نِهاد محمود
باحثة دكتوراه بكلية الدراسات الإفريقية العليا- جامعة القاهرة
مُقدِّمَة:
على الرغم من الصورة النمطية السلبية التي يحاول البعض -وبخاصة في الغرب- الترويج لها وترسيخها عن إفريقيا، باعتبارها قارة غارقة في الفشل والصراعات والانهيارات؛ فقد ظهرت في السنوات الأخيرة إسهامات بحثية تسعى إلى نقد هذه النظرة الأحادية (أو كما يُطلَق عليها “القصة الوحيدة عن إفريقيا”).
وفي هذا السياق، يأتي كتاب الباحثة الأمريكية إيرين أكامبو هيرن Erin Accampo Hern، أستاذة العلوم السياسية المساعدة في جامعة سيراكيوز بنيويورك، المعنون “تفسير أسباب النجاحات الإفريقية… ليس كل شيء ينهار دائمًا”، ليُمثّل مساهمة علمية بارزة من خارج القارة، تُسلِّط الضوء على الجوانب الإيجابية والإنجازات المُحقَّقة في عدد من البلدان الإفريقية.
وعليه، ينطلق الكتاب من فرضية بسيطة لكنّها عميقة الدلالة مفادها: “لماذا تتمكَّن بعض الدول الإفريقية من تجاوز عقباتها الهيكلية والسياسية، في حين تتعثر دول أخرى في ظروف مشابهة؟”.
وللإجابة عن هذا التساؤل، تعتمد المؤلفة تحليلًا مقارنًا بين نماذج إفريقية متباينة، بعضها حقق نجاحًا نسبيًّا، والآخر واجه تعثرًا واضحًا، ويعتمد هذا التحليل على أدوات منهجية دقيقة، بغرض استكشاف العوامل التي مهَّدت لنجاح بعض التجارب الإفريقية رغم هشاشة السياق المحيط بهم، وفي المقابل، تفكيك الأسباب التي أعاقت بلدانًا أخرى عن اللحاق بمسار التنمية أو الاستقرار.
أولًا: أهمية الكتاب
تكمن أهمية كتاب “تفسير أسباب النجاحات الإفريقية… ليس كل شيء ينهار دائمًا” -الصادر عام 2023م عن دار “لين ريـنر للنشر” بمدينة بولدر (بكولورادو)-، في تقديم مؤلفته طرحًا مختلفًا عن الصورة النمطية السائدة حول إفريقيا في الأدبيات الغربية، والتي غالبًا ما تركز على إخفاق وتراجع القارة، وبدلاً من ذلك، يتناول الكتاب نماذج واقعية لنجاحات تحققت في مجالات متنوعة مثل الاقتصاد، والتعليم، والصحة، والحوكمة، وتكيُّف المدن مع تغيّر المناخ وغيرها.
كما تأتي أهمية الكتاب في كونه لا يكتفي بتسليط الضوء على النجاحات الإفريقية، بل يدعو إلى مراجعة طريقة فهمنا للواقع الإفريقي، لا سيما وأنه يتناول بعض حالات الإخفاق في القارة الإفريقية من زاوية تحليلية ناقدة تسعى إلى فهم جذور هذه الإخفاقات، لا من أجل التعميم أو الوصم، بل بهدف تحويل التعثر إلى فرصة للتقدم والتحسين، ولذا يُعدّ الكتاب مصدرًا مفيدًا للباحثين والمهتمين بقضايا التنمية في إفريقيا.
ثانيًا: بنية وتقسيم الكتاب
يتألف الكتاب من 7 فصول، يتناول كلّ منها جانبًا مختلفًا من تجارب النجاح والتعثر في إفريقيا، من خلال تحليل مقارن ومُعمّق لحالات مختارة، وذلك على النحو التالي:
الفصل الأول: النجاحات في إفريقيا: الأسباب والكيفية
يركّز الفصل الأول على تغيير السردية السائدة عن إفريقيا بأنها قارة فاشلة ومليئة بالأزمات، ومِن ثَمَّ تسعى المُؤلِّفة إلى تسليط الضوء على قصص النجاح في مجالات متعددة مثل الاقتصاد، الحكم الرشيد، الصحة العامة، عبر تحليل مقارن من أجل استخلاص العوامل المشتركة وراء هذه النجاحات، من خلال المقارنة بين حالات الأكثر اختلافًا والأكثر تشابهًا.
