على المحيط الهندي، بما في ذلك لامو ومافيا وزنجبار.
شكَّلت هذه الدول والمدن الحضارة السواحيلية، وسيطرت على ساحل شرق إفريقيا من القرن التاسع وحتى القرنين السابع عشر والثامن عشر. ولعبت “كيلوا” دورًا محوريًّا في ربط إفريقيا ببقية العالم. فقد كانت مركزًا تجاريًّا رئيسيًّا، مُتحكّمةً في امتداد ساحلي شاسع يمتد على طول 1900 كيلو متر؛ من سوفالا في موزمبيق إلى مومباسا في كينيا، بالإضافة إلى جزر القمر.
أولا: التسمية والتاريخ
- التسمية:
تعني كلمة “كيلوا”: “موطن الأسماك”؛ حيث اشتهر أهلها بصيد الأسماك. وقد تطوّرت من قرية صيد صغيرة إلى مدينة ساحلية مزدهرة وذات شهرة عالمية، تتمتع بموقع مثالي لاستيعاب طفرة التجارة العالمية في المحيط الهندي. زارها العديد من الرحالة وأطلق عليها العرب “المدينة العظيمة”، وصفها الرحالة المغربي ابن بطوطة الذي زارها عام ١٣٣١ “بأنها من أجمل المدن وأكثرها أناقة في البناء”. وفي عام ١٥٠٣ كتب دوم فرانسيسكو دالميدا عنها: “كيلوا، من بين جميع الأماكن التي أعرفها في العالم، لديها أفضل ميناء وأجمل أرض… فيها أُسود، وغزلان، وظباء، وحجل، وسمان، وبلبل، وأنواع عديدة من الطيور، وبرتقال حلو، ورمان، وليمون، وخضراوات خضراء، وتين الأرض، وجوز الهند، واليام، ولحوم وأسماك رائعة، ومياه آبار نقية جدًّا”.([1])
كما زارها دوارتي باربوسا، الوكيل التجاري البرتغالي عام ١٥١٦م، وكانت الجزيرة في أوج ازدهارها. وقال: “الناس من الموريين ذوي البشرة الداكنة، بعضهم أسود وبعضهم أبيض؛ يرتدون ملابس فاخرة من الذهب والحرير والقطن، والنساء أيضًا يرتدين الكثير من الذهب والفضة في سلاسل وأساور على أذرعهن وأرجلهن وآذانهن”.
كما وصفها المؤرخ البرتغالي غاسبار كوريا، في أوائل القرن السادس عشر، “كيلوا” بأنها مدينة كبيرة مُحاطة بأسوار: “يبلغ عدد سكانها حوالي ١٢ ألف نسمة. تعد البلاد ومن حولها فاخرة للغاية، بأشجارها وحدائقها الكثيرة وأنواع الخضراوات المتنوعة، مثل الليمون الحامض والليمون، وأفضل أنواع البرتقال الحلو التي شهدتها البشرية”.
الخلفية التاريخية:
- التأسيس
- يعتقد المؤرخون أن “كيلوا” كيسيواني كانت مستوطنة تعود إلى القرن الرابع الميلادي. في أوج ازدهارها، كانت موقعًا بالغ الأهمية؛ حيث كانت ميناءً رئيسيًّا بين المدن التجارية الساحلية على طول الساحل السواحيلي، وهو الشريط الساحلي الممتد من الصومال شمالًا إلى موزمبيق جنوبًا. كانت تضم مدنًا من شرق إفريقيا مثل “كيلوا” (تنزانيا)، ومومباسا (كينيا)، وسوفالا (موزمبيق). ولأن “كيلوا” كيسيواني كانت ميناءً رئيسيًّا، فقد أصبحت مركزًا للتجارة.
- وقد عزّزها موقعها الجغرافي الآمِن والإستراتيجي اقتصاديًّا، بالقرب من موارد طبيعية وفيرة كالذهب، وكانت نقطة الوصول الرئيسية للمنتجات التجارية الجاهزة للتصدير من داخل إفريقيا. على الرغم من أن التاريخ الدقيق لتأسيس “كيلوا” الكسواني (أو ببساطة كيلوا) على يد علي بن الحسن لا يزال مجهولاً، إلا أن علماء المنطقة يعتقدون أن القرن الثاني عشر هو الإطار الزمني المرجّح الذي رسَّخت فيه “كيلوا” مكانتها كمركز مهيمن في اقتصادات التجارة في المحيط الهندي.
