نشرت مجلة “السياسة والمجتمع الدولي IPG” الألمانية مقالاً للرأي بقلم “زيكورا إيبه Zikora Ibeh”، باحثة وكاتبة عمود وتعمل في مجال التنمية والعدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين؛ حيث تناقش إذا ما كانت هناك حسابات خفية وراء انسحاب شركات النفط العملاقة من دلتا النيجر، شارحةً ما يدور خلف الكواليس من نقاشات حول التهرُّب من المسؤولية عن الأضرار البيئية والصحية الناجمة عن أعمال التنقيب هناك.
بقلم: زيكورا إيبه
ترجمة وتقديم: شيرين ماهر
لأكثر من 60 عامًا، استخرجت كُبريات شركات الحفريات في دلتا النيجر الذهب الأسود من الأرض بدقة مُدمّرة. والآن ينسحبون فجأةً، كعصابة إجرامية تُغادر مسرح جريمتها لتبدأ من جديد في مكان آخر. تُرى، ماذا يتركون وراءهم؟ بيئة مُدمَّرة، مُلوَّثة بالنفط والمواد الكيميائية. ملايين السكان المحليين، وخاصةً سكان الريف، يواجهون الآن العواقب بمفردهم.
بدأ الانسحاب بهدوء ودون ضجيج منذ عام ٢٠١٠م، لكنَّه بلغ ذُروته في أكتوبر ٢٠٢٤م: عندما حصلت شركات النفط العالمية الأربع، توتال إنرجيز، وإيني، وإكوينور، وإكسون موبيل، على موافقة لبيع تراخيص إنتاج النفط الخاصة بها إلى الشركات النيجيرية تشابال إنرجيز، وأواندو، وسيبلات.
في الواقع ترتبط آبار النفط وخطوط الأنابيب الخطرة بالحصص البرية التي تم التخارُج منها. ولكن، تنقل الشركات أنشطتها إلى حقول المياه العميقة في خليج غينيا؛ حيث يوجد ١٣ من أصل ٣٧ مليار برميل من احتياطيات النفط المؤكدة في نيجيريا.
في نظر المجتمعات الغنية بالنفط في دلتا النيجر، يُعدّ قرار شركات النفط العملاقة ببيع منشآتها الآن أكثر من مجرد صفقة تجارية، بل هو خطوة مدروسة؛ إذ تسعى هذه الشركات من خلال هذه الخطوة إلى التهرُّب من مسؤولية تُقدَّر بملايين الدولارات عن الأضرار البيئية والصحية التي سبَّبتها، بالإضافة إلى تدمير سُبل العيش.
فإذا باعت شركات النفط منشآتها الآن، إذن فهي تفعل ذلك دون تقييم شامل للأثر البيئي ودون إرشادات واضحة من الجهات التنظيمية تضمن معالجة الضرر البيئي الذي خلَّفته بالكامل قبل الموافقة على تغيير الملكية. كما لم يُلزَم المشترون بتحمُّل جميع الالتزامات المالية أو إصلاح الأضرار الناجمة عن أنشطة البائعين في المنطقة.
ولا توجد خطة شاملة لمكافحة التلوث الناجم ومعالجته، تُلبِّي أيضًا المتطلبات الحكومية لصالح السكان المتضررين.
وفي هذا السياق، تلعب المادة 235 من قانون التعدين دورًا حاسمًا؛ فهي تنصُّ على وجوب إنشاء شركات النفط صندوقًا إنمائيًّا بغرض تنمية المجتمعات المتضررة (صندوق ائتمان لتنمية المجتمعات المضيفة). وفيما يخص تصاريح الإنتاج القائمة ومنشآت الإنتاج العاملة، يجب إتمام ذلك خلال اثني عشر شهرًا من تاريخ سريانها؛ أما بالنسبة للامتيازات الجديدة، فيتعين إتمام ذلك قبل بدء العمليات التجارية. وبدون تطبيق هذه اللوائح بشكل متسق ودون الرقابة اللازمة من السلطات، تُترك المجتمعات المُتضررة لتتحمَّل الأضرار بنفسها، مُعرِّضةً بذلك الشركات لعدم تحمُّل مسؤوليتها.
