بقلم/ أسماء نوير
باحثة ومترجمة مصرية
مقدمة عامة:
في عالَم يتَّسم بالعولمة وتداخل الثقافات، تبرز مسألة التنقلات البشرية كأحد المحاور الأساسية لفهم التحولات الاجتماعية والثقافية. يأتي كتاب “تنقلات أفروأوروبية في الأدب الإفريقي الفرانكفوني:Afroeuropean Mobilities in Francophone African Literatures” للباحثة آنا-لينا تويفانن ليقدم دراسة معمّقة حول تمثيلات التنقل في الأدب الإفريقي الفرانكفوني، مُسلِّطًا الضوء على كيفية تصوير هذه التنقلات في النصوص الأدبية وتأثيرها على تشكيل الهوية والوعي الثقافي.
يتناول الكتاب مجموعة متنوّعة من النصوص الأدبية التي تعكس تجارب التنقل، سواء كانت تعليمية، سياحية، عمالية، أو حتى هجرات غير شرعية.
من خلال هذا التحليل، تسعى المؤلفة إلى فَهْم كيف تؤثر هذه التجارب على تشكيل الهوية الأفروأوروبية، وكيف يتم التعبير عنها في الأدب.
كما يهدف الكتاب إلى تعزيز الحوار بين دراسات التنقل والأدب ما بعد الكولونيالي، مما يَفتح آفاقًا جديدة لفَهْم التداخل بين الحركة البشرية والتعبير الأدبي.
يُعدّ هذا العمل مساهمة قيّمة في مجال دراسات التنقل والأدب؛ حيث يُقدّم منظورًا فريدًا يجمع بين التحليل الأدبي والدراسات الاجتماعية والثقافية. ومن خلال استكشافه لتجارب التنقل المختلفة، يُسلِّط الكتاب الضوء على التحديات والفرص التي تُواجه الأفراد في سياقات ما بعد الاستعمار، وكيفية تعبيرهم عن هذه التجارب من خلال الأدب.
أولًا: مؤلفة الكتاب: آنا-لينا تويفانن
آنا-لينا تويفانن (Anna-Leena Toivanen) أستاذة الأدب الفرنسي والأدب الفرانكفوني في جامعة شرق فنلندا، وهي باحثة متخصصة في دراسات ما بعد الاستعمار، والأدب الإفريقي الفرانكفوني، ودراسات التنقّل والهجرة.
تنتمي تويفانن إلى جيل جديد من الأكاديميين الذين يسعون لتفكيك العلاقات الاستعمارية المتجذرة في الإنتاج الأدبي وتحليل تمثيلات الحركة والهجرة في سياقاتها الاجتماعية والسياسية والرمزية.
ما يميز تويفانن هو مقاربتها متعددة التخصصات التي تدمج بين النقد الأدبي والدراسات الثقافية والأنثروبولوجيا الحضرية.
فهي لا تقرأ النصوص فقط من منظور لغويّ أو سردي، بل تنظر إليها كمنتجات ثقافية تشارك في إعادة تشكيل تصوراتنا حول الهوية والانتماء والفضاء. في مشروعها البحثي الذي تندرج تحته فصول هذا الكتاب، تُظهر المؤلفة قُدرة على