- منذ القرن السابع الميلادي، توسعت شبكات التجارة لتشمل البحر الأحمر (ومِن ثَم القاهرة في مصر)، ثم شبه الجزيرة العربية والخليج العربي. وملأت المراكب الشراعية العربية بأشرعتها المثلثة المميزة موانئ الساحل السواحيلي. بل واستمرت التجارة عبر المحيط الهندي مع الهند وسريلانكا، بالإضافة إلى الصين وجنوب شرق آسيا. وأصبحت الرحلات البحرية الطويلة ممكنة بفضل تناوب الرياح التي كانت تهب باتجاه الشمال الشرقي في أشهر الصيف، وتنعكس في أشهر الشتاء.
- وبرزت “كلوة” كمركز تجاري هام على طول ساحل شرق إفريقيا. وبفضل موقعها الإستراتيجي للتجارة عبر المحيط الهندي، أصبحت “كيلوا” مركزًا لتبادل السلع الثمينة كالذهب والعاج والمنسوجات، مدعومةً بقربها من منطقة زيمبابوي الكبرى الغنية بالذهب. وازدهرت المدينة اقتصاديًّا وثقافيًّا، مستفيدةً من طرق التجارة البحرية وتفاعلاتها مع بلدان بعيدة، بما في ذلك الصين والشرق الأوسط. ومع نمو ثروة “كيلوا”، أصبحت أول مركز حضري في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى يسكّ عملاته الخاصة.
- في القرن الثامن، أدَّى توسع الثقافة السواحيلية على الساحل الإفريقي إلى زيادة النشاط الاقتصادي، لا سيما في مجال التجارة. ورأى صغار التجار السواحيليين إمكانيات لعمليات تجارية أكبر من شأنها أن تجلب لهم الثروة. بمرور الوقت، تم تداول سلع مثل العاج وأصداف السلاحف والطين والأخشاب مع مجتمعات أخرى وتجار أجانب، بينما استوردت “كيلوا” كيسيواني القطن والسيراميك والحرير، وحتى الخزف الصيني، وهو ما يُلمح إليه اكتشاف الخزف الصيني في الجزيرة.([2])
- ووصل تجار الشيرازي من الخليج العربي إلى “كيلوا” منذ القرن الثاني عشر الميلادي، مما أدى إلى تعزيز تأثير الدين الإسلامي السني والعمارة الإسلامية. ورسَّخ الشيرازيون حكمهم على “كيلوا” حوالي عام 1200 ميلادي – بالوسائل السلمية وفقًا لمصادر عربية من العصور الوسطى- على الرغم من أن المدينة لم تمارس أيّ شكل من أشكال السيطرة السياسية أو حتى النفوذ الثقافي على المناطق الداخلية من البر الرئيسي. بما أن “كيلوا” لم تكن قادرة على إنتاج غذائها بنفسها، فلا بد من وجود ترتيبات مع القبائل المحلية في البر الرئيسي.([3])
- الازدهار والتوسع
- وفقًا للفصل الأول من سجلات “كيلوا” (حوالي عام ١٥٥٠)، الذي يروي تاريخ “كيلوا” منذ بداياتها وحتى أول اتصال مع البرتغاليين في أوائل القرن السادس عشر، سيطر علي بن الحسن سياسيًّا على المدينة بتزويد زعيم سواحيلي محلي بأطوال من القماش الملون.
- تحيط أساطير كثيرة بشخصية الحسن وأصوله؛ حيث يُعتقد أنه كان من عائلة ملكية من شيراز في بلاد فارس. ووفقًا لمعظم الروايات، أمر والد الحسن وستة من إخوته بمغادرة بلاد فارس بعد أن رأى في منامه فأرًا ينهش سور المدينة، ففسّره على أنه دمار لعائلته ما لم يفرّوا من بلاد فارس. أبحر الحسن من بلاد فارس، ووصل إلى القارة الإفريقية، واشترى في نهاية المطاف “كيلوا” في القرن الثاني عشر، بينما أسَّس إخوته الستة الباقون مدنًا أخرى على نفس المنوال في شرق إفريقيا.([4]) لا يزال الجدل قائمًا حول ما إذا كانت هذه الروايات الشفهية تُمثّل بدقة مسار الأحداث في حياة الحسن، ولكن من المُسلّم به أن الحسن كان شخصًا حقيقيًّا عاش وحكم “كيلوا”.
