نِهاد محمود
باحثة دكتوراه بكلية الدراسات الإفريقية العليا- جامعة القاهرة
تمهيد:
عند الحديث عن منطقة القرن الإفريقي، قد يبدو للوهلة الأولى أن دولة صغيرة مثل جيبوتي لا تملك وزنًا سياسيًّا أو اقتصاديًّا يُذْكَر، غير أن موقعها الجغرافي الإستراتيجي عند مضيق باب المندب، الذي يربط البحر الأحمر بالمحيط الهندي، جعلها مركزًا تتقاطع فيه مصالح القوى الكبرى؛ الأمر الذي يُفسِّر تحوّلها إلى ساحة عسكرية دولية وممر اقتصادي حيوي في آنٍ واحد.
وعلى الرغم من أن مساحتها لا تتجاوز 23.200 كيلو متر مربع، ويبلغ عدد سكانها نحو 1.1 مليون نسمة فقط، فإنها تستضيف عدة قواعد عسكرية أجنبية (فرنسا، الولايات المتحدة، اليابان، الصين، إسبانيا، إيطاليا)، وتُشكِّل موانئها شريانًا اقتصاديًّا أساسيًّا لدول الجوار، وفي مقدمتها إثيوبيا غير الساحلية، وهكذا يغدو تاريخ جيبوتي وحاضرها مدخلًا لفهم التحولات الأوسع في القرن الإفريقي.
وفي هذا السياق، يكتسب كتاب «جيبوتي: تاريخ سياسي» DJIBOUTI: A Political History لـ “سامسون أبيبي بيزابيه” Samson Abebe Bezabeh، الباحث الإثيوبي المتخصص في الدراسات الإفريقية بجامعة هونج كونج -الصادر عام 2023م- أهمية بارزة؛ بوصفه محاولة أكاديمية جادة لرصد المسار السياسي للبلاد منذ الحقبة الاستعمارية وحتى الحاضر، ومِنْ ثمَّ، فإن تناول هذا التاريخ لا يقتصر على دراسة تجربة دولة محدودة الموارد، بل يفتح نافذة لفهم التوازنات في المنطقة برُمّتها، ويُبرز كيف يمكن لدولة صغيرة أن تتحوَّل إلى لاعب محوري في حسابات القوى الكبرى.
أولًا: أهمية كتاب «جيبوتي: تاريخ سياسي»
تنبع أهمية الكتاب من كونه واحدًا من المحاولات النادرة التي تتناول المسار السياسي لجيبوتي برؤية شاملة، في ظل قلة الدراسات المخصصة لهذا البلد الصغير ذي الأهمية الإستراتيجية الكبرى؛ فالكتاب لا يكتفي بتوثيق التحولات منذ الحقبة الاستعمارية مرورًا بالاستقلال؛ حيث عهد الرئيس الأول حسن جوليد أبتيدون Hassan Gouled Aptidon، وحتى مرحلة الرئيس إسماعيل عمر جيله Ismail Omar Guelleh، بل يُقدِّم إطارًا لفهم تداخُل العوامل الداخلية مع السياقات الإقليمية والدولية في تشكيل مسار الدولة، ما يمنحه وزنًا إضافيًّا في تحليل التوازنات الجيوسياسية بالقرن الإفريقي.
ومن هذا المنطلق، يرى المؤلف أن جيبوتي ليست مجرد بلد صغير يمكن التعامل معه كهامش في حقل الدراسات الإفريقية، بل تمثل حالة استثنائية تصلح لأن تكون “مختبرًا مصغّرًا” لدراسة قضايا كبرى مثل إرث الاستعمار، ودور الجغرافيا في صياغة السياسة، وعلاقة الدولة بالمجتمع. لذلك، فإن تخصيص كتاب كامل لدراسة تاريخها السياسي لم يكن مبالغة، بل محاولة لإثبات أن الدول الصغيرة قادرة من خلال تجاربها المحدودة على كشف اتجاهات وتفاعلات ذات طابع عالمي.
وتزداد قيمة الكتاب بالنظر إلى خلفية مُؤلّفه، الباحث الإثيوبي سامسون أبيبي بيزابيه Samson Abebe Bezabeh، أحد أبناء القرن الإفريقي؛ إذ يمنحه هذا الانتماء الجغرافي والمعرفي رؤية داخلية أعمق للسياق، ويُضْفِي على العمل خصوصية إضافية تجمع بين التجربة الميدانية والتحليل الأكاديمي.
ثانيًا: بنية الكتاب وتقسيمه
حول هيكل الكتاب، يستهل “بيزابيه” بتحليل ديناميات السياسة في جيبوتي، متوقفًا عند السياق التاريخي الذي مَهَّد لقيام الدولة، ثم ينتقل إلى مرحلة الرئيس الأول حسن جوليد أبتيدون (1977– 1999م)، التي شكَّلت التأسيس الفعلي للجمهورية، قبل أن يُخصّص ثلاثة فصول متتابعة لفترة حكم الرئيس الثاني إسماعيل عمر جيله (1999– حتى الآن)، وقد تناول المؤلف في هذه الفصول ولايته الأولى التي وصفها بـ”نسمة هواء جديدة”، تلتها الولاية الثانية التي اتسمت بتعزيز قبضته على السلطة، ثم الولاية الثالثة التي ارتبطت بمحاصرة المعارضة وتراجع آمال التغيير. وفي القسم الأخير يناقش الكتاب إخفاقات التجربة الديمقراطية في البلاد، ليختتم بطرح تساؤلات مفتوحة حول مستقبل جيبوتي السياسي.
ثالثًا: أهم الأفكار والمضامين
في إطار اهتمام الكتاب برصد مسار التاريخ السياسي لجيبوتي، وما شهده من تحولات كبرى وأحداث مفصلية، ابتداءً من الحقبة الاستعمارية مرورًا بمرحلة النضال من أجل الاستقلال، وانتهاءً بتحديات بناء الدولة الحديثة بعد الاستقلال، وما رافقها من تعقيدات سياسية واجتماعية، نتناول في هذا السياق أبرز ما ورد فيه من مضامين وقضايا، وذلك على النحو التالي:
1-جيبوتي في قلب التفاعلات الحضارية منذ العصور القديمة:
تُظهر الحقائق التاريخية أنّ جيبوتي لم تكن مجرد مساحة جغرافية عابرة، بل منطقة لعبت دورًا محوريًّا في التفاعلات الحضارية والاقتصادية منذ العصور القديمة؛ فقد ارتبطت بالملاحة والتجارة في البحر الأحمر، وتفاعلت مع ممالك كبرى مثل مملكة أكسوم Kingdom of Aksum -إحدى أقدم وأكبر الممالك في شرق إفريقيا وجنوب شبه الجزيرة العربية من العصور القديمة إلى العصور الوسطى كما كانت جزءًا من فضاء تجاري واسع امتد إلى الهند والصين. ومع بروز الإمارات الإسلامية في العصور الوسطى بمنطقة القرن الإفريقي مثل سلطنة عِفت Sultanate of Ifat ثم سلطنة عدل Adal Sultanate التي خلفتها، ازدادت أهمية السكان المحليين (العفر والصوماليين) في التجارة والصراع مع القوى المجاورة.
ومع مطلع القرن الـ19، وجدت جيبوتي نفسها في قلب تنافس استعماري بين فرنسا وبريطانيا وإيطاليا، قبل أن تُكرِّس فرنسا سيطرتها عليها وتُحوِّلها إلى مستعمرة تحمل الطابع الحديث عبر البيروقراطية، والتعداد السكاني، والتقسيم الإداري والعرقي، ولم يقتصر هذا المسار الاستعماري على رسم الحدود، بل ساهم في إعادة تشكيل الهويات العرقية والسياسية، وتحويل التنوع الاجتماعي إلى أداة للسيطرة عبر سياسات “فَرِّق تَسُد” التي أَرْسَت أُسُس التوترات اللاحقة.
مع الحرب العالمية الثانية وما تلاها من تحولات، بدأت فرنسا في إدخال إصلاحات سياسية سمحت بظهور التمثيل النيابي، وتشكيل النقابات العمالية في جيبوتي، ما أفسح المجال لزعامات محلية مثل محمود حربي Mahmoud Harbi، وحسن جوليد أبتيدون Hassan Gouled Aptidonللعب أدوار بارزة. في هذه المرحلة، تصاعدت التوترات العرقية بين العرب والعفر والصوماليين، وارتبطت الصراعات المحلية بالتيارات القومية العربية والإسلامية، وبالتدخلات الإقليمية من الصومال وإثيوبيا.
كما جعل موقع جيبوتي الإستراتيجي عند باب المندب منها نقطة اهتمام للقوى الكبرى خلال الحرب الباردة؛ حيث تداخلت الحسابات الفرنسية مع هواجس واشنطن وموسكو وبكين. وعلى الرغم من الاستفتاءات التي أبقت البلاد تحت الحكم الفرنسي في 1958 و1967م، فإن الضغوط الداخلية والخارجية دفعت أخيرًا إلى إعلان الاستقلال في 27 يونيو 1977م. ورغم الآمال التي رافقت هذه اللحظة التاريخية ببناء دولة حديثة قائمة على المساواة والعدالة؛ إلا أنّ الإرث الاستعماري وهيمنة النُّخَب العرقية والسياسية سرعان ما أفرزت تحديات عميقة، جعلت من الدولة الوليدة ساحة لصراعات الهوية والتحالفات الإقليمية.
2-جيبوتي… من الاستقلال إلى الاستقرار الهشّ:
يُركّز الكتاب هنا على أن جيبوتي منذ استقلالها عن الاستعمار الفرنسي عام 1977م، وُلِدَتْ مُثقلة بإرث استعماري مُعقَّد أدَّى إلى نشوء دولة ضعيفة البنية على المستويين المؤسسي والاقتصادي؛ فقد افتقرت البلاد إلى جيش وطني قادر على حماية حدودها، وإلى قاعدة اقتصادية مستقلة، فضلًا عن الانقسامات العرقية والاجتماعية الحادة بين مكوّناتها الرئيسة. ورغم الرمزية العالية للاستقلال، ظل النفوذ الفرنسي حاضرًا من خلال اتفاقيات أمنية ومالية حدَّت من سيادة الدولة، كما جعل موقع جيبوتي بين إثيوبيا والصومال نقطة جذب للتجاذبات الإقليمية.
في هذا السياق، يوضِّح الكاتب كيف شكَّلت فترة حكم الرئيس الأول للبلاد “حسن جوليد أبتيدون” (1977–1999م) مرحلة تأسيس للجمهورية، لكنها اتسمت بتكريس حكم الحزب الواحد وإقصاء المعارضة، مع استمرار الاعتماد على الدعم الخارجي لضمان استقرار النظام. ومع وصول إسماعيل عمر جيله إلى السلطة عام 1999م، ظهرت آمال بفتح صفحة جديدة من الانفتاح السياسي و”نسمة هواء جديدة”، كما وصفها “بيزابيه”، غير أن هذه الآمال اصطدمت سريعًا بتمسك النخبة الحاكمة بالسلطة، وتحول مسار الديمقراطية إلى ممارسات سلطوية مغلّفة بالتعددية الشكلية.
ويضيف الباحث الإثيوبي أن مأزق جيبوتي لم يكن ناتجًا عن عوامل داخلية فحسب، بل جاء أيضًا نتيجة التداخل بين موقعها الجغرافي الإستراتيجي وسياسات الإقصاء الداخلي وإرث الماضي الاستعماري، فموقع البلاد عند مضيق باب المندب جعلها محور تنافس القوى الدولية، التي حرصت على استقرار النظام مقابل ضمان مصالحها العسكرية والاقتصادية، ما عزَّز قبضة النخبة الحاكمة واستفادتها من الريوع المالية والشرعية السياسية المتأتية من هذا الوجود الأجنبي.
من هنا، يتضح أن مشروع الدولة بعد الاستعمار ظل متأرجحًا؛ حيث وجد المواطنون أنفسهم محاصرين بين وعود الحرية والعدالة من جهة، وواقع القمع واللامساواة من جهة أخرى. ومع ذلك، لم يمنع هذا الواقع المأزوم الجيبوتيين من الاستمرار في الحلم بإقامة دولة قادرة على ضمان حقوقهم وحرياتهم.
3-جيبوتي والربيع العربي.. بين الانفتاح الموهوم والهيمنة المستمرة:
يركز الكتاب في هذا القسم على التحولات السياسية في جيبوتي في سياق التأثر بما عُرِفَ بـ”موجة الربيع العربي”؛ فقد شهدت البلاد احتجاجات شبابية واسعة سرعان ما أُخمدت بالقوة، ما دفَع النظام إلى تقديم إصلاحات محدودة لاحتواء الغضب الشعبي، وقد شجَّع هذا التغيير قوى المعارضة على إنهاء مقاطعتها الطويلة، فظهرت جبهة جديدة (ائتلاف) -شُكِّلَت لخوض الانتخابات البرلمانية لعام 2013م-، عُرِفَت باسم “الاتحاد من أجل الإنقاذ الوطني” (USN) The Union for National Salvation، كما برز تيار إسلامي سياسي أكثر جرأة تجسَّد في إنشاء حزب عُرف باسم “حركة التنمية والعدالة”(MeDeL) Movement for Development and Liberty، ما منح انطباعًا أوليًّا بوجود انفتاح سياسي. غير أن هذه التعددية الوليدة اصطدمت سريعًا بآليات الضبط والسيطرة التي رسَّخها النظام السياسي، من إعادة هيكلة الحزب الحاكم واستيعاب النخب عبر المحسوبية السياسية، إلى الرقابة الصارمة على الإعلام وحتى التحكُّم في المجال الديني من خلال خطب مكتوبة مسبقًا للأئمة.
مع اقتراب الانتخابات البرلمانية المقررة عام 2013م، تصاعدت التوقعات بحدوث تغيير، خاصةً مع النشاط الواسع للمعارضة وتحالفها بين تيارات علمانية وإسلامية، غير أن النتائج الرسمية التي منحت الحزب الحاكم انتصارًا محدودًا أشعلت أزمة سياسية حادة؛ إذ اتهمت المعارضة السلطات بالتزوير ورفضت الالتحاق بالبرلمان، معلنةً تشكيل برلمان بديل. وقد واجَه النظام هذا التحدي بمزيج من القمع والتفاوض؛ حيث اعتقل قادة معارضين، ثم أفرج عن بعضهم في إطار اتفاق مصالحة عام 2014م؛ أعاد المعارضة إلى المؤسسات الرسمية دون تلبية مطالبها الجوهرية.
ومع مرور الوقت، أدَّت هذه التسوية إلى انقسامات داخلية أضعفت المعارضة، وأعادت إنتاج هيمنة الحزب الحاكم. وعلى هذا النحو يعكس الكتاب مسارًا متكرّرًا في سياسة نظام الحكم في جيبوتي والمتمثلة في وعود إصلاح تُنعش آمال التغيير، لكنّها تنتهي بخيبة أمل جديدة، فيما يواصل النظام تكريس بقائه عبر مزيج من الإصلاحات الشكلية والاحتواء والانقسام.
4-حلم الدولة وضغوط الجغرافيا: ماذا يحمل المستقبل لجيبوتي؟
في القسم الأخير من الكتاب، يؤكد “بيزابيه” أن جيبوتي مثلها مثل كثير من الدول الإفريقية التي خرجت من الاستعمار، نجحت في تحقيق الاستقلال السياسي، لكنّها فشلت في بناء دولة تعكس أحلام مواطنيها، فالإنجاز الكبير المتمثل في الاستقلال سرعان ما تحوَّل إلى مأساة بفعل استمرار الهياكل الاستعمارية التي ربطت السياسة بالانتماء العرقي؛ إذ جرى تكريس تسلسل هرمي للمواطنة مَنَحَ قبيلة “عيسى” امتيازات أوسع على حساب جماعات أخرى كالعفر، لكنّ هذه المعضلة لم تكن مجرد نتاج للانقسامات الإثنية، بل جاءت أيضًا نتيجة لدور النُّخبة الحاكمة التي أعادت إنتاج الاستبداد عبر نظام الحزب الواحد وشبكات المحسوبية التي احتكرت الدولة والاقتصاد داخل دائرة ضيّقة من العائلة الحاكمة وحلفائها.
وقد تزامن ذلك مع توظيف البعد الجيوسياسي في خدمة النظام؛ فالموقع الإستراتيجي لجيبوتي جعلها مركزًا للقواعد العسكرية وممرًّا حيويًّا لرأس المال العالمي، ما وفَّر للنخب ريعًا سياسيًّا واقتصاديًّا استُخدم لتعزيز قبضتها، بينما بقيت الجماهير محرومة من وعود الحرية والمساواة.
ويؤكد الكتاب في هذا الموضع أن جيبوتي تقف اليوم أمام مفترق طرق حاسم، في ظل بروز تحديات إقليمية متشابكة، من بينها الإصلاحات التي يقودها رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد وما رافقها من تقارب إثيوبي–إريتري قد يُهدّد من الأهمية التقليدية للموانئ الجيبوتية، إلى جانب التوسع الإماراتي في موانئ بربرة وعصب ومشاريع خطوط النفط، وما يقابله من تحركات قطرية وتركية وسعودية، إضافة إلى دخول روسيا على خط التنافس الدولي في المنطقة.
وتفتح هذه التطورات الباب أمام سيناريوهات متعددة لمستقبل جيبوتي، غير أنها تبرز في الوقت ذاته حقيقة أن وجود القواعد العسكرية الأجنبية سيظل عاملًا ثابتًا في تكريس الأهمية الجيوسياسية للدولة وضمان بقاء النظام، حتى في حال تراجع وزنها الاقتصادي.
وبوجه عام، يخلص الكاتب إلى أن الجيبوتيين، شأنهم شأن كثير من شعوب إفريقيا التي خاب أملها في الدولة الوطنية بعد الاستعمار، يعيشون داخل دائرة متكررة من الوعود بالحرية سرعان ما تتحول إلى خيبات، ثم تُستثمر كفرص لترسيخ سلطة النُّخَب، وهو ما يجعل الدولة أداة بيد القلة بدل أن تكون إطارًا للمساواة والعدالة.
ومن هنا تأتي دعوته إلى إعادة التفكير في مستقبل السياسة في إفريقيا بعيدًا عن الحلول التقليدية مثل الانتخابات الشكلية، والانخراط بدلًا من ذلك في حوار أعمق بين الباحثين وصانعي القرار داخل القارة وخارجها حول تصور جديد لطبيعة الدولة وأفقها الممكن. فالعالم اليوم أكثر ترابطًا، وأزمات إفريقيا ليست منعزلة عنه، وإذا استمر التعاطي معها بمنطق الحلول السطحية التي تخدم مصالح النخب، فلن تكون النتيجة سوى مفاقمة الأزمات. ومع ذلك، يبقى الأمل قائمًا في حال أُعطيت الأولوية لبناء مؤسسات عادلة، وتعزيز الشفافية والمساءلة، وإشراك المجتمعات المحلية في صياغة القرار، وهي شروط قد تفتح الباب أمام مسارات أكثر إنصافًا واستدامة.
خاتمة:
في الختام، يقدّم كتاب «جيبوتي: تاريخ سياسي» لـ”سامسون أبيبي بيزابيه” إسهامًا علميًّا مهمًّا لفهم أحد أكثر النماذج الإفريقية تعقيدًا؛ حيث استطاع المؤلّف، من موقعه كابن للقرن الإفريقي وباحث أكاديمي، أن يمزج بين الرؤية الداخلية والمعالجة التحليلية المقارنة، ومن خلال تتبُّع المسار السياسي لجيبوتي منذ الاستعمار وحتى الآن، يكشف الكتاب عن التوترات التي رافقت الدولة الوطنية الإفريقية في مجملها، كهشاشة المؤسسات، واستمرار الإرث الاستعماري، وتغوُّل النخب الحاكمة، وتوظيف الجغرافيا الإستراتيجية لصالح بقاء النظام أكثر من خدمة المواطنين.
ومع ذلك، يُسجَّل على الكتاب أنه ركَّز بصورة أساسية على الدولة والنخب دون أن يمنح الحركات الاجتماعية والمجتمع المدني المساحة الكافية كفاعل محتمل للتغيير، الأمر الذي قد يُقلّل من إبراز أشكال المقاومة اليومية التي يمارسها المواطنون في مواجهة الاستبداد. كما أن التحليل الاقتصادي ظلّ مُكمّلاً أكثر منه محورًا رئيسيًّا، على الرغم من أهمية الاقتصاد السياسي في تفسير بنية الدولة في جيبوتي.
في الأخير، ورغم ما قد يُوجَّه إلى الكتاب من ملاحظات نقدية، فإنه يُمثّل إسهامًا مرجعيًّا مهمًّا للباحثين وصُنّاع القرار المهتمين بفَهْم توازنات القرن الإفريقي؛ إذ يفتح آفاقًا أوسع لتحليل التداخل المعقد بين الجغرافيا والسياسة في هذه المنطقة الإستراتيجية، ويذكّر بأن مستقبل الدولة في جيبوتي –كما في القارة الإفريقية عامة– لن يُبنَى على القواعد العسكرية أو رهانات الدعم الخارجي وحدها، بل على ترسيخ قِيَم العدالة الاجتماعية والمواطنة الكاملة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصدر الكتاب:
Samson Abebe Bezabeh, DJIBOUTI: A Political History, (Boulder: Lynne Rienner Publishers, 2023).