نِهاد محمود
باحثة دكتوراه بكلية الدراسات الإفريقية العليا- جامعة القاهرة
مقدمة:
تُشكّل العلاقات بين الجيوش والسلطات المدنية في إفريقيا أحد المرتكزات الأساسية لفَهْم تطور الأنظمة السياسية في القارة؛ إذ ارتبط تاريخها المعاصر ارتباطًا وثيقًا بدور المؤسسة العسكرية، سواء عبر الانقلابات المباشرة التي ميَّزت العقود الأولى بعد الاستقلال، أو من خلال أشكال النفوذ غير المباشر التي أخذت في التوسع خلال العقود الأخيرة.
فمنذ ستينيات القرن العشرين وحتى التسعينيات، كانت الانقلابات العسكرية هي السمة الغالبة على انتقال السلطة في كثير من الدول الإفريقية، ما جعل الجيش لاعبًا سياسيًّا لا يمكن تجاهله. غير أنه في مطلع الألفية الجديدة شهدت إفريقيا تحولات ملحوظة، تمثّلت في تراجع وتيرة الانقلابات الناجحة، مقابل بروز أنماط جديدة لتدخُّل المؤسسة العسكرية في الشأن العام، سواء من خلال الانقلابات المُقنَّعة، أو المشاركة الاقتصادية والسياسية، أو عبر الانخراط في عمليات الأمن الإقليمي المشتركة.
في هذا السياق، يأتي كتاب “إفريقيا وإعادة النظر في العلاقات المدنية–العسكرية” -الصادر عام 2023م- ليُقدِّم قراءة مهمة ينبغي التنبُّه لها، حول دور الجيوش الإفريقية في السياسة والمجتمع، متتبعًا مسارات التحوُّل من الانقلابات الكلاسيكية إلى أشكال التأثير الجديدة، ومعتمدًا على شواهد ودراسات حالة من دول متعددة تُوضِّح كيف تَغيَّر حضور المؤسسة العسكرية في الحياة العامة، وأصبح أكثر تنوُّعًا وتشابكًا مع مختلف المجالات.
أولًا: أهمية الكتاب
تكمن أهمية هذا الكتاب في كونه يُقدِّم إسهامًا بحثيًّا مميزًا في النقاش الأكاديمي حول دور الجيوش في القارة الإفريقية، على نحوٍ يكسر هيمنة التصورات التقليدية التي تحصر الجيش في ثنائية “انقلاب/لا انقلاب”، كما يفتح آفاقًا جديدة لفهم العلاقة بين الجيش والسياسة والمجتمع في سياق إفريقي خاص، مبتعدًا عن فكرة إسقاط النماذج الغربية العسكرية الجاهزة، كما يُوفِّر فرصة للباحثين لتطوير مقاربات جديدة وصياغة نماذج إفريقية أصيلة للعلاقات المدنية-العسكرية في إفريقيا.
كما تزداد أهميته بالنظر إلى أنه يستند إلى سلسلة من اللقاءات والبحوث الميدانية التي درست تأثير المشاركة في بعثات حفظ السلام الدولية وأنشطة الأمن الإقليمي على تنظيم وسلوك الأفراد والمؤسسات العسكرية في إفريقيا.
وفي هذا السياق يروي مُحرِّرَا الكتاب “موسى خيسا” Moses Khisa و”كريستوفر داي” Christopher Day، كيف قاما برحلات بحثية إلى إثيوبيا أوغندا ورواندا –حيث أجْرَيَا محاورة امتدت أربع ساعات مع الرئيس بول كاغامي–، إضافة إلى دول أخرى، ليعيدوا من خلالها صياغة فهمهم للمشهد المدني–العسكري في القارة، من خلال عرضهما لمناقشات رسمية وغير رسمية مع طيف واسع من الفاعلين، من كبار ضباط الجيش والاستخبارات إلى سياسيين ومدنيين، ليُبْرِزَا حجم التعقيد في التداخل بين سياسات الدولة والقوة العسكرية داخل البيئة الإفريقية.
ثانيًا: بنية الكتاب وتقسيمه
ينقسم الكتاب إلى ثمانية فصول؛ يبدأ بالفصل الأول تحت عنوان “إعادة النظر في العلاقات المدنية–العسكرية في إفريقيا”، يليه الفصل الثاني المعنون “الشرعية السياسية والتدخلات العسكرية”، ثم الفصل الثالث الذي يناقش مسألة “الاتحاد الإفريقي والانقلاب الجيد”، والفصل الرابع الذي يدور حول “تابو الانقلاب والسياسة السلطوية”، أما الفصل الخامس فجاء بعنوان “الجيوش الإفريقية والحروب المعاصرة”، تلاه الفصل السادس “الفعالية العسكرية: البديل الإفريقي”، ثم الفصل السابع “إصلاح قطاع الأمن والعلاقات المدنية–العسكرية”، ويختتم بالفصل الثامن “ما وراء الانقلاب؟” الذي يناقش آفاق العلاقة بين الجيش والسياسة في القارة.
ثالثًا: أهم القضايا والمضامين
نحاول في هذا الإطار استعراض أهم القضايا التي ناقشها كتاب إعادة النظر في العلاقات المدنية–العسكرية، والتي تُشكّل إطارًا لفهم التحولات التي شهدتها أدوار الجيوش في القارة خلال العقود الأخيرة، وذلك على النحو التالي:
1-تحوُّلات العلاقات المدنية–العسكرية في إفريقيا:
يتناول هذا القسم من الكتاب تطوُّر العلاقات بين الجيوش والسلطات المدنية في إفريقيا، موضحًا أن المشهد الحالي يختلف كثيرًا عن العقود الأولى بعد الاستقلال حين كانت الانقلابات العسكرية السمة البارزة في السياسة الإفريقية.
ويفتتح بسرد أحداث سياسية بارزة في القارة تكشف استمرار حضور الجيوش في الساحة السياسية رغم تغير أنماط التدخل؛ إذ يبدأ بانقلاب مالي في أغسطس 2020م حين أُجبر الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا على الاستقالة بعد اعتقاله مِن قِبَل الجيش، وهو رابع انقلاب في تاريخ البلاد منذ الاستقلال، نتيجة تراكم احتجاجات شعبية وأزمات في الشمال واتهامات بالفساد وسوء الإدارة.
ثم ينتقل إلى السودان في أبريل 2019م عندما أطاح الجيش بالرئيس عمر البشير بعد ثلاثين عامًا في الحكم إثر احتجاجات واسعة، أعقب ذلك اضطراب سياسي وتداول السلطة بين مجالس عسكرية ومدنية وسط محاولات انقلابية وصراعات داخلية.
كما يستعرض المثال الزيمبابوي في 2017م الذي وُصف بأنه “أكثر الانقلابات أدبًا في التاريخ” حين تدخل الجيش لإنهاء حكم روبرت موجابي الذي دام سبعة وثلاثين عامًا، لكنَّه اتخذ شكل إعادة ترتيب داخل النخبة الحاكمة أكثر من كونه انقلابًا صريحًا.
وتوضح هذه الأمثلة أن أنماط التدخل العسكري قد تتخذ أشكالًا مباشرة أو غير مباشرة، ما يفرض الحاجة إلى إطار أوسع من مجرد التركيز على الانقلابات الكلاسيكية.
وفي هذا السياق ينطلق الكتاب من فرضية أن الجيوش الإفريقية تؤدي أدوارًا محورية في الحياة السياسية والمجتمعية لا تقتصر على الانقلابات، بل تشمل أنماطًا متعددة تترك أثرها على المسارات السياسية والعلاقات الاجتماعية. ففي جنوب السودان وأوغندا يشغل ضباط الجيش مقاعد في المجلس التشريعي الوطني، ويتولون مناصب وزارية أو مواقع مدنية، بينما يشارك في إثيوبيا ورواندا وأوغندا ضباط بارزون وشركات تملكها المؤسسة العسكرية بشكل مباشر في قطاعات البناء والتصنيع المملوكة للدولة. هذه الأدوار تُمكِّن الجيوش من التأثير في العملية السياسية والاقتصادية بطرق غير تقليدية تجعل التدخل العسكري المباشر غير ضروري، لكنها تضعها في موقع محوري داخل البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
ومن هنا يبرز أن تراجع الانقلابات منذ مطلع الألفية، بعد موجة كثيفة بين الستينيات والتسعينيات، لم يؤدِّ إلى تراجع الدور السياسي للجيوش، بل غيَّر من صورته لتشمل الانقلابات المُقنَّعة والانقلابات الدستورية التي يُمدّد فيها القادة فترات حُكمهم والمشاركة الاقتصادية والسياسية دون الإطاحة بالحكومات.
ويحدد هذا القسم من الكتاب خمسة ألغاز بحثية لفهم هذه التحولات، وهي: تراجع الانقلابات رغم استمرار بعض المحاولات الانقلابية على سبيل الاستثناء مثل السودان 2019م، ومالي 2020م، و2021م، وغينيا 2021م، وزيمبابوي 2017م، وأنماط العنف ضد المدنيين التي تراجعت في بعض الدول واستمرت في أخرى، وتنامي دور الجيوش في الأمن والدفاع الإقليمي عبر عمليات الاتحاد الإفريقي وقوات المهام المشتركة، وأثر التدريب العسكري الأجنبي الذي قد يُعزّز الاحترافية أو يزيد من التدخل السياسي تبعًا للسياق. ويقترحان إطارًا تحليليًّا جديدًا يعتمد على بُعْدين أساسيين هما: القرب من النظام أيّ مدى ارتباط الجيش بالسلطة السياسية، والاندماج الاجتماعي؛ أي درجة انخراطه في شبكات المجتمع المحلية، وهو ما يسمح بتصنيف الجيوش وفهم تباين سلوكها بين الدول.
ويخلص هذا القسم إلى أن الجيش ما يزال فاعلًا محوريًّا في السياسة الإفريقية، وأن أنماط تدخُّله تتنوع بين الانقلابات المباشرة والضغط السياسي والمشاركة الاقتصادية والدور الإقليمي، ما يتطلب تجاوز التركيز الضيق على الانقلابات والنظر إلى السياق المحلي والبنية الاجتماعية ودرجة القرب من السلطة لفهم طبيعة هذه العلاقة.
2-الانقلابات العسكرية بين الرفض والقبول في التجربة الإفريقية:
يناقش هذا القسم تطوُّر تعامل الاتحاد الإفريقي مع الانقلابات العسكرية، مبرزًا الفارق بين مرحلة منظمة الوحدة الإفريقية التي تأسست في ستينيات القرن العشرين، ومرحلة الاتحاد الإفريقي الذي بدأ عمله رسميًّا عام 2002م؛ ففي عهد منظمة الوحدة الإفريقية كان تغيير الحكم بالقوة أمرًا شائعًا بل ومقبولًا في أحيان كثيرة، حتى إن أكثر من نصف رؤساء المنظمة أنفسهم وصلوا إلى السلطة عبر انقلابات أو نزاعات مسلحة، وكان أحد الأمثلة البارزة كان الإطاحة بالرئيس الغاني كوامي نكروما Kwame Nkrumah عام 1966م على يد جوزيف آرثر أنكره Joseph Arthur Ankrah، الذي أصبح لاحقًا رئيسًا للمنظمة، دون أن يثير ذلك اعتراضًا يُذْكَر، وكان هذا المناخ السياسي يُقدِّم مبدأ عدم التدخل واحترام السيادة الوطنية على أي اعتبار لطريقة وصول القادة إلى الحكم.
ويستكمل هذا القسم، أنه مع تأسيس الاتحاد الإفريقي تَغيَّر الإطار الحاكم تمامًا والنظرة إلى الانقلابات العسكرية في القارة؛ فالميثاق الجديد نصّ صراحة على رفض أيّ تغيير غير دستوري في السلطة، وتبنّى سياسة واضحة تقوم على تعليق عضوية أيّ دولة تشهد انقلابًا عسكريًّا، وقد طبقت هذه السياسة على حالات عديدة مثل جمهورية إفريقيا الوسطى عام 2003م بعد إزاحة الرئيس فيلكس باتاسيه Felix Patasse، وكذلك في موريتانيا وتوجو. وبشكلٍ عام، وعلى مدار سنواته الأولى، علَّق الاتحاد الإفريقي عضوية 16 دولة إفريقية لأسباب مرتبطة بالانقلابات أو انتقال السلطة بالقوة، في دلالة على التزامه المبدئي بالقواعد الجديدة.
إلا أن التطبيق على الأرض في السنوات الأخيرة كشف عن مرونة أكبر في التعامل مع بعض الانقلابات تبعًا للظروف والسياقات؛ ففي زيمبابوي عام 2017م، تدخَّل الجيش لدفع روبرت موغابي Robert Mugabe إلى التنحّي بعد حكم طويل، ورغم أن ما جرى حمل سمات الانقلاب، فإن عضوية البلاد لم تُعلَّق، ووُصِفَ ما حدث بأنه انتقال منضبط أو انقلاب ناعم.
وفي السودان عام 2019م، أسفر إسقاط عمر البشير عن تعليق العضوية، لكنّ الانقسامات بين الدول الأعضاء وضغوط أطراف إقليمية جعلت الموقف أقل صرامة، وقد ساعد هذا التباين في ترسيخ ما صار يُعرف بـ “الانقلاب الجيد”، أي ذاك الذي يمكن التغاضي عنه إذا توافرت ظروف يراها الاتحاد مبررةً، مثل وجود دعم شعبي واسع، أو الرغبة في تجنب الفوضى، أو الإطاحة بنظام استبدادي وصل إلى طريق مسدود.
وبشكل عام، تبقى المشكلة الأساسية أن تعريف الانقلاب نفسه ليس أمرًا بسيطًا، خاصة عندما تتداخل فيه الاحتجاجات الشعبية مع تحركات الجيش، مما يفتح الباب أمام تفسيرات مختلفة تسمح للاتحاد بالتعامل مع كل حالة على حدة، وبين الالتزام الصارم بالمبادئ التي أقرها منذ نشأته والتعامل البراجماتي مع واقع سياسي وأمني معقّد؛ يجد الاتحاد الإفريقي نفسه في معادلة صعبة، بينما ما تزال الانقلابات جزءًا من المشهد السياسي في القارة.
3-الجيش كفاعل سياسي
يبتعد الكتاب في هذا القسم عن الصورة التقليدية للعلاقة بين الجيوش والسلطة في إفريقيا، تلك الصورة التي ارتبطت طويلًا بمشاهد الانقلابات العسكرية، ليكشف ملامح واقع أكثر تعقيدًا بعد تراجع وتيرة الانقلابات في العقدين الأخيرين؛ فالقارة التي عاشت عقودًا من عدم الاستقرار؛ حيث كانت الإطاحة المفاجئة بالحكومات أمرًا معتادًا، تشهد اليوم تحولًا في طبيعة الدور العسكري، لم يَعُد مقتصرًا على السيطرة على الحكم بالقوة، بل امتد إلى أشكال أكثر تنوعًا من التأثير السياسي، ومِن ثَمَّ يُوضّح الكتاب أن هذا الحضور الجديد للجيوش يظهر في ملفات متعددة، مثل إدارة الأمن الداخلي في مناطق النزاع، أو لعب دور الضامن في عمليات الانتقال السياسي كما حدث في بعض بلدان غرب إفريقيا، أو حتى ممارسة نفوذ غير مباشر من خلال الشراكات الأمنية والتعاون مع القوى الدولية، وفي جميع هذه الحالات، يظل الجيش فاعلًا محوريًّا في رسم ملامح السلطة، وإن كان أحيانًا من وراء الستار.
ويحاول هنا الكتاب تحليل العلاقات المدنية–العسكرية في القارة بوصفها شبكة من الروابط والمصالح المتبادلة، تتشكّل تبعًا للظروف السياسية الداخلية والتحالفات الإقليمية؛ ففي دول مثل مالي وبوركينا فاسو، ورغم الخطاب المُعلَن عن الحكم المدني، كان الجيش حاضرًا في قلب القرارات الحاسمة، سواء عبر قيادته لمرحلة انتقالية بعد الإطاحة بنظام قائم، أو من خلال تحكُّمه في مفاتيح الأمن والاستقرار بما يضعه في موقع المفاوض الرئيس مع الفاعلين الخارجيين، وفي حالات أخرى، كما في بعض البلدان التي لم تشهد انقلابات منذ عقود، حافَظ الجيش على مسافة ظاهرية عن الحكم، لكنّه ظل يحتفظ بنفوذ يُتيح له التدخل عند الأزمات أو عند تهديد مصالحه.
من هنا، يطرح الكتاب سؤالًا لافتًا مفاده: كيف يمكن للدول الإفريقية أن تُرسِّخ أنظمة حكم مدنية مستقرة وشرعية، وفي الوقت نفسه تتعامل مع مؤسسة عسكرية لا تزال تملك أدوات كافية لتغيير مسار السياسة إذا قررت التحرك؟ ويتضح خلال الإجابة عن هذا السؤال أنها ليست بالأمر اليسير، خاصةً في بيئة إقليمية لا تزال الصراعات والنزاعات قائمة فيها، ما يمنح المؤسسة العسكرية مبررًا دائمًا للحفاظ على موقعها في قلب المشهد.
4-بناء الجيوش… بين القوالب الغربية والخصوصية الإفريقية:
يناقش الكتاب هنا الكيفية التي يمكن بها إعادة النظر في مفهوم الفعالية العسكرية في السياق الإفريقي بعيدًا عن القوالب الغربية؛ إذ يبدأ بانتقاد التركيز الغربي المفرط على المعايير التنظيمية للاحتراف العسكري، مثل الحياد السياسي والخضوع الكامل للحكم المدني، معتبرًا أن هذه المعايير ليست قابلة للتطبيق على نحوٍ مطلق في بيئات إفريقيا السياسية والاجتماعية، كما يوضح أن وجود جيوش مسيّسة أو ذات روابط شخصية وثيقة مع السلطة لا يعني بالضرورة أنها جيوش غير فعّالة، بل قد يكون هذا التداخل هو ما يمنحها القدرة على العمل بكفاءة في بيئات تتَّسم بالهشاشة السياسية وكثرة التهديدات الداخلية. ويطرح المؤلف فكرة أن “الجيوب العسكرية” التي تنشأ في بعض الدول الإفريقية تمثل مسارًا بديلًا للفعالية؛ حيث تعتمد على مزج السياسة والأمن والاعتبارات الاجتماعية، بدلًا من الاقتصار على التدريب والعتاد، وتستمد قوتها من التكيف مع الواقع المحلي بدلًا من محاكاة النماذج الغربية على نحو يُركّز على فكرة التفاعل المتبادل بين الجيش والدولة، وما قد ينتج عنه من توازن بين الدور السياسي والعسكري، وهو طرح يتناقض مع النظرة الهنتنجتونية الكلاسيكية التي تفصل فصلاً تامًّا بين المجالين.
ويمضي الكتاب ليوضح كيف أن خصوصية البيئة الأمنية الإفريقية –التي تكاد تخلو من الحروب بين الدول وتغلب عليها النزاعات الداخلية وحملات حفظ السلام– تفرض على الجيوش أن تُعيد تعريف احترافيتها وفعاليتها بما يتلاءم مع هذه التحديات؛ ففي دول مثل أوغندا وإثيوبيا، يظهر القبول بدور سياسي محدود للجيش كجزء من مسؤوليته تجاه الدولة، طالما لا ينخرط في السياسة الحزبية المباشرة، باعتبار أن عزله الكامل عن الشأن السياسي قد يَضُرّ بالاستقرار.
من هنا، تتشكل نماذج إفريقية للاحتراف العسكري تعتمد على بناء القدرة المؤسسية للجيوش مع مراعاة السياق السياسي والاجتماعي، بما يسمح لها بأن تكون المؤسسة العسكرية فاعلة حتى وهي جزء من بنية السلطة السياسية، مع ملاحظة أن هذه النماذج قد تنتج جيوشًا شديدة التسييس، لكنها منضبطة وذات كفاءة، أو جيوشًا بيروقراطية فعّالة بمعايير مألوفة للغرب لكن من خلال عمليات غير تقليدية، ما يجعل الفعالية العسكرية في إفريقيا مفهومًا متغيرًا ومتعدّد الأشكال، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بطريقة تفاعل الجيش مع الدولة والمجتمع.
وبشكل عام، يركز النص على أن المؤسسات العسكرية الإفريقية تتطور في بيئة مختلفة جذريًّا عن نظيراتها الغربية، نظرًا لغياب الإرث الطويل من الحروب بين الدول ولطبيعة التهديدات التي تواجهها، مما يجعل نقل العقائد العسكرية الغربية إليها أمرًا غير ملائم في أغلب الأحيان؛ فالفعالية العسكرية في إفريقيا ليست بالضرورة نتيجة الحياد السياسي والانضباط البيروقراطي كما هو الحال في الغرب، بل قد تتحقق من خلال التكيّف مع القيود والموارد المحدودة، ومواءمة القدرات مع المصالح السياسية للنظام الحاكم، على سبيل المثال نجد أن بعض الجيوش الإفريقية، مثل جيش تشاد في عهد إدريس ديبي، أظهرت قدرة قتالية عالية رغم تسييسها الشديد، نتيجة لرؤية سياسية واضحة وتنظيم دقيق جعلها تتفوق على جيوش أخرى في المنطقة ذات تجارب تاريخية مشابهة مع التمرد، لكنها تفتقر للإرادة السياسية لبناء قوة فعّالة.
وفي المقابل، هناك أمثلة على أن التسييس أو الشخصنة المفرطة قد يُعيق الفعالية، كما في حالة الجمارك النيجيرية التي استخدمت نفوذها لتعطيل تسليح الجيش، أو حالة الجيوش التي يتم تفتيتها عمدًا لمنع الانقلابات، وهو ما قد يحافظ على النظام لكنّه يُضعف قدرات القتال. باختصار، إن مجرد كون الجيش مسيّسًا لا يعني أنه عاجز، بل يمكن أن يُحقّق الكفاءة إذا توفرت له القيادة والرؤية التي تدمج بين متطلبات الأمن والسياسة.
خاتمة:
يخلص كتاب إعادة النظر في العلاقات المدنية–العسكرية في إفريقيا إلى أن التجربة الإفريقية في هذا الإطار لا يمكن قراءتها بمعايير جاهزة أو مقاييس غربية تقليدية؛ فالقارة بتاريخها الممتد من الانقلابات المباشرة إلى أشكال النفوذ غير المرئي، تكشف عن أنماط متعددة لتدخل المؤسسة العسكرية تتجاوز ثنائية الانقلاب أو عدمه. ويبرز هنا إسهام الكتاب في توسيع زاوية النظر نحو فَهْم أكثر واقعية لتشابك السياسة بالمجتمع والأمن في بيئة إفريقية متحركة.
وفي السياق نفسه، يقدم الكتاب رسالة أساسية مفادها أن الجيوش الإفريقية رغم ما تحمله من تعقيدات وتناقضات، تظل جزءًا من معادلة بناء الدولة وضمان الاستقرار، وأن التعامل معها يتطلب إدراك خصوصية التجربة الإفريقية وعدم إسقاط نماذج خارجية عليها، وبهذا يضع الكتاب أمام الباحثين والمهتمين بشؤون القارة فرصة لإعادة التفكير في معنى الفعالية العسكرية وجدوى العلاقة المدنية–العسكرية داخل إفريقيا.
وفي الختام، لا يمنح الكتاب غطاءً للانقلابات، ولا يُصوّر الحكم العسكري كخيار مثالي، بل يلفت النظر إلى ضرورة فَهْم أكثر دقة للعلاقة بين القوة والمسؤولية للجيوش الإفريقية، فالمقياس الحقيقي لنجاح المؤسسة العسكرية ليس في حجم العتاد أو العروض الميدانية، بل في قدرتها على حماية المواطنين، ومنع الانزلاق نحو الفوضى، والمساهمة –عند الضرورة وبحدود واضحة– في دعم مؤسسات الدولة وإصلاحها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصدر الكتاب:
Moses Khisa and Christopher Day, Rethinking Civil-Military Relations in Africa: Beyond the Coup d’État, (Boulder: Lynne Rienner Publishers, 2023).