- يُعدّ السجل التاريخي المتعلق بكيلوة من أغنى السجلات على الساحل. فهو يتضمن كلاً من سجل كيلوة الأصلي وسلسلة من الإشارات التي كتبها زوار المنطقة. وقد ارتبطت أسماء السلاطين المذكورين إلى حد كبير بأسماء العملات المعدنية المكتشفة من كيلوة وأماكن أخرى؛ وكانت كيلوة من أكثر دور سكّ العملة إنتاجًا على الساحل، ولا تزال عملات كيلوة المعدنية باقية بالآلاف.( ([5]
- وقد ارتقت إلى ذروة الرخاء في القرن 8هـ /11م وامتد سلطانها إلى سوفالة وبنى ملوك كلوة القصور الفخمة والمباني المتقنة الصنع في كافة مستعمراتهم على طول الساحل الإفريقي الشرقي… ولم تزل محاسن أطلالها ومبانيها وقصورها تدلّ على حسن الذوق وإتقان الهندسة.([6])
- إلى جانب الذهب، استطاعت “كيلوا” جمع وتصدير العاج، وأصداف السلاحف، والنحاس (الذي كان يُصبّ غالبًا في سبائك على شكل حرف X، والأخشاب (وخاصةً أعمدة المانغروف)، والبخور (مثل اللبان والمر)، والبلور الصخري، والحبوب، وقرون وحيد القرن، والتي كانت تُبادل فيما بعد بسلع فاخرة نادرة مثل خزف مينغ الصيني، والمجوهرات المعدنية الثمينة، والأقمشة الفاخرة والخرز الزجاجي من الهند، والحرير، والأواني الزجاجية، والخزف المنحوت من بلاد فارس. كان العديد من هذه السلع يُتداول في المناطق الداخلية من إفريقيا على طول الساحل، وبالطبع، يُستهلك داخل “كيلوا” نفسها. ومع تدفق الثروة إلى “كيلوا” -من خلال التبادل التجاري والرسوم الجمركية على حركة البضائع- تمكنت المدينة من سكّ عملاتها النحاسية الخاصة منذ القرن الحادي عشر أو الثاني عشر الميلادي.([7])
- وصول البرتغاليين
- كانت مدينة كيلوا، في يوم من الأيام، مكانًا ذا أهمية بالغة، وعاصمة لمملكة مترامية الأطراف، لكنها الآن قرية صغيرة. لقد زالت عظمة كيلوا… بلا رجعة. كانت لمسة البرتغاليين بمثابة الموت، لقد تهاوت ولم تتعافَ أبدًا.
- في عامي ١٤٩٨ و١٤٩٩م، قام المستكشف البرتغالي فاسكو دي جاما باستكشاف المحيط الهندي. ابتداءً من القرن السادس عشر، بدأ الاستعمار البرتغالي في تقليص نفوذ المدن السواحيلية، ويتجلى ذلك في بناء حصن يسوع في مومباسا عام ١٥٩٣، وتزايد حدة الحروب التجارية في المحيط الهندي. قاومت الثقافة السواحيلية بنجاح متفاوت ضد هذه الغزوات، ورغم حدوث اضطرابات في التجارة وفقدان الاستقلال، إلا أن الساحل ساد في الحياة الحضرية والريفية.([8])
- وحيث ظهر البرتغاليون على الساحة عام ١٤٩٨م، وأبحروا حول الطرف الجنوبي لإفريقيا، واتجهوا شمالًا على طول ساحل شرق إفريقيا. بعد خمس سنوات فقط، بدأوا حملة لا هوادة فيها لإخضاع الحكام المحليين والسيطرة على تجارة الذهب والمنسوجات والتوابل والعاج. وألحقوا أضرارًا جسيمة ببعض هذه المدن، وقصفوها بمدافعهم لإجبار سلاطينها على دفع الجزية لملك البرتغال. كانت زنجبار أول مكان تعرض للهجوم عام ١٥٠٣؛ وبعد عامين، تعرضت “كيلوا” ومومباسا للهجوم والنهب. ثم بدأ الجميع بنهب المدينة وتفتيش المنازل، وفتح الأبواب بالفؤوس والقضبان الحديدية… وصُودِرَتْ كميات كبيرة من الملابس الفاخرة المطرزة بالحرير والذهب، بالإضافة إلى سجاد؛ إحداها كانت لا تُضاهَى جمالاً، وأُرسلت إلى ملك البرتغال مع العديد من المقتنيات الثمينة الأخرى.([9])
