كشَف الصِّدام الأمريكي مع جنوب إفريقيا، وفشل المفاوضات التي كانت تدور بين الجانبين لمعالجة أزمة الرسوم الجمركية الأمريكية التي تم فرضها (7 أغسطس الجاري) على واحدة من أهمّ شركاء واشنطن في القارة طوال عقود ممتدة؛ عن تصميم الإدارة الأمريكية بقيادة دونالد ترامب على فتح خطوط مواجهة مع كافة الدول الإفريقية، وكذلك مع الدول الداعمة لها مثل الصين وروسيا، وغيرهما.
ويتناول المقال الأول رؤية أمريكية لتطبيق الصين “لمبادرة الأمن العالمي”، ويحاول صَبْغها بمسحة من الهيمنة و”الاستعمار الجديد” بحسب رؤية كاتب المقال.
ويتناول المقال الثاني تداعيات الانسحاب الأمريكي من إفريقيا كدافع لتعميق الصين نفوذها لشغل فراغ القوة الأمريكية.
وجاء المقال الثالث تجسيدًا لهذه المخاوف بالتعليق على خطة التعاون التجاري بين الصين وجنوب إفريقيا حتى العام 2029م، وهدفها الأساسي تعويض خسارة الاقتصاد الجنوب إفريقي نتيجة للعقوبات الجمركية التي فرضتها إدارة دونالد ترامب ضد بريتوريا في الأسبوع الأول من أغسطس الجاري.
إفريقيا حقل اختبار لمبادرة الأمن العالمي الصينية([1]):
تُعدّ مبادرة الأمن العالمي، التي أطلقها الرئيس الصيني “شي جين بينغ” في العام 2022م، واحدة من المبادرات الصينية التي تهدف إلى إعادة تشكيل أبنية الحكم العالمية من أجل خلق بيئة مواتية لصعود الصين كقوة عظمى. وفيما طُرحت المبادرة كإطار يُركّز على التعاون الأمني، وعدم التدخل والدفاع عن ميثاق الأمم المتحدة -وهي الموضوعات التي تلقى قبولًا في إفريقيا والعالم النامي-؛ فإن المبادرة تتعلق بكل وضوح بالمفاهيم الصينية للأمن القومي.
وهكذا يجب قراءة الورقة المفاهيمية للمبادرة GSI Concept Paper، الصادرة في العام 2023م، مع “الورقة البيضاء 2025م حول الأمن القومي الصيني”، 2025 White Paper on China’s National Security، والتي تضع الصلات الواردة فيها كجزء من أربعة أعمدة للأمن القومي الصيني وهي: أمن النظام السياسي باعتباره الأساس الأول؛ الأمن الاقتصادي كقاعدة؛ العلوم العسكرية، والتكنولوجيا، والثقافة، والأمن الاجتماعي كضامن؛ الأمن الدولي باعتباره بناءً داعمًا.
وبدأت المبادرة -التي اتسمت في البداية بمصطلحات عامة وملتبسة-، في اكتساب سمات محددة. وفي المنتدى التاسع لتعاون الصين وإفريقيا في سبتمبر 2024م Ninth Forum for China Africa Cooperation (FOCAC) وصف الرئيس الصيني “بينغ” خطة عمل المنتدى للفترة 2025 -2027م FOCAC 2025 -2027 Action Plan بأنها “مثال للتطبيق المبكّر لمبادرة الأمن العالمي”.
وتلا ذلك عَقْد ثمانية فعاليات رفيعة المستوى للتعاون العسكري الصيني الإفريقي، فيما بين سبتمبر 2024م والاجتماع الوزاري لتطبيق فوكاك Interministerial FOCAC Implementation Meeting في يونيو 2025م، بما في ذلك فعالية ضمت 90 ضابطًا عسكريًّا شابًّا من 40 دولة إفريقية استضافتها كلية الأركان العسكرية بجيش التحرير الشعبي في نانجينغ Nanjing.
وفي ضوء كيفية تحول مبادرة الأمن العالمي بالتدريج إلى إطار عام للعلاقات الصينية الإفريقية، فإنه كان لذلك تطبيقات مباشرة بالنسبة لجهود الصين في ملف التعاون الأمني في إفريقيا. وعلى سبيل المثال فإن خطة عمل المنتدى الصيني الإفريقي وضعت هدفًا بتدريب 6000 ضابط كبير و500 ضابط مبتدئ من رجال العسكرية في إفريقيا، و1000 ضابط شرطة بحلول سبتمبر 2027م عندما يتم عقد قمة المنتدى التالي.
