نِهاد محمود
باحثة دكتوراه بكلية الدراسات الإفريقية العليا- جامعة القاهرة
تمهيد:
أضحت الرياضة في إفريقيا مجالًا مركبًا تتقاطع فيه اعتبارات السياسة والاقتصاد والثقافة، فلم تَعُد مجرد ساحة للتنافس أو وسيلة للمتعة، بل صناعة متشابكة ترتبط بالاستثمار في البنية التحتية، وحقوق البثّ، والرعاية التجارية والتكنولوجيا الرقمية. وتكفي الإشارة إلى أن البطولات الإفريقية الكبرى مثل كأس الأمم الإفريقية ودوري أبطال إفريقيا تُتابَع مِن قِبَل ملايين المشاهدين داخل القارة وخارجها، وهو ما يَعكس التحوُّل الكبير في مكانة الرياضة كأداة للتأثير وصناعة الصورة الذهنية عن إفريقيا عالميًّا.
وفي هذا السياق، يكتسب تقرير حالة الرياضة وصناعتها في إفريقيا لعام 2025م، الصادر عن المعهد الإفريقي للرياضة والإبداع(ASCI) African Sports and Creative Institute أهميته؛ إذ يُقدّم قراءة مفصَّلة حول حجم التحولات التي يشهدها القطاع الرياضي في إفريقيا والفرص الكامنة فيه، كما يُوضّح كيف يمكن لإفريقيا أن تستثمر في نموذج (U-GO) القائم على ثلاث ركائز أساسية؛ هي: فهم اللعبة Understand the Game، وتنمية اللعبة Grow the Game، وامتلاك اللعبة Own the Game، وهي مقاربة تسعى إلى جَعْل الرياضة رافعة إستراتيجية للنمو، ومكوّنًا أصيلًا في التنمية المستدامة بالقارة،
ومن هذا المنطلق نحاول استعراض أبرز ما ورد في التقرير وفقًا للمحاور الرئيسة التالية:
- أولًا: صناعة الرياضة في إفريقيا… نظرة عامة.
- ثانيًا: الألعاب الإلكترونيّة… سوق ناشئة في سياق عالمي متنامٍ.
- ثالثًا: البنية التحتيّة الرياضيّة… من الملاعب المتهالكة إلى الإستادات العالمية.
- رابعًا: صناعة الرياضة في إفريقيا… الإمكانات والتحدّيات.
- خامسًا: الرياضة والمحافل الدوليّة… صناعة صاعدة وفرص للتنمية.
- خاتمة.
أولًا: صناعة الرياضة في إفريقيا… نظرة عامة
شهدت صناعة الرياضة في إفريقيا خلال السنوات الأخيرة زخمًا متزايدًا مدفوعًا بتركيبتها السكانية المتميزة؛ حيث تُعدّ القارة موطنًا للنسبة الأكبر من أصغر السكان عمرًا في العالم؛ إذ تقل أعمار 70٪ من السكان عن 30 عامًا؛ حيث يُمثّل هذا الشباب مصدرًا هائلًا للمواهب الرياضية في مختلف الألعاب.
كما أسهم تفوُّق رياضيين أفارقة بارزين عالميًّا في كرة القدم وكرة السلة والملاكمة، في تعزيز صورة القارة كمنبع للنجوم وفرص الاستثمار. ومع اتساع قاعدة الجماهير وارتفاع الدخول، يُتوقَّع أن تنمو صناعة الرياضة الإفريقية على وجه التحديد بمعدل يبلغ 8٪ خلال فترة تمتد من (3 -5) أعوام مقبلة، بدءًا من العام الحالي 2025م.
ومع ذلك، لا يخلو المشهد الرياضي الإفريقي -وفقًا لما أورده التقرير-، من تحديات تتمثل في ضعف البنية التحتية وقلة الاستثمارات، وهو ما يُعيق تطوُّر هذا القطاع، لا سيما مع الإمكانات الكبيرة للرياضة في دفع التنمية الاقتصادية والاجتماعية إلى ما يتجاوز حدود الملاعب.
