مثَّلت إفريقيا ساحة خصبة لزيارات ورحلات عدد من المفكرين والأدباء الأوروبيين في القرنين التاسع عشر والعشرين على الترتيب، ودوَّن هؤلاء زياراتهم وانطباعاتهم عن القارة السوداء في كتابات إبداعية وعلمية مهمة للغاية، ومُعبّرة عن طبيعة النظرة الأوروبية، بشكل عام، للقارة وشعوبها وقضاياها وموقعها في العالم.
ومن كارل ماركس إلى أندريه جيد وألبير كامو، وغيرهم، بدت ملامح أهل بعض المدن الإفريقية، -مثل الجزائر وتونس وليوبولدفيل، وغيرها-، حاضرةً بين سطور كتاباتهم، رمزًا تارة، ودلالةً مباشرة تارة أخرى.
وقدَّم الكاتب الفرنسي الكبير أندريه جيد Andre Gide (1869-1951) نصيبًا وافرًا من هذه الإسهامات التي يمكن وصفها معًا بأنها نقد رومانتيكي للاستعمار وآفاته، وملامح الاستغلال المستدام الطاغي على وجوده بأدواته المختلفة؛ مثل: الشركات الكبرى والإدارات الاستعمارية.
وُلِدَ أندريه جيد لأسرة بروتستانتية غنية وذات منجزات ثقافية لافتة، وتلقَّى تربية صارمة لا سيما بعد وفاة والده وهو في سن صغيرة. توجَّه “جيد” للسفر خارج فرنسا في منتصف العشرينيات من عمره، واتجه منها إلى شمال إفريقيا في العام 1893، وتُوفيت أُمّه في العام 1895، وتزوّج بعدها مباشرة إحدى قريباته (مادلين روندو)، ورغم هذا الزواج التقليدي فإن حياته الشخصية ظلت بين مدّ وجزر دائمين([1]).
مع أندريه جيد: شريط حياة سريع وحافل
عُرف “أندريه جيد”، الحائز على جائزة نوبل للآداب في العام 1947، بنزعته الإنسانية والأخلاقية اللافتة في كتاباته الإبداعية والفكرية؛ وجنح أسلوبه في الكتابة، -منذ عمله المبكر Les Cahiers d’Andre Walter (دفاتر أندريه والتر- 1891)- إلى فكرة الاعتراف التي حقَّق من خلالها أعظم نجاحاته الأدبية. وفيما يُمثّل مجمل حياة “جيد” الثرية والحافلة بالرحلات في أرجاء العالم؛ قدّم الفيلم المُكرِّس لعرض حياته “مع أندريه جيد” Avec Andre Gide لمحات عابرة ودالة، وصورًا عن أصول عائلته في نورماندي ولانجودوك Languedoc، في الشمال والجنوب، والأصول الكاثوليكية والبروتستانتية.
وتوجد صور زاهية في أرجاء الجزائر وتونس تُقدِّم توثيقًا للكثير من أعماله منذ بداياتها حتى يومياته التي صدرت في العام 1941-1942. ومن بين أهم هذه اللحظات التي صوَّرها الفيلم عن حياة “جيد” رحلاته للكونغو، وسيره مع الشاعر الفرنسي بول فاليري (توفي: 1945)، وفي منزل ابنته في برينجول Bringoles، والخطاب الذي ألقاه في موسكو في حضرة الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين([2]).
على أيّ حال؛ فقد كان لـ”جيد” صلة خاصة ومبكّرة بإفريقيا؛ إذ زار الجزء الشمالي من القارة في العام 1893 وهو شاب لم يتجاوز عمره 25 عامًا؛ وأسهمت هذه الزيارة في انفتاحه على عالم جديد خارج التقاليد البروتستانتية التي نشأ عليها، واقتراب أكثر جرأة من الثقافة العربية حينذاك، واتضح ذلك بشكل مذهل في مؤلفه Les Nourritures terrestres (ثمار الأرض: 1897) الذي عكس تحرُّرًا شخصيًّا لـ”جيد”.
على المستويين الديني (أو الوازع الديني) والسلوكي؛ عاد “جيد” لمدينة بليدة بالجزائر، أو شمال إفريقيا بحسب الوصف الاستعماري السائد وقتها، مرة أخرى في مطلع العام 1895؛ حيث التقى فيها بصديقه الكاتب الأيرلندي أوسكار وايلد([3]).
