لم يُخْفِ مهتمّون بالشأن الإفريقي صدمتهم من أحاديث متواترة عن إغلاق مقر “الجمعية الإفريقية” في حي الزمالك بالقاهرة، ذلك الصرح الذي احتضن حركات التحرُّر والقادة الأفارقة، وكان جسرًا للتواصل الثقافي والسياسي والثوري بين مصر وبلدان القارة.
ورغم عدم صدور إعلان رسمي بشأن إغلاق مقر الجمعية في الحي الراقي؛ فقد أفاد عاملون حاليون وسابقون بالجمعية بوجود قرار بالإغلاق مع توقُّف نشاطها منذ أسابيع؛ عقب نجاح ورثة المالك الأصلي للمقر في استرداده قانونيًّا، وهو ما لم يتسنَّ التحقق من صحته.
ترافقت هذه الأنباء مع مناشدات عديدة للسلطات المصرية بعدم التفريط في إرثٍ يمتدّ لسبعة عقود، كانت خلالها “الجمعية الإفريقية” شاهدة على محطات مصيرية في تاريخ مصر والأفارقة، ولا سيما في زمن الاستقلال الإفريقي والنضال ضد التمييز العنصري.
البيت الإفريقي:
يقع مقر “الجمعية الإفريقية” في “الفيلا” رقم 5 بشارع أحمد حشمت بحي الزمالك (غربي القاهرة)، كانت ملكيتها تعود إلى محمد عبد العزيز إسحق، أستاذ الأدب بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليًّا)، الذي عُرف بميوله التحررية ضد الاستعمار.
كان إسحق يُقيم صالونًا سياسيًّا -بالمقر-، يناقش شؤون القارة وهمومها، إلى أن رشَّحه مكتب الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر لمقابلة قادة التحرُّر في منزله، فما كان منه إلا أن وهب “الفيلا” لصالح “الجمعية” التي عُرفت في بدايتها باسم “الرابطة الإفريقية”.
وينسب إلى إسحق -أيضًا- مقترح إنشاء فرع لجامعة القاهرة في الخرطوم عام 1953م، كما ربطته علاقات وثيقة مع عدد من قادة النضال الإفريقي، بينهم باتريس لومومبا، أحد قادة استقلال جمهورية الكونغو الديمقراطية عن الاستعمار البلجيكي، والذي اغتيل بعد أسابيع فقط من تولّيه منصب رئيس الوزراء.
كما لعب إسحق -الذي شغل منصب مستشار في السفارة المصرية في ليوبولدفيل “كينشاسا حاليًّا”- دورًا بارزًا في تهريب أبناء لومومبا سرًّا من الكونغو عبر أوروبا وصولاً إلى القاهرة أواخر 1960م، وكان يخطط لإصدار أول دائرة معارف إفريقية.
وعُرف بيته في حي الزمالك بـ”البيت الإفريقي”؛ إذ كانت روح البيت وتفاصيله تنبض بإفريقيا من ديكورات وتُحَف إلى آلات كاتبة استخدمها المفكرون وقادة التحرير في نضالهم، حتى إن الزعيم الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا، خلال زيارته للقاهرة في تسعينيات القرن الماضي بعد توليه رئاسة بلاده، حرص على زيارة هذه الغرف التاريخية([1]).
تأسيس الرابطة:
بعد أن وهب إسحق منزله، تأسست “الجمعية الإفريقية” تحت اسم “الرابطة الإفريقية”، وذلك في منتصف خمسينيات القرن الماضي؛ لتكون بمثابة وطن بديل للطلاب الأفارقة والسياسيين وقادة التحرُّر ومندوبيهم، ورغم حصولها على جزء من مواردها من الدولة المصرية، فقد كانت رسميًّا مستقلة عنها، وأصبح عنوانها في حي بالزمالك مقرًّا لعشرات من مكاتب حركات التحرُّر الإفريقي، ومركزًا ثقافيًّا للمفكرين والكتاب والطلاب الذين دعموا هذه القضايا.
نشأت الرابطة بعد ثلاث سنوات فقط من حركة “الضباط الأحرار” في مصر، التي أطاحت بالنظام الملكي وأعلنت الجمهورية في يوليو 1952م، وبالتزامن مع بدء القاهرة في الانخراط مع قضايا وهموم بلدان الجنوب العالمي.
وكانت الرابطة ساحة للتعبير السياسي عن حركات التحرر الإفريقي عبر قنوات وفَّرتها مصر، فبينما كانت السياسات الرسمية في مصر قيد التطوير، كان أعضاء الرابطة يستضيفون النشطاء الأفارقة، ويُعرِّفون بهم، ويبثون أصواتهم، بل ويعبئونهم سياسيًّا من القاهرة، كما كانت مصدر قوة للأفارقة الذين تعرَّضوا للاضطهاد السياسي واضطروا غالبًا للعمل السري؛ لتجاوز قيود وعزلة الاستعمار([2]) .
وتطوَّر دور الرابطة كقاعدة لحركات التحرُّر بشكل تدريجي؛ إذ تأسست في البداية لتتولى مسؤولية استقبال الآلاف من الطلاب الذين بدأوا يتوافدون إلى مصر بمِنَح جامعية، خصوصًا من دول حوض النيل ومن المجتمعات المسلمة في غرب إفريقيا.
مستعمرة إفريقية بالقاهرة:
كان الدافع المصري وراء تدشين الرابطة التعرُّف على الطلاب الأفارقة المنخرطين في حركات التحرر الوطني في بلدانهم؛ لبناء علاقات مثمرة معهم في مصر، وقد أصبح بعض هؤلاء لاحقًا ممثلين دائمين بمكاتب مستقرة داخل مقر الرابطة، تحت إشراف الضابط محمد فايق، الذي ترأس “مكتب الشؤون الإفريقية” التابع للرئاسة المصرية بين 1955 إلى 1966م([3]).
في روايته لأهداف تأسيس “الرابطة”، يقول فايق: إنها أُنشئت أواخر 1955م، كمنظمة ذات نشاط سياسي وثقافي، هدفها تقديم كل التسهيلات الممكنة للمكاتب السياسية التابعة لحركات التحرر الوطني في إفريقيا؛ من توفير أماكن العمل المناسبة وربطها بأجهزة الدولة، وإمدادها بوسائل الطباعة والنشر، إلى تنظيم المؤتمرات الصحفية، واستقبال الوفود والمبعوثين الأفارقة.
كانت الرابطة تُوفّر لهذه المكاتب -وفق فايق- الخبراء والمستشارين في مجالات السياسة والقانون، وتُقدّم لها الأبحاث اللازمة لدعم قضايا بلدانها، بالإضافة إلى تخصيص قاعات لعقد الندوات والاجتماعات الخاصة بها، وقد احتوى مبنى الرابطة على أكبر عدد ممكن من المكاتب السياسية، وعندما زاد عدد المكاتب عن قدرة المبنى، كانت الرابطة تُؤجّر مقارّ إضافية قريبة منها.
وقد أصدرت هذه المكاتب السياسية مجتمعة نشرة باسم “مجلة الرابطة الإفريقية”، التي حررتها بنفسها لتعكس نضال شعوبها وتشرح قضاياها، مما ساهم في خلق شبكة للتعارف وتبادل الخبرات والمعلومات بين الحركات الإفريقية، في مناخ تشاوري مُعادٍ للاستعمار، وكانت هذه العلاقة الوثيقة بين الرابطة والمكاتب السياسية الإفريقية السبب الرئيس في ذيوع صيتها عالميًّا.
علاوة على ذلك، عملت الرابطة -بحسب فايق-، على نشر الوعي الإفريقي بين المصريين، وتهيئة بيئة مناسبة لتعارف المثقفين المصريين والأفارقة، سواء من أعضاء المكاتب السياسية أو من الطلاب الأفارقة الدارسين في القاهرة، كما سعت لحلّ مشكلات هؤلاء الشباب وتثقيفهم سياسيًّا في مناخ ثوريّ، ونظمت ندوات ثقافية جمعت بين الشباب المصري والإفريقي(.([4]
محطة محورية:
شكَّلت الرابطة الإفريقية محطة محورية في مسيرة أحد أعلام الفكر الإفريقي المعاصر، وهو المفكر المصري حلمي شعراوي، الذي شغل منصب السكرتير الثقافي داخل الرابطة قبل أن يُعيَّن باحثًا في رئاسة الجمهورية عام 1959م.
وخلال عمله في إطار الرابطة، خاض شعراوي تجارب معرفية متعددة، خصوصًا فيما يتعلق بالدور المصري في دعم حركات التحرر الإفريقي من جهة، ومناهضة الوجود الإسرائيلي في القارة من جهة أخرى.
يشير شعراوي في مذكراته إلى أن الاهتمام بمواجهة الكيان الصهيوني كان في صميم السياسة المصرية منذ حرمان إسرائيل من حضور مؤتمر باندونج في إندونيسيا عام 1955م، ثم حرمانها من المشاركة في مؤتمر الشعوب الإفريقية والآسيوية عام 1958م، مع تركيز مصري واضح على محاصرة مشاريعها للتغلغل في دول حوض النيل، حتى قبل استقلال السودان أو التحرك نحو إثيوبيا.
وقد بدأ وعي “المواليمو” الشخصي بهذه المسألة مع ملاحظته أن حركات التحرير الأولى التي مُثلت في الرابطة الإفريقية، جاءت من أوغندا وكينيا وزنجبار والكونغو الديمقراطية، فضلاً عن إريتريا التي كانت بوابة للتأثير على إثيوبيا، بهدف حماية شرق إفريقيا من الاستعمار التقليدي وإسرائيل؛ حيث الأخيرة وُصفت بأنها تمارس الاستعمار ثم الاستعمار الجديد وصولاً إلى الإمبريالية الفرعية… إلخ.
وبعد تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية (25 مايو 1963م)، يشير شعراوي إلى حضور الكثيرين من ممثلي حركات التحرير الإفريقية للقاهرة، لطلب دعمها، وقد كانت هذه الأيام أمجد أيام النشاط الإفريقي في القاهرة؛ حينها أصبحت مكاتب حركات التحرير في الزمالك محط اهتمام متزايد من الإعلام المصري والعالمي، كما أصبحت مصر تتحدث علنًا عن الكفاح المسلح دون خشية من اتهامات بالتدخل([5]) .
ذاكرة الأفارقة:
في خمسينيات القرن الماضي، كانت مصر موطنًا للقوميين الأفارقة من مختلف بلدان القارة، وبحلول ستينياته، أصبحت “الرابطة” تضم وحدها 24 وفدًا من الأحزاب والحركات المناهضة للاستعمار، يهيمن عليها تيار قومي منسجم مع توجهات النظام المصري آنذاك، ومنح هذا الوضع الوفود الإفريقية مستوى من حرية الحركة والوصول، لم يكن ممكنًا في ظل قيود الاستعمار ونظم الفصل العنصري.