الفصل الثاني: تجاوز العقبات أمام النمو الاقتصادي
يناقش هذا الفصل مجموعة من النظريات التي تُفسِّر الأداء الاقتصادي، ويطرح تساؤلات جوهرية مثل: لماذا تُعدّ بعض البلدان أكثر ثراءً من غيرها؟ وما الذي يتطلبه الأمر لكي يتمكّن بلد فقير من تحقيق التنمية الاقتصادية؟ وهي قضايا تكتسب أهمية خاصة في السياق الإفريقي؛ حيث شهدت القارة في القرن الـ21 معدلات نموّ اقتصادي مثيرة للإعجاب، لكنّ الكثير من هذه الثروة ظل محصورًا في أيدي القلة، بينما استمر الفقر في الهيمنة على قطاعات واسعة من السكان.
ويخلص الفصل إلى أن العامل الحاسم في نجاح بعض النماذج الإفريقية لم يكن الموقع الجغرافي أو الموارد الطبيعية، بل السياسات الحكومية الموجّهة (Directed Development) التي لعبت دورًا أساسيًّا في تحفيز النمو الاقتصادي وتحقيق التنمية.
الفصل الثالث: التوجّه نحو الحكم الرشيد
يركّز هذا الفصل على النجاح المحقّق في التوجُّه نحو الحوكمة، بالتطبيق على حالَتَي بوتسوانا وموريشيوس، وخلال هاتين الحالتين يوضح الفصل أن الأداء الجيد في هذا المجال ارتبط بجودة المؤسسات السياسية، والقيادة الرشيدة التي تولَّت زمام البلاد بعد الاستقلال، والمؤسسات القانونية المستقرة، مقابل حالات مغايرة مثل أوغندا وجزر القمر.
ويخلص الفصل إلى أن جودة الحكم تلعب دورًا حاسمًا في تحديد نوعية حياة المواطنين؛ فحين تكون الحكومة ضعيفة، فاسدة، أو غير فعَّالة، ينعكس ذلك سلبًا على قدرتها في تقديم الخدمات الأساسية مثل التعليم، الصحة، والبنية التحتية، ويؤدي إلى إضعاف النظام القانوني والاقتصاد، ومِن ثَمَّ يُعدّ الحكم الرشيد شرطًا أساسيًّا للتنمية، في حين أن غيابه يؤدي إلى سلسلة من الأزمات والتحديات التي تمسّ حياة الناس بشكل مباشر.
الفصل الرابع: الاستجابة الإفريقية (الصحية) تجاه الملاريا
يتناول هذا الفصل تجارب عدد من الدول الإفريقية في مجال الصحة العامة، مع التركيز على جهود مكافحة الملاريا. ويوضح أن النجاح في هذا المجال لا يقتصر على الدول ذات الموارد المرتفعة، بل يمكن تحقيقه حتى في البلدان ذات القدرات المالية واللوجستية المحدودة؛ بشرط وجود مشاركة فعّالة من الجهات الفاعلة المحلية.
ومن خلال تحليل حالات مثل ملاوي، غينيا بيساو، غانا، وأوغندا، يبرز الفصل أهمية إشراك شركاء محليين يمتلكون الإرادة والقدرة على تنفيذ التدخلات الصحية على نطاق وطني. كما يشير إلى أن التقدم في مجال مكافحة الملاريا قد يكون مؤشرًا على قدرة بعض الدول على التصدي لتحديات صحية أخرى كالسُّل وفيروس نقص المناعة.
ويخلص الفصل إلى أن النجاح في تحسين الصحة العامة ممكن حتى في البيئات الصعبة، عندما يتم توجيه الجهود بالشكل المناسب ووفق فهم دقيق للسياق المحلي.
الفصل الخامس: التخطيط الحضري من أجل التكيُّف مع التغيُّر المناخي
يتطرق هذا الفصل إلى دور التخطيط الحضري في التكيُّف مع تغيُّر المناخ من خلال تحليل حالتي لاجوس في نيجيريا وديربان في جنوب إفريقيا؛ حيث طوَّرت كلتا المدينتين إستراتيجيات لمواجهة تحديات مناخية مثل الفيضانات والحرارة والتوسع العشوائي.
ويؤكد الفصل أن القادة المحليين المؤهلين كانوا العامل الحاسم في نجاح هذه الجهود، وليس فقط توافر الموارد، كما يشدّد على ضرورة دَمْج المناخ في السياسات الحضرية بشكلٍ استباقي.
ويخلص إلى أن المدن الإفريقية قادرة على تحقيق نتائج فعَّالة إذا توفرت الإرادة السياسية والتنسيق المحلي.
الفصل السادس: تجارب نسائية ناجحة
يستعرض هذا الفصل تجارب ناجحة مثل رواندا والسنغال في تعزيز دور المرأة في الحياة العامة، مقارنةً بدول أخرى مثل غينيا وبوروندي لم تُحقّق تقدمًا مماثلًا، ويُظهر أن القوانين التي تبنّتها البرلمانات، بدعم مباشر من القيادة السياسية، كان لها دور كبير في تحسين أوضاع النساء.
الفصل السابع: النجاحات الإفريقية من منظور مقارن
يُختتم الكتاب بمقارنة النجاحات الإفريقية بتجارب من دول خارج القارة، مما يساعد على اختبار مدى عمومية النظريات المفسِّرة للنجاح، ويُعزّز فكرة أن “النجاح في إفريقيا” ليس استثناءً، بل واقع يمكن دراسته والاستفادة منه.
ثالثًا: أهم الأفكار والمضامين
نحاول في هذا الإطار استعراض عدد من الأفكار والمضامين التي تُشكّل العمود الفقري لتحليل الكاتبة المقارن حول النجاحات والتحديات في القارة الإفريقية، ولا تنطلق هذه المضامين من مقولات جاهزة أو نظريات مسبقة، بل تُبنَى من خلال تحليل واقعي لحالات إفريقية متنوعة، وهو ما يؤدي -وفقًا لطرح الباحثة الأمريكية- إلى تجاوز السرديات النمطية التي تختزل إفريقيا في مشاهد الفشل والانهيار، والاقتراب من واقع أكثر تعقيدًا وتنوعًا، تُبرز فيه النجاحات لا بوصفها استثناءات عابرة، بل كمؤشرات على إمكانات كامنة تستحق الفهم والتكرار، وعليه نستعرض أبرز هذه الأفكار كما يلي:
1- حين تصنع الدولة الفارق.. دور السياسات الموجّهة في تجاوز القيود الهيكلية
تقدم الكاتبة في هذا القسم من الكتاب تحليلاً معمقًا لتجربتي سيشل والجابون باعتبارهما نموذجين للنجاح في القارة الإفريقية، رغم اختلاف ظروفهما الجغرافية والسياسية والتاريخية، وفي هذا الإطار تنطلق “هيرين” من تساؤل رئيس مفاده: لماذا تُحقِّق بعض الدول الإفريقية معدلات مرتفعة في النمو الاقتصادي والتنمية البشرية، في حين تعجز دول أخرى مجاورة أو شبيهة في ظروفها عن تحقيق نتائج مماثلة؟
ومن خلال استخدام مؤشر التنمية البشرية (HDI) كمقياس رئيس، يتأكَّد أن النمو الاقتصادي لا يُقاس فقط بالناتج المحلي الإجمالي، بل أيضًا بمستويات التعليم والصحة والدخل الحقيقي.
إلا أن المفارقة اللافتة تكمن في أن النمو الملحوظ الذي شهدته إفريقيا خلال القرن الـ21 ظل محصورًا في نطاق النخب، فيما استمرت معدلات الفقر مرتفعة، لا سيما في الدول غير المنتجة للنفط.