- هاجم البرتغاليون “كيلوا” عام ١٥٠٥م، مُخلّفين وراءهم أطلالًا عديدة. وفي نهاية المطاف، سيطر البرتغاليون، انطلاقًا من قاعدتهم في “غوا” بالهند، على المحيط الهندي، وبنوا حصونًا للحفاظ عليه، أبرزها في سوفالا عام ١٥٠٥م، وجزيرة موزمبيق عام ١٥٠٧م. ونتيجةً لهذا الوجود، أصبح التجار الداخليون يديرون أعمالهم التجارية مع موانئ سواحلية شمالية مثل مومباسا. واجهت “كيلوا” أيضًا مشكلات أخرى، مثل انتفاضة قبائل داخلية، مثل آكلي لحوم البشر من قبيلة زيمبا، الذين هاجموا الجزيرة عام ١٥٨٧م، وقتلوا ٣٠٠٠ من سكانها (عدد الذين أكلوهم غير معروف).([10])
- بعد نصف قرن، حوالي عام ١٦٣٣م، اختار البرتغاليون سياسة أكثر عدوانية للسيطرة على موارد المنطقة من المصدر، والقضاء على منافسيهم التجاريين. هاجموا وغزوا أحد أهم مصادر الذهب، مملكة موتابا في زيمبابوي، التي كانت قد ضعفت بالفعل جراء الحروب الأهلية المدمرة، مما تسبّب في انهيارها الداخلي. لكن بشكل عام، لم تتحرك شبكات التجارة سوى شمالًا، وعلى أيّ حال، سرعان ما خاب أمل الأوروبيين من قلة الذهب المتوافر في شرق إفريقيا مقارنةً بغرب إفريقيا وبيرو. في القرن الثامن عشر الميلادي، أصبحت كيلوا، الخاضعة للسيطرة الفرنسية آنذاك، ميناءً رئيسيًّا لتجارة الرقيق في شرق إفريقيا، بالإضافة إلى كونها مصدرًا رئيسيًّا للعاج. ورغم نجاة “كيلوا” جزئيًّا، إلا أن سوفالا كانت أسوأ حالًا، ودُمِّرت بسبب غزو البحر في أوائل القرن العشرين الميلادي.
- سرعان خضعت “كيلوا” بشكل متزايد للسيادة العمانية في أوائل القرن التاسع عشر. وتم نفي آخر حكام كيلوا، السلطان حسن، مِن قِبَل الحكام العمانيين في عام 1842، وتقلصت المستوطنة الحضرية المترامية الأطراف إلى قرية صغيرة.([11])
- وبدأت تجارة “كيلوا” بالانكماش وتدهورت المدينة. في القرن التاسع عشر، تُركت المدينة مهجورة حتى أصبحت جزءًا من مستعمرة شرق إفريقيا الألمانية من عام ١٨٨٦ حتى عام ١٩١٨م.([12])
ثانيًا: السكان واللغة والدين
- السكان
يُعدّ سكان “كيلوا” مزيجًا من قبائل البانتو والهجرات العربية والفارسية لينتج ثقافة سواحلية تميز بها المدن الساحلية على طول شرق إفريقيا وليست مدينة “كيلوا” فقط.
- اللغة
مزج السكان المحليون، المنحدرون من شعب البانتو، لغتهم الأم مع كلماتٍ مُقتبَسة من الفارسية والعربية. كما تنعكس العادات العربية والفارسية في العمارة والفنون والدين في الثقافة السواحيلية. جميعها تحمل بصماتٍ قوية للعناصر المتداخلة بين هذه الشعوب.
- الدين
دخل الإسلام إلى كيلوة عن طريق المهاجرين العرب حوالي عام 1000 ميلادي، ثم عن طريق التجار الشيرازيين القادمين من الخليج العربي. حوَّل وصول هذه الجماعات كيلوة إلى مدينة إسلامية ذات سكان مسلمين متعلمين بحلول القرنين العاشر والخامس عشر.
ويتجلى حضور الإسلام جليًّا في المساجد العديدة المنتشرة في جميع أنحاء كيلوة. ويُعدّ مسجد “كيلوا” الكبير، ببنائه المبكر في القرن العاشر، مثالاً بارزاً على العمارة الإسلامية على ساحل شرق إفريقيا. وقد اتسم مجتمع “كيلوا” بالتنوع الثقافي؛ حيث كان الناس يتحدثون السواحيلية والعربية، مما يُظهر امتزاج الثقافتين الإفريقية والإسلامية. أصبح الإسلام ديانة رئيسية في الجزيرة، وخلّد ذكراه بناء مسجد كيلوة الكبير. يُرجّح أن البناء بدأ حوالي القرن العاشر، وقد أُدمج حجر المرجان في بنائه.([13])
ثالثًا: المناخ
تتميز “كيلوا” ماسوكو بمناخ السافانا الاستوائية، ما يعني أنها تشهد طقسًا دافئًا إلى حار على مدار العام، مع تقلبات موسمية في هطول الأمطار وليس في درجات الحرارة. ويتأثر مناخها بشدة بقربها من المحيط الهندي، مما يؤدي إلى رطوبة عالية وهيمنة درجات حرارة دافئة على مدار العام.([14])
رابعًا: الأنشطة الاقتصادية
- كان سكان “كيلوا” يعملون كوسطاء. كانوا يستوردون السلع المُصنّعة، كالأقمشة، من شبه الجزيرة العربية والهند، ويقايضونها مع الشعوب الناطقة بالبانتو بأشياء مثل الطعام. كما كانوا يقايضون هذه السلع مع البانتو بمواد خام ثمينة كالذهب والعاج، والتي كانوا يصدرونها بعد ذلك إلى آسيا.
- ومع ذلك، كان هناك استثناء واحد. فقد نمت أشجار نخيل جوز الهند على طول ساحل كيلوا، وكانت جزءًا أساسيًّا من الحياة اليومية لسكان كيلوا. كانوا يأكلون ثمارها (بدلاً من المتاجرة بها)، ويستخدمونها في صناعة الأخشاب والقش والنسيج. وعلى وجه الخصوص، كان كل جزء من سفن “كيلوا” التجارية، من أشرعتها إلى هياكلها، مصنوعًا من أشجار النخيل. فعدم وجود الأشجار يعني عدم وجود السفن، وبالتالي انعدام التجارة.
- بالنسبة لمجتمعٍ لم يُنتج الكثير من المال، تحوّل شعب “كيلوا” إلى بناة سفنٍ بارعين. يُعتقد أن هذه السفن استُخدمت للتجارة مع شبه الجزيرة العربية وبلاد فارس، وعبر المحيط الهندي للتجارة مع الهند نفسها.
عُثر على عملاتٍ معدنية من سلطنة “كيلوا” في أماكن بعيدة مثل جزر ويسل الأسترالية. تمكّن بحارة “كيلوا” من قطع هذه المسافات الشاسعة مستغلين فصول السنة. استخدموا رياح الرياح الموسمية للإبحار إلى الهند صيفًا، ثم العودة إلى ديارهم شتاءً. اشتهر قباطنة الجزيرة بدقة إبحارهم الاستثنائية.- أسَّس الحسن “كيلوا” كواحدة من أبرز المدن التجارية على ساحل شرق إفريقيا. اعتمدت ثروات المدينة بشكل رئيسي على تجارة العاج والذهب. إلى الجنوب من “كيلوا” كانت تقع دولة زيمبابوي العظمى، التي كانت تمتلك كميات هائلة من الذهب تجذب الأجانب. وكان الذهب المُستخرَج من منطقة زيمبابوي العظمى يُنقَل من الداخل إلى الساحل إلى مدينة سوفالا التي كان يُرسَل منها شمالًا إلى كيلوا. بمجرد وصوله إلى كيلوا، كان الذهب يُرسَل إلى أجزاء أخرى من العالم، وتحديدًا إلى حكومات ونُخَب أوروبا والشرق الأوسط عبر السفن الشراعية. كما صدّرت “كيلوا” العبيد، على الرغم من أنهم لم يكونوا أبدًا بنفس أهمية الذهب والعاج من الناحية الاقتصادية.
- في مقابل الذهب والعاج والعبيد، حصلت “كيلوا” على المنسوجات والمجوهرات والتوابل وبعض الذهب الذي جاء من زيمبابوي العظمى. وبحلول القرن الثالث عشر، جعلت كل الثروة التي تراكمت في المدينة “كيلوا” أقوى مدينة على ساحل شرق إفريقيا. خلال العصر الذهبي لكلوة. كانت ثروة كلوة هائلة فأصبحت أول مركز حضري في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى يسكّ ويصدر العملات.
- وأصبحت جزيرة ومدينة “كيلوا” مركزًا حضريًّا وميناءً ذا نفوذ اقتصادي وسياسي خلال القرن الثاني عشر. كانت المدينة محورية في تجارة الذهب والعاج والمنسوجات بفضل موقعها، مما سمح لكيلوة بإقامة علاقات وثيقة مع عالم المحيط الهندي. وقد أكسبتها قدرتها على السيطرة على مدينة قريبة أخرى، وهي سوفالا، ثروة طائلة بفضل سيطرتها على فائض من موارد الذهب. كما تمكنت كيلوة من التجارة مع الصين، التي كانت تصدر الخرز الزجاجي والخزف الصيني إلى غرب المحيط الهندي.