وفي هذا الإطار يُشدّد التقرير على ضرورة تبنّي الإستراتيجيات الملائمة لمواجهة العقبات وتعظيم الفرص من صناعة الرياضة، لا سيما وأن بعض الرياضات مثل كرة القدم تُمثّل القلب النابض لهذا القطاع الذي يضم ما يُقدَّر بنحو 400 مليون مشجّع، ويحتضن 54 اتحادًا عضوًا في الاتحاد الإفريقي لكرة القدم “الكاف” (CAF)، كما أنه بين عامي 2022 و2024م حقّق الاتحاد أكثر من 125 مليون دولار من الإيرادات من بطولاته المختلفة، ومِن الدَّعْم المُقدَّم من الاتحاد الدولي لكرة القدم “الفيفا” (FIFA)، ما يؤكّد أهمية كرة القدم للاقتصاد الإفريقي، كما قدَّر “الكاف” أن قرابة ملياري شخص تابعوا مباريات كأس الأمم الإفريقية 2023/2024م على الهواء مباشرة، وهو ما يكشف عن قوة الحضور الجماهيري الإفريقي، وأهمية كرة القدم كأصل اقتصادي وثقافي لا غِنَى عنه.
وتوضح الخريطة التالية أهم الألعاب الرياضية في القارة الإفريقية (كرة القدم هي اللعبة الأكثر انتشارًا):
خريطة رقم (1)
الألعاب الرياضية الأكثر شعبية في إفريقيا… كرة القدم تتصدَّر والرياضات الأخرى تُنافِس
المصدر: بتصرف من الباحثة، بحسب تقرير صناعة الرياضة في نسخته الإنجليزية لعام 2025م، ص37.
تكشف الخريطة أعلاه عن استمرار هيمنة كرة القدم باعتبارها الرياضة الأولى في معظم الدول الإفريقية، بما يعكس حضورها الطاغي في الوجدان الشعبي الإفريقي، ورغم هذه السيطرة، تُظهر الخريطة أيضًا تنوعًا متناميًا في اهتمامات الجمهور الإفريقي؛ حيث برزت كرة السلة في عدد من دول غرب ووسط إفريقيا، إلى جانب الملاكمة التي تحظى بجماهيرية واسعة في بلدان مثل غانا وجنوب إفريقيا. كما يشير اتساع رقعة فنون القتال المختلطة (MMA) إلى دخول رياضات جديدة على الساحة الإفريقية، وهو ما يعكس التحولات الثقافية وتزايد التأثر بالاتجاهات العالمية.
ويُعزّز هذا التباين الجغرافي في أنماط الممارسة من فرص الاستثمار الرياضي في مجالات متعدّدة، بدءًا من الملابس والأحذية إلى المكملات الغذائية والإكسسوارات، بما يجعل الرياضة منصة استهلاكية صاعدة تتجاوز حدود الملاعب لتُشكِّل رافعة اقتصادية للقارة.
أما عن قطاع الرياضة بشكل أكثر عمومية، وما يُمثّله للعالم وإفريقيا، فيُوضّحه الشكل التالي:
شكل رقم (1)
حقائق وأرقام حول صناعة الرياضة عالميًّا وإفريقيًّا، بحسب تقرير صناعة الرياضة لعام 2025م
المصدر: من إعداد الباحثة استنادًا إلى تقرير صناعة الرياضة في نسخته الإنجليزية لعام 2025م، ص11.
يوضّح الشكل السابق الحجم المتنامي لصناعة الرياضة عالميًّا وإفريقيًّا؛ حيث يكشف أن نحو 80% من سكان العالم يُعدّون جزءًا من جمهور الرياضة، وهو ما يعكس أهميتها كظاهرة اجتماعية وثقافية عابرة للحدود، كما تمثل الرياضة ما بين 2 إلى 3% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، مع معدل نمو سنوي ثابت بلغ 5% خلال العقدين الماضيين، ومن المتوقع أن يتسارع هذا النمو ليصل إلى ما بين 5 و9% في السنوات الخمس المقبلة. وفي المقابل، لا تزال مساهمة الرياضة في الناتج المحلي لإفريقيا محدودة عند 0.5% فقط، بما يعادل نحو 14 مليار دولار، ما يكشف عن فجوة وفرص غير مستغلة يمكن أن تتحول إلى رافعة اقتصادية كبرى إذا ما تم الاستثمار فيها بالشكل الأمثل.
ثانيًا: الألعاب الإلكترونية… سوق ناشئة في سياق عالمي متنامٍ
يخصص التقرير هذا القسم للتركيز على الألعاب الإلكترونية ومنصات المشاركة الافتراضية الرقمية، والتي تشهد توسعًا متسارعًا في إفريقيا، مدفوعة بانتشار الهواتف المحمولة بين الشباب؛ حيث برزت الألعاب على الأجهزة الذكية كأحد أسرع القطاعات نموًّا في القارة.
فقد أُطلقت الرابطة الإفريقية للرياضات الإلكترونية عام 2019م لتأسيس منصة إقليمية للمسابقات، وفي الوقت نفسه تقود دول مثل جنوب إفريقيا ونيجيريا وكينيا هذا الحراك عبر تنظيم بطولات تنافسية تجذب جماهير كبيرة، كما يشهد القطاع دخول علامات تجارية عالمية كبرى مثل Razer وLogitech، مما يعكس جاذبية السوق الإفريقية.
وعلى المستوى العالمي وفقًا للتقرير، بلغت قيمة صناعة الرياضات الإلكترونية 1.72 مليار دولار في عام 2023م. أما إفريقيا، فمن المنتظَر أن يتجاوز حجم سوقها 200 مليون دولار في عام 2025م، مدعومًا بزيادة الرعاية والبثّ المباشر. ووفقًا لتقرير سوق الألعاب العالمي لعام 2023م الصادر عن Newzoo، سيصل عدد اللاعبين عالميًّا إلى 3.38 مليار لاعب بنمو سنوي قدره 6.3٪، مع مساهمة إفريقيا والشرق الأوسط بمعدل نمو 4.7٪، رغم أن حصتهما المجمعة في السوق العالمية لا تتجاوز 5٪، فيما ارتفع عدد اللاعبين في إفريقيا جنوب الصحراء من 77 مليونًا في 2015م إلى 186 مليونًا في 2021م، مما يعكس طفرة هائلة. وقد تجاوزت نيجيريا جنوب إفريقيا لتصبح السوق الأكبر في القارة بإيرادات بلغت 249 مليون دولار مقارنة بـ236 مليون دولار في جنوب إفريقيا، فيما ساهمت كينيا وإثيوبيا وغانا بشكل ملحوظ في تعزيز هذا المشهد المتنوع.
وفي هذا السياق، تُعدّ بطولة إفريقيا للرياضات الإلكترونية (AEC)، التي تأسَّست عام 2018م واحدة من أبرز المسابقات؛ حيث يتنافس لاعبون من كينيا وجنوب إفريقيا ونيجيريا في ألعاب عالمية مثل FIFA وCall of Duty. أما على مستوى الدول الإفريقية، فيبرز سوق الألعاب في مصر بقوة مع 35 مليون لاعب يمثلون 10.5٪ من سوق إقليمي بلغت قيمته 1.92 مليار دولار في عام 2023م.
ولا تزال نيجيريا واحدة من أسرع الأسواق نموًّا بإيرادات 249 مليون دولار في 2021- 2022م، بينما يُتوقّع أن ينمو سوق جنوب إفريقيا إلى 333 مليون دولار بحلول 2026م مع أكثر من 26 مليون لاعب. وفي كينيا، حقّق سوق الرياضة 46 مليون دولار خلال عام 2021م، معظمها من ألعاب الهاتف المحمول، مع توجُّه ملحوظ نحو الألعاب التعليمية، كما يؤكّد التقرير على أن انخفاض أسعار الهواتف الذكية ساعد المبرمجين المحليين على إنتاج ألعاب تحمل طابعًا إفريقيًّا يعكس الثقافة المحلية.
ثالثًا: البنية التحتيّة الرياضيّة… من الملاعب المتهالكة إلى الإستادات العالميّة
مع التحوُّلات الكبرى التي يشهدها قطاع الرياضة الإفريقي، أصبحت البنية التحتية الرياضية في قلب النقاش حول مستقبل الصناعة، فقد أبرز تقرير صناعة الرياضة لعام 2025م أن نمو وازدهار الرياضة في إفريقيا يعتمد بالأساس على تطوير مرافق قادرة على استيعاب الطاقات البشرية الضخمة للقارة؛ فالملاعب الحديثة ومراكز التدريب المتطورة ليست مجرد أماكن لممارسة الرياضة، بل أدوات إستراتيجية لجذب الاستثمارات الأجنبية وتنشيط السياحة وتعزيز صورة إفريقيا على الساحة العالمية.
ووفقًا لموقع “عالم الملاعب” World of Stadiums، تمتلك إفريقيا حاليًّا 109 ملاعب بسعة تتجاوز 30.000 متفرج، بالإضافة إلى 205 ملاعب تتسع على الأقل لـ10.000 متفرج. غير أن الصورة ليست وردية بالكامل؛ إذ ما يزال كثير من هذه الملاعب يعاني مِن قِدَم في البنية وضعف في الصيانة، وهو ما يجعلها غير مستغلَّة على النحو الأمثل، رغم ارتفاع الطلب على الفعاليات الرياضية، باستثناء بعض الدول مثل المغرب التي تتمتع ببنية تحتية أفضل نسبيًّا.
وإلى جانب الملاعب القديمة التي تتطلب صيانة وتجديدًا؛ فإن إفريقيا تشهد في السنوات الأخيرة طفرة واضحة في تشييد ملاعب جديدة بمعايير عالمية، تبرزها مشاريع ضخمة مثل ملعب الحسن واتارا في أبيدجان (بساحل العاج) بسعة 60 ألف متفرج، والذي بلغت تكلفته 257 مليون دولار، واكتمل في عام 2020م بتمويل وتنفيذ صيني، وملعب السنغال الجديد في داكار الذي يتسع لـ60 ألف متفرج، وتم إنجازه عام 2023م في غضون 18 شهرًا بتكلفة 270 مليون دولار من قِبَل شركة تركية، وكذلك ملعب نيلسون مانديلا في الجزائر بسعة 40 ألف متفرج بتكلفة 300 مليون دولار، والذي أنجزته شركة صينية على مدار 13 عامًا.
وفي هذا الإطار يتضح أن الاستثمار في البنية التحتية الرياضية لا يُعدّ مجرد إنفاق رأسمالي، بل هو استثمار اجتماعي واقتصادي شامل يُسهم في خَلْق وظائف وتنشيط قطاعات كالنقل والسياحة والإعلام والخدمات، ويمثل خطوة ضرورية إذا ما أرادت القارة أن تُحقّق هدفها بجعل الرياضة مساهمة رئيسية تصل إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي في العقود القادمة، كما أوردنا أعلاه.
ومن ناحية ثانية، يتبين أن تحسين وتوسيع البنية التحتية لا يُعزّز فقط من فرص القارة في بناء صناعة رياضية قوية، بل يرتبط ارتباطًا وثيقًا بقدرتها على الالتزام بالمعايير العالمية المطلوبة لاستضافة الأحداث الكبرى؛ فاستضافة بطولات كبرى مثل كأس العالم أو حتى الأولمبياد لن تكون ممكنة إلا إذا واصلت الدول الإفريقية الاستثمار الجادّ في تحديث منشآتها الرياضية، وربطها بشبكات نقل وإقامة وخدمات تلبّي توقعات الاتحادات الدولية والجماهير العالمية، وهو ما يجعل تطوير البنية التحتية ركيزة أساسية لتحويل الحلم إلى واقع قريب المنال.
رابعًا: صناعة الرياضة في إفريقيا… الإمكانات والتحدّيات
في هذا القسم، يكشف التقرير أن قطاع كرة القدم في إفريقيا على وجه التحديد يعاني من اختلالات مؤسسية حادّة تؤثر على استدامته المالية والتنظيمية، أبرزها الفساد وسوء توزيع الموارد داخل الاتحادات الوطنية، مثل حالة الاتحاد النيجيري الذي واجه اتهامات بإهدار الأموال المخصصة من “الفيفا”، وهو ما انعكس سلبًا على معنويات اللاعبين، وأدَّى إلى احتجاجات أثَّرت على صورة اللعبة، كما أن ضعف البنية التحتية -كما ذكرنا مسبقًا-، وتراجع الصيانة في دول مثل زامبيا جعل الملاعب غير جاذبة للجماهير والمستثمرين، وهو ما قلَّل من عوائد المباريات. ويشير التقرير إلى أن هذه التحديات تُضْعِف ثقة الرعاة والشركات الكبرى، وتُكرِّس صورة كرة القدم كقطاع غير مُنظَّم، في حين أن جزءًا كبيرًا من إمكاناته الاقتصادية لا يزال مُعطَّلًا بسبب غياب الشفافية والحوكمة.
على الجانب الآخر، يبرز التقرير أمثلة مضيئة لدول نجحت في إدارة كرة القدم بفعالية، مثل المغرب التي استثمرت في البنية التحتية وأطلقت أكاديمية محمد السادس لكرة القدم، مما ساهم في تخريج لاعبين وصلوا إلى الدور نصف النهائي في كأس العالم 2022م، إلى جانب فوزها باستضافة كأس العالم 2030م بالشراكة مع إسبانيا والبرتغال. كما تُظهر تجربة جنوب إفريقيا في الرجبي والكريكيت قدرة على تنويع مصادر الدخل من البثّ التلفزيوني والرعاية والمنتجات الرسمية، وإعادة استثمار الأرباح في تطوير الرياضة القاعدية. أما كينيا فقد رسخت مكانتها في ألعاب القوى عبر شراكات مع شركات كبرى مثل Nike وAdidas، مما وفَّر تمويلًا طويل الأمد لتطوير المواهب.
وبناء على ذلك يقترح التقرير أن كرة القدم الإفريقية تحتاج إلى تبنّي نماذج مشابهة، عبر الاستفادة من حقوق البثّ الرقمية، وتوسيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص، وإدراج برامج للتثقيف المالي للاعبين لضمان استدامة مصادر دخلهم ومستقبلهم بعد الاعتزال.
أما على صعيد صناعة الرياضة في إفريقيا بشكل عام، فيوضّح التقرير أن بيئة العمل الرياضية في القارة ما زالت تواجه العديد من التحديات، وفق ما كشفه مسح أجراه المعهد الإفريقي للرياضة والإبداع –الجهة التي أصدرت هذا التقرير-، وشمل نحو 3.000 من المتخصصين في القطاع الرياضي؛ حيث أشار الاستطلاع إلى أن أبرز المعوقات أمام تطوُّر هذا القطاع تتمثل في نقص الحوكمة والابتكار، وندرة الكوادر البشرية الماهرة، وضعف البنية التحتية، إلى جانب قصور البيانات الدقيقة التي تُعيق التخطيط والاستثمار، كما أظهرت النتائج أن هناك صعوبات متزايدة في الحصول على التمويل، وارتفاعًا في تكلفة رأس المال، إضافة إلى تعقيدات قانونية ومالية تجعل بيئة الأعمال أكثر صعوبة، ويُضاف إلى ذلك أن إفريقيا لا تستفيد سوى من 1% فقط من ميزانيات الرعاية العالمية، وهو ما يَحُدّ من قدرتها على تحويل الرياضة إلى صناعة متكاملة يمكن أن تسهم بفاعلية في دفع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، كما يوضحه الشكل التالي:
شكل رقم (2)
المعوقات الرئيسة أمام قطاع الرياضة في إفريقيا
المصدر: من إعداد الباحثة، بحسب تقرير صناعة الرياضة في إفريقيا لعام 2025م، ص11.
يتَّضح مما سبق أن الرياضة في إفريقيا، وخاصةً كرة القدم، تُواجِه تحديات كبيرة مثل الفساد وضعف البنية التحتية وقلة الشفافية، وهو ما يُعيق تطوُّرها ويُقلّل من جاذبيتها للاستثمار. وفي المقابل، تظهر تجارب دول مثل المغرب وجنوب إفريقيا وكينيا أن الإدارة الجيدة، والاستثمار في البنية التحتية، وتوسيع الشراكات يمكن أن تَفتح آفاقًا واسعة للنمو. وبناء على ذلك، فإن مستقبل صناعة الرياضة الإفريقية يعتمد على قدرتها في معالجة هذه الصعوبات وتحويل الرياضة إلى رافعة حقيقية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في القارة.
خامسًا: الرياضة والمحافل الدوليّة… صناعة صاعدة وفرص للتنمية
يركز التقرير هنا على أن مستقبل هذا القطاع -أي: قطاع الرياضة-؛ يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها القارة؛ حيث تتقاطع الرياضة مع 6 من أهداف التنمية المستدامة، من بينها الصحة الجيدة، والتعليم، والمساواة بين الجنسين، والتنمية الاقتصادية. ومن هذا المنطلق، فإن الاستثمار في الرياضة لا يعني مجرد إنشاء ملاعب أو تنظيم بطولات، بل يشمل بناء منظومة متكاملة تقوم على الابتكار، تنمية رأس المال البشري، الحوكمة، والشراكات المحلية والدولية، وهو ما قد يرفع مساهمة الرياضة في الناتج المحلي من 0.5% حاليًّا (نحو 14 مليار دولار) إلى 5% خلال العقود المقبلة، كما أوضحنا سلفًا.
كذلك يوضح التقرير أن التحولات التكنولوجية والرقمية ستُغيِّر معادلة اللعبة جذريًّا، فالتوسع في المنصات الرقمية مثل شووماكس Showmax ويوتيوب YouTube، وصعود الألعاب الإلكترونية E-Sports، إلى جانب توظيف التقنيات القابلة للارتداء وتحليلات البيانات، ستُعيد تشكيل علاقة الجمهور بالرياضة، وتفتح قنوات جديدة للإيرادات. وإلى جانب ذلك، يكتسب المحتوى المحلي والرواية الإفريقية في الإعلام الرياضي أهمية متزايدة في تعزيز حضور القارة على الساحة العالمية.
وفي هذا السياق، تبرز المحافل الرياضية الدولية الكبرى كأولمبياد باريس 2024م التي برزت كمنصة لإظهار قدرات إفريقيا الاقتصادية والإبداعية معًا، بما في ذلك صناعة الأزياء الرياضية، ففي أولمبياد باريس 2024م، لعبت الشركات والمصمّمون الأفارقة دورًا بارزًا في تجهيز المنتخبات الوطنية، على سبيل المثال قدَّمت شركة إندا (Enda Wear) الكينية أطقمًا رياضية لمنتخبات جزر القمر وجيبوتي والجابون، بتمثيل من اللجان الأولمبية الوطنية لهذه الدول واتحاد الجودو في جيبوتي.
وفي شمال القارة، صمّمت علامة كونكريت Concrete المصرية الملابس الرسمية لمنتخب مصر في الدورتين الأولمبية والبارالمبية، مستخدمة القطن المصري الفاخر والخيوط الدقيقة لإظهار مزيج من الراحة والأناقة يعكس الهوية المصرية. أما في الغرب، فقد لمع اسم المصمّم السيراليوني فوداي دومبويا Foday Dumbuya، مُؤسِّس دار الأزياء لابروم Labrumفي لندن؛ حيث تعاون مع “أديداس” لتجهيز أطقم منتخب نيجيريا، ويُعدّ دومبويا أحد أبرز المصممين الأفارقة في المشهد العالمي؛ إذ ارتبط اسمه مؤخرًا أيضًا بتصميم الطقم الرسمي لنادي أرسنال الإنجليزي، وهو ما يعكس مكانته كجسر بين الإبداع الإفريقي وسوق الموضة والرياضة العالمي.
وعلى الصعيد ذاته، تولت شركةMr. Price الجنوب إفريقية تجهيز ملابس المنتخب الوطني في كلٍّ من الأولمبياد ودورة ذوي الهمم، لتُؤكّد على قدرة العلامات التجارية الإفريقية على المنافسة في سوق عالمي شديد التنافسية. وبذلك، جسَّدت أولمبياد باريس 2024م مثالًا حيًّا على أن الرياضة في إفريقيا لم تَعُد حكرًا على الأداء الميداني، بل امتدت لتصبح صناعة متكاملة تجمع بين الرياضة، والموضة، والتسويق، والهوية الثقافية.
وإلى جانب هذه التجارب؛ يشير التقرير إلى أن الزخم سيتضاعف مع البطولات الدولية المقبلة مثل أولمبياد الشباب في داكار 2026م، وبطولة العالم للدراجات في العام نفسه (2026م)، وكأس العالم 2030م، ما يفتح المجال أمام إفريقيا كي تبرهن على أنها ليست مجرد سوق استهلاكية، بل هي فاعل رئيس في صياغة مستقبل صناعة الرياضة عالميًّا.
خاتمة:
في الأخير، يكشف تقرير صناعة الرياضة في إفريقيا لعام 2025م أن الرياضة لم تعد تُمارَس في القارة بوصفها نشاطًا ترفيهيًّا أو تنافسيًّا فحسب، بل غدت صناعة واعدة تحمل في طيّاتها فرصًا هائلة لتعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فهي تجمع بين الاستثمار في البنية التحتية وتوظيف أدوات التحول الرقمي وتنمية القدرات البشرية، بما يتماشى مع أهداف التنمية المستدامة، ويُعزّز موقع إفريقيا في الاقتصاد العالمي، غير أن بلوغ هذه الآفاق يظل مرهونًا بتجاوز التحديات المؤسسية والتمويلية، وترسيخ مبادئ الحوكمة، إلى جانب استثمار ما تُوفّره التكنولوجيا الحديثة والشراكات الدولية من إمكانات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصدر التقرير:
“Africa Sports Industry: Strength in Numbers – Part 2”, (Johannesburg: African Sports and Creative Institute, 2025), Available at: https://africansci.com/wp-content/uploads/2025/02/ASCI-SinN-Report.pdf