مقدمة:
اهتمَّت الصحافة الإسرائيلية خلال شهر أغسطس الجاري بملف العلاقات مع دول إفريقيا من زوايا متعددة، في ظل تنامي عُزلتها الدولية على خلفية جرائم الإبادة التي ترتكبها بحق الشعب الفلسطيني في غزة.
وأكَّدت عدة مقالات وردت في الصحف العبرية على أن إفريقيا لم تَعُد مجرد سوق هامشية، بل تُعدّ جبهة إستراتيجية حاسمة لمستقبل إسرائيل.
أحد المحاور الرئيسية كان التحذير من أن الدعاية المُوجَّهة ضد إسرائيل قد تؤدي إلى مقاطعة شاملة على غرار ما تعرَّض له نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وهو ما سيُعْتَبَر وقتها نصرًا كبيرًا لإيران وحلفائها. وقد انتقدت بعض الصحف بشدة المسؤولين الإسرائيليين الذين تُغذِّي تصريحاتهم الاستفزازية هذا الخطاب المعادي، مُحمِّلةً الحكومة مسؤولية الفشل في الجبهة السياسية الدولية.
من جانب آخر، استعرضت مقالات أخرى العلاقة التاريخية بين إسرائيل ودول إفريقية مثل جنوب السودان، مشيرةً إلى أن هذا التعاون كان يهدف في الماضي إلى إضعاف خصوم إسرائيل. كما تم مناقشة فكرة تهجير الفلسطينيين إلى جنوب السودان، واعتبرت الصحافة هذه الفكرة مجرد “خيال” لا يخدم المصالح الإسرائيلية، بل قد يضرّ بها.
وفي المقابل، أبرزت صحف أخرى أن إفريقيا أصبحت “كنزًا إستراتيجيًّا” لإسرائيل، مشيرةً إلى أهمية تعميق العلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية مع دول مختلفة في القارة مثل المغرب ورواندا، وأكدت أن هذه العلاقات تُوفّر لإسرائيل قاعدة مهمة في زمن التغيرات الجيوسياسية.
بشكلٍ عام، اتفقت الصحافة الإسرائيلية على أنّ العلاقة مع إفريقيا أصبحت أكثر أهمية من أيّ وقت مضى؛ لكونها تُمثّل “حزام سلام” مُحتمَل يمكن أن يُواجِه “حلقات الخنق” التي يحاول ما تسميه “محور الشر” إقامتها حول إسرائيل، وأن هذه الشراكات طويلة الأجل هي السبيل الوحيد للخروج من مأزق العزلة السياسية وتجنُّب الانهيار الاقتصادي.
في المقال الأول بصحيفة يديعوت أحرونوت، والمنشور بتاريخ 3 أغسطس 2025م، يُحذّر الكاتب الإسرائيلي بن درور يميني من أن إسرائيل تتَّجه نحو عُزلة دولية وحظر شامل على غرار ما حدث لجنوب إفريقيا في الثمانينيات؛ بسبب تصريحات مسؤوليها وتجاهلها للمخاوف الدولية، ويرى أن هذه التصريحات العنصرية والمُؤجِّجة للصراع، إلى جانب ضعف الدعاية الإسرائيلية، تخدم مصالح أعدائها مثل إيران وحماس، وتُساهم في تفاقم حملات المقاطعة. ووفقًا للكاتب، فإن “الانتصار المطلق” الذي تسعى إليه الحكومة الإسرائيلية قد يتحوَّل إلى هزيمة سياسية واقتصادية شاملة، ويدعو إلى وقف إطلاق النار الفوري والعودة إلى مسار التطبيع مع الدول العربية.
في المقال الثاني بصحيفة غلوبس، والمنشور بتاريخ 13 أغسطس 2025م، يربط الكاتب يوآف كارني بين الدعم الإسرائيلي التاريخي لجنوب السودان في صراعها ضد السودان، وبين الاقتراحات الحالية لنقل اللاجئين من غزة إلى هناك. ويستعرض تاريخ تدخُّل إسرائيل في المنطقة، مشيرًا إلى أن المساعدة الإسرائيلية لجنوب السودان كانت تهدف إلى إضعاف الخصوم العرب. ويحذّر كارني من أن نقل اللاجئين الفلسطينيين قد يضرّ بمصالح جنوب السودان وإسرائيل، ويزيد من التطرف في بلدٍ يعاني بالفعل من عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي، متسائلًا عن مستقبل الدولة الجديدة في ظل هذه الظروف المعقدة.
وفي المقال الثالث بصحيفة يديعوت أحرونوت، والمنشور بتاريخ 14 أغسطس 2025م، ترى الكاتبة رونيت هرشوكوفيتش أن إفريقيا أصبحت كنزًا إستراتيجيًّا لإسرائيل، وليست مجرد سوق هامشية؛ بسبب التعزيز العميق للعلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية بينهما. وتشير إلى أن القارة تُعدّ ساحة محورية في الصراع بين القوى العظمى؛ نظرًا لامتلاكها موارد طبيعية حاسمة وإمكانات زراعية هائلة. وتؤكد أن إسرائيل تُقدّم نفسها كشريك متساوٍ يجلب المعرفة والابتكار، بدلاً من دور استعماري. وتعتبر الكاتبة أن شعور الإسرائيليين بالترحيب في إفريقيا هو أحد الأصول الإستراتيجية الهامة في الوعي العالمي. وفي الختام، تؤكد أن العلاقات القوية تمثل شراكة ذكية ومتبادلة المنفعة طويلة الأجل.
خطر جنوب إفريقيا: الدعاية ضد إسرائيل قد تؤدي إلى النصر المطلق لإيران[1]:
وفق الكاتب بن درور يميني، تسير إسرائيل نحو وضع أشبه بالنموذج الجنوب إفريقي الذي شهدته في الثمانينيات، عندما أدَّى الحظر المفروض عليها إلى إلغاء نظامها العنصري. ويزعم أن إسرائيل ليست دولة فصل عنصري، لكنها تواجه دعاية أخطر بكثير قد تؤدي إلى حظر شامل، ثم انتشاره فتفاقمه. ويحذر من أن هذا قد يكون “النصر النهائي لمحور الشر” الذي يضم إيران، وحماس، والحركات الداعية للمقاطعة.
ويتساءل كيف تحوّلت إسرائيل بعد أقل من عامين من خوضها حربًا وصفها بأنها “الأكثر عدلًا في تاريخها” في الثامن من أكتوبر، إلى أخطر انهيار سياسي في تاريخها، وكيف باتت متَّهمة بالإبادة الجماعية، ويضيف أن “شيئًا ما حدث لدينا”.
ويذكر الكاتب أنه قبل ثلاثة أشهر، كان الوضع السياسي الإسرائيلي قد وصل إلى القاع، وأن الهجمات التي شنَّتها إسرائيل على إيران، وقبلها على حزب الله، رفعت المعنويات مؤقتًا، لكنّه يَعتبر أن هذه كانت فترة استراحة قصيرة، وأن كل مَن يفهم شيئًا في الساحة الدولية توسَّل مرارًا وتكرارًا لوقف التصريحات المغرورة مِن قِبَل المسؤولين الإسرائيليين على غرار: “إبادة القطاع”، و”المستوطنات الجديدة في القطاع”، و”لا يوجد أبرياء”، و”الجحيم”، و”الضم”، و”التهجير”.
ويشير بن درور يميني إلى أن هذه التصريحات “توفر الوقود لأعداء إسرائيل”، وتضم إلى السيل المناهض لها أشخاصًا كانوا من داعميها الواضحين، ويقول: إنه استمع إلى العديد من أصدقاء إسرائيل في العالم يسألون: “ماذا تفعلون بنا؟” و”ألا تفهمون أن هذا المزيج، بين صور الفظائع من غزة، وبعضها مزيَّف أو مُفَبْرَك، وبين تصريحات فاشية وعنصرية، يرفع منسوب معاداة السامية؟”
ويعترف “يميني” بأنه كان يشعر بالخجل عندما كان يُجيب بأن “إسرائيل ديمقراطية”، وعلى الرغم من ذلك، يرى الكاتب أن العديد من أصدقاء إسرائيل فهموا، أن إسرائيل قد تتصرف بغباء، ولكنها على حق، ويضيف أن هؤلاء الأصدقاء طلبوا من البعثات الإسرائيلية موادّ دعائية ولم يحصلوا عليها. ويتساءل: “هل يمكن أن تكون دولة إسرائيل، في الأيام التي يتوق فيها أصدقاؤها للمساعدة، ليس لديها مواد جاهزة ومُحدّثة وموثوقة لتقديم إجابات لمن يريدون الدفاع عنها؟”، ويقول “لا توجد إجابات”، ويتساءل لماذا لا يوجد لإسرائيل رئيس جهاز إعلام وطني منذ مايو 2024م، ولماذا تم فصل أحد أبرز المتحدثين في الجهاز.
ووفق الكاتب، فقد سعى يحيى السنوار لجَرّ إسرائيل إلى هذه المستنقع بالضبط، وأراد منع التطبيع مع السعودية، وجعل إسرائيل منبوذة، ورفع منسوب معاداة السامية، وأنه يسجّل، حتى من القبر، المزيد والمزيد من النجاحات.
ويُحَمِّل “يميني” المسؤولية لرئيس الوزراء والحكومة، ويشير إلى تصريحات سابقة لرئيس الوزراء في مارس بأنه قرر منع دخول أيّ بضائع وإمدادات إلى غزة، وتصريحات لوزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، بأنه لن يدخل حتى حبة قمح واحدة إلى القطاع”، ويتساءل: وهل كانا يعتقدان أن حماس “سترتجف من الخوف” أو “ستُسرع إلى نزع سلاحها وإطلاق سراح الأسرى؟” ويضيف أنهما لم يدركا أن النتيجة الوحيدة لهذه التصريحات ستكون تعزيز الادعاءات بجرائم حرب وتجويع.
ويتابع بن درور يميني بأن سموتريتش أعلن هذه الأيام أنه سيبقى في الحكومة؛ لأن “أشياء عظيمة ستحدث”، وهو ما يثير الخوف. ويأمل الكاتب أن يكون سموتريتش محقًّا عندما وصف رئيس الوزراء بأنه “كاذب ابن كاذب”، لأن ما هو جيد لسموتريتش عادة ما يكون ضربة لإسرائيل وهدية لمحور الشر.
ويدّعي يميني بأن معظم الادعاءات ضد إسرائيل تستند إلى الأكاذيب والافتراءات، وأنه لا إبادة جماعية ولا تجويع، لكنّه يرى أن هذا يُوضّح أن الحكومة كان يجب أن تفهم منذ 8 أكتوبر أن الأمر لا يتعلق بجبهة عسكرية واحدة فحسب، بل بجبهة سياسية أيضًا. ويرى أن هذه الحكومة لم تهتم بالضرر الذي تُسبّبه تصريحاتها، وأن إسرائيل ليست في طريقها إلى نَصْر مطلق في الجبهة الأولى، بل “في هزيمة مطلقة في الجبهة الثانية.
ويشير الكاتب إلى أن حملة المقاطعة (BDS) بدأت في عام 2005م، لكنّها حقَّقت في العام الأخير إنجازات أكثر من العشرين عامًا الماضية. ويستعرض أمثلة على ذلك، مثل قرار بريطانيا في سبتمبر 2024م بتعليق 30 من أصل 350 ترخيصًا لتصدير الأسلحة لإسرائيل، وإعلان إيطاليا في أكتوبر 2024م عن وقف جميع صفقات التصدير الدفاعي، وتوقيع ألف شخص في مجال الأدب والنشر على رسالة تدعم مقاطعة دور النشر والمهرجانات الأدبية الإسرائيلية.
ويضيف أن هناك حظرًا ثقافيًّا وأكاديميًّا بالفعل، وأن الضربة الأقسى لم تأتِ بعدُ، وهي الحظر الاقتصادي الشامل. ويذكر الكاتب أن الحظر الاقتصادي بدأ بالفعل “على الهامش”، وأن هناك طلبًا أوروبيًّا متزايدًا لإلغاء اتفاقية الشراكة، وأن هولندا والسويد تدعوان بالفعل لتعليق الاتفاقيات التجارية مع إسرائيل. ويؤكد “يميني” أن هذه هي الطريقة للانتقال من مرحلة الانهيار السياسي إلى مرحلة التدمير الاقتصادي.
ويشير الكاتب إلى أن الساحة السياسية مشتعلة بالفعل، وأن هناك المزيد والمزيد من التصريحات حول الاعتراف بدولة فلسطينية، وأن معظم دول العالم تعترف بالفعل بهذه الدولة. ويضيف أن انضمام فرنسا وبريطانيا إلى هذا الأمر ليس سوى دليل على الانحطاط السياسي لإسرائيل. ويؤكد الكاتب أن هذا التحوُّل جاء كرد فعل على سيطرة تحالف يميني متطرف على إسرائيل يتنافس أعضاؤه في التصريحات حول المزيد والمزيد من المستوطنات والبؤر الاستيطانية.
ويختتم بن درور يميني مقالته بالقول: إنه لا يزال من الممكن قلب الطاولة، وأن إسرائيل لا يزال لديها فرصة لإقامة حزام سلام حولها، وأنه من الممكن بَدْء التطبيع مع الدول العربية. ويؤكد أن حماس لن تُهزَم بالانغماس في وحل غزة، بل بحلقة من “اتفاقيات أبراهام” التي ستحل محل حلقة الخنق التي أقامها محور الشر حول إسرائيل. ويضيف أنه فقط بإعلان دراماتيكي وعلني عن وقف إطلاق نار من جانب واحد يمكن منع أهم إنجاز للسنوار، وهو الحظر الشامل على إسرائيل على غرار جنوب إفريقيا.
وينتهي بن درور يميني بالتساؤل: هل توجد في إسرائيل حكومة ستوقف الانهيار؟ ويشير إلى أن هذا المقال كُتب “بحزن شديد” بعد إقامة لمدة خمسة أسابيع خارج إسرائيل، وأن ما يراه المرء من هناك لا يراه من هنا، وأن إسرائيل لا يزال بإمكانها منع الانهيار، ولكن لهذا يجب أن تُقرَع جميع أجراس الإنذار، على أمل أن يستيقظ المسؤولون من “فانتازيا النصر المطلق”.
جنوب السودان كملاذ للاجئين من غزة: خيال ممزوج بالحنين[2]:
يشير الكاتب يوآف كارني إلى أنه ليس ببعيد عن جنوب السودان، وقبل 120 عامًا، حاول ثيودور هرتزل إيجاد ملاذ لليهود الأوروبيين في إطار “خطة أوغندا”. وبعد أكثر من ستين عامًا، حوَّلت إسرائيل أوغندا إلى قاعدة لإرسال مساعدات عسكرية للمتمردين المسيحيين السود في جنوب السودان، الذين أرادوا الانفصال عن السودان العربي المسلم.
وفقًا للكاتب، فإن هذا الدعم الإسرائيلي شهد صعودًا وهبوطًا. ففي الستينيات وبداية السبعينيات، اعتمدت إسرائيل على مساعدة الجنرال الأوغندي من أصل جنوب سوداني، عيدي أمين دادا. ثم اتُّهمت إسرائيل لاحقًا بأنها ساعدت في وصول أمين إلى السلطة عام 1971م؛ لضمان استمرار الدعم لما كان يُسمَّى آنذاك بحركة “أنيانيا”. بل إن “أمين” طلب من إسرائيل تزويده بطائرات حديثة حتى يتمكَّن من قصف الخرطوم.
ويذكر “كارني” أن إرسال شحنة أسلحة ضخمة من إسرائيل في عام 1969م، رغم أنف الجيش السوداني، أعطت دفعة قوية للتمرد الجنوبي. كان هذا المشروع جريئًا، وقد أداره عميل في الموساد يدعى دافيد بن عوزيئيل، الذي أصبح لاحقًا عقيدًا في الجيش الإسرائيلي. وقد كتب عن هذه القضية الغامضة في كتاب صدر قبل عشر سنوات، وتحدَّث عنها أيضًا في المنتديات العامة.
ويقول يوآف كارني: إن بن عوزيئيل، الذي كان لديه خبرة في إفريقيا، وتعاطف طبيعي مع ضحايا الاضطهاد السياسي والعِرْقي، أدرك على الفور قدرات الأشخاص الذين التقاهم في جنوب السودان، في منطقة ذات نباتات كثيفة “لدرجة أنني لم أستطع رؤية الناس من مسافة نصف متر”، كما روى لاحقًا. وعلى الرغم من أنهم كانوا يرتدون ملابس رثة وكانت أسلحتهم بدائية بشكل يثير السخرية، إلا أنه اعتقد أنه يمكن بناء جيش عصابات حولهم.
ولم تكتفِ إسرائيل بتقديم الأسلحة فحسب، بل قدَّمت أيضًا الزي الرسمي والأدوية. ولم يصدق المتمردون أعينهم عندما تم إخراج البنادق المشحمة والمدافع الرشاشة ومدافع الهاون وقذائف البازوكا والألغام وأجهزة الاتصال، وحتى اللقاحات على الثلج، من بطن الطائرة الإسرائيلية.
ونقل كارني عن بن عوزيئيل قوله بعد 50 عامًا في كتاب بعنوان بالإنجليزية “ارفعوا العلم أولًا”: “بدأنا عمليات كانت ستؤثر على المنطقة بأسرها، وتؤثر على العلاقات الدولية وتلفت انتباه العالم إلى هذه المنطقة النائية”. وقال أيضًا: “جئت لمساعدة هؤلاء الناس على الوقوف على أقدامهم، وضرب أولئك الذين أساؤوا إليهم”، أي النظام العربي-المسلم في الخرطوم.
وقبل تدخل إسرائيل، لم يكن المتمردون أكثر من مجرد أداة لإزعاج محلي للحكومة المركزية. ولكن في السنوات الثلاث التالية، بدأوا يضغطون عليها لدرجة أنها عرضت عليهم الحكم الذاتي. ويذكر الكاتب أن بعض المتمردين وقَّعوا اتفاق سلام مع الحكومة في الخرطوم عام 1972م، وأصبح زعيمهم، جوزيف لاغو، نائبًا لرئيس السودان. لكن هذا الترتيب لم يدم طويلًا.
ويشير يوآف كارني إلى أن إسرائيل لم يَعد لديها سبب رئيسي لدعم جنوب السودان بعد ذلك. ففي عام 1969م، كانت إسرائيل في خضم حرب استنزاف مع مصر، وأرادت أن تشغل القوات السودانية حتى لا تُغري السودان للمساعدة في حرب ضد مصر. ولكن في عام 1979م، وقَّعت إسرائيل اتفاق سلام مع مصر، وكان الحاكم العسكري للسودان في ذلك الوقت، الجنرال النميري، حليفًا مقربًا من أنور السادات.
وقد عثر المتمردون في جنوب السودان على زعيم جديد وشجاع هو “جون قرنق”، وعلى داعمين جدد: إثيوبيا، التي كانت تحت ديكتاتورية عسكرية شيوعية وحشية وموالية للسوفييت، وليبيا في عهد القذافي الذي كان يُكِنّ عداءً شخصيًّا وأيديولوجيًّا للنميري.
ويوضّح الكاتب أن السودان مرَّ بتحولات كبيرة على مر السنين، لفترة من الزمن، كانت الحركة الإسلامية المهيمنة، التي كان لها علاقات وثيقة مع القاعدة، بل إن أسامة بن لادن وجد ملاذًا في الخرطوم. ثم شنّ نظام عسكري جديد في السودان حروبًا ضد الأقليات الدينية والعرقية في جنوب السودان ودارفور، واتُّهِمَ بالإبادة الجماعية. وفي النهاية، لم يتبقَ للسودان المعزول والممزق خيار سوى الموافقة على استفتاء حول استقلال جنوب السودان.