- حقّق التجار المشاركون في تجارة كيلوة، أجانب وداخليين، أرباحًا طائلة من ارتفاع قيمة الواردات. وعملت مدينة كيلوة على جلب البضائع من داخل القارة إلى الساحل لشحنها إلى الدول المجاورة الأخرى. وقد دفع هذا الدول الداخلية إلى الاعتماد بشكل كبير على كيلوة في تجارتها الخاصة. واستغلت كيلوة هذا الاعتماد وفرضت رسومًا جمركية عالية وضرائب باهظة على تجارة الذهب، مما جعلها لا تكتفي بالثراء فحسب، بل تتمتع أيضًا بالاستقلال الذاتي.([15])
- كما شاركت كيلوة في تجارة التوابل المربحة؛ حيث كانت التوابل بالغة الأهمية للمنطقة، ويرجع ذلك أساسًا إلى مساهمتها في حفظ الأطعمة، ومن بينها القرنفل والزنجبيل والقرفة وجوزة الطيب والهيل والزعفران.
سعى البرتغاليون للسيطرة على تجارة التوابل على طول الساحل السواحيلي للالتفاف على الهيمنة الآسيوية على هذه التجارة مع أوروبا وتقويضها، مما أدى إلى تراجع “كيلوا” في القرن السادس عشر. ولقد أصبحت هذه المدينة، التي كانت مركزًا تجاريًّا مزدهرًا في السابق، الآن قرية صغيرة.([16])
خامسًا: السياحة
نظرًا لإمكاناتها الأثرية والتاريخية، جذبت “كيلوا” اهتمامًا بحثيًّا متعدد التخصصات منذ خمسينيات القرن العشرين. تشير نتائج العديد من المشاريع البحثية، التي تنوعت بين الدراسات التاريخية والأثرية والأنثروبولوجية وعلم الوراثة وإدارة التراث، إلى أن “كيلوا” كانت مركزًا لثقافة ساحلية فريدة تُعرف باسم “الحضارة السواحيلية”. وبفضل هذا التفرد، يحظى الموقع بدعم وطني ودولي كبير لكشف المزيد من تاريخ الموقع والحفاظ على سلامته الحالية.([17]) كما تشتهر المدينة بشواطئها الخلابة.
سادسًا: الثقافة والفنون
تميزت مملكة “كيلوا كيسيواني” في الإجماع العام على أنها نتاج مزيج من الثقافات الإفريقية والعربية والفارسية. بل يُشار إليها أحيانًا باسم سلالة إفريقية عربية، حتى إن سكان الجزيرة بدأوا بدمج الكلمات العربية والفارسية في لغتهم السواحيلية، وتنعكس العادات والتأثيرات العربية والفارسية في الفن والعمارة والدين (الإسلام) للثقافة السواحيلية الأوسع.
ولا يزال صيد الأسماك جزءًا أساسيًّا من الحياة في “كيلوا” كيسيواني، كما كان في أوج ازدهار المدينة. ولا يزال الصيادون المحليون يستخدمون قوارب الداو التقليدية، المصنوعة من الخشب والمُبحرة يدويًّا، للإبحار في المياه المحيطة بالجزيرة.
– أهم المهرجانات
أشهر المهرجانات في كيلوا، التي تُعدّ الآن جزءًا من تنزانيا، هي عيدَا الفطر والأضحى الإسلاميان الرئيسيان، واللذان لهما أهمية تاريخية ودينية؛ نظرًا للتراث الإسلامي للمنطقة. بالإضافة إلى ذلك، يُعدّ يوم التوحيد مناسبة وطنية يُحتفل بها، ومن المرجح أن تُحتفل به في “كيلوا” أيضًا.
الأطعمة المميزة للمدينة
تُبرز أشهر المأكولات مزيجًا غنيًّا من النكهات من شرق إفريقيا والعربية والهندية. وتُعدّ المأكولات البحرية سمة بارزة بشكل خاص.
- بيلاو Pilau
يُصنع من الأرز المسلوق في مرق غني بالنكهة، مُتبَّل بتوابل مثل الهيل والقرنفل والقرفة. ويُقدّم غالبًا مع اللحم أو السمك.
- أوجالي Ugali
يُعدّ الأوجالي الوجبة الوطنية في تنزانيا، عصيدة كثيفة مصنوعة من دقيق الذرة أو الدخن أو الذرة الرفيعة. ويُقدم عادةً مع يخنة، مثل نياما تشوما (لحم مشوي) أو يخنة سمك.
- المندازي Mandazi
كرات عجين مقلية وحلوة قليلاً، تُعدّ وجبة خفيفة أو فطورًا شهيًّا على الساحل السواحلي. يُمكن تحضير المندازي بحليب جوز الهند مع إضافة الهيل.
- المشكاكي Mishkaki
كباب لحم لذيذ، وهو أيضًا من أطباق الشارع الشائعة، ويُحضَّر من اللحم المتبل والمشوي.
- أطباق المأكولات البحرية Seafood Specialties
تشتهر “كيلوا” بمأكولاتها البحرية الطازجة والمُنتقاة محليًّا. وتشمل أطباق المأكولات البحرية الشائعة السمك المشوي، وكاري جوز الهند مع الأخطبوط، والسمك مع البطاطس المقلية. شيبسي ماياي: طبق شعبي من تنزانيا، وهو عبارة عن عجّة بسيطة ولذيذة مصنوعة من البيض والبطاطس المقلية.
- أهم المعالم السياحية
- المسجد الكبير Great Mosque
يُعدّ مسجد “كيلوا” الرئيسي، وهو الأكبر بين مساجد السواحلية، وأكبرها. كان المسجد الأصلي عبارة عن هيكل من الجص والخشب، شُيِّد في أواخر الألفية الأولى، وعُدِّل عدة مرات. في القرن الحادي عشر، شُيِّد فوق المسجد الأول مسجدٌ ذو سقفٍ مسطح (بوريتس) من المرجان، مدعوم بأعمدة خشبية متعددة الأضلاع، وكان يُرمَّم أحيانًا ويُعدَّل جدرانه للحفاظ على متانته الإنشائية. خلال أوائل القرن الرابع عشر، وُسِّع المسجد بشكل كبير، وشُيِّد سقف جديد، مدعوم بأعمدة مرجانية متجانسة (بوريتس)، بالإضافة إلى سلسلة من القباب والأقبية الأسطوانية، إلا أنها تداعت هيكليًّا فانهارت. في أوائل القرن الخامس عشر، شُيّدت الأعمدة باستخدام أعمدة مثمنة من أقمشة المرجان، مُحاطة بالجير.([18])
- The Sultan’s Palace (Kisimani Mapoto)
بنى السلطان الحسن بن سليمان القصر العظيم. كان يتألف من منطقتين رئيسيتين: المنطقة العامة والمنطقة الخاصة. كان الفناء الواسع، الذي يضم العديد من المخازن في المنطقة العامة، مخصصًا للبضائع التجارية. كما كانت هناك مساحة وسيطة تتكون من فناء غائر ذي درجات شديدة الانحدار؛ حيث كان القادمون لرؤية السلطان يجلسون ويواجهونه. وكان السلطان يستحم فيه في أثناء مشاهدة غروب الشمس فوق البر الرئيسي لإفريقيا. يُعرف القصر العظيم باسم “هوسومي كوبوا” باللغة السواحيلية، وهو أقدم مبنى باقٍ على ساحل شرق إفريقيا.([19])
- قصر ماكوتاني
بنى أحد أوائل السلاطين السواحيليين قصر ماكوتاني (القصر العماني). ولكن عندما سيطر العمانيون على “كيلوا” وبقية سواحل شرق إفريقيا، قاموا بتوسيعه وإضافة المزيد من الميزات إليه، فأنشأوا الهيكل الذي نراه اليوم. يتكون قصر ماكوتاني من مبنى داخل مبنى. يقع القصر في قلب القصر، وربما كان هذا المبنى منطقة سكنية تقع داخل سياج مسور أكبر بكثير يُستخدم لتخزين البضائع التجارية، ولكنه على الأرجح كان يُستخدم أيضًا لسجن العبيد الذين كانوا يُشحنون شمالًا إلى زنجبار.