وفي هذا الإطار يستعرض الكتاب 10 نظريات كبرى تُفسِّر الأداء الاقتصادي للدول الإفريقية، موزعة بين نظريات بنيوية وتاريخية (مثل الجغرافيا والإرث الاستعماري)، ونظريات مؤسساتية (تتعلق بقواعد اللعبة الاقتصادية والسياسية)، ونظريات ترتبط بالسياسات العامة، وأخرى ذات طابع اجتماعي وثقافي (مثل الانقسامات الإثنية والدينية)، غير أن التحليل المقارن لسيشل والجابون يُظهر أن العامل الوحيد المشترك القادر على تفسير النجاح في البلدين هو تبنيهما سياسة “التنمية الموجهة”؛ أي تدخل الدولة بشكلٍ مؤقَّت ومركَّز لتطوير قطاعات اقتصادية واعدة عبر الدعم المالي والبنية التحتية والحوافز الاستثمارية، وهي سياسة عُرفت في تجارب “النمور الآسيوية”، وظهرت كذلك في هذين البلدين الإفريقيين (سيشل والجابون).
وتخلص المقارنة بينهما إلى أن الزعماء في سيشل والجابون تبنّوا سياسة التنمية الموجهة مدفوعين بضرورات البقاء السياسي؛ ففي سيشل، لكسب دعم جماهيري واسع؛ وفي الجابون، لإعادة تشكيل شبكات الولاء في ظل تراجع عائدات النفط، وفي الحالتين، لعب الاستثمار الخارجي دورًا داعمًا، وإن اختلفت مصادره ودوافعه.
ومن خلال تجربتي سيشل والجابون، تؤكد الكاتبة على أن التاريخ الاستعماري والموقع الجغرافي لا يشكلان قدرًا محتومًا يقود إلى الفشل، بل إن السياسات العامة الواعية، المدفوعة باعتبارات سياسية واقعية، قادرة على إحداث فارق حقيقي، حتى في ظل أوضاع داخلية أو إقليمية معقدة.
2- الحوكمة الإفريقية خارج القوالب الغربية:
يركز هذا الفصل على تفكيك الصورة النمطية التي يتم تعميمها حول فشل الحوكمة في إفريقيا، ويطرح رؤية تحليلية تسعى لتقديم مقاربة أكثر توازنًا لما يجري فعليًّا داخل القارة؛ إذ إن اختزال إفريقيا في خطاب “سوء الحكم” أو “الدولة الفاشلة” يغفل عن تحولات هامة جارية في أكثر من بلد، ويغيّب الفوارق بين أنظمة الحكم المتنوعة، ويقلل من أهمية المكاسب التدريجية التي حققتها بعض الدول في مسار الديمقراطية كتعزيز المشاركة، ومحاربة الفساد، وتحقيق نوع من الاستقرار المؤسسي.
وتؤكد “هيرين” في هذا الإطار، على أن مفهوم الحوكمة في السياق الإفريقي لا يمكن فهمه بالاعتماد على مؤشرات جاهزة ومعايير نمطية مستوردة من أنساق غربية، بل إن الأمر يتطلب تحليلًا أعمق يأخذ في الحسبان الديناميكيات المحلية (العلاقة بين السلطة والمجتمع)، بما في ذلك الدور الذي تلعبه البِنَى التقليدية، والمنظمات غير الحكومية، والشبكات غير الرسمية في تشكيل السلطة وتوزيعها.
ومن هنا، تشير الكاتبة إلى أن إصلاح الحوكمة في إفريقيا لا يتوقف على المسارات الشكلية فحسب، بل يرتبط بتحسين فعالية الدولة في تقديم الخدمات، وبناء الثقة بين المواطنين والمؤسسات، وإيجاد توازن بين السلطات المركزية والمحلية. كما أن بعض النجاحات لا تأتي بالضرورة من الديمقراطية بمعناها الغربي، بل من ممارسات واقعية تراعي الخصوصية الإفريقية، وتُؤسِّس لنوع من الشرعية القائمة على الأداء والكفاءة، كما في رواندا أو إثيوبيا (سابقًا)، رغم الجدل الذي يثيره النموذج الديمقراطي هناك.
بوجه عام، يشدد هذا الجزء من الكتاب على أن الخطاب السائد حول فشل الحوكمة في إفريقيا كثيرًا ما يُستخدم كذريعة للتدخل الخارجي أو كوسيلة لوصم دول القارة بصورة غير منصفة، وفي المقابل، يلفت طرح الكتاب إلى أن جانبًا كبيرًا من التحديات التي تواجه أنظمة الحكم الإفريقية يرتبط بطبيعة النظام الدولي نفسه، وما يفرضه من شروط غير متكافئة وهياكل اقتصادية مفروضة من الخارج. ومع ذلك، يرى الكتاب أن هناك فرصًا حقيقية لبناء نُظُم حكم أكثر فاعلية من الداخل، من خلال تعزيز الشفافية، وتمكين المؤسسات المحلية، وتوسيع المشاركة الشعبية، بما يراعي الخصوصية السياسية والاقتصادية، وحتى الثقافية والاجتماعية، لكل بلد.
3– إعادة هندسة الحيّز الحضري لمواجهة الأزمات البيئية:
يركز الكتاب هنا على قدرة المدن الإفريقية على مواجهة التغير المناخي من خلال أدوات مبتكرة للتخطيط الحضري، باعتباره مدخلًا مهمًّا في التكيُّف وبناء المرونة الحضرية، وفي هذا الإطار تبرز الكاتبة أن التحضر في إفريقيا يتّسم بمسارين متوازيين؛ من جهة، هو فرصة اقتصادية وتنموية، ومن جهة أخرى، يخلق ضغوطًا بيئية واجتماعية متزايدة، لا سيما في ظل البنية التحتية المتهالكة، والنمو السكاني السريع، وتفاوت القدرات المؤسسية.
وفي هذا السياق، يُعدّ التخطيط الحضري أداة محورية لإعادة تنظيم العلاقة بين الإنسان والمكان بطريقة تُعزّز من قدرة المدن على الصمود أمام الظواهر المناخية الحادة مثل الفيضانات، وموجات الجفاف، والحرارة المرتفعة.
من ناحية أخرى، يناقش الكتاب بعض التجارب الناشئة في القارة التي تُظْهِر وعيًا متزايدًا بأهمية دمج اعتبارات المناخ في السياسات الحضرية، مثل وضع خطط استخدام الأراضي التي تأخذ بعين الاعتبار المخاطر المناخية، وتحسين شبكات النقل والمرافق لتكون أكثر استدامة ومرونة، إلا أن هذه المبادرات تصطدم بعوائق كبيرة، على رأسها ضعف التمويل، وتضارب السياسات، والمركزية المفرطة التي تَحُدّ من قدرة السلطات المحلية على اتخاذ قرارات ملائمة وسريعة.
كما تشير الكاتبة إلى ضرورة إشراك المجتمعات المحلية في عمليات التخطيط الحضري المناخي، باعتبارها الفاعل المباشر والأكثر تضررًا من آثار التغير المناخي؛ فالمعرفة المحلية والتشاركية المجتمعية تُعدّ من الموارد غير المُستغلَّة بالشكل الكافي في بناء إستراتيجيات فعّالة للتكيف، وتخلص “هيرين” إلى أن المدن الإفريقية لا تفتقر إلى الإرادة أو الطموح، بل إلى البيئة التي تقود إلى التمكين ودولة المؤسسات التي تتيح تحويل هذه الإرادة إلى واقع ملموس، بما يشمل تمويلًا مرنًا، وقدرات بشرية مدرّبة، وإطارًا تشريعيًّا يربط التخطيط الحضري بالأجندات البيئية الوطنية والدولية.
4- إفريقيا الممكنة… قراءة في منطق النجاح لا الانهيار
يُسلّط هذا القسم من الكتاب الضوء على النجاحات المتنوعة في إفريقيا، ويدعو إلى إعادة النظر في الرؤى التقليدية التي اختزلت القارة في الفشل والانهيار، وهنا تنبه الكاتبة إلى أن تجارب الدول الإفريقية ليست متجانسة، بل تنطوي على تنوع واختلاف كبيرين، وهو ما برز في التحليل المقارن الذي شمل عددًا من الدول والمجالات داخل كل دولة.