كما كان التمثيل الإفريقي داخل الرابطة يشمل أحيانًا ثلاث منظمات من بلد واحد، مثل جنوب إفريقيا وأنجولا، إضافة إلى منظمات انشقت عن كياناتها الأم، ومن أبرزها: حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، والحركة الشعبية لتحرير أنجولا، وحركة تحرير موزمبيق، ومنظمة شعب جنوب غرب إفريقيا (ناميبيا)، وحزب استقلال غينيا بيساو وكاب فيردي (الرأس الأخضر)، واتحاد شعب زيمبابوي الإفريقي، إضافة إلى حركات التحرير من إريتريا وكينيا والصومال وجيبوتي وأوغندا والكاميرون وأنجولا، وغيرها .([6])
وقد أتاحت الرابطة لهذه الوفود الاستفادة من شبكة المعلومات الواسعة في مصر، فعلى سبيل المثال، ساهمت المخصصات المالية من الحكومة المصرية لمندوبي وفد المؤتمر الإفريقي الشامل (PAC) حركة تحرر وطنية من جنوب إفريقيا– على إصدار نشرة Africanist News and Views من القاهرة، إلى جانب نشر مقالات في مجلتي الرابطة “نهضة إفريقية” و”الرابطة الإفريقية”، وكانت هذه المنابر تعرض النضال ضد الفصل العنصري باعتباره جزءًا من حملة قارية ضد الإمبريالية.([7])
كما كان يحق لمندوبي الرابطة تخصيص فقرات إذاعية عبر إذاعة القاهرة، وبحلول عام 1962م، كان حزب المؤتمر الوطني الإفريقي (ANC) ينتج برنامجًا أسبوعيًّا بالإنجليزية والسوتو بعنوان Elezwi Labantu (صوت الشعب)، يروّج لخطاب المقاومة والكفاح المسلح.([8])
نشاط وتضامن:
جاءت الوفود الإفريقية الأولى إلى مقر الرابطة بحي الزمالك من إفريقيا الاستوائية، بعد أن حظرت السلطات الاستعمارية البريطانية والفرنسية اتحاد شعب الكاميرون (حركة كانت تسعى للاستقلال والوحدة)، حينها بدأ قادة التحرر الكاميروني بقيادة الزعيم المناهض للاستعمار فيليكس رولان مومييه –الذي اغتيل في جنيق عام 1960م بعد استقلال بلاده-، البحث عن مقر للعمل في المنفى .([9])
وفي يوليو 1957م، أنشأ مومييه مكتبًا دائمًا للكاميرون في مقر الرابطة بالقاهرة، تبعه القومي الأوغندي جون كاليكيزي الذي أدار من مقر الرابطة مجلة “نهضة أوغندا”، وذلك في أواخر الخمسينيات، متيحًا من خلالها حوارًا قوميًّا، في أوج ازدهار القاهرة كمركز أفرو-آسيوي([10]).
ومثل كثير من أبناء جيله، كان كاليكيزي تحت رقابة استعمارية مشددة، ما دفعه إلى مغادرة أوغندا سيرًا على الأقدام حتى جوبا (عاصمة جنوب السودان حاليًّا)، ومنها جوًّا إلى القاهرة؛ حيث استقر في مقر الرابطة ممثلاً للمؤتمر الوطني الأوغندي([11]).
وعلى خطاه، وصل عام 1958م فريق من الكينيين عبر وادي النيل، طامحين للدراسة في أوروبا، لكنهم قرروا لاحقًا تأسيس “مكتب كينيا” بمقر الرابطة، وفي عام 1960م، أطلقوا على أنفسهم اسم “المكتب الخارجي للاتحاد الوطني الإفريقي الكيني” (KANU) رغم غياب الصلة الرسمية بحزب كانو، حتى اعترف الحزب بهم رسميًّا في أبريل 1961م. كما ضمت الرابطة شخصيات بارزة مثل جوشوا نكومو من اتحاد شعب زيمبابوي الإفريقي، وفوسومزي ميك من مؤتمر عموم إفريقيا، اللذين لعبا دورًا مهمًّا في النشاط السياسي بالقاهرة([12]).
وأسهمت الروابط الاجتماعية بين النشطاء في إطلاق حملات تضامن عابرة للحدود، على سبيل المثال في يوليو 1959م، نظَّمت الرابطة “يوم التضامن الأفرو-آسيوي مع أوغندا”، عبر أثير إذاعة القاهرة، للتنديد بـ”الاضطهاد والإذلال” تحت الحكم الاستعماري، وبالمثل، بعد اغتيال الزعيم الكونغولي باتريس لومومبا عام 1961م، أقامت الرابطة وقفة احتجاجية في ميدان التحرير وسط القاهرة، استمرت يومين، شارك فيها مندوبون من كينيا ورواندا والصومال للتنديد الجريمة([13]).
وفي السياق، يشير المواليمو شعراوي إلى زيارة وفد إريتري للرابطة في صيف 1958م، لمناقشة الموقف الإثيوبي من بلادهم مع المسؤولين المصريين، واستشارة خبراء قانونيين حول العلاقة الفيدرالية مع إثيوبيا التي كانت قد تقررت مطلع الخمسينيات، كما يروي لقاءه بوفد زنجباري (جزء من تنزانيا حاليًّا) وصل مقر الرابطة طلبًا لدعم الاستقلال عن بريطانيا، وبحثًا عن فرص تعليمية لأبناء زنجبار، وتسهيل التجارة في القرنفل؛ حيث التقى الوفد بالرئيس جمال عبد الناصر([14]).
ومع ذلك، لم تكن كل الوفود الإفريقية محل ترحيب لدى شعراوي؛ فقد أبدى -على سبيل المثال- تحفظه على زيارة جورج بادمور، مستشار الرئيس الغاني كوامي نكروما، للرابطة في أواخر الخمسينيات؛ نظرًا لكتاباته التي رآها معادية للأممية الشعوبية، وما كتبه بادمور عن “الصهيونية السوداء” ضمن فكر العودة لإفريقيا خاصة من الدياسبورا (الشتات) الأمريكية.
وفي منتصف الستينيات، التقى شعراوي ديفيد ديبوا ووالدته شيرلي جراهام ديبوا، زوجة المفكر الإفريقي الأمريكي البارز وليم ديبوا (الشخصية المركزية في تاريخ الأفروأمريكية)، أثناء زيارتهما لمصر بعد وفاة الأخير في أكرا عام 1963م؛ حيث قرأ معهما قصيدته عن “السويس وفرعون النيل” المنتصر على “الأسد الاستعماري” خلال العدوان الثلاثي عام 1956م.([15])
من “الرابطة” إلى “الجمعية“:
كانت التوجيهات والموارد التي قدَّمتها الدولة المصرية للرابطة الإفريقية سلاحًا ذا حدين؛ فمن جهة، منحتها قدرة على العمل ودعم حركات التحرر، لكنها جعلتها في الوقت ذاته عُرضة للصراعات السياسية الداخلية في العهد الناصري، خاصة في علاقته باليسار المصري، فضلاً عن تأثرها بالتقلبات في السياسة الخارجية، مثل العلاقات مع الاتحاد السوفييتي والصين، اللتين كان لكل منهما رعايته الخاصة لحركات تحرير إفريقية مختلفة.
ومع تولّي أنور السادات الرئاسة عام 1970، وتغييره لسياسات سلفه عبد الناصر، تعرَّضت مؤسسات مثل الرابطة الإفريقية للإهمال، وتراجعت فرص العمل الإفريقي–الآسيوي في مصر، كما جرى تهميش شخصيات بارزة بالرابطة، ولم يعد النشطاء الأفارقة الذين دعمتهم الرابطة يشعرون بالترحيب.
وبعد نحو عقدين من النشاط الثوري التحرري، نُقلت تبعية الرابطة من رئاسة الجمهورية إلى وزارة الشؤون الاجتماعية (التضامن الاجتماعي حاليًّا)، وتحوَّل اسمها إلى الجمعية الإفريقية بصفتها جمعية أهلية، ورغم هذا التراجع المؤسسي، ظلت قصتها شاهدًا على صلابة الشبكات الشعبية التي أسَّستها بين الأفارقة؛ إذ واصلت الحفاظ على مبادراتها التضامنية.
وبين عامي 1973 و1980م، نجح شعراوي وزملاؤه في تحويل الجمعية إلى مركز ثقافي وفكري نشط، وفي عام 1987م، شارك شعراوي في تأسيس المركز العربي الإفريقي للبحوث، الذي يواصل توثيق سياسات التحرر العابر للحدود في إفريقيا، ويضع أطرًا جديدة لدور مصر في القارة والجنوب العالمي.([16])
ومع سقوط نظام الفصل العنصري في جنوب القارة خلال التسعينيات، أعادت الجمعية الإفريقية صياغة أهدافها، فركزت على تعميق الصلات مع السفارات والدبلوماسيين الأفارقة في القاهرة، وكذلك مع جموع الطلبة الأفارقة في الجامعات والمعاهد المصرية، كما تولت إنشاء الاتحاد العام للطلبة الأفارقة في مصر ورعت نشاطاته منذ عام 1986م.
ومنذ ذلك الحين، نظّمت الجمعية دورات تثقيفية للإعلاميين والصحفيين المهتمين بالشأن الإفريقي، وفتحت مكتبتها العريقة أمام الطلبة الأفارقة، بما تضمّه من ذخيرة مهمة من الكتب والمراجع الإفريقية المهمة.
كما حصلت الجمعية على جائزة “رسول السلام” من منظمة الأمم المتحدة تقديرًا لدورها البارز في مناهضة سياسات الفصل العنصري، واعتمدت عضوًا مراقبًا في منظمة حقوق الإنسان الإفريقية، وانضمت إلى اللجنة الاستشارية للمنظمات غير الحكومية للأمم المتحدة، إضافة إلى نيلها صفة هيئة خبرة معتمدة لدى جامعة الدول العربية، باعتبارها عضوًا في الاتحاد الإقليمي للجمعيات الأهلية وعضوًا في الاتحاد الإقليمي للجمعيات البيئية([17]).
خاتمة:
ختامًا، تُجسِّد تجربة “الجمعية الإفريقية” على مدار سبعة عقود فصلاً فريدًا من فصول التفاعل وقوة تضامن الشعوب الإفريقية في وقت الحاجة والأزمات، وكما احتضنت “الجمعية” النضال الثوري ضد الاستعمار ونظام الفصل العنصري احتضنت أيضًا الحوار الفكري وأسهمت في صياغة وعي سياسي وثقافي عابر للحدود.
واليوم، ومع الجدل الدائر حول مستقبل الجمعية الإفريقية وما يُثَار عن إغلاق مقرها، تتصاعد أصوات تطالب بالحفاظ على هذا المعلم التاريخي؛ إدراكًا لأهمية حماية ذاكرة إفريقية ظلت حية بمصر لسبعة عقود، شهدت خلالها محطات مفصلية في مسار التحرر الإفريقي، فضلاً عن إسهامها في بناء جيل من المفكرين والكوادر المصرية والإفريقية التي حملت خبراتها من القاهرة إلى بلدانها، بما يعكس الحاجة لإحياء دورها وتجديد دمائها من جديد، بما يتلاءم ويواكب التحديات والشواغل المصرية والإفريقية المشتركة.
……………………………
[1] – عماد عمر، “أعيدوا الاعتبار لفارس إفريقيا”، الموقع الإلكتروني لصحيفة “المصري اليوم”، 5 يونيو 2008م:
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1951169
[2] Reem Abou El-Fadl, “Building Egypt’s Afro-Asian Hub: Infrastructures of Solidarity and the 1957 Cairo Conference.” Journal of World History, vol. 30, no. 1/2, 2019, P. 5: 6
https://www.jstor.org/stable/26675316
[3] Ibid, P. 7: 8
[4] – محمد فايق، عبد الناصر والثورة الإفريقية، (القاهرة: دار المستقبل العربي، ط2، 1982) ص 45.
-[5] حلمي شعراوي وريم أبو الفضل، حلمي شعراوي سيرة مصرية إفريقية (القاهرة: دار العين للنشر، ط1، 2018م)، ص 198 و204 و206.
[6] – المرجع السابق، ص 207 و208.
[7] Alex White, The caged bird sings of freedom: Maya Angelou’s anti-colonial journalism in the United Arab Republic and Ghana, 1961–1965, Journal of Global History, 22 January 2024
[8] Ibid
[9] Alex White, African Activism in Anticolonial Cairo, History work shop, 4 March 2025
https://bit.ly/3Hmr5fE
[10] Ibid
[11] The Spy Uganda, Why John Komuruyangye Kalekezi won ‘African Revolutionary Life time achiever’ at Pap Global Awards 2017, 5 September 2017
https://bit.ly/3HjnaQJ
[12] Alex White, African Activism in Anticolonial Cairo, History work shop
[13] Ibid
[14] – حلمي شعراوي وريم أبو الفضل، م س ذ، ص 107: 110
[15] – المرجع السابق، ص 192: 196
[16] Reem Abou-El-Fadl, Afro-Asian Solidarity before AAPSO: The African Association in Cairo, 9 Dec 2019
https://bit.ly/41zsnus
[17] – متاح على الرابط http://bit.ly/4mbotQF