تجلت العقلية الاستعمارية الفرنسية بشكل واضح في ديسمبر 2019، عندما استدعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خمسة من زعماء منطقة الساحل (أربعة منهم منتخبون ديمقراطيًا في ذلك الوقت) إلى القاعدة الجوية في باو، بالقرب من جبال البرانس لمناقشة المشاعر المعادية لفرنسا في بلدانهم.
والمفارقة هنا أن هذا الاجتماع أسهم في إشعال جذوة الغضب والاستياء بشكل أعمق مما توقعه المشاركون فيه. والدليل على ذلك أنه بعد أربع سنوات، تمت الإطاحة بثلاثة من رؤساء هذه الدول وطرد القوات الفرنسية لتحل محلها أخرى روسية.
وفي نهاية المطاف تم تأسيس تحالف دول الساحل وهو تحالف عسكري بين بوركينا فاسو ومالي والنيجر، عام 2023 على يد قادة هذه الدول الذين وصلوا إلى السلطة عبر انقلابات عسكرية.
وفي يوليو 2024، وقّعت هذه الدول الثلاث اتفاقيةً حوّلت تحالف دول الساحل إلى كونفدرالية لنصبح أمام ترويكا جديدة في هذا الفضاء الجيوستراتيجي بالغ الأهمية.
كما أعلنت دول الترويكا انسحابها عن إحدى أكبر التكتلات التجارية والاقتصادية في المنطقة، وهي الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، التي كانت معاديةً لتغير السلطة في هذه الدول وناقشت التدخل العسكري في النيجر.
ولعل الهدف المعلن لتحالف الساحل يتمثل في توظيف الموارد لتأسيس بنية تحتية قوية للطاقة والاتصالات، وإنشاء سوق مشتركة، وتطبيق اتحاد نقدي في ظل عملة مقترحة، والسماح بحرية تنقل الأشخاص، وتمكين التصنيع، والاستثمار في الزراعة والتعدين وقطاع الطاقة، وصولا إلى وحدة اندماجية في إطار دولة واحدة ذات سيادة.
وتتبني حكومات ترويكا الساحل سرديات معادية للاستعمار الجديد، وقد برهنت على ذلك بإجراءات للحد من مكانة اللغة الفرنسية وإعادة تسمية الشوارع والميادين الاستعمارية.
ويجاول هذا المقال تبيان ملامح الصراع الجديد على الساحل بعد تواري النفوذ الفرنسي والغربي عموما.
روسيا وأذرعها الثلاثة:
(1) الأسلحة
يُعدّ توظيف عمليات توريد الأسلحة من أهم المجالات التي يتضح من خلالها الدعم الروسي للمجالس العسكرية في كل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو.
ويُعدّ هذا الأمر جذابًا بشكل خاص لأنظمة منطقة الساحل، إذ لا يبدو أن موسكو تفرض أي قيود على استخدام الأسلحة التي تبيعها لتحالف دول الساحل.
وقد استلمت هذه الدول الثلاث بالفعل دبابات ومركبات مدرعة وأنظمة استخبارات عبر الأقمار الصناعية وطائرات مقاتلة.
وفي يناير 2025، تسلم فيلق إفريقيا (فاجنر سابقا) في مالي دبابات وناقلات جند مدرعة – ومركبات مشاة. ومن الملاحظ أن عمليات التسليم تزايدت تماشيًا مع ارتفاع الميزانيات العسكرية. وفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، أنفقت الدول الثلاث مجتمعة ما مجموعه 2.4 مليار دولار أمريكي لجيوشها في عام 2024. وفي الوقت الذي قطعت هذه الدول الثلاث تعاونها الأمني مع فرنسا زادت إنفاقها العسكري بشكل كبير.
فقد ارتفع الإنفاق العسكري لمالي بنسبة 38% في الفترة 2020-2024، وارتفع إنفاق بوركينا فاسو بنسبة 108% في الفترة 2021-2024، كما ارتفع إنفاق النيجر بنسبة 56% في الفترة 2022-2024.
وفي نفس السياق أعلنت تشاد عن إنهاء تعاونها العسكري مع فرنسا في عام 2024، وزادت إنفاقها العسكري بنسبة 43% على مدار العام، ليصل إلى 558 مليون دولار أمريكي.
وقد أدى ذلك إلى زيادة عبئها العسكري بنسبة 0.9 % – وهي أكبر زيادة سنوية في العبء في إفريقيا – ليصل إلى 3.0% من الناتج المحلي الإجمالي وتخطط مالي لبدء إنتاج الأسلحة، بينما تستعد بوركينا فاسو لتصنيع طائرات بدون طيار للمراقبة.
(2) الحرب السيبرانية
ويمثل انخراط روسيا في الحرب السيبرانية في منطقة الساحل الإفريقي عنصرًا أساسيًا في استراتيجيتها الأوسع المتمثلة في الحرب الهجينة والسياسية الهادفة إلى توسيع نفوذها في المنطقة.
ويلاحظ أن روسيا تتبع اقترابا متعدد الأبعاد، يشمل العمليات السيبرانية، وحملات التضليل، والتأثير على وسائل الإعلام المحلية، لزعزعة مراكز الهيمنة الغربية وتعزيز العلاقات مع المجالس العسكرية والحكومات في منطقة الساحل.
وتسعى هذه الحملات إلى استغلال المظالم المحلية، وترويج الروايات المؤيدة لروسيا، وتقويض المبادرات المدعومة غربيًا، بينما يُقدم الفيلق الإفريقي الدعم العسكري والأمني الميداني.
وتُسلط الدراسات الضوء تحديدًا على تسليح تكنولوجيا المعلومات كأداة للتأثير على الرأي العام والنتائج السياسية في دول مثل مالي وبوركينا فاسو والنيجر، حيث تكثفت جهود روسيا في الحرب السيبرانية والمعلوماتية بشكل ملحوظ منذ عام 2020.
ويُشكل هذا الاستخدام المتكامل للحرب السيبرانية، إلى جانب التدابير التقليدية، عنصرًا أساسيًا في جهود روسيا لإعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي لمنطقة الساحل وتحدي النفوذ الغربي.
ويبدو أن هناك تصميم من قبل ترويكا الساحل على الاستفادة من القدرات الروسية أخرى في المراقبة. في سبتمبر 2024، وقعت باماكو اتفاقية مع روسكوزموس، وكالة الفضاء الروسية، لتغطية الأقمار الصناعية. ويهدف النظام رسميًا إلى تحسين الاتصالات، ويُنظر إليه على نطاق واسع على أنه أداة لمراقبة المواطنين. وبالفعل تعرف المجالس العسكرية بالضبط من يدخل ويخرج من مطاراتها ومن يمر بها. ولا يخفى أنهم يحصلون على أدوات المراقبة هذه من روسيا، التي تمتلك خبرات مقدرة في هذا المجال.
وتواصل روسيا شن حملات اعلامية عبر منصات دعائية مثل المبادرة الإفريقية، بما في ذلك “أفلام وثائقية” تروج لرواية الكرملين بشأن أوكرانيا.
(3) مناجم الذهب
وبعيدًا عن الجغرافيا السياسية، ترى موسكو في منطقة الساحل فرصة تجارية. ولعل الذهب هو أبرز الأصول التي تنتشر في المنطقة.
إن تمدد التغلغل الروسي في قطاع الذهب هو الأكثر تأثيرًا وفعالية. ففي مالي، حيث يدير الفيلق الإفريقي عمليات تعدين منذ فترة، تقوم مجموعة شركات يادران الروسية – وهي متخصصة في إنتاج وتكرير النفط ومنتجاته ومعالجة النفايات النفطية، إضافة إلى أنشطة في البناء المدني ومرافق قطاع النفط والغاز – ببناء مصفاة ذهب بطاقة إنتاجية تصل إلى 200 طن سنويًا، بالإضافة إلى مشاريع أخرى تشمل مصنعًا لمعالجة القطن.
وفي النيجر، قد تسيطر موسكو قريبًا على تراخيص اليورانيوم المسحوبة من شركة أورانو الفرنسية وشركة جوفيكس الكندية، وذلك عقب زيارة وزير الطاقة سيرجي تسيفيليف إلى نيامي في يوليو 2025، والتي شهدت توقيع اتفاقية مع وكالة روساتوم النووية الحكومية لتبادل خبراتها. مستغلًا استياءً محليًا طويل الأمد من افتراض فرنسا أن أبناء النيجر يجب عليهم أن يكتفوا بالبقاء كموردين للوقود الخام دون أن يطمحوا أبدًا إلى توليد الكهرباء من الطاقة النووية. تحدث تسيفيليف عن إنشاء “نظام متكامل لتطوير الطاقة الذرية السلمية في النيجر”. كما تعهدت روساتوم ببناء محطات طاقة شمسية ونووية في بوركينا فاسو ومالي وتدريب فنيين محليين.
قد يكون بناء محطات الطاقة النووية أمرًا بعيد المنال، نظرًا للتكاليف الرأسمالية الضخمة والتحديات التقنية والمخاطر الأمنية التي تشكلها منطقة الساحل. وقد جاء تذكير بالتهديدات القوية التي تمثلها هذه المحطات مع أنباء سيطرة جماعة نصرة الإسلام والمسلمين على فارابوكو، وهي بلدة تقع على بُعد 400 كيلومتر فقط شمال باماكو، وقاعدتها العسكرية.
وفي البلدان التي لا يزال التعليم الثانوي والعالي فيها مستمدًا بشكل كبير من المعرفة والممارسة الفرنسية، ترغب موسكو في توسيع نطاق الترويج لخبرتها التقنية. في أغسطس 2025، أعلن تسيفيليف أنه سيتم افتتاح دورات هندسية قائمة على المنهاج الروسي في المؤسسات التعليمية في مالي وبوركينا فاسو والنيجر ومع ذلك، وعلى الرغم من موجة التعهدات، لم يتحقق سوى القليل خارج نشاط قطاع الاستخراج.
وبينما تستمر حالات التمرد وأزمة الغذاء والفيضانات الموسمية، فإن وكالات الأمم المتحدة والحكومات الغربية، وليس الراعي العسكري الجديد لتحالف دول الساحل هي التي تقدم معظم المساعدات الإنسانية.
وعلى أية حال يُحاكي نموذج روسيا في منطقة الساحل أسلوبها في التعامل مع دول إفريقية أخرى: توفير الأسلحة والمدربين العسكريين مقابل الوصول إلى الموارد الطبيعية، والتي غالبًا ما تتم من خلال اتفاقيات مقايضة. وقد أُبرمت صفقات مماثلة بالفعل مع حوالي 15 دولة إفريقية. وترى دول منطقة الساحل، الغنية باليورانيوم والذهب ومعادن أخرى، في هذه الشراكات سبيلاً لتحقيق السيادة الاقتصادية.
وفي المقابل، لا تكتسب روسيا الموارد فحسب، بل تكتسب أيضًا نفوذًا استراتيجيًا في منطقة كانت القوى الغربية تهيمن عليها سابقًا. ومع ذلك يُجادل المنتقدون بأن صيغة “الأمن مقابل الموارد” هذه تُخاطر بترسيخ التبعية بدلًا من تعزيز التنمية المستدامة.
روسيا وصراع النفوذ:
يُظهر الصراع على النفوذ في منطقة الساحل من قِبل كل من روسيا والثلاثي الصيني والتركي والإيراني اقترابا استراتيجيًا متميزًا صاغته مصالحها الجيوسياسية ومبادئها العملياتية.
تتمحور سياسة الصين في إفريقيا حول مبدأ عدم التدخل، والتعاون مع أي حكومة بغض النظر عن طابعها السياسي، شريطة أن تتخذ موقفًا مؤيدًا لبكين تجاه تايوان.
ومع ذلك، فقد اختبرت الموجة الأخيرة من الانقلابات العسكرية في غرب ووسط إفريقيا هذا الموقف، حيث أكدت الصين التزامها بالتعاون مع دول الساحل مثل بوركينا فاسو ومالي والنيجر، بينما عارضت الهيئات الإفريقية متعددة الأطراف مثل الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا والاتحاد الإفريقي التي تدين هذه الانقلابات.
ومع ذلك لا تزال البصمة الاقتصادية للصين في منطقة الساحل متواضعة مقارنة بالدول الأكثر انخراطًا، على الرغم من الاستثمارات الكبيرة التي تم القيام بها، ولا سيما من قبل شركة البترول الوطنية الصينية (CNPC) والمؤسسة النووية الوطنية الصينية (CNNC) في قطاعي النفط والطاقة النووية في النيجر، ومشاريع البنية التحتية مثل خطوط الأنابيب والمصافي، وتعدين الليثيوم والسكك الحديدية في مالي. إلى جانب الاستثمارات الاقتصادية، تتميز الصين بتمويل مشاريع التعليم والبنية التحتية، بما في ذلك الجامعات والمراكز الثقافية، مما يعزز نفوذها في مجال القوة الناعمة.
في الوقت نفسه، يعكس الوجود التركي المتنامي في منطقة الساحل طموحًا جيوسياسيًا كبيرا يتجلى في المساعدات العسكرية والتعليم والتجارة، مع التركيز على الخطاب المناهض للاستعمار وبناء العلاقات مع السلطات الجديدة في أعقاب الانقلابات، لا سيما في بوركينا فاسو ومالي والنيجر.
كما إن الدعم العسكري التركي، بما في ذلك طائرات بيرقدار بدون طيار لمكافحة الإرهاب، والتأييد العلني لاحتواء وتقليص النفوذ الفرنسي، يضع أنقرة في موقع الشريك الأمني البراغماتي.
أما إيران، الأقل توجهًا اقتصاديًا، فتستخدم صادراتها الدفاعية، مثل الطائرات المقاتلة بدون طيار وأنظمة الصواريخ، لتأكيد نفوذها وإظهار تضامنها مع دول الساحل التي تقاوم الهيمنة الغربية. كما تشمل المصلحة الاستراتيجية لإيران تأمين إمدادات اليورانيوم من النيجر، وربط دبلوماسية الموارد بصفقات الأسلحة لبناء المصداقية. وبينما لا يزال انخراط إيران في منطقة الساحل في بداياته، إلا أنه يشكل جزءًا من طموح أوسع للتخفيف من وطأة العزلة الدولية.
وبشكل عام، فإن المقاربات المتنوعة التي تنتهجها القوى الكبرى تجاه دول الساحل – من المشاركة الاقتصادية والعسكرية متعددة الأوجه للصين، والدبلوماسية العسكرية والعلامة التجارية الإيديولوجية لتركيا، إلى صادرات الدفاع الإيرانية ودبلوماسية الموارد – توضح المنافسة المعقدة على النفوذ في منطقة تتميز بانعدام الأمن والتحالفات المتغيرة، مما يؤكد الأهمية الجيوسياسية لمنطقة الساحل كمسرح للتنافس بين القوى العالمية الصاعدة.