على سبيل المثال، أظهر الكتاب أن دولًا مثل الجابون وسيشل حققت نجاحًا اقتصاديًّا من خلال تبني سياسات التنمية الموجهة، فيما تميزت دول أخرى مثل بوتسوانا وموريشيوس بحوكمة بُنِيَتْ على مؤسسات داخلية موحدة وقيادات رشيدة، وفي المقابل، مثلت ملاوي وغينيا بيساو نماذج ناجحة في مكافحة الملاريا من خلال انخراط المانحين في دعم فاعلين محليين، بينما نجحت مدن مثل لاجوس (بنيجيريا) وديربان (بجنوب إفريقيا) في التكيُّف المناخي من خلال مبادرات محلية واعية، فيما أحرز غيرهم مثل رواندا والسنغال تقدمًا كبيرًا في تمكين النساء عبر دعم تمثيلهن التشريعي.
يُختَتم هذا الفصل بنقد مُوجَّه للسردية السائدة في بعض وسائل الإعلام والأدبيات الغربية، والتي ما تزال تُصوِّر إفريقيا كقارة غارقة في الفوضى والانهيار، ويشدّد على أن إبراز نماذج النجاح الإفريقي لا يعني التغاضي عن التحديات القائمة، بل يمثل مدخلًا ضروريًّا لفهم أكثر توازنًا وواقعية للقارة، فكما أن المشكلات حقيقية وملموسة، فإن النجاحات كذلك، وهي دليل على أن مسار إفريقيا ليس محكومًا بالانحدار وحده، بل إن طرح تساؤلات من قبيل: “بماذا نجحنا؟ ولماذا؟” يُعدّ جزءًا أساسيًّا من فَهْم التجربة الإفريقية، ويُوفّر مفاتيح مهمة لإعادة إنتاج هذه النجاحات في سياقات أخرى.
خاتمة:
في ضوء ما سبق عرضه، يتّضح أن كتاب “تفسير أسباب النجاحات الإفريقية… ليس كل شيء ينهار دائمًا” يمثل مساهمة معرفيّة نوعيّة، تسعى بجدية إلى قلب المعادلة السائدة في تناول الشأن الإفريقي؛ بدءًا من التركيز على الفشل والانهيار، وحتى تحليل النجاحات وبحث شروط تكرارها، لا سيما وأن الكاتبة الأمريكية لم تكتفِ بعرض نماذج مضيئة من القارة، بل اعتمدت أدوات للتحليل المقارن لتكشف كيف يمكن لسياسات محلية مدروسة، وقيادة سياسية رشيدة، أن تصنع الفارق حتى في بيئات معقدة.
ومع ذلك، قد يُؤخذ على الكتاب أن بعض النجاحات التي يعرضها ما تزال استثنائية، أو لم تتحول بَعدُ إلى نماذج راسخة وعامة قابلة للتكرار على نطاق واسع، كما أن ربط كثير من النجاحات بالقيادة السياسية قد يطرح تساؤلات حول مدى قابليتها للاستمرار عند غياب تلك القيادة، في ظل غياب دولة المؤسسات، ما يدفع إلى التفكير في أهمية بناء مؤسسات قوية تتجاوز الأشخاص، وتُرسِّخ النجاحات كنهج لا كحالة مؤقتة ترتبط بوجود شخص بعينه.
ورغم ما قد يُثار من تحفُّظات؛ يبرز الكتاب كدعوة لإعادة الاعتبار لفكرة “إفريقيا الممكنة”، تلك التي لا تُختَزل في الهزيمة والانهيار، بل تحثّ على إعادة التفكير في المقاربات التي تُستخدَم لتحليل واقع القارة، بحيث تشمل كلًّا من النجاحات والإخفاقات، باعتبارهما مدخلين متكاملين لفَهْم أعمق وأكثر إنصافًا وواقعية.
وكما يقول المثل السواحيلي من شرق إفريقيا “التيه هو السبيل لمعرفة الطريق”، ما يعني أن التعثُّر لا يتناقض مع النجاح، بل يُعدّ خطوة في مساره، فالتجربة الحقيقية لا تُبنَى على النجاحات وحدها، بل على كل ما تَحمله التجربة من إخفاقات ودروسٍ وعِبَر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصدر الكتاب:
Erin Accampo Hern, Explaining Successes in Africa: Things Don’t Always Fall Apart, (Boulder: Lynne Rienner Publishers, 2023).