آية محسب عبد الحميد مصطفى
باحثة دكتوراه/ معهد البحوث والدراسات الإفريقية ودول حوض النيل- جامعة أسوان
تمهيد:
في وجه الخطاب السائد: “لماذا علينا إعادة التفكير في موقع إفريقيا في الاقتصاد العالمي؟” في زمنٍ تتعالى فيه الأصوات الدولية مُحذِّرةً من “ديون إفريقيا” و”فجوة تمويلها التنموي”، يغيب سؤال أكثر جوهرية: مَن يُمَوِّل مَن؟ ومن يستفيد فعليًّا مِن ثروات القارة؟ لطالما صُوِّرت إفريقيا في الأدبيات الغربية على أنها “قارة عالة”، تعيش على المساعدات، وتنتظر التدخلات الخارجية لإنقاذها من أزماتها. لكن ماذا لو كانت الحقيقة معكوسة؟ ماذا لو كانت القارة –رغم فقرها الظاهري –مُمَوِّلًا صافِيًا للنظام الرأسمالي العالمي، عبر نزيف ممنهج لرأس المال، وتهريب منظّم للثروات، وتواطؤ داخلي يُعمِّق التبعية بدلاً من كسرها؟
هذه الأسئلة الجوهرية يُعيد طرحها الأكاديمي والوزير السابق “غوردن مويو” في كتابه الصادر حديثًا عن Springer، والذي يُشكّل دعوة نقدية عاجلة لإعادة التفكير في العلاقة بين إفريقيا والعالم، من منظور ديكولونيالي يربط بين المعرفة والسيادة والتحرر المالي.
مقدمة:
كيف لقارةٍ تُعدّ من أغنى مناطق العالم بالموارد الطبيعية، وتضم ثاني أكبر عدد من السكان عالميًّا، أن تُصوَّر في الأدبيات الدولية كعبءٍ تنموي على النظام العالمي؟ وهل تُعاني إفريقيا حقًّا من فقر في التمويل، أم من نزيف مالي ممنهج تُديره بنية دولية غير عادلة تخدم مصالح المراكز الرأسمالية والشركات متعددة الجنسيات؟ هذه الإشكاليات المركزية يُعيد طرحها الأكاديمي والوزير الزيمبابوي السابق غوردن مويو في كتابه المرجعي الصادر عام 2024م عن دار Springer، تحت عنوانAfrica in the Global Economy: Capital Flight, Enablers, and Decolonial Responses.
يمثّل هذا العمل محاولة نقدية جذرية لفهم موقع إفريقيا في الاقتصاد العالمي، عبر تتبُّع خيوط رأس المال الهارب، والتواطؤ الداخلي، والتبعية المالية البنيوية. ويتبنَّى المؤلف منظورًا ديكولونياليًّا تحرّريًّا يتجاوز السرديات الإصلاحية التقليدية، داعيًا إلى “ثورة معرفية ومؤسسية” تهدف إلى تحرير السيادة المالية الإفريقية من قبضة النظام النيوليبرالي العالمي. في عالم تتصاعد فيه الأزمات المركبة –من المديونية إلى التغيُّر المناخي– يُقدّم “مويو” أطروحة شاملة لفهم كيف أُعيد إنتاج الاستعمار بصيغة مالية، وكيف يمكن للقارة أن تبني بدائل تستند إلى المعرفة الإفريقية والمصلحة التنموية الذاتية. وفي ظل التحديات المتفاقمة التي تواجهها إفريقيا، يأتي هذا الكتاب كـ“تدخُّل فكري عاجل“، يُعيد رسم ملامح النقاش حول السيادة الاقتصادية الإفريقية وحدود الانعتاق من التبعية.
محاور مركزية في الكتاب:
ينطلق المؤلف غوردن مويو من رؤية نقدية جذرية تُعيد مساءلة موقع إفريقيا في المنظومة المالية العالمية، ويُقدِّم عبر كتابه خمس قضايا محورية تُشكِّل الإطار البنيوي العام للعمل، وتُبرز من خلالها أطروحته حول الاستعمار المالي الجديد وآليات التحرُّر منه:
- تهريب رأس المال (Capital Flight) يُعدّ تهريب رأس المال أخطر آليات استنزاف الثروة الإفريقية؛ حيث تُهرّب سنويًّا مئات المليارات من الدولارات عبر قنوات قانونية وشبه قانونية، بما في ذلك التسعير التحويلي، وتحويل الأرباح، والتهرب الضريبي. هذه الأموال تُحرم من الاستثمار في القطاعات الحيوية داخل القارة، ويُعاد تدويرها في مراكز مالية غربية وآسيوية.
- التمكين المؤسسي الدولي (Global Financial Enablers) يُسلّط الكتاب الضوء على البنية التحتية العالمية التي تُيسِّر هذه التدفقات غير المشروعة، من خلال شبكة متشابكة من القوانين الضريبية، واللجان المالية، والمكاتب الاستشارية متعددة الجنسيات. هذه “البنية التمكينية” لا تعمل بمعزل، بل هي نتاج تصميم مؤسسي ممنهج يُعيد إنتاج التبعية المالية من خلال أدوات تبدو “قانونية”، لكنّها تعمل ضد مصالح القارة.
- تواطؤ النُّخَب الإفريقية (Domestic Complicity) لا يُبرّئ المؤلف الداخل الإفريقي من مسؤولية النزيف المالي، بل يكشف عن دور النخب السياسية والاقتصادية التي تُسهّل هذا الاستنزاف، سواء عبر تمرير سياسات الخصخصة والانفتاح غير المحسوب، أو عبر التورط المباشر في تحويل الأموال إلى الخارج. يُنظَر إلى هذه النُّخب بوصفها “وكلاء محليين” لمنظومة السيطرة المالية العالمية.
- التبعية المالية والاستعمار المالي الجديد(Financial Dependency and Neocolonialism) : يُقدّم مويو قراءة معمّقة لما يسميه “الاستعمار المالي الناعم”؛ حيث يتم إخضاع الدول الإفريقية لشروط خارجية عبر أدوات مثل القروض المشروطة، ووكالات التصنيف الائتماني، واتفاقيات التجارة الحرة غير المتكافئة. ويرى المؤلف أن هذه الآليات تُعيد إنتاج الهيمنة الاستعمارية، ولكن بأدوات مالية ومؤسسية بدلًا من الجيوش.
- الاستجابات الديكولونيالية (Decolonial Responses) في مقابل هذا الواقع، يقترح الكتاب حزمة من الاستجابات البديلة تنطلق من رؤية ديكولونيالية للتحرر، تشمل: تأسيس مؤسسات مالية قارية مستقلة (مثل وكالة تصنيف ائتماني إفريقية)، دعم آليات استرداد الأموال المنهوبة، تفكيك الاعتماد على التمويل الخارجي، وإصلاح التعليم الاقتصادي بما يعكس أولويات التنمية الإفريقية. كما يدعو إلى إستراتيجية “فك ارتباط انتقائي” مع المنظومة النيوليبرالية العالمية.
تُشكّل هذه المحاور مجتمعة نواة الكتاب الفكرية، وتُوفّر إطارًا تحليليًّا شاملًا لفَهْم التحديات البنيوية التي تُكبِّل إفريقيا ماليًّا، مع طرح بدائل قائمة على السيادة، والمعرفة النقدية، والتحرُّر التدريجي من علاقات التبعية.
أولًا: المؤلف وسياق الإصدار
يأتي هذا الكتاب في لحظة إفريقية ودولية دقيقة، تتفاقم فيها التحديات المالية، ويتزايد فيها الجدل حول موقع القارة في الاقتصاد العالمي.
المؤلف غوردن مويو ليس باحثًا أكاديميًّا فحسب، بل هو أيضًا وزير سابق للتنمية في زيمبابوي، ويشغل حاليًّا منصب المدير التنفيذي لمركز الحوكمة والتنمية الإفريقية. هذه الخلفية المزدوجة –السياسية والفكرية– تمنحه قدرة فريدة على الجمع بين التحليل البنيوي العميق والوعي الواقعي بتعقيدات صنع القرار الاقتصادي في إفريقيا.
ينتمي “مويو” إلى تقاليد الفكر الإفريقي النقدي الذي لا يكتفي بوصف الأعراض، بل يَنْفُذ إلى جذور التبعية البنيوية. ومن هذا المنطلق، يُقدّم كتابه المعنون:
Africa in the Global Economy: Capital Flight, Enablers, and Decolonial Responses الصادر عن دار Springer عام 2024، كمداخلة فكرية جذرية في زمن تتصاعد فيه:
- أزمة الديون الخارجية وموجات الاقتراض الجديدة.
- الهيمنة المتجددة للمؤسسات المالية الدولية.
- وتضخّم الخطاب الغربي الذي يُصوِّر إفريقيا كـ”مَدِينة دائمة (مُثْقَلة بالديون)” أو “عبء على النظام العالمي”.
في مواجهة هذه السرديات السائدة، يُقدِّم “مويو” قراءة مضادة، ترى أن القارة ليست ضحية لعَجْز داخلي، بل مُمَوِّلة صافية للنظام العالمي، تُستنزف ثرواتها بآليات قانونية ومعرفية معولمة. ومن هنا، يُعدّ الكتاب صرخة فكرية وإستراتيجية لاستعادة السيادة الاقتصادية الإفريقية عبر أدوات تحليلية ومؤسسية بديلة.
ثانيًا: إفريقيا ليست قارة مدينة… بل مُمَوِّلة صافية للنظام العالمي
يُقوّض غوردن مويو في هذا الكتاب واحدة من أكثر السرديات رسوخًا في الخطاب الدولي حول إفريقيا، وهي صورة القارة باعتبارها منطقة “تعتمد على المساعدات” و”مُثْقَلة بالديون”. ويطرح في المقابل أطروحته الجوهرية:
إفريقيا ليست مدينة، بل دافعة صافية لرأس المال العالمي.
يشير “مويو” إلى أن القارة تخسر سنويًّا أكثر من100 مليار دولار نتيجة ممارسات مالية غير عادلة، تتراوح بين:
- التهرب الضريبي المنظَّم.
- التسعير التحويلي لصادرات المواد الخام.
- تحويل الأرباح عبر الشركات متعددة الجنسيات.
- والاستثمارات “الشبحية” التي تمرّ عبر قنوات قانونية مصمَّمة بعناية لخدمة مصالح الأسواق المالية العالمية.
ويُظهر المؤلف أن هذه التدفقات العكسية للثروات لا تُعدّ مجرد استثناء، بل هي جزء بنيوي من آليات “الاستعمار المالي الجديد” الذي تُمارسه بنوك عالمية، وملاذات ضريبية، ونُخَب محلية متواطئة. هذا النزيف المالي يُضْعِف قدرة الدول الإفريقية على تمويل أولوياتها التنموية، ويُبقيها في موقع التابع، مهما بلغت ثرواتها الطبيعية أو إمكانياتها البشرية. ويُشدّد “مويو” على أن هذه العلاقة غير المتكافئة لا تُفْهَم عبر مؤشرات الديون أو القروض فقط، بل من خلال تحليل بنية النظام المالي العالمي التي تسمح بإعادة إنتاج التبعية من خلال أدوات “قانونية” تخدم الهيمنة، لا التنمية.
ثالثًا: النظام المالي العالمي كأداة لإدامة التبعية البنيوية
يذهب غوردن مويو إلى أبعد من التشخيص التقليدي لاختلالات التمويل الدولي، ويُقدِّم تفكيكًا دقيقًا لما يسميه “البنية الفوقية المالية العالمية”، وهي شبكة من الآليات والمؤسسات والقواعد المصمّمة بعناية لإبقاء الدول الإفريقية في حالة تبعية مالية دائمة.
يرى المؤلف أن هذا النظام ليس محايدًا أو عفويًّا، بل هو نِتاج هندسة مقصودة تخدم مراكز القوة المالية الدولية. وتشمل ملامح هذه البنية:
- المراكز المالية العالمية (في الغرب والشرق على السواء)، التي تعمل كـ”مغناطيس جاذب” لرؤوس الأموال المُهرَّبة من إفريقيا، عبر سياسات إغراء ضريبي وعمليات سرية مصرفية مشروعة.
- شبكات محامين ومحاسبين دوليين تقوم بتصميم هياكل تهرُّب ضريبي مُعقَّدة لصالح الشركات متعددة الجنسيات، بما يحرم الدول الإفريقية من عوائدها الحقيقية.
- ترسانة من القوانين المالية الغربية التي تمنح شرعية قانونية لهذه التدفقات الخارجة، وتحمي أرباح الشركات العابرة للقارات من أيّ مساءلة سيادية.
- المؤسسات المالية الدولية (مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي)، التي تفرض برامج “الإصلاح الاقتصادي” المشروطة، والتي غالبًا ما تُفقد الدول الإفريقية السيطرة على سياساتها المالية والنقدية.
ويؤكد “مويو” أن هذا النظام لا يعمل على هامش الدولة الإفريقية، بل يخترق مؤسساتها ويعيد توجيه أولوياتها، بحيث تصبح التنمية مرهونة بإرضاء الأسواق والمؤسسات المانحة، لا بالاحتياجات الفعلية للمجتمعات المحلية. في هذا الإطار، يصف “مويو” المنظومة المالية العالمية بأنها “شكل ناعم من أشكال الاستعمار المعولم“، تعمل بلا جيوش، ولكن بفاعلية تفوق أدوات الاحتلال التقليدي.
رابعًا: النُّخَب الإفريقية… شريك محلي في منظومة النهب المالي العالمي
لا يكتفي غوردن مويو في كتابه بتوجيه النقد إلى المنظومة المالية الدولية، بل يُسلِّط الضوء على الدور المركزي للنخب الإفريقية في تسهيل استنزاف موارد القارة، وشرعنة التبعية البنيوية للمراكز الرأسمالية العالمية.
يُظهر “مويو” كيف تحوّلت قطاعات من النخب السياسية والاقتصادية إلى وكلاء محلّيين للاستعمار المالي الجديد، من خلال تمرير سياسات الخصخصة، والانفتاح غير المنضبط للأسواق، وتوقيع اتفاقيات تجارية غير متكافئة، غالبًا ما تُصاغ خارج حدود القارة.
هذه النخب، بحسب مويو، لا تعمل ضد شعوبها فحسب، بل تتماهى مع مصالح الخارج؛ حيث:
- يُحوّل كثير منهم أصوله وأرباحه إلى حسابات مصرفية خارجية.
- ويُبقي استثماراته في ملاذات آمنة بعيدة عن الرقابة المحلية.
- ويتبنَّى خطابًا “تنمويًّا” ظاهريًّا يُخفي مصالحه الطبقية العالمية.
ويمضي المؤلف في وصف هذه الفئة بأنها “اليد الداخلية للمنظومة الخارجية“، معتبرًا أنها تلعب دور الوسيط الذي يربط بين البنية المالية العالمية والمجتمعات المحلية، دون أيّ التزام حقيقي بالمشروع التنموي الوطني أو القاري.
ويحذر “مويو” من أن بقاء هذه النُّخَب في مواقع القرار يُضْعِف أيّ إمكانية لبناء سيادة مالية حقيقية؛ لأن معركة التحرُّر لا يمكن أن تُخاض ضد الخارج فقط، بل يجب أن تشمل أيضًا “تفكيك التواطؤ الداخلي“ كشرط ضروريّ لأيّ مشروع تحرّري حقيقي.
خامسًا: نحو تحرُّر مالي ديكولونيالي… استعادة السيادة من الداخل والخارج
لا يتوقف غوردن مويو عند تفكيك بنية التبعية المالية التي تُكبِّل القارة، بل يُقدّم رؤية بديلة تُراكم على تقاليد فِكْر التحرر الإفريقي، وتُبلور ما يسميه بـ“التحرر المالي الديكولونيالي“، وهو مشروع مزدوج الأبعاد: تحرُّر معرفي من المفاهيم النيوليبرالية الغربية، وتحرُّر مؤسسي من الهياكل التي تُعيد إنتاج التبعية. يرى المؤلف أن استعادة السيادة الاقتصادية تَمُرّ عبر بناء أدوات ذاتية تستجيب لخصوصية الواقع الإفريقي، وتقطع تدريجيًّا مع “منطق المركز”. ومن أبرز مقترحاته العملية:
- تأسيس وكالة تصنيف ائتماني إفريقية مستقلة (PACRA) لتقويض هيمنة وكالات التصنيف الغربية التي تُقيّم اقتصادات القارة وفق معايير تخدم مصالح الأسواق المالية الدولية.
- تعزيز آليات استرداد الأموال المنهوبة: من خلال التعاون القضائي الإقليمي، وتطوير بنية رقابية تُلاحق حركة رؤوس الأموال غير المشروعة داخل القارة وخارجها.
- توسيع إطار التعاون الاقتصادي القاري: بدعم التكامل المالي بين الدول الأعضاء في الاتحاد الإفريقي، وتأسيس بنوك واستثمارات إقليمية تُقلِّل من الاعتماد على المؤسسات الغربية.
- إصلاح جذري في مناهج تدريس الاقتصاد والمالية: بإعادة الاعتبار للمدارس الفكرية النقدية، وتفكيك المناهج المستنسخة من جامعات الشمال العالمي، والتي غالبًا ما تُقْصِي السياق الإفريقي.
- تبنّي استراتيجية “فك ارتباط انتقائي“(Selective Delinking) :، وهي مقاربة مرنة تسعى إلى تقليص الاعتماد على النظام المالي الدولي دون الانعزال الكامل، بما يُتيح هامشًا أكبر لبناء قرارات سيادية.
ويؤكد “مويو” أن هذا المشروع البديل لا يُمكن أن يتحقق دون بناء تحالفات معرفية ومؤسسية داخل القارة، تعيد تعريف التنمية بعيدًا عن مؤشرات المؤسسات المانحة، وتقاربها من زاوية العدالة الاقتصادية والكرامة السيادية.
سادسًا: أهمية الكتاب وحدود رؤيته
يُمثِّل كتاب “Africa in the Global Economy” تدخلًا فكريًّا نوعيًّا في حقل الاقتصاد السياسي الإفريقي، ويُعدّ من بين الأعمال القليلة التي لا تكتفي بتوصيف مظاهر التبعية المالية، بل تعود إلى جذورها البنيوية المتجذّرة في النظام الرأسمالي العالمي.
وتكمن قيمة الكتاب الأساسية في أنه يربط بين:
- نقد النظام المالي العالمي كأداة استعمارية ناعمة.
- وطرح بدائل ديكولونيالية تستند إلى المعرفة الإفريقية وتجارب التحرر.
ينتقل المؤلف بجرأة من التحليل إلى التنظير، ومن التشخيص إلى تقديم مقترحات عملية تُمكِّن القارة من استعادة سيادتها المالية عبر أدوات مؤسسية ومعرفية تتجاوز منطق الإصلاح السطحي. لكن على الرغم من قوة الطرح، تبقى هناك فجوات تحتاج إلى تطوير، أبرزها:
- غياب التفصيل الكافي لدور المؤسسات الإفريقية الإقليمية (مثل بنك التنمية الإفريقي، أو اتفاقية التجارة الحرة القارية) في مقاومة منظومة التبعية المالية.
- ضعف التغطية لجهود التكامل المالي داخل القارة، التي بدأت تشهد بعض التقدم في السنوات الأخيرة.
- تركيز أكبر على التواطؤ الداخلي مقارنةً بتقديم خرائط تحالفات بديلة فعلية على المستوى الإفريقي.
ورغم هذه الملاحظات، يبقى الكتاب مرجعًا فكريًّا مهمًّا للباحثين وصُنّاع السياسات والمفكرين المهتمين بإعادة بناء منظومة اقتصادية إفريقية مستقلة وذات سيادة، في مواجهة نماذج التبعية “المُقنَّعة” التي تُعيد إنتاج الهيمنة باسم التنمية.
سابعًا: خاتمة مفتوحة… بين تحرُّر رأس المال وتحرُّر إفريقيا
في كتابه “Africa in the Global Economy” لا يقدّم غوردن مويو مجرد دراسة في الاقتصاد السياسي، بل يُطلق صرخة فكرية عاجلة في وجه منظومة مالية عالمية تُعيد إنتاج الاستعمار بآليات ناعمة، وعبر أدوات تبدو “قانونية” ومنظّمة، لكنها تُفضي في جوهرها إلى سلب السيادة وتجريد الدولة الإفريقية من أدواتها الأساسية.
أهمية هذا العمل لا تكمن فقط في محتواه، بل في توقيته؛ فنحن اليوم أمام قارة:
- تترنّح تحت وطأة الديون.
- وتواجه موجات تقشُّف جديدة تحت مسميات “الإصلاح”.
- وتُحاصَر بخطابات دولية تُحمّلها مسؤولية أزماتها، دون الاعتراف بالبنية الدولية الظالمة التي وُضعت داخلها.
وفي هذا السياق، يطرح مويو السؤال الجوهري الذي يُشكِّل عُمق أطروحته: هل تستطيع إفريقيا أن تتحرَّر ماليًّا كما تحررت سياسيًّا؟ أم أن معركة التحرير الحقيقي لم تبدأ بعدُ، طالما أن رأس المال الإفريقي لا يزال مُحتجزًا في الخارج، ومؤسسات القرار الاقتصادي لا تزال تُدار من خارج القارة؟
إن الكتاب لا يغلق باب الإجابة، بل يفتحه على مصراعيه، واضعًا أمام القارئ خريطة أولية لطريق التحرر المالي، يشترط فيها التحرر المعرفي، وبناء المؤسسات، وتفكيك التواطؤ الداخلي، وإعادة توجيه السيادة من الخارج إلى الداخل. وفي ظل عالم متغيّر، يبدو أن المعركة القادمة ليست على الموارد فحسب، بل على مَن يملك حقّ تعريف التنمية، ومَن يُحدِّد شروطها، ومَن يحصد ثمارها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المرجع:
Moyo, G. (2024). Africa in the Global Economy: Capital Flight, Enablers, and Decolonial Responses. Springer. https://doi.org/10.1007/978-3-031-51000-7