وبالنسبة للحكومات الإفريقية فإن المكاسب التي يرونها من مبادرة الأمن العالمي تشمل تحسين الوصول للتمويل الاقتصادي والخاص بالبنية التحتية، وإلى معدات عسكرية ستكون متوفرة بشكل أكبر، وبقيود أمنية أقل. علاوة على ذلك، يشترك بعض القادة الأفارقة في تأكيد الصين على أمن النظام واستمراره كأولوية تسبق أمن المواطن.
على أيّ حال، فإن قادة أفارقة يرون تهديدات في تبنّي بعض خصائص مبادرة الأمن العالمي مثل سيطرة الحزب الحاكم المطلقة على “العمل الأمني الوطني”؛ إذ لدى إفريقيا تجارب مريرة من حكم الحزب الواحد الاستبدادي والحكم العسكري تثير مثل هذه المخاوف؛ والتي تشمل تقييد أشكال العلاقات المدنية الديمقراطية-العسكرية، ومبدأ عدم تحزُّب أفراد الأمن المتخصصين الذين يحافظون على الأمن العام والدستور وليسوا فقط لحماية وتأييد الحزب الحاكم.
كما أنه ثمة مخاوف من انزلاق الدول الإفريقية في تيارات المنافسة الجيوسياسية؛ لأن مواجهة النفوذ الغربي مسألة محورية في سرديات مبادرة الأمن العالمي وإطارها الإستراتيجي. ويُهدِّد ذلك بتراجع تقليد إفريقيا بتبنّي سياسات عدم الانحياز.
دمج مبادرة الأمن العالمي في “فوكاك”:
تقدم “الورقة المفاهيمية لمبادرة الأمن العالمي” تصورًا لمنظمات الصين متعددة الأطراف الإقليمية، مثل فوكاك، على أنها بناء مؤسساتي يمكن من خلاله طرح مبادرة الأمن العالمي. وقد سجّلت أُولى التوقيعات الإفريقية الرسمية على مبادرة الأمن العالمي في أغسطس 2022م، خلال الاجتماع الوزاري الثامن لتطبيق فوكاك. وتم تعزيز هذه الخطوة في المنتدى التاسع في سبتمبر 2024م. كما تم التوقيع على مبادرة الأمن العالمي وإجازتها في جميع الاتفاقات الثنائية بين الصين والدول الإفريقية التي تم التوصل لها منذ العام 2022م. وخلال تلك العملية ذاع صيت المبادرة ممَّا عزَّز مكانة الصين قوة ظاهرة وتحظى باحترام في القارة، ودفع الدول الإفريقية نحو اقتراب أكبر من مواقف الصين في مواجهة منافسيها.
ويعكس كل ذلك تجسيد مبادرة الأمن العالمي في ديناميات عمل كتل إقليمية أخرى ومنظمات أمنية تقودها الصين، مثل منظمة تعاون شنغهاي، ومنتدى بكين شيانجشان Beijing Xiangshan Forum التي تشارك بها أعداد لافتة من الدول الإفريقية منذ إطلاق مبادرة الأمن العالمي.
انسحاب قاتل: ترامب يفسح الطريق أمام الصين للهيمنة على إفريقيا([2]):
في حقبة تهيمن عليها مراكز البيانات، والذكاء الاصطناعي، والتصنيع المتقدّم، باتت الموارد الإفريقية من المعادن الأرضية النادرة –مثل: الليثيوم والكوبالت والنحاس-، محل اهتمام عالمي واضح. وسَعَت دولٌ كثيرة، من بينها الصين، للتقرب من الدول الإفريقية للحصول على مواردها المعدنية، وبدا أن للولايات المتحدة، حتى شهور قريبة فحسب، نفس الأطماع.
على أي حال، فإن إدارة ترامب، التي رفعت لافتة سياسة “أمريكا أولًا”، فكَّت ارتباطها بإفريقيا، اقتصاديًّا وسياسيًّا، مختزلةً ما كان يبدو علاقة بالغة الأهمية. ويهدد هذا التغيُّر بتحجيم صلة الولايات المتحدة بالقارة في لحظة حاسمة في السباق العالمي على التفوق التكنولوجي والإستراتيجي. ومع هذا الانسحاب الأمريكي فإن واشنطن تُسلِّم للصين وقوى دولية أخرى ميزةً في وقتها المناسب لتعميق مواطئ أقدامهم في إفريقيا الغنية بالموارد.
العناصر الأرضية النادرة:
انتقلت العلاقات الأمريكية-الإفريقية بلا شك إلى مرحلة من عدم اليقين والضعف، وذلك أمر غير محدود التأثير. وقد وجدت الولايات المتحدة والصين نفسيهما عالقتين في خلاف إستراتيجي حول التجارة في العناصر الأرضية النادرة التي باتت معروفة اختصارًا بالـREEs، وأصبحت ذات استخدامات عسكرية ومدنية هائلة؛ كونها ضرورية للغاية للتكنولوجيا الحيوية، مثل الهواتف الذكية، ومعدات الكمبيوتر، والرادارات، والأقمار الصناعية، ونظم التوجيه الصاروخي.
وتضم إفريقيا قرابة 30% من موارد العالم من هذه الموارد الأرضية النادرة، ويتوقع أن تُشكّل القارة مصدرًا لنحو 10% من إجمالي صادرات العالم من هذه المعادن بحلول العام 2029م، ممَّا يُعزّز دورها كلاعب صاعد في الأسواق العالمية للمعادن. ومع تنافس الولايات المتحدة والصين على المعادن الأرضية النادرة عالميًّا فإن إفريقيا تظهر في المشهد كمورد حيوي بشكل متزايد.
على أيّ حال فإن الشركات الصينية، بحسب تقديرات 2024م، تتلقى قرابة 40% من صادرات إفريقيا الحالية من الموارد المعدنية النادرة، الأمر الذي يُظْهِر دور هذه الكيانات الصينية المهيمنة بالفعل على الاقتصاد التعديني في إفريقيا.
وإذا كانت الولايات المتحدة تريد أن تكون لها حصة كبيرة في الثروة المعدنية في إفريقيا؛ فإن عليها أن تتحرك على نحو ملائم لتحسين علاقاتها ومنافسة التفوق الاقتصادي الصيني في الإقليم. إن انسحاب الولايات المتحدة من إفريقيا لن يؤدي إلا إلى تفاقم خسارة واشنطن.
الصين في المسرح الإفريقي:
وعلى نقيض الحالة الأمريكية، فإن جمهورية الصين الشعبية، وهي أكبر شريك تجاري حاليًّا مع إفريقيا، لم تُظْهِر أيّ نية في تباطؤ توجُّهها نحو القارة الإفريقية، وتواصل التعهُّد بتقديم بلايين الدولارات في الاستثمار والبنية الأساسية والتقدم المأمول في القارة. وفي يونيو 2025م قدَّمت الصين سياسة التجارة بدون جمارك zero-tariff trade policy إلى 53 دولة إفريقية من بين 54 دولة، وهي خطوة لا يمكن اعتبارها إلا خطوة مناقضة للسياسات الأمريكية.
ويُبنَى هذا التوسع على سياسة لخفض الجمارك، كانت قد اقترحتها الصين في نهاية العام 2024م، بحيث تُمكّن الدول منخفضة ومتوسطة الدخل من المشاركة في ثالث أكبر سوق استهلاكي في العالم دون أعباء جمركية مكلفة. إضافة إلى ذلك فإن الولايات المتحدة تفقد، وسط الطبقات المتوسطة الإفريقية، وجودها في الساحة لصالح الصين في الصراع بينهما على قلوب وعقول الأفارقة. وأظهر استطلاع للرأي في العام 2025م أجرته أفروباروميتيرAfrobarometer أن الصين تجاوزت الولايات المتحدة في شعبيتها في القارة؛ حيث وصف 60% من المُستطلَع آراؤهم النفوذ الصيني في بلدهم بأنه “إيجابي نوعًا ما”، أو “إيجابي جدًّا”. ومقارنة بذلك قال 53% من عيّنة الاستطلاع: إنه كان للولايات المتحدة نفس النفوذ في الماضي.
خلاصة:
إن خصم بلايين الدولارات من المعونات الأمريكية المقدَّمة لإفريقيا، وفرض قيود على التأشيرات، ومنع سفر مواطني دول إفريقية يُحجِّم بشكل واضح الصلات الأمريكية-الإفريقية. وتقوم إدارة ترامب بإصلاح العلاقات الأمريكية-الإفريقية بطريقة تستهدف خفض النفوذ الأمريكي في القارة في تلك النقطة الهامة في السباق (مع الصين) على التفوق التكنولوجي.
إن تآكل هذه العلاقة يخلق فراغًا بالنسبة للاعبين خارجيين مثل الصين لتعميق حضورها في إفريقيا وتحقيق مكاسب. ومع مُضِي واشنطن في تلك السياسة فإنها ستجد نفسها عن قريب قد تخلَّفت عن العالم الذي مضى بدونها.
بريتوريا تكشف خطة التجارة مع الصين وسط توترات مع واشنطن([3]) :
كشفت جنوب إفريقيا عن حزمة استثمارات تمتد لمدة خمسة أعوام مع الصين، كجزء من دفعة أوسع نطاقًا نحو تعميق تعاون الجنوب-الجنوب، وتنويع شراكاتها الاقتصادية العالمية وسط تصاعد التوتر التجاري مع الولايات المتحدة.
وقد تم تطوير “حزمة التجارة والاستثمار بين جنوب إفريقيا والصين (2025 -2029م)” South Africa-China Trade and Investment Package مِن قِبَل وزارة التجارة والصناعة والمنافسة بالتعاون مع جهات صناعية، وتم الإعلان عنها يوم الخميس 7 أغسطس (وهو نفس يوم بدء تطبيق عقوبات جمركية أمريكية على جنوب إفريقيا بعد فشل مفاوضات تجارية بين الجانبين في الأسابيع السابقة) مِن قِبَل الوزيرة بمؤسسة الرئاسة خومبودزو نتشافيني Khumbudzo Ntshavheni؛ والتي كشفت أيضًا عن أن الحزمة تُحدّد الأولويات الإستراتيجية في التجارة، والاستثمار، والتنمية الصناعية، والتدريب على المهارات المختلفة.
وأكَّدت نتشافيني للصحفيين في مؤتمر صحفي ببريتوريا أنه “فيما يتعلق بالتجارة فإن الأولويات تدور حول تبادل أكبر 100 مُنتَج، وتأسيس معرض دائم في الصين، والتعاون من أجل معالجة الإجراءات التنظيمية”. أما فيما يتعلق بالاستثمار والتنمية الصناعية فإن الأولويات ستكون حول الاستثمارات في الصلب، والإطارات، والسيارات، وتصنيع البطاريات، والأدوية والأجهزة الطبية، وتصنيع خطوط السكك الحديدية والاقتصاد الرقمي.
وفيما يتعلق بجانب تطوير المهارات فإنه سيُركّز على المهارات المرتبطة بالقطاعات المحددة كأولوية في الحزمة، بما في ذلك ما يتعلق بالخدمات وتقديم صيانة العناية اللاحقة. بحسب تصريحاتها، مضيفة أن الحزمة تم عرضها على مسؤولين صينيين خلال زيارة عمل نائب الرئيس بول ماشتيل P. Mashatile للصين في يوليو الماضي؛ حيث التقى خلالها بشركات ومؤسسات مالية مملوكة للدولة.
ويأتي هذا الإعلان فيما تمر بريتوريا بعلاقات تجارية مُعقّدة مع واشنطن. وقد دفَع هذا التوتر في العلاقات مع الولايات المتحدة جنوب إفريقيا إلى مسارعة جهودها لتنويع أسواق صادراتها وتقوية تكامل سلاسل التوريد عبر آسيا وأوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا.
وتطرح حكومة جنوب إفريقيا، في سبيل دعم الصناعات التي تأثرت برفع الرسوم الجمركية الأمريكية، تدخلات مستهدفة بما في ذلك إنشاء مكتب لدعم الصادرات من أجل الشركات المتضررة، وصندوق لدعم التوطين (للصادرات)، وبرنامج دعم للصادرات والتنافسية، يقوم بتقديم رأسمال عامل وتمويلًا لشراء المعدات.
……………………………………….