كما يساور البلديات القلق؛ لأن العديد من الشركات النيجيرية التي تشتري مرافق الإنتاج إنما هي شركات ناشئة تفتقر إلى الخبرة اللازمة. وبالتالي، ثمة شكوك جدية حول قدرتها على التعامل مع القضايا والالتزامات المترتبة عليها. علاوة على ذلك، أصبح من المعروف الآن أن بعض التراخيص التي باعتها الشركات الدولية لشركات محلية تنطوي على مرافق شديدة الخطورة وصلت إلى نهاية عمرها الافتراضي وتحتاج إلى إيقاف تشغيلها بشكل عاجل.
في الواقع، لم تكن دلتا النيجر دائمًا نقطة جذب لشركات النفط. لقد كانت المنطقة تتميز، في السابق، بغابات المانجروف الكثيفة، وينابيع المياه العذبة النقية، وتنوعها البيولوجي الغني. ولكن حتى مع تحليق العَلم البريطاني فوق نيجيريا، بدأ التغيير: لقد اكتشفت شركة “شل دارسي” -التي أصبحت فيما بعد شركة “شل”- رواسب نفط خام ذات أهمية تجارية في (أوتوباجي)، فيما كان يُعرَف آنذاك بمنطقة (أولويبيري). بالتزامن مع هذا الاكتشاف، أصبحت الدولة الواقعة في غرب إفريقيا دولة منتجة للنفط. من ناحية أخرى، انقضَّ السياسيون وجنرالات الجيش على ثروة الدولة المتنامية كما ينهش النحل العسل. ونتيجة لذلك، أصبحت شركة “شل” العملاقة للنفط رمزًا راسخًا في تاريخ الاستيلاء على الدولة.
لكنَّ ثمن الثروة كان باهظًا؛ فمنذ بَدْء الإنتاج التجاري للنفط في عام 1958م، تم إطلاق ما يُقدَّر بنحو 13 مليون برميل من النفط الخام في وجه البيئة. وقد تلوثت الأراضي المزروعة والمياه الجوفية والمجاري المائية، مما حرم ملايين المزارعين والصيادين من سُبل عيشهم. واليوم، تُعدّ دلتا النيجر واحدة من أكثر المناطق تلوثًا على وجه الأرض. وحتى اليوم، تطلق 300 بقعة نفطية في دلتا النيجر ما مجموعه 240 ألف برميل في البيئة كل عام. ويتعرَّض السكان باستمرار لمواد كيميائية شديدة السُّمِّيَّة، سواء من النفط الموجود في الأرض أو من محروقات الغاز. وكل ذلك ينطوي على عواقب وخيمة؛ حيث إن متوسط عمر الأفراد المتوقع في دلتا النيجر أقل بعشر سنوات على الأقل من المتوسط الوطني. كما يموت العديد من الأطفال قبل سنّ الخامسة.
هذا الوضع الكارثي قائم منذ عقود، وقد تجاهلته شركات النفط طويلاً أو أخفته عن حرص وتعمُّد. وقد أُعدِم تسعة ناشطين من شعب أوغوني، بمن فيهم “كين سارو- ويوا”، عام ١٩٩٤م؛ بسبب احتجاجهم على الدمار البيئي الذي تُسبّبه شركة شل؛ عندها اتضح للعالم أن يد عملاق النفط مُلطَّخة بالدماء. ومع ذلك، حتى بعد مرور ثلاثة عقود على هذه الأحداث الدموية، لا تزال شركات النفط الكبرى تعتمد على الفساد والعنف لتحقيق مصالحها.
يتجلَّى ذلك أيضًا في عملية البيع المُخطّط لها لشركة “رويال داتش شل”؛ فعلى غرار توتال إنرجيز، وإيني، وإكوينور، وإكسون موبيل، تعتزم شركة الوقود الأحفوري الأنجلو-هولندية العملاقة الانسحاب تدريجيًّا من دلتا النيجر.
وتخطط شركة “شل” لبيع تراخيص إنتاج نفط تُقدَّر بنحو 6.73 مليار برميل، بالإضافة إلى احتياطيات غاز تُقدَّر قيمتها بـ2.4 مليار دولار، إلى شركة “رينيسانس أفريكا إنرجي”.
وكانت “شل” اللاعب الأول في صناعة النفط النيجيرية، لكنَّها ستكون آخر مَن يغادر المشهد. وبعد أن وافقت الوزارة المسؤولة على خطة بيع أصولها في ديسمبر 2024م، ترددت الجهات التنظيمية في تنفيذ الخطة عقب احتجاجات من مجتمعات مُنتجي النفط والناشطين.
سوف يُنهي هذا البيع هيمنة شركة “شل” التي دامت قرابة 100 عام على صناعة الطاقة النيجيرية. وهناك عدة أسباب وراء عدم حدوث ذلك حتى الآن. أولاً، انقسام الحكومة المركزية إلى معسكرين متعادلين في القوة بشأن هذا القرار.
ففي بداية فبراير، أوقف مجلس النواب النيجيري عملية البيع حتى تفي شركات النفط العالمية بالتزاماتها البيئية والاجتماعية. إلا أن الرئيس “بولا أحمد تينوبو”، وهو عضو في صناعة النفط، يقف وراء هذه الصفقات. ولعل هذا ليس من باب المصادفة؛ إذ يمتلك ابن شقيق “تينوبو” شركة النفط والغاز النيجيرية “أواندو”. وتشهد المؤامرات المحيطة بعملية بيع “شل”، والتي عارض فيها الرئيس “تينوبو”، بصفته وزير النفط الفعلي، العديد من شخصيات المعارضة، على استمرار نفوذ شركات النفط العملاقة على الدولة والمجتمع النيجيريين. ولا يرغب الرئيس ولا شركة “شل” في تحمُّل مسؤولية الأضرار البيئية والصحية الناجمة.
وقد أدرك سكان المناطق الريفية المتضررون في دلتا النيجر، الذين دُمِّرت سُبُل عيشهم، منذ فترة طويلة أنه لا يوجد أيّ إجراء يُتَّخَذ في نيجيريا لمعالجة أوضاعهم المتردية. ولذلك، يتزايد سعيهم للعدالة في المحاكم الأجنبية، كما هو الحال في الوقت الراهن مع آلاف من سكان أوغالي وبيل، الذين يقاضون شركة “شل” في المملكة المتحدة جراء عقود من التلوُّث النفطي. لقد بدأت المحاكمة في 13 فبراير 2025م وانتهت في 10 مارس.
بشكل عام، تُعدّ موجة عمليات البيع الحالية بين الشركات العالمية خطوةً أخرى في الديناميكيات التقدمية لفخّ الموارد النيجيرية؛ حيث تبيع شركات النفط العملاقة، مثل “توتال إنرجيز”، و”إيني”، و”إكوينور”، أصولها في دلتا النيجر كأحد محاولات التنصُّل من المسؤولية عن الأضرار البيئية والصحية، فضلًا عن تدمير سُبُل عيش السكان المحليين.
لقد فقدت هذه الشركات بصيرتها وقِيَمها تمامًا مقابل الجشع المُستميت للربح ونزعتها النَّهِمة لاستخراج الموارد. إن عجز الدولة النيجيرية عن التصرف بما يخدم مصالحها الوطنية يُجسِّد بوضوح مدى قوة الاستعمار الجديد. وحتى بعد عقود من اكتشاف الذهب الأسود، لا يزال أكبر مُنْتِج للنفط الخام في إفريقيا يرضخ له.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رابط المقال: