د. جيهان عبد السلام عباس
أستاذ الاقتصاد المساعد – كلية الدراسات الإفريقية العليا– جامعة القاهرة
مقدمة:
على مدى عقود، شكَّل الدولار الأمريكي العمود الفقري للنظام المالي العالمي؛ إذ أصبح العملة المهيمنة في تسعير السلع الأساسية، وتسوية المعاملات التجارية، وسداد الديون الخارجية. ولم تكن القارة الإفريقية استثناءً من هذا الواقع؛ فقد ارتبطت اقتصاداتها ارتباطًا وثيقًا بالدولار، سواء في التجارة البينية أو في التعامل مع الشركاء الدوليين.
غير أنّ التحولات الجيوسياسية والاقتصادية المتسارعة، وصعود قوى جديدة مثل الصين والهند وروسيا، إلى جانب التحديات التي تفرضها تقلُّبات سعر صرف الدولار على الاقتصادات الإفريقية الهشَّة، قد أعادت فتح النقاش حول مدى إمكانية تقليص الاعتماد المفرط على هذه العملة.
وقد برز هذا الأمر بوضوح منذ عام 2022م، مع الارتفاع الملحوظ في قيمة الدولار مقابل معظم العملات العالمية والإفريقية، بعد أن رفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أسعار الفائدة بوتيرة قياسية، في محاولة لاحتواء التضخم في الولايات المتحدة، والذي تفاقم نتيجة ارتفاع أسعار الوقود والغذاء عالميًّا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.
وفي خضم هذه التطورات، ظهر زخم متزايد خلف الدعوات إلى التخلي عن الدولرة، أي الحدّ من النفوذ المهيمن للدولار الأمريكي على الاقتصادات والتجارة؛ إذ لفتت الصدمات الاقتصادية الكلية والتضخم المتفشي الانتباه إلى ضعف العملات الإفريقية مقارنةً بالدولار، وما ينتج عنه من ارتفاع تكلفة الصرف الأجنبي في القارة.
وقد أعاد ذلك إحياء النقاشات حول المبادرات القائمة على التعاون، التي من شأنها تمكين الدول من التداول بعملاتها المحلية، بعيدًا عن الاعتماد على الدولار الأمريكي. كما فاقمت هذه العوامل المشكلات الهيكلية طويلة الأمد، وفي مقدمتها انتشار السوق السوداء للعملات، التي تزيد من هشاشة النظم النقدية الإفريقية.
ومن هذا المنطلق، يهدف هذا التحليل إلى إبراز حجم اعتماد الدول الإفريقية على الدولار، واستعراض دوافعها نحو تقليص هيمنته في تعاملاتها الاقتصادية، فضلًا عن التحديات التي تعترض تلك المساعي.
أولًا: هيمنة الدولار على النظام المالي العالمي
منذ اتفاق بريتون وودز عام 1944م، أصبح الدولار الأمريكي العُملة المرجعية للنظام النقدي العالمي، حيث رُبط حينها بالذهب بسعر 35 دولارًا للأونصة. غير أنّ قرار الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون عام 1971م بفك الارتباط بين الدولار والذهب؛ حوَّل الدولار إلى عُملة احتياط غير مغطاة بالذهب، لكنه ظل مدعومًا بالقوة الاقتصادية والعسكرية للولايات المتحدة.
واليوم، يهيمن الدولار بشكل واسع على النظام المالي العالمي؛ إذ يتم تسعير نحو 80% من التجارة العالمية به، كما يُشكّل ما يقارب 60% من احتياطيات البنوك المركزية العالمية في عام 2024م، يليه اليورو ثم اليوان الصيني. ويستحوذ الدولار كذلك على أكثر من 40% من المدفوعات الدولية عبر نظام “سويفت “(SWIFT)، بينما يُقوَّم نحو50% من القروض والديون الدولية بالدولار، ولا سيما في الأسواق الناشئة وإفريقيا. وبحسب بيانات صندوق النقد الدولي(IMF) ، بلغ نصيب الدولار من الاحتياطيات الرسمية للعملات الأجنبية نحو 7.58% في نهاية عام 2024م، متأثرًا بارتفاع قيمته عالميًّا([1]).
وفي السياق ذاته، أشار المعهد الدولي للتمويل (IIF) إلى أنّ الدولار يُستخدم في نحو 96% من معاملات التصدير في الأمريكيتين، و74% في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، و79% في باقي أنحاء العالم (باستثناء أوروبا))[2]). كما أظهرت تحليلات معهد بروكينغز (Brookings Institute) أنّ نحو 54% من فواتير التجارة العالمية تُسعَّر بالدولار الأمريكي، فضلًا عن أنّ 88% من معاملات سوق الصرف الأجنبي (الفوركس) تتم به أيضًا([3]).
شكل رقم (1) الاحتياطات الأجنبية الدولية موزعة بين العملات العالمية حتى الربع الثالث لعام 2024م
Source: Ecofin Agency , “Africa’s Push to Break Free from the Dollar’s Grip ” , 16 January 2025, available at :
https://www.ecofinagency.com/finance/1601-46324-africa-s-push-to-break-free-from-the-dollar-s-grip
شكل رقم (2) نِسَب اعتماد التجارة الخارجية الدولية على الدولار وباقي العملات الكبرى
Source: IMF.
ثانيًا: الأسباب الدافعة لمحاولات إفريقيا التحرُّر من هيمنة الدولار
إن فكرة التحرر من الدولار الأمريكي ليست جديدة في إفريقيا، لكنها اكتسبت زخمًا متزايدًا في السنوات الأخيرة، في ظل سياق يتسم بتقلبات حادة في العملات المحلية، وصعوبة الحصول على التمويل بالعملات القوية دوليًّا، والاعتماد المستمر على الواردات المقوّمة بالدولار. ورغم أن التخلي عن الدولار ليس بالأمر الهيّن، بحكم أنّه ركيزة التجارة العالمية لعقود طويلة، فقد تحوّلت هيمنته في إفريقيا إلى سلاح ذي حدين: من جهة، أتاح الانخراط في الاقتصاد العالمي، ومن جهة أخرى أصبح رمزًا للتبعية والضعف الاقتصادي.
وفي معظم أنحاء القارة، يُهيمن الدولار على التعاملات التجارية والمالية؛ إذ تُسعَّر وتُسدَّد الواردات الحيوية –مثل النفط والقمح والأدوية– بالدولار، كما تُقوَّم القروض الدولية به، وتُسوَّى التجارة البينية بين الدول الإفريقية بالدولار، بل وحتى أسعار الوقود ترتبط بقيمة الدولار. غير أن تكلفة هذا الاعتماد باهظة؛ فكل زيادة في أسعار الفائدة من جانب الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي تُلْقِي بظلالها السلبية على الاقتصادات الإفريقية، فتضعف عملاتها وتفاقم أعباء الديون. كذلك، تؤدي تقلبات سعر الصرف إلى ضغوط كبيرة على المالية العامة. ففي إفريقيا جنوب الصحراء، يُشكِّل الدَّيْن العام الخارجي نحو 40% من إجمالي الدين العام، ويُقوَّم أكثر من 60% منه بالدولار، وفقًا لصندوق النقد الدولي، الأمر الذي يُضخِّم تأثير تقلبات العملة الأمريكية على اقتصادات القارة ويجعلها أكثر هشاشة.([4])
ومن هنا أصبحت الاقتصادات الإفريقية مُعرَّضة بشكل خاص للمخاطر المرتبطة بهيمنة الدولار الأمريكي، وذلك لعدة عوامل:
-انخفاض قيمة العملات:
تواجه العملات المحلية في الاقتصادات الإفريقية تقلبات حادة وضغوطًا مستمرة نحو الانخفاض مقارنةً بالعملات الرئيسية مثل الدولار الأمريكي. ويؤدي الاعتماد على الدولار في التجارة وسداد الديون إلى تفاقم تراجع قيمة العملات الوطنية، مما يزيد من تكلفة الواردات ويرفع أعباء خدمة الديون المقوَّمة بالدولار. ويترتب على ذلك تضخم مرتفع أصلًا، ما يفاقم معاناة القارة، ولا سيما أنها مُنْتِج رئيسي لسلع أساسية كالنفط والذهب والنحاس، المُسعّرة بالدولار. ورغم أن هذه الدول قد تستفيد مبدئيًّا من ارتفاع أسعار تلك السلع عالميًّا، فإن ارتفاعها بالعملات الأخرى يقلل من الطلب الدولي ويدفع الأسعار إلى التراجع.
فعلى سبيل المثال، قد يُلحق تراجع الصادرات الضرر بنيجيريا –المُنتِج النفطي الأكبر في القارة–، وبجنوب إفريقيا في قطاع الذهب والبلاتين، وكذلك بزامبيا التي تعتمد بصورة أساسية على صادرات النحاس لتحقيق عائدات من النقد الأجنبي تُعزّز ميزانياتها الوطنية.
-عبء الديون:
تلجأ حكومات وشركات عديدة في الأسواق الإفريقية إلى الاقتراض بالدولار الأمريكي، بفضل انخفاض أسعار الفائدة وإمكانية الوصول إلى أسواق رأس المال الدولية. غير أن تكلفة هذا الاقتراض تبقى مرتفعة مقارنةً بالأسواق المتقدمة؛ نظرًا لمستويات المخاطر العالية. وتزداد المشكلة تعقيدًا عند انخفاض قيمة العملات المحلية؛ إذ ترتفع الكلفة الفعلية لسداد الديون، الأمر الذي يُرهق المالية العامة للحكومات وميزانيات الشركات.
-وقد تفاقمت هذه الأوضاع بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فرض رسوم جمركية إضافية على الواردات وتطبيق حزمة من التخفيضات الضريبية. ومن المرجح أن تُسفر هذه السياسات، إلى جانب انخفاض أسعار الفائدة الأمريكية، عن ارتفاع إضافي في قيمة الدولار، ما يجعل خدمة الديون أكثر صعوبة بالنسبة لعدد كبير من الدول منخفضة الدخل، خاصة تلك المثقلة بقروض مقوَّمة بالدولار يجب سدادها بعملات محلية أضعف. وفي هذا السياق، ذكرت شركة )كابيتال إيكونوميكس (في تقرير بحثي أن تهديد ترامب بفرض رسوم جمركية جديدة يُمثِّل “مصدر قلق واضح”؛ لأن ارتفاع قيمة الدولار “سيزيد من صعوبة استعادة بعض الدول الإفريقية القدرة على الوصول إلى أسواق رأس المال العالمية”.
وبحسب البنك الدولي، يُتوقَّع أن تكون إفريقيا من أكثر القارات تضررًا من ارتفاع الدولار؛ إذ تعاني تسع دول بالفعل من ضائقة مالية، بينما تواجه عشر دول أخرى مخاطر كبيرة بالانزلاق نحو الإفلاس. وقد صنّف البنك الدولي عام 2024م كلًّا من: إثيوبيا، جمهورية الكونغو الديمقراطية، موزمبيق، الصومال، السودان، جنوب السودان، زيمبابوي، وتشاد ضمن الدول التي تعاني من ضائقة ديون. وتشمل القائمة أيضًا زامبيا، التي تخلّفت عام 2020م عن سداد ديون تُقدَّر بنحو 12 مليار دولار أمريكي (11.4 مليار يورو) في ذروة جائحة كوفيد-19، وتخضع حاليًّا لإعادة هيكلة مع دائنين دوليين من القطاعين العام والخاص، بما في ذلك الصين وفرنسا.([5])
-اختلالات الميزان التجاري:
تُسوّى أكثر من 80% من التجارة الخارجية الإفريقية بالدولار، حتى في الحالات التي لا تشمل الولايات المتحدة طرفًا مباشرًا. ويؤدي ذلك إلى تكاليف إضافية للتحويلات، ويُضْعِف فرص بناء منظومة مالية إفريقية متكاملة. كما أن اقتصادات الأسواق الناشئة في القارة غالبًا ما تعاني من عجز تجاري، مما يفرض تدفقًا مستمرًّا للدولار الأمريكي لتغطية تكاليف الواردات. ويمكن أن يتسبب ذلك في ضغوط هبوطية على العملات المحلية، ويُفاقم الاختلالات الخارجية، الأمر الذي يؤدي إلى توترات تجارية وعدم استقرار مالي.
-تنويع الشركاء التجاريين:
أصبحت الصين الشريك التجاري الأول للقارة، تليها الهند وروسيا. وتسعى معظم هذه الدول إلى استخدام عملاتها الوطنية أو آليات مقايضة بدلًا من الدولار، مما يخلق حافزًا قويًّا لإفريقيا لاعتماد تسويات مالية متعددة العملات، خاصة في ظل انضمام بعض الدول الإفريقية إلى تجمع البريكس، واحتمال انضمام دول أخرى مع توجُّهه نحو توسيع العضوية في القارة.
-تعزيز السيادة الاقتصادية والسياسية: إن الاعتماد المفرط على الدولار يجعل القارة أكثر عُرضة للضغوط الجيوسياسية الأمريكية، مثل العقوبات أو القيود على التحويلات المالية. بينما يُتيح التحرُّر من الدولار مجالًا أوسع لاتخاذ قرارات اقتصادية مستقلة بعيدًا عن الإملاءات الخارجية. ورغم أن الدولار يُنظَر إليه عادةً كملاذ آمِن في ظل الأزمات الجيوسياسية العالمية، فإن ارتفاع قيمته في السنوات الأخيرة أعاق جهود دول مثل زامبيا في معالجة الفقر، والتغلب على الأزمات الصحية، والاستثمار في البنية التحتية. إذ اضطرت حكومات عدة إلى تحويل ميزانياتها لتلبية التزامات خدمة الديون المرتفعة بدلًا من الإنفاق على الصحة أو التعليم، وهو ما قوَّض قدرة هذه الدول على الاستثمار ودعم القطاع الخاص والتحول الاقتصادي، وبالتالي الحدّ من خلق فرص العمل.
-مخاطر العدوى: يمكن أن تنتقل الأزمات المالية أو حالات عدم الاستقرار في الاقتصادات الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة، إلى الأسواق الناشئة عبر قنوات متعددة، منها تدفقات رؤوس الأموال الخارجة، واضطرابات التجارة، وتغيُّر معنويات المستثمرين. وتكون الأسواق الناشئة ذات الأساسيات الضعيفة أو الاختلالات الخارجية الأكبر أكثر عرضة لتأثيرات هذه العدوى.
وبوجه عام، تُشكِّل هيمنة الدولار الأمريكي على التجارة والتمويل تحديات كبيرة للأسواق الناشئة؛ إذ تزيد من تعرُّضها لتقلبات العملات، وهشاشة أوضاع الديون، والصدمات الخارجية، كما تَحُدّ من مرونة السياسات الاقتصادية وإمكانية الحصول على التمويل.([6])
ثالثًا: التجارب الإفريقية في الحد من الاعتماد على الدولار
تقود الصين، أكبر شريك تجاري لإفريقيا، جهودًا لتعزيز استخدام عملتها “اليوان”. ففي عام 2023م بلغ حجم التجارة بين الصين وإفريقيا 282 مليار دولار أمريكي، وواصل النمو ليصل إلى 167 مليار دولار أمريكي في النصف الأول من عام 2024م. وتدفع بعض الدول الإفريقية، مثل جنوب إفريقيا ونيجيريا وموريشيوس، ثمن جزء من وارداتها من الصين بالعملات المحلية أو باليوان بدلًا من الدولار، وهو التوجّه الذي يسعى تجمع “البريكس” إلى تعزيزه تمهيدًا للاستغناء التدريجي عن الدولار الأمريكي على المدى الطويل.
وفي هذا السياق، بدأت بعض الدول الإفريقية بالفعل في اتخاذ إجراءات للحد من هيمنة الدولار:
-نيجيريا: كانت في طليعة هذا التحول؛ إذ وقّعت عام 2018م اتفاقية لمبادلة العملات مع الصين تسمح بالتداول بالنيرة واليوان مباشرة دون المرور بالدولار. وقد خفّف هذا الاتفاق، الذي بلغت قيمته 2.4 مليار دولار، من الضغوط على احتياطيات نيجيريا من النقد الأجنبي. وفي ديسمبر 2024م جددت نيجيريا الاتفاقية لثلاث سنوات أخرى، كما أعلنت عن خطة لاستخدام اليوان الرقمي (Digital RMB) لتسهيل التحويل المباشر من النايرا إلى اليوان.([7])
-زامبيا: ذهبت أبعد من ذلك، ففي عام 2023م قررت استخدام اليوان حصريًّا في تجارتها مع الصين، في خطوة تهدف إلى خفض تكاليف تحويل العملات وتقليل تأثير الدولار على اقتصادها الهشّ.([8])
-زيمبابوي: بعد سنوات من التضخم المفرط وانهيار العملة المحلية، أطلقت الحكومة في أبريل 2024م عملة جديدة باسم Zimbabwe Gold (ZiG) مدعومة بالذهب واحتياطيات من العملات الأجنبية والمعادن الثمينة، لتحل محل الدولار الزيمبابوي السابق، في محاولة لاستعادة الثقة بالسياسة النقدية([9]).
وألزمت الحكومة المواطنين بتحويل النقد من العملة القديمة إلى ZiG خلال فترة انتقالية، مع تشديد الرقابة لمنع التعامل بالأسعار غير الرسمية. وبحلول مايو–يونيو 2025م، ارتفعت نسبة المعاملات باستخدام ZiG إلى 43% مقابل 26% عند الإطلاق، لكن السوق السوداء استمرت في تداول العملات بأسعار أعلى بنحو 20%([10]). وحددت الحكومة هدفًا للتخلص التدريجي من الدولار الأمريكي بحلول عام 2030م، من خلال خطة تتضمن تحسين جودة أوراق ZiG وتطوير تصميمها لتعزيز الثقة([11]). ورغم ارتفاع نسبة التعاملات بالعملة الجديدة، إلا أن الدولار لا يزال العملة المفضلة في المعاملات اليومية، مما يجعل التجربة أقرب إلى تحول جزئي وليس استغناءً كاملًا عن الدولار([12]).
إلى جانب هذه المبادرات الثنائية، ظهرت حلول إقليمية لتعزيز الاستقلال المالي:
-أطلق البنك الإفريقي للتصدير والاستيراد (Afreximbank) نظام الدفع والتسوية الإفريقي (PAPSS) الذي يُتيح للشركات إجراء معاملات عبر الحدود باستخدام العملات المحلية بدلًا من الدولار. وبالارتباط مع منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية (AfCFTA)، يمكن لهذا النظام أن يُحْدِث نقلة نوعية في التجارة البينية الإفريقية، التي لا تُمثّل حاليًّا سوى 17% من تجارة القارة. إلا أن التبنّي الواسع للنظام ما يزال يواجه تحديات في ظل تجزؤ الأسواق الإفريقية. كما تسعى المنصة إلى إنشاء سوق صرف عملات إفريقية (Africa Currency Marketplace) لدعم التجارة بالعملات المحلية وتقليل الاعتماد على الدولار.([13])
-اقترح بنك التنمية الإفريقي (AfDB) في عام 2025م إنشاء وحدات حساب إفريقية (African Units of Account) مدعومة باحتياطيات القارة من المعادن الحيوية مثل الكوبالت والليثيوم والمعادن النادرة. وتهدف هذه المبادرة إلى توفير أداة تحويل مستقرة تعزز إيرادات الاقتصادات الإفريقية، وتقلل من التعرض لتقلبات الدولار.([14])
رابعًا: هل تستطيع إفريقيا الحدّ من هيمنة الدولار في الأجل القصير؟
ما تزال هناك العديد من العقبات التي تَحُول دون إمكانية تخلّي إفريقيا النسبي عن الدولار في الأجل القصير، وأهمها ما يلي:
-ضعف البنية التحتية المالية والنقدية: فعلى سبيل المثال، لا يزال نظام الدفع الإقليمي (PAPSS) محدود التطبيق؛ إذ لا تتجاوز نسبة المدفوعات داخل إفريقيا عبر الأنظمة المحلية 10%، ما يعكس نقصًا كبيرًا في البنية التحتية الرقمية والتقنية لعمليات الدفع. وهذا يُعيق المعاملات الفعّالة بالعملات المحلية، ويُبقي الاقتصادات مرتبطة بالدولار.([15])
-ضعف الثقة بالعملات المحلية: فالحوكمة النقدية المتعثّرة والتضخّم المزمن في دول مثل زيمبابوي ونيجيريا جعلا السكان يفضّلون الدولار لأغراض الادخار والتبادل. ومن الناحية الاقتصادية، تُعَدّ قوة الدولار فرصةً لإفريقيا؛ إذ تقلّل تكلفة الاستثمارات الواردة إلى القارة بالنسبة للمستثمرين الأجانب، وتُعزّز تنافسية الصادرات الإفريقية المُسعَّرة بالدولار. ومع ذلك، لن يتحقق التدفق الاستثماري المنشود إذا ظل المستثمرون الأجانب قلقين من استمرار انخفاض قيمة العملات المحلية وتأثير ذلك على عوائدهم عند تحويلها إلى الدولار. ولحسن الحظ، بلغ الدولار ذروته في معظم الدول الإفريقية في أكتوبر 2024م، ثم انخفض بأكثر من 10% مقابل أغلب العملات الرئيسة، على الرغم من استمرار الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في رفع أسعار الفائدة. وقد وفّر هذا الانخفاض بعض الراحة التي كانت في أمسّ الحاجة إليها للدول الأكثر تضررًا.
-استمرار تقويم الديون الخارجية بالدولار: أكثر من 60% من الديون الخارجية الإفريقية مقوَّمة بالدولار، وهو ما يجعل الدول أسيرة لتقلّبات العملة الأمريكية، ويُصعّب التخلّص منها حتى مع توافر بدائل في التجارة. ووفق تقديرات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)، ارتفع رصيد الدين الخارجي الإفريقي سريعًا ليبلغ 466 مليار دولار في منتصف عام 2022م، من خلال الاقتراض الثنائي والقروض المشتركة وإصدار السندات. ومع تراجع قيمة العملات المحلية، تصبح خدمة هذه الديون أكثر تكلفة، ما يُهدّد بمزيد من أزمات الديون المحتملة. وفي ظل الصدمات الجيوسياسية والاقتصادية الكلية، شهدت العديد من العملات الإفريقية تراجعًا تاريخيًّا، خصوصًا في الدول المستوردة للوقود والغذاء التي سجّلت أعلى مستويات التضخّم وانخفاض العملات، نتيجة تراجع الظروف الكلية والأخطاء الحكومية والنقدية.([16])
-ضعف التكامل الإقليمي النقدي: تضم القارة أكثر من ثمانية تكتلات اقتصادية ونقدية، ويؤدي هذا التعدد إلى تداخل السياسات وضعف التنسيق، ما يجعل إنشاء عملة إقليمية أو نظام دفع مُوحَّد أمرًا معقدًا، ويُبقي الاعتماد على الدولار كعملة وسيطة في التجارة البينية. وأبرز مثال على ذلك مشروع الاتحاد النقدي الإفريقي وإنشاء “العملة الموحدة” (الإيكو) الذي يواجه تأجيلات متكررة بسبب التفاوت الكبير في السياسات المالية والنقدية بين دول الاتحاد. وحتى الآن، لم يُحرَز تقدُّم ملموس في تنفيذ بروتوكولات الاتحاد النقدي الإفريقي؛ إذ ما زالت الحواجز الجمركية والتجارية تُثقل المشروع وتعيق تحقيقه.([17])
-هيمنة الدولار على التجارة الدولية: نحو 60% من صادرات إفريقيا هي سِلَع أولية تُسعَّر في الغالب بالدولار. وغياب هيكل تسعير متعدّد العملات يُبقي الاقتصادات رهينة للعملة الأمريكية. كما أن خدمات المدفوعات العالمية مثل (SWIFT) ما تزال مرتبطة بقوة بالدولار. وبما أن التجارة البينية الإفريقية لا تتجاوز 15% من إجمالي تجارة القارة، وتعتمد معظم الدول على شركاء خارجيين (أوروبا، الولايات المتحدة، الصين)، فإن استمرار تسعير التجارة بالدولار يُعزِّز من هيمنته بدل تقليصها.
-مركزية النظام المالي العالمي: يعتمد كلٌّ من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على الدولار في تمويل الدول النامية، فضلًا عن تسعير السلع الأساسية لصادرات إفريقيا (النفط، الذهب، الكوبالت، القهوة، الكاكاو) بالدولار. كما تحتفظ معظم البنوك المركزية الإفريقية بجزء كبير من احتياطاتها الدولية بهذه العملة لضمان استقرار أسعار الصرف. وهذا يُعزّز مركزية الدولار ويُضعف محاولات الحد من الاعتماد عليه.
وحتى مع بروز بدائل مثل اليوان الصيني أو العملات الرقمية (كالرُّوبل الرقمي) أو العملة الإفريقية الموحدة المقترحة، فإن انتشارها العالمي ما يزال محدودًا. وتُضاف إلى ذلك السيطرة الأمريكية على النظام المالي العالمي، بما فيها القدرة على فرض عقوبات عبر تقييد الوصول إلى الدولار أو نظام (SWIFT)، وهو ما يجعل كثيرًا من الدول مترددة في التخلي عنه. ويمثل هذا النفوذ السياسي بُعدًا إستراتيجيًّا يعوق استقلال إفريقيا المالي.
خاتمة:
رغم أنّ حُلم التحرُّر من هيمنة الدولار يُراود العديد من الدول الإفريقية؛ فإنّ الواقع يكشف عن مسار طويل ومعقّد نحو بلوغ هذا الهدف. فالقارة تواجه تحديات متشابكة تبدأ من هشاشة العملات المحلية وضعف البنية التحتية المالية، مرورًا بضعف التكامل الإقليمي والتبعية للمؤسسات الدولية، وصولًا إلى مركزية النظام المالي العالمي القائم على الدولار. ومع ذلك، فإنّ التوجّهات الإفريقية الأخيرة، مثل إنشاء منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية (AfCFTA) وتفعيل أنظمة الدفع البيني (PAPSS)، إلى جانب الانفتاح على شراكات جديدة مع الصين وروسيا والهند، تُعَدّ خطوات مُهمّة في مسار تنويع الخيارات النقدية والمالية، وإن لم تصل بعدُ إلى حدّ الاستغناء الكامل عن الدولار.
وفى النهاية، يمكن القول: إنّ الاستغناء الكامل عن الدولار قد لا يكون ممكنًا في الأمد القصير، لكنّه يظل خيارًا إستراتيجيًّا بعيد المدى يتطلب إصلاحات رئيسة، في مقدّمتها: تنويع الشراكات التجارية، وتعزيز النظم المالية، ودفع خطوات التكامل الإقليمي والنقدي، فضلًا عن بناء مؤسسات نقدية قوية ودعم الثقة بالعملات المحلية أو الإقليمية. وبهذا يمكن القول: إنّ إفريقيا تسير نحو تقليص الاعتماد على الدولار تدريجيًّا بدلًا من القطيعة المفاجئة، في محاولة لإعادة صياغة موقعها داخل النظام المالي العالمي بما يخدم مصالحها التنموية والسيادية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]) INTERNATIONAL MONETARY FUND. , ‘IMF Data Brief: Currency Composition of Official Foreign Exchange Reserves” , Apr 02, 2025, available at: https://data.imf.org/en/news/4225global%20fx%20reserves%20decreased%20by%203%20percent%20in%202024q4
[2]) BOARD OF GOVERNORS of the FEDERAL RESERVE SYSTEM , “The International Role of the U.S. Dollar” Post-COVID Edition ” , June 23, 2023 , available at: https://www.federalreserve.gov/econres/notes/feds-notes/the-international-role-of-the-us-dollar-post-covid-edition-20230623.html
[3] ) Litman Gregory , “Wealth Management Global Trade and Other Impacts on the U.S. Dollar ” , December 17, 2024 , available at:
https://lgam.com/global-trade-and-other-impacts-on-the-u-s-dollar/
[4]) Ecofin Agency , “Africa’s Push to Break Free from the Dollar’s Grip ” , 16 January 2025 , available at :
https://www.ecofinagency.com/finance/1601-46324-africa-s-push-to-break-free-from-the-dollar-s-grip
[5]) Nik Martin , “How a rising dollar could hurt African economies” , 11/18/, 2024 , available at: https://www.dw.com/en/how-a-rising-dollar-could-hurt-african-economies/a-70781588
[6] ) Benjamin Fernandes , ” Is Africa’s Dollar Shortage ending anytime soon? ” , May 8, 2024 , available at :https://medium.com/@Benji_Fernandes/is-africas-dollar-shortage-ending-anytime-soon-432f979cf906
[7]) Aderonke oni , “NCSP DG: Nigeria, China will soon sign digital currency deal to reduce dollar reliance” , April 17, 2025 , available at:
https://www.thecable.ng/ncsp-dg-nigeria-china-will-soon-sign-digital-currency-deal-to-reduce-dollar-reliance/
[8] ) Nathan Schoonover , ” China in Africa: December 2024 ” , Council on Foreign Relations. February 13, 2025 , available at:
https://www.cfr.org/article/china-africa-december-2024
[9] ) Barbara Kollmeyer , ” Zimbabwe launches new currency backed by gold and foreign currencies“ , April 5, 2024, available at:
https://www.marketwatch.com/story/zimbabwe-launches-new-currency-backed-by-gold-and-foreign-currencies-098abe1d