وتعمّقت معرفة “جيد” بإفريقيا “السوداء” في الأعوام التالية، وسَرَدها في سِفْر ضخم (لا سيما عند مقارنته ببقية أعمال “جيد” الأدبية)، حمل عنوان Voyage Au Congo: Carnets de Route, Gallimard, 1927، ترجمته “دوروثي باسي” إلى الإنجليزية في العام 1937([4])، وتضمن الكتاب نقدًا للاستعمار والرأسمالية الغربية في إفريقيا السوداء (في الكونغو وتشاد والكاميرون كمحطات رئيسة لرحلة “جيد”) على نحوٍ أحدثَ ضًجة كبيرة في العالم الاستعماري في وقتها.
“جيد” وإفريقيا السوداء: البدايات وتفكيك الاستعمار
كتب الفرنسي رينيه مارا R. Maran مقالًا مُهِمًّا عن صلة “أندريه جيد” بإفريقيا السوداء، نُشِرَ في نفس عام وفاة الأخير (1951)، واستهله بتأكيد أن “جيد” الذي يعتني (بمجلة) Presence Africaine هو “جيد” الذي ذهب إلى تشاد وأبحر في نهر الكونغو، ثم أوبانجوي Ubangui، والذي عاد لفرنسا بعد مروره بالكاميرون. وأنه ينتمي لتلك الفئة من الكُتّاب الذين حلموا في صباهم بأن يكونوا رجال أفعال، والذين باتوا كذلك بتقدم العمر رغمًا عن أنفسهم بعد تخلّيهم عن تلك الفكرة([5]).
وبالفعل كانت جولة “جيد” في إفريقيا الاستوائية الفرنسية (1926- 1927) شاهدةً على ما وصفه توماس كارول T.Carole في سرده لسيرة “جيد” الذاتية، بمرحلة الواقعية الاجتماعية في حياة الكاتب الفرنسي؛ فقد جاءت الرحلة وسط حالة اضطراب سياسي واجتماعي كبير في فرنسا وأوروبا ككل في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، وهي الأجواء التي دفعت “جيد” للخروج أكثر من دائرة حياته الخاصة إلى الاهتمام بالشؤون العالمية المحيطة ببلاده. وبادر مباشرة عند عودته من تلك الرحلة في العام 1927 بنشر دفاتره التي دَوَّنها خلال سفره هذا تحت عنوان “رحلة إلى الكونغو”؛ احتوت تلك الدفاتر على وَصْف مُفصَّل للمعاملة غير الآدمية التي يتلقَّاها العمال الأفارقة على يد الشركات التي كانت تستغل الامتيازات الاقتصادية والمعدنية الممنوحة لها في تلك المستعمرات. وقادت هذه الرؤية إلى نظر قطاع كبير من النخبة الفرنسية المثقفة إلى “جيد” باعتباره “حليفًا لليسار” المناهض للاستعمار والرأسمالية معًا([6]).
ووضع عدد من المؤرخين رحلة “جيد” وانتقاداته للممارسات الاستعمارية الفرنسية في إفريقيا، -لا سيما خلال مشروع تشييد السكك الحديدية في الكونغو-، ضمن سياق تيار أوسع من صعود خطاب “إفريقاني” داخل فرنسا نفسها منذ منتصف القرن التاسع عشر، في وسط غلبت عليه تصورات غربية مفادها أن القارة السوداء ليس لديها ما تُسهم به في الواقع التاريخي أو الاجتماعي أو الجغرافي، والانتقادات التي وُجِّهت لتلك التصورات. ولاحظ فيليس كلارك Phyllis Clark، في دراسة هامة عن “جيد” في إفريقيا (1997)، ملاحظات تتسق مع ما سبق، ومنها أن نزوع الأخير لنقد الاستعمار في إفريقيا يعود ليس إلى رحلاته في الكونغو وحدها، بل إلى سنوت خلت، ولا سيما بعد زياراته للجزائر في سنّ مبكرة، وتبلور ذلك، مثالًا، في مؤلف “جيد” الأبرز L’Immoraliste (1902)([7]).
رحلات “جيد” إلى الكونغو: نقد رومانتيكي للاستعمار؟
يكشف كلارك عن ملاحظة بالغة الأهمية في تحليله لمُؤلَّف “جيد”: “رحلات إلى الكونغو”، وتتمثل تلك الملاحظة في غلبة وَعْي سياسي سائد على ذهنية “جيد”، كما غيره من كثير من المثقفين الفرنسيين فيما يخص سياسات بلادهم الاستعمارية.
وعلى سبيل المثال، فإنه يُورد في الرحلات أن هناك ارتباطًا واضحًا بين صعوبة الاحتفاظ (أي: احتفاظ فرنسا وإداراتها الاستعمارية في إفريقيا) بقوة عمل سهلة الانقياد والنقص العمدي في التعليم المؤثر في المستعمرات. وعلى أيّ حال، كما يُلاحظ “كلارك” بدقة بالغة، فإن “جيد” كان متناقضًا بطرحه مثل هذه التعميمات وغيرها، حتى في مؤلفه رحلات إلى الكونغو، التي لا تبدو أنها أمثلة معزولة كما يقول “جيد”، بل إنه يمضي قدمًا ويشير إلى تخوُّفه من احتمال تعطل نظام الاستعمار الفرنسي برُمّته بشكل جذري. وصنّف “جيد” ما رآه في رحلاته الإفريقية، ولا سيما إلى الكونغو، على أنها “حالات منعزلة”، فيما أكَّد في أكثر من موقع على إيمانه الوطني بالاستعمار الفرنسي في إفريقيا، وهو الإيمان الذي لم يَتخلَّ عنه في ثنايا مُؤلّفه “رحلات إلى الكونغو”([8]).
ويمكن إرجاع هذه النظرة “الرومانتيكية”، أو ذات المنحى “الإصلاحي”، للاستعمار الفرنسي في إفريقيا إلى ثقافة “جيد” المتأثرة بشكل بالغ بالميثولوجيا الإغريقية الغنية بالحروب والصراعات، والتي تطرحها كفكرة أولية جاءت مع خلق الإنسان، وربما قبله، إضافة إلى ثقافته الدينية التقليدية القائمة على تمثلات مكثفة للكتاب المقدس في مضامين أعماله وشخصياته.
وعلى وقع هذه الخلفية نظَر بن ستولتزفس Ben Stoltzfus لرحلات “جيد” لإفريقيا والاتحاد السوفييتي، وحواراته التالية حول الرأسمالية -(لا سيما في مُؤلّفه “رحلات إلى الكونغو”) والشيوعية (في رحلاته للاتحاد السوفييتي التي دوَّنها في مؤلفه Retour de L’U.R.S.S. المنشور في العام 1936)- على أنها مُعبِّرة عن تحوُّل حاجة “جيد” للعيش في مناخ تسوده قوى متناقضة/ متصارعة في شخصيته المتأخرة من الجانب الفني إلى المستوى الاجتماعي([9]).
وبإيجاز فإن مآخذ “جيد” على الاستعمار، ومشاهداته التي دوَّنها عن معاناة عمال الكونغو (دولة جمهورية الكونغو الديمقراطية الحالية)، من ممارسات الشركات الكبرى، تظل عند حدود الدعوات الإصلاحية لسياسات الاستعمار الفرنسي، والمختلطة –في واقع الأمر- بقناعة تتبدَّى من حين لآخر لدى “جيد” بأهمية دور الاستعمار الفرنسي في تمدين القارة الإفريقية.
لكن، أخذًا في الاعتبار أجواء ما بعد معاهدة فرساي 1919، وتعمّق الاقتناع العالمي بدور أوروبا والولايات المتحدة في قيادة العالم، كما كان الحال في سنوات قليلة خلت حاليًّا، وثقافة “جيد” نفسها فإنه يمكن القول: إن نقد الاستعمار والرأسمالية، لدى “جيد”، يظل نقدًا رومانتيكيًّا تنقصه الجرأة في مواجهة مثالب الاستعمار الحقيقية، وتسمية الأمور بمسمياتها.
…………………………….
[1] Van Tuyl, Jocelyn, Andre Gide and the Second World War: A Novelist’s Occupation, State University of New York Press, 2006, p. 5.
[2] Fowlie, Wallace, Who Was Andre Gide? The Sewanee Review , Oct. – Dec., 1952, Vol. 60, No. 4 (Oct. – Dec., 1952), pp. 605- 623.
[3]– ألف “جيد” كتيبًا فريدًا من نوعه دفاعًا عن صديقه وايلد، وحمل العنوان اسمه، وأثار ضجة في وقته وسط حالة هجوم جامحة ضد الأخير بسبب سلوكياته وميوله الشخصية:Gide, Andre, Oscar Wilde: A Biography, 1910
[4] Gide, Andre, Travels in the Congo (translated by Dorothy Bussy), Modern Age Books, Inc. New York, 1937.
[5] Renέ Maran and Mercer Cook, Andre Gide and l’Afrique Noire, Phylon (1940-1956), Vol. 12, No. 2 (2nd Qtr., 1951), pp. 164-170.
[6] Carole, Thomas, Andre Gide, Twayne Publishers, Inc. London, 1964, pp. 117-8.
[7] Clark, Phyllis, Phyllis Clark, South Central Review , Spring, 1997, Vol. 14, No. 1 (Spring, 1997), pp. 56-73
[8] Ibid, p. 67.
[9] Stoltzfus, Ben, André Gide and the Voices of Rebellion, Contemporary Literature , Winter, 1978, Vol. 19, No. 1 (Winter, 1978), pp. 96-7.










































