بقلم/ أسماء نوير
باحثة ومترجمة مصرية
مقدمة عامة عن الكتاب:
يُعدّ كتاب “حوكمة البيانات والسياسات في إفريقيا”([1]) (Data Governance and Policy in Africa) عملًا أكاديميًّا رائدًا يهدف إلى معالجة أحد أبرز التحديات التنموية في القارة الإفريقية، وهو غياب الأُطُر المؤسسية والفنية الكفيلة بضمان إدارة البيانات بشكلٍ فعَّالٍ، وربطها بصُنع السياسات العامة.
يأتي الكتاب في سياق عالمي يشهد تحوُّلات جذرية في كيفية إنتاج البيانات، تخزينها، وتحليلها، الأمر الذي يَفرض على الدول الإفريقية تطوير قدراتها في مجال حوكمة البيانات (Data Governance) لتعزيز التنمية المستندة إلى الأدلة (Evidence-based Development).
ينطلق المؤلفون من فرضية أن جودة البيانات في إفريقيا قد شهدت تحسنًا ملحوظًا خلال العقود الأخيرة، بفضل التطور في تقنيات جمع المعلومات والمعالجة الرقمية؛ إلا أن هذا التحسُّن لم يُترجَم بالقَدْر الكافي إلى سياسات تنموية فعّالة. ويرجع ذلك إلى عدة عوامل بنيوية، منها ضعف المؤسسات الإحصائية، محدودية التنسيق بين الجهات المنتجة والمستهلكة للبيانات، وتجزؤ النظم المعلوماتية على الصعيدين الوطني والإقليمي.
يتبنَّى الكتاب مقاربة متعددة التخصصات؛ حيث تتناول فصوله الجوانب القانونية والتنظيمية، والتقنية، والاقتصادية، المرتبطة بحوكمة البيانات. كما يناقش استخدام تقنيات ناشئة مثل البلوك تشين (Blockchain) والذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) في تحسين موثوقية البيانات وسلامتها، مع التركيز على قضايا حماية الخصوصية (Privacy Protection) والأمن السيبراني (Cybersecurity). ويركّز أيضًا على ضرورة بناء القدرات المؤسسية والبشرية من خلال التدريب، وإقامة شراكات بين القطاعين العام والخاص، وتعزيز دور المجتمع الأكاديمي في إنتاج البيانات وتحليلها.
كما يقدم الكتاب أمثلة ودراسات حالة من مختلف الدول الإفريقية لتوضيح الفجوة بين توافر البيانات وصُنع السياسات المبنية عليها، ويقترح أُطرًا عملية لتعزيز التكامل الإقليمي في مجال حوكمة البيانات، بما يضمن استخدامًا أكثر فعالية للموارد المعلوماتية المتاحة.
وفي الختام، يُؤكّد المؤلفون أن بناء نظام متكامل لحوكمة البيانات يُعدّ شرطًا أساسيًّا لتحقيق التحوُّل الرقمي والتنمية المستدامة في إفريقيا.
- أهمية الكتاب
تنبع أهمية كتاب “حوكمة البيانات والسياسات في إفريقيا” (Data Governance and Policy in Africa) من كونه يُسلّط الضوء على قضية محورية في مسار التنمية الإفريقية، وهي العلاقة الوثيقة بين جودة إدارة البيانات (Data Management Quality) وفاعلية السياسات العامة (Public Policy Effectiveness). فالكتاب لا يكتفي بطَرْح الإطار النظري لحوكمة البيانات، بل يعرض تحليلًا معمقًا للتحديات البنيوية والمؤسسية التي تُواجه القارة في هذا المجال، مع تقديم حلول عملية قابلة للتطبيق في السياقات المحلية والإقليمية.
أحد أبرز أوجه أهمية هذا العمل هو أنه يُقدِّم معالجة شمولية ومتعددة التخصصات؛ حيث يدمج بين المنظورين التقني والمؤسسي، ويستفيد من خبرات في مجالات الاقتصاد، القانون، تكنولوجيا المعلومات، والإحصاء. وهذا يجعله مرجعًا متكاملًا للباحثين وصانعي القرار الذين يسعون لفهم كيفية ترجمة البيانات الموثوقة إلى قرارات وسياسات تنموية قائمة على الأدلة (Evidence-based Policies).
كما يكتسب الكتاب أهميته من معالجته لمسألة الفجوة بين توافر البيانات واستخدامها في إفريقيا، وهي إشكالية تعيق فاعلية التخطيط التنموي. إذ يبرز المؤلفون أن التحسينات في جمع البيانات ومعالجتها، رغم أهميتها، لن تؤدي إلى نتائج تنموية ملموسة ما لم تُدمَج في عملية صُنع القرار من خلال أُطُر حوكمة متينة، آليات تنسيق فعّالة، وسياسات واضحة لحماية الخصوصية والأمن المعلوماتي.
وكذلك، يتميز الكتاب بربطه بين حوكمة البيانات والتحولات الرقمية (Digital Transformation) الجارية عالميًّا، مما يضع إفريقيا أمام فرصة إستراتيجية لتسخير التكنولوجيا الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي والبلوك تشين في بناء نُظم بيانات أكثر موثوقية وشمولية. وفي هذا السياق، يُشدّد المؤلفون على أن تطوير البنية المؤسسية والبشرية لحوكمة البيانات ليس ترفًا أكاديميًّا، بل ضرورة حتمية لتحقيق التنمية المستدامة (Sustainable Development) وتعزيز التنافسية الإقليمية والعالمية للقارة الإفريقية.
- تقسيم فصول الكتاب ومضمونها:
- الفصل الأول: إطار عمل نموذجي لحوكمة البيانات في إفريقيا
يتناول هذا الفصل اقتراحًا أوليًّا لإطار شامل لحوكمة البيانات (Data Governance Framework) في إفريقيا. يبدأ بتحديد العناصر الجوهرية التي يجب أن يتضمّنها أيّ نموذج فعّال: وضوح السياسات، تنظيم ذو مرجعية مؤسساتية، وضمانات لحماية الخصوصية (Privacy Protection) وسيادة القانون (Rule of Law). كما يؤكد على أهمية الانسجام بين الجهات المُنتِجَة والمُستهلِكة للبيانات، ودور التنسيق بين القطاعات الحكومية والعلمية والخاصة في تعزيز تكامل النظم المعلوماتية الوطنية. إن الإطار المُقتَرح لا يقتصر على التوصيات النظرية، بل يضع معايير مرجعية يمكن للحكومات تبنّيها وتكييفها وفق السياقات الوطنية، ما يُمكِّنها من إرساء البنية الأساسية لحوكمة فعَّالة تُمكِّن من جعل البيانات ركيزةً للسياسات العامة.
- الفصل الثاني: نَهْج سلسلة القيمة في إنتاج واستخدام البيانات وحوكمتها من أجل صُنْع سياسات سليمة في إفريقيا
يُقدّم هذا الفصل منظورًا مبتكرًا يتمحور حول تناول البيانات كسلسلة قيمة متكاملة تبدأ من إنتاج البيانات (Data Production)، مرورًا باستخدامها (Data Use)، وصولاً إلى حوكمتها (Data Governance). يُبيِّن أن كل مرحلة من هذه السلسلة تتطلب بنًى تنظيمية وفنية مختلفة، لكنها مترابطة. على سبيل المثال، لضمان إنتاج بيانات دقيقة وجديرة بالثقة، يجب أن تتوافر عمليات قياسية لجمع المعلومات، إلى جانب تدريب الباحثين. ويُكشف الفصل كيف أن ضعف إحدى حلقات السلسلة يُضعف القيمة الإجمالية للبيانات، ويُحوّلها من أداة للتوجيه السياسي إلى مجرد أرقام غير قابلة للتطبيق.
- الفصل الثالث: النظام القانوني لحماية البيانات وحوكمتها في إفريقيا: نظرة عامة
يركّز هذا الفصل على تحليل الإطار القانوني لحماية البيانات في إفريقيا، مع التركيز على القوانين الدولية والإقليمية مثل اتفاقية مالابو لحماية البيانات الشخصية ومكافحة الجريمة الإلكترونية (Malabo Convention)؛ وهي وثيقة راهنة صاغها الاتحاد الإفريقي لتعزيز معايير القانون الرقمي. يستعرض الفصل مدى انتشار هذه الاتفاقية في الدول الأعضاء، ويُقيّم مدى كفاية التشريعات الوطنية وسط تطورات التكنولوجيا مثل البيانات الكبيرة (Big Data) والبيانات الفضائية (Geospatial Data)، مع التأكيد على ضرورة التوازن بين الفعالية التشريعية وحماية الحقوق الرقمية.
- الفصل الرابع: تنظيم البيانات في إفريقيا: التدفّق الحُر للبيانات، وأنظمة البيانات المفتوحة، والأمن السيبراني
يناقش هذا الفصل الجوانب المتنوعة لتنظيم البيانات، بدءًا من حرية انتقال البيانات (Free Flow of Data) إلى أنظمة البيانات المفتوحة (Open Data Regimes)، ومتطلبات الأمن السيبراني (Cybersecurity). يوضح المؤلفان أن فتح البيانات يُعزز الابتكار والبحث العام، لكن يجب مرافقته بأُطُر أمنية قوية للوقاية من الاختراقات وسوء الاستخدام. كما يعرض تباينات الدولة في تبنّي ثقافة البيانات المفتوحة، مشيرًا إلى أن بعض الدول بدأت في تنفيذ مبادرات شفافة، بينما بقيت أخرى محدودة الإمكانيات في هذا المجال.
يُعالج التحديات الأمنية المرتبطة بفتح البيانات، مثل خطر الهجمات الإلكترونية، واختراق الخصوصية، وغياب بنى تشفير قوية. ويقترح الفصل إجراءات فاعلة، تشمل: تعزيز تشريعات حماية البيانات، وتطوير قدرات الأمن السيبراني، وإنشاء بروتوكولات للمشاركة الآمنة للبيانات، إلى جانب إقامة شراكات بين القطاع الفني والحكومي لتدريب الكوادر وتعزيز المقاومة الرقمية.
- الفصل الخامس: الرقمنة وحوكمة البيانات المالية في إفريقيا: التحديات والفرص
يركز هذا الفصل على تأثير الرقمنة (Digitalization) على قطاع البيانات المالية، وكيف تُشكّل أنظمة الدفع الإلكتروني، والخدمات المصرفية الرقمية، وتحليل البيانات المالية تحديات وفرصًا لحوكمة البيانات. يُشير إلى أن الفضاء الرقمي يُوفّر إمكانيات غير مسبوقة لتحليل الأنماط المالية واتخاذ قرارات تنظيمية استباقية، لكنّه في الوقت نفسه يُثير تساؤلات حول حماية البيانات الشخصية والخصوصية المالية.
يناقش الباحثان تحديات مثل تباين البنية التحتية الرقمية بين الدول، محدودية التشريعات، وغياب الخبرات المتخصصة في تحليل البيانات المالية. يقترح الفصل تطوير أُطُر تنظيمية موحدة، بناء قدرات تقنية في البنوك والمؤسسات المالية، وتحفيز تبادل البيانات تحت رقابة مشددة، ما قد يُتيح تحسين استقرار الأنظمة المالية وتعزيز الإشراف المؤسسي.
- الفصل السادس: أكثر من مجرد سياسة: التأثيرات اليومية لحوكمة البيانات على علماء البيانات
يعرض هذا الفصل التجارب العملية لعلماء البيانات (data scientists) داخل بيئات مؤسساتية تخضع لسياسات حوكمة (data governance) متغيرة أو غير مكتملة. يشير المؤلف إلى أن التغييرات المتكررة والمفاجئة في الأُطُر التنظيمية قد تُعرقل سير العمل اليومي، وتمسّ جودة التحليل، وتؤدي إلى انهيار ثقة الباحثين والممارسين في أنظمة البيانات المتاحة. تُبرز الحالة أهمية وجود سياسات مستقرة وواضحة، تُعيِّن الطرق المسموح بها في جمع وتخزين ومعالجة البيانات دون تقلبات غير مدروسة.
يُوظّف الفصل منظورًا استشرافيًّا يُركِّز على البنية التحتية المؤسسية والدعم الفني المستمر. يُوصي بإنشاء منصات عمل مشتركة تضم علماء البيانات، مطوّري النظام، وصُنّاع القرار؛ بهدف توحيد فَهْم العمليات والمصطلحات وتعزيز التوافق التشغيلي. كما يُشدِّد على أن توفير أدوات برمجية مرنة وتدريب مستدام يُعدّان عنصرين حاسمين لتسهيل الاستخدام الأمثل للبيانات المختصة، وتحويلها من مجرد موارد خام إلى أدوات لصنع القرار المبني على الأدلة (evidence-based policy).
- الفصل السابع: الاقتصاد القائم على البلوك تشين في إفريقيا
يبدأ الفصل باستكشاف إمكانات تكنولوجيا البلوك تشين (blockchain) في إحداث تحوّلات بنيوية في نظم البيانات الاقتصادية عبر القارة. ويعرض قدرة هذه التكنولوجيا على تعزيز الشفافية، متابعة سلسلة القيمة، والمساعدة في توسيع رقعة الشمول المالي، خاصةً في القطاعات الزراعية والمجتمعات الريفية. يُقدِّم الكاتب حجة مفادها أن البلوك تشين يمكن أن يعزز الثقة بين المزارعين، البنوك، والجهات التنظيمية، من خلال سجلات لا مركزية تُصعّب التلاعب أو الفقد المتعمد للبيانات.
- أهم الإشكاليات التي يتناولها الكتاب
- الإشكالية الأولى: ضعف البنية المؤسسية لحوكمة البيانات
يطرح الكتاب أن ضعف البنية المؤسسية لحوكمة البيانات (Data Governance Institutional Frameworks) يُعدّ من التحديات الجوهرية التي تُعيق استثمار البيانات في دعم التنمية المستدامة بالقارة الإفريقية. في العديد من الدول، ما تزال الهياكل التنظيمية المسؤولة عن جمع البيانات وتحليلها وصيانتها تعاني من غياب التنسيق وتضارب الصلاحيات بين الجهات الحكومية المختلفة. هذا الوضع يُنتج بيئة عمل مجزأة؛ حيث تعمل الوزارات والهيئات بشكل مستقل، ما يؤدي إلى تكرار الجهود، وإهدار الموارد، وإنتاج بيانات متباينة في الجودة والمضمون. إضافة إلى ذلك، يعكس غياب المعايير الموحدة ونقص اللوائح التنظيمية ضعفًا مؤسسيًّا يجعل من الصعب ضمان موثوقية البيانات أو اتساقها عبر القطاعات المختلفة.
هذا الضعف المؤسسي لا يرتبط فقط بغياب الأطر القانونية والإدارية، بل يتعداه إلى نقص الموارد البشرية المؤهلة لإدارة البيانات وفق المعايير الحديثة. فالكثير من المؤسسات في القارة لا تمتلك الخبراء المتخصصين في مجالات تحليل البيانات، إدارة قواعد البيانات، أو أمن المعلومات، مما يَحُدّ من قدرتها على تطوير سياسات فعّالة لحوكمة البيانات. كما أن محدودية التدريب المستمر والفرص التعليمية المتقدمة تؤدي إلى فجوة معرفية بين العاملين في هذا القطاع ونظرائهم في الدول المتقدمة، وهو ما يُكرِّس تبعية تقنية ومعرفية.
ويوصي أيضًا بأن معالجة هذه الإشكالية تتطلب إعادة هيكلة شاملة للبنية المؤسسية، تبدأ بوضع قوانين واضحة تُحدّد صلاحيات ومسؤوليات كل جهة معنية بالبيانات، وتنتهي بإنشاء هيئات وطنية متخصصة في حوكمة البيانات تتمتع بالاستقلالية والقدرة على التنسيق بين مختلف القطاعات. كما يشدّد على ضرورة الاستثمار في رأس المال البشري عبر برامج تدريبية متقدّمة، وتعزيز الشراكات مع المؤسسات الأكاديمية والتقنية العالمية لنقل الخبرات والمعرفة. وبهذا يمكن للدول الإفريقية أن تضع أساسًا متينًا لإدارة بياناتها بكفاءة وشفافية، بما يضمن استخدامها كأداة إستراتيجية في رسم السياسات العامة.
- الإشكالية الثانية: الفجوة بين توافر البيانات واستخدامها في اتخاذ القرار
على الرغم من التحسن الملحوظ في قدرات جَمْع البيانات في إفريقيا خلال العقدين الأخيرين، يشير الكتاب إلى فجوة كبيرة بين توافر هذه البيانات وبين استخدامها الفعّال في عملية اتخاذ القرار (Evidence-based Decision-making). فكثيرًا ما تُجمَع البيانات عبر المسوح الإحصائية أو المبادرات البحثية، لكنها تظل حبيسة التقارير والأرشيفات، دون أن تتحول إلى معلومات تحليلية قابلة للتطبيق العملي في صياغة السياسات. هذه الفجوة تنعكس سلبًا على دقة القرارات الحكومية؛ حيث يتم اللجوء أحيانًا إلى الاعتماد على الحدس أو الخبرة الشخصية بدلًا من الاستناد إلى بيانات موضوعية.
يرجع الكتاب هذه الإشكالية إلى عدة عوامل، من أبرزها غياب قنوات اتصال مؤسسية فعّالة بين منتجي البيانات (Data Producers) وصانعي القرار (Policy Makers). ففي كثير من الحالات، لا تصل البيانات إلى الجهات المعنية في الوقت المناسب، أو تُقدَّم بصِيَغ غير مناسبة للتحليل السريع. كما أن ضعف البنية التحتية الرقمية يحول دون تبادل المعلومات بسلاسة بين المؤسسات، ويؤدي إلى بطء في عمليات التخزين والاسترجاع. علاوة على ذلك، فإن ثقافة اتخاذ القرار المبني على الأدلة ما تزال ضعيفة في العديد من السياقات السياسية والإدارية الإفريقية، مما يجعل البيانات عنصرًا ثانويًّا بدلًا من أن تكون أساس العملية التخطيطية.
لمعالجة هذه الفجوة، يدعو الكتاب إلى بناء نظم معلومات متكاملة (Integrated Information Systems) تضمن التدفق السلس للبيانات من مرحلة جمعها حتى مرحلة تحليلها وتقديمها لصانعي القرار في شكل مؤشرات واضحة وملخصات تنفيذية. كما يؤكد على أهمية إنشاء مراكز تحليل بيانات متخصصة داخل الوزارات والمؤسسات الحكومية؛ بحيث تكون حلقة وصل مباشرة بين منتجي البيانات وواضعي السياسات. إضافة إلى ذلك، يقترح الكتاب تعزيز التدريب في مجالات تحليل البيانات وتفسيرها، بما يُمكِّن صانعي القرار من فَهْم الإحصاءات والمخرجات التقنية واستخدامها بكفاءة في وضع خطط تنموية واقعية.
- الإشكالية الثالثة: حماية الخصوصية وأمن البيانات
يبرز الكتاب أن حماية الخصوصية وأمن البيانات (Data Privacy and Security) تمثل تحديًا بالغ الأهمية في سياق حوكمة البيانات بإفريقيا، خاصة في ظل تسارع التحول الرقمي وازدياد الاعتماد على الأنظمة الإلكترونية في جمع وتخزين المعلومات. ففي كثير من الدول الإفريقية، لا تزال الأُطُر التشريعية والتنظيمية الخاصة بحماية البيانات الشخصية متأخرة مقارنة بالمعايير العالمية، ما يترك المجال مفتوحًا أمام إساءة استخدام البيانات أو اختراقها. ويزداد هذا الخطر في ظل توسع القطاع الخاص والمنصات الرقمية في جمع بيانات المستخدمين، دون وجود ضوابط صارمة تضمن احترام حقوق الأفراد في الخصوصية.
يشير أيضًا إلى أن ضعف أنظمة الأمن السيبراني (Cybersecurity Systems) يُشكّل حلقة أخرى في هذه الإشكالية؛ حيث تفتقر العديد من المؤسسات إلى بنى تحتية تقنية متطورة قادرة على مواجهة الهجمات الإلكترونية أو تسرب البيانات. وغالبًا ما يكون هذا الضعف ناتجًا عن نقص التمويل، وعدم توافر الخبرات المتخصصة في الأمن المعلوماتي، إضافةً إلى غياب بروتوكولات موحدة للاستجابة للحوادث الأمنية. هذه الثغرات لا تؤثر فقط على حماية المعلومات الحساسة للأفراد، بل تمتد إلى البيانات الحكومية الحيوية، مما يُعرِّض الأمن القومي والاقتصادي للخطر.
يوصي الكتاب بضرورة وضع تشريعات وطنية شاملة لحماية البيانات تتماشى مع المعايير الدولية، مثل اللائحة الأوروبية العامة لحماية البيانات (GDPR). كما يدعو إلى إنشاء هيئات رقابية مستقلة تتابع الامتثال لهذه القوانين، وتفرض عقوبات صارمة على المخالفين. ومن الناحية التقنية، يشدد على أهمية الاستثمار في أنظمة تشفير متقدمة، وتطوير قدرات فِرَق الأمن السيبراني، وإجراء اختبارات دورية لاكتشاف الثغرات الأمنية ومعالجتها. ويرى المؤلفون أن بناء الثقة المجتمعية في نظم حوكمة البيانات لن يتحقق إلا من خلال ضمان حماية فعَّالة وشاملة للخصوصية والأمن المعلوماتي.
- الإشكالية الرابعة: التفاوت الرقمي بين الدول والمناطق الإفريقية
يلفت الكتاب الانتباه إلى أن التفاوت الرقمي (Digital Divide) بين الدول الإفريقية، بل وداخل الدولة الواحدة، يُعدّ من العقبات البنيوية أمام حوكمة بيانات فعَّالة وشاملة. فبينما تمتلك بعض الدول بنية تحتية رقمية متطورة نسبيًّا، تعاني أخرى من ضعف شديد في شبكات الاتصالات والإنترنت، مما يَحُدّ من قدرتها على جمع البيانات إلكترونيًّا أو تبادلها بكفاءة. هذا التفاوت لا يقتصر على البنية التحتية، بل يشمل أيضًا القدرات البشرية والمعرفية؛ حيث تختلف مستويات الإلمام الرقمي (Digital Literacy) بشكل كبير بين المجتمعات الحضرية والريفية.
يوضح الكتاب أن هذه الفجوة الرقمية تؤدي إلى ما يُسمَّى بـ”عدم التوازن في الوصول إلى البيانات” (Data Access Inequality)؛ إذ تتمكن بعض المؤسسات أو المناطق من الاستفادة الكاملة من البيانات في صياغة سياساتها، بينما تظل أخرى مهمشة وغير قادرة على المشاركة في النظام المعلوماتي الوطني أو الإقليمي. هذا الوضع يخلق فجوة في التخطيط التنموي ويعزز عدم المساواة بين المناطق؛ حيث تحصل المناطق الأكثر تقدمًا رقميًّا على نصيب أكبر من الاستثمارات والمشاريع التنموية المدعومة بالبيانات، بينما تتأخر المناطق الأقل تطورًا.
لمعالجة هذه الإشكالية، يدعو الكتاب إلى تبنّي إستراتيجيات وطنية وإقليمية لتقليص الفجوة الرقمية، من خلال الاستثمار في البنية التحتية الرقمية، وتوسيع شبكات الإنترنت ذات النطاق العريض لتشمل المناطق النائية، وتوفير التدريب على المهارات الرقمية لجميع شرائح المجتمع. كما يُشدّد على أهمية التعاون بين الحكومات والقطاع الخاص والمنظمات الدولية في تنفيذ مشاريع التحول الرقمي التي تضمن وصولاً عادلاً وشاملاً إلى البيانات. ويرى المؤلفون أن سد هذه الفجوة ليس مجرد مسألة تقنية، بل هو شرط أساسي لتحقيق العدالة المعلوماتية والتنمية المتوازنة في إفريقيا.
- خاتمة:
يمثل كتاب “حوكمة البيانات والسياسات في إفريقيا” إضافةً نوعية إلى حقل الدراسات المعاصرة حول التنمية المستدامة والتحول الرقمي في القارة الإفريقية؛ إذ ينجح في الجمع بين التحليل النظري الرصين والدراسة التطبيقية المعمقة للإشكاليات التي تُعيق بناء منظومات بيانات فعّالة وشفافة. من خلال فصوله وإشكالياته المحورية، يكشف الكتاب عن الترابط البنيوي بين جودة إدارة البيانات (Data Governance) وفعالية صنع السياسات العامة، مؤكدًا أن أيّ مسار تنموي لا يمكن أن يكتمل دون وجود إطار مؤسسي وتقني يحكم إنتاج البيانات وتداولها وحمايتها.
لقد أبرز المؤلفون أن التحديات التي تواجه إفريقيا في هذا المجال لا تقتصر على ضعف البنية التحتية أو نقص التشريعات، بل تمتد إلى قضايا أعمق تتعلق بالثقة المجتمعية، والتفاوت الرقمي، وتكامل البيانات بين المؤسسات الوطنية والإقليمية. وفي المقابل، يشدّد الكتاب على أن هذه التحديات تُمثّل أيضًا فرصًا إستراتيجية إذا ما جرى التعامل معها برؤية شمولية تجمع بين الإصلاح المؤسسي والاستثمار في القدرات التقنية والبشرية.
ومن منظور إستراتيجي، يُقدّم الكتاب خارطة طريق متكاملة تبدأ بتأسيس أُطُر قانونية متينة لحماية الخصوصية والأمن المعلوماتي، مرورًا بتعزيز الشفافية والمساءلة في إدارة البيانات، وصولًا إلى بناء بنية تحتية رقمية متطورة تضمن وصولًا عادلًا للمعلومات عبر جميع المناطق والفئات. وبذلك، لا يكتفي الكتاب بوصف المشكلات، بل يطرح حلولًا عملية قابلة للتطبيق في السياق الإفريقي، ما يجعله مرجعًا لا غِنَى عنه لصانعي القرار، والباحثين، والمؤسسات التنموية التي ترى في البيانات ركيزة أساسية لتحقيق التنمية العادلة والمستدامة.
………………………………….
([1]) Bitange Ndemo et al (eds). Data Governance and Policy in Africa, Cham: Palgrave Macmillan, 2023.