ويشير كارني إلى أن جنوب السودان السوداء والمسيحية (على الأقل اسميًّا) لم تكن تمثل أيّ شيء قريب من أن تكون مجتمعًا عرقيًّا محددًا، بل كانت فسيفساء مستحيلة من الشعوب والقبائل التي تتحدَّث عشرات اللغات واللهجات. ومع ذلك، وجدوا الوحدة الكافية للتصويت بأغلبية ساحقة لصالح الاستقلال في عام 2011م. ولكن سرعان ما انهارت دولتهم في حرب أهلية استمرت ست سنوات، وأودت بحياة ما يقرب من 400 ألف شخص.
ويرى أن جنوب السودان تُستخدَم بالفعل كبلد لجوء للمهاجرين غير المرغوب فيهم. فالحرب الأهلية التي اندلعت في السودان قبل عامين دفعت مليون شخص عبر الحدود، وعليه فإن قدرة البلاد على استيعاب اللاجئين من غزة محدودة للغاية.
ويختتم كارني مقاله بالقول: إن الهجرة المخطَّط لها للفلسطينيين إلى جنوب السودان تثير تساؤلات حول مستقبل هذه الدولة، وطبيعة علاقاتها مع إسرائيل والغرب. فقد هربت من قبضة استبداد عربي مسلم، فهل هي بحاجة إلى “جرعة من الهجرة العربية المسلمة ذات الإمكانات المتطرفة”، التي تشمل علاقات مع إيران؟ وهل مثل هذا التطوُّر سيفيد إسرائيل؟
إفريقيا ليست سوقًا هامشيًّا، بل هي كنز إستراتيجي[3]:
تشير الكاتبة رونيت هرشوكوفيتش إلى أن العام الماضي شهد تعزيزًا عميقًا ومنظمًا ومتعدد الأبعاد للعلاقات بين إسرائيل وإفريقيا، وهو ما يتجلَّى في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية. وتؤكد أنه في فترة من الاضطرابات العالمية وموجات معادية للسامية في أوروبا وابتعاد بعض الحلفاء التقليديين، تحوَّلت العديد من الدول في إفريقيا إلى شركاء إستراتيجيين ثابتين وداعمين. وتضيف أن دولاً مثل رواندا وإثيوبيا والمغرب وكينيا وأوغندا وزامبيا لم تحافظ فقط على علاقاتها مع إسرائيل، بل عمّقتها في مجالات أساسية مثل الزراعة، والتكنولوجيا، والمياه، والأمن، والبنية التحتية، وحتى الوعي العام والسياسي.
وتوضّح الكاتبة أن إفريقيا كقارة لم تَعُد “سوقًا ناشئة”، بل هي اليوم واحدة من أهم الساحات وأكثرها تأثيرًا على النظام الاقتصادي والأمني العالمي، وأن القارة، مع وجود أكثر من 1.4 مليار نسمة وموارد طبيعية حاسمة، تتمركز في قلب الصراع بين القوى العظمى: الصين، وروسيا، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي. وتلفت الكاتبة الانتباه إلى أن الصين تستثمر هناك مليارات في البنية التحتية، فيما تُعمِّق روسيا وجودها الأمني، وترد الولايات المتحدة بالمثل من خلال الدبلوماسية والمشاريع المدنية التكنولوجية.
وتقول الكاتبة: إن القارة هي أيضًا سلّة خبز العالم للعقود القادمة، مع إمكانات إنتاج زراعي هائلة لم تتحقق بعدُ. وفي الوقت نفسه، تَعتبر أن دولًا مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية وبوركينا فاسو والنيجر تُشكّل مصدرًا حاسمًا للمعادن الإستراتيجية اللازمة لإنتاج الرقائق والبطاريات وتكنولوجيا الاتصالات والأمن. وتُلخّص الكاتبة الوضع بالقول: إن إفريقيا أصبحت بديلاً عمليًّا لتوريد المعادن التي تقع حاليًّا في قلب التوترات العالمية مثل تايوان وأوكرانيا والصين.
وفي هذا السياق، ترى الكاتبة أن إسرائيل تدخل المشهد ليس كقوة استعمارية بل كشريك متساوٍ في القيمة، يُقدِّم قيمة مضافة من المعرفة والابتكار والتعامل مع تحديات مماثلة. وتعتبر أن الزيارات المتبادلة وفتح السفارات (كما في زامبيا)، ولقاء الوفود الرواندية والإسرائيلية هي تعبير حقيقي عن هذه العملية، وأن حقيقة شعور الإسرائيليين بالترحيب في إفريقيا، على عكس تجاربهم في أوروبا، ليست تفصيلاً تافهًا، بل هي رصيد إستراتيجي في الوعي العالمي لإسرائيل.
وتضيف الكاتبة أن الارتباط ليس تكنولوجيًّا أو عسكريًّا فحسب، بل هو أيضًا فكري واقتصادي ناعم، مشيرة إلى أن العديد من الإسرائيليين يكتشفون إفريقيا كوجهة يسهل الوصول إليها ومثيرة للاهتمام، ليس فقط لرحلات السفاري، بل أيضًا في بناء روابط ناعمة من الوعي العام الإيجابي. وتُشدّد على أن السياحة تضع إفريقيا كشريك يتفهّم الإسرائيلي، ويُقدِّره، ولا يراه غريبًا، بل ضيفًا مرغوبًا فيه، وتعتبر الكاتبة أن هذا جزء من القوة الناعمة التي تبنيها إسرائيل.
وترى الكاتبة أن المستوى السياسي والإستراتيجي قد شهد ترقية حقيقية في العام الماضي. وتذكر أن العديد من الدول في إفريقيا اختارت الامتناع عن المشاركة في التصويتات المعادية لإسرائيل في الأمم المتحدة، مع إظهار موقف متوازن وداعم أحيانًا. وبالإضافة إلى ذلك، تلفت الانتباه إلى انضمام ستة برلمانات إفريقية جديدة إلى ائتلاف دعم إسرائيل، في خطوة تُعزّز المرساة السياسية لإسرائيل في القارة.
وفي المجال الأمني، تشير الكاتبة إلى أن التعاون مع الصناعة الإسرائيلية، وخاصةً مع المغرب، وصل إلى مستويات جديدة من التكامل، وأن إنشاء مصنع إنتاجي مشترك هو خطوة غير مسبوقة تجمع بين التكنولوجيا والثقة الإستراتيجية والتأثير الإقليمي. وتلفت إلى أن دولاً أخرى مثل غانا ونيجيريا والسنغال تدرس التعاون في مجالات الاستخبارات وحماية الحدود والاستشارات الأمنية. وترى أن الأمر لم يَعُد مجرد تصدير أسلحة، بل هو دمج للمذاهب والحلول العملياتية الإسرائيلية.
وفي الختام، تؤكد أن إفريقيا ليست مجرد مستقبل، بل هي الحاضر، وإن إسرائيل تبني في القارة شراكة ذكية ذات عمق واحترام متبادل وهدف سياسي طويل الأجل.
………………………………………..
[1] بن درور يميني، “خطر جنوب إفريقيا: الدعاية ضد إسرائيل قد تؤدي إلى النصر المطلق لإيران” صحيفة يديعوت أحرونوت (الأراضي المحتلة)، 3 أغسطس 2025م، على الرابط (بالعبرية):
https://www.ynet.co.il/news/article/yokra14459059
[2] يوآف كارني، “جنوب السودان كملاذ للاجئين من غزة: خيال ممزوج بالحنين”، صحيفة غلوبس (الأراضي المحتلة)، 13 أغسطس 2025م، على الرابط (بالعبرية):
https://www.globes.co.il/news/article.aspx?did=1001518833
[3] رونيت هرشوكوفيتش، “إفريقيا ليست سوقًا هامشيًا، بل هي رصيد إستراتيجي”، صحيفة يديعوت أحرونوت (الأراضي المحتلة)، 14 أغسطس 2025 م، على الرابط (بالعبرية):
https://www.ynet.co.il/news/article/rjh0jbi00xl