- حصن جيريزا
كان البرتغاليون أول من بنى حصن جيريزا في القرن الرابع عشر. وجيريزا” مصطلح سواحيلي يعني “السجن”، وأعاد العرب العمانيون بناءه في القرن التاسع عشر. وهو مبنى مربع كبير مصنوع من أحجار المرجان، وفي زواياه الشمالية الشرقية والجنوبية الغربية أبراج دائرية سميكة. يتميز بمدخلٍ مهيبٍ بنقوشٍ خشبيةٍ رائعة. تآكلت أحجارٌ قويةٌ على أحد جوانب المبنى بفعل الرياح والبحر. ويتحول فناؤه إلى عشب، وفي أعلى برجه، تجذرت بعض النباتات فيه. لا يزال حصن جيريزا أثرًا جذابًا في جزيرة كيلوا.([20])
- حصن حسوني كوبوا
بُني قصر حسوني كوبوا في أوائل القرن الرابع عشر، ولم يكتمل بناؤه إلا بعد فترة قصيرة نسبيًّا. يتألف المجمع المعماري الكبير من قسمين رئيسيين، أولهما القصر نفسه، الذي يتميز بالساحات الغائرة والجدران المزخرفة التي تميز العمارة السواحيلية، بالإضافة إلى سمات جديدة مثل الممرات المقنطرة وحوض مثمن الشكل مزخرف. زُيِّن سقف القصر بسلسلة من المخاريط المزخرفة والأقبية الأسطوانية المبنية على طراز المسجد الكبير.
خاتمة:
تُعدّ “كيلوا” اليوم جزيرة صغيرة هادئة ذات ثقافة سواحلية، يمكن الوصول إليها عبر معبر قصير، ويسكنها حوالي ألف نسمة يكسبون عيشهم من صيد الأسماك وجمع أحجار المرجان عند انحسار المد.
لكنّ تاريخها العريق وآثارها الخالدة شاهدة على عراقتها وقوتها ما بين مدينة فتية ومملكة قوية امتدت في توسعها على طول الساحل الشرقي لإفريقيا. وانتشرت سفنها عبر المحيط الهندي لتبحر إلى الصين والهند والجزيرة العربية.
………………….
[1] – https://afriminetours.com/kilwa-in-the-southern-tanzania
[2] – The Kingdom of Kilwa Kisiwani: A Former African Economic Powerhouse
https://blamuk.org/2023/02/22/the-kingdom-of-kilwa-kisiwani-a-former-african-economic-powerhouse/
[3] – Mark Cartwright: Kilwa. 2019
[4]– كتاب السلوة في أخبار “كلوا” لمؤرخ مجهول في القرن التاسع الهجري ورد نص الكتاب في كتاب المغيري “جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار”.
[5] – The earliest mentions of Kilwa are: Kitab Ghara’ib al-funun wa-mulah al-‘uyun (1050): Kilwalah
[6]– كتاب السلوة في أخبار كلوة، لمؤرخ مجهول في القرن التاسع الهجري، ورد نص الكتاب في كتاب المغيري “جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار”.
[7] – Mark Cartwright: Kilwa. 2019
[8] – K. Kris Hirst: Chronology of the Medieval Swahili Coast Traders.2019.
[9] –https://www.bbc.co.uk/worldservice/africa/features/storyofafrica/5chapter3.shtml
[10] – Kilwa Kisiwani | Kilwa Ruins in Southern Tanzaniahttps://www.southerntanzaniasafari.com/kilwa-kisiwani/
[11] – isaac Samuel: Kilwa, the complete chronological history of an East-African emporium: 800-1842.Journal of African Cities chapter-2. 2022.
[12] – Building Africa: Kilwa Kisiwani, the Indian Ocean Trade, and the Rise of East African City-States . https://chartercitiesinstitute.org/blog-posts/building-africa-kilwa-kisiwani-the-indian-ocean-trade-and-the-rise-of-east-african-city-states/
[13] – The Kingdom of Kilwa Kisiwani: A Former African Economic Powerhouse
https://blamuk.org/2023/02/22/the-kingdom-of-kilwa-kisiwani-a-former-african-economic-powerhouse/
[14] – https://www.nearweather.com/location/157377
[15] –Trading Center of Kilwa Kisiwani Founded
https://www.ebsco.com/research-starters/anthropology/trading-center-kilwa-kisiwani-founded
[16] –Trading Center of Kilwa Kisiwani Founded
https://www.ebsco.com/research-starters/anthropology/trading-center-kilwa-kisiwani-founded
[17] – Elgidius B. Ichumbaki, Neema C. Munisi: Kilwa and its Environs unlocked.2024.
[18] – https://www.africanhistoryextra.com/p/kilwa-the-complete-chronological
[19] – Kilwa Ruins – World Heritage Site
https://www.focuseastafricatours.com/blog/kilwa-ruins-world-heritage-site/
[20] – Kilwa Ruins – World Heritage Site
https://www.focuseastafricatours.com/blog/kilwa-ruins-world-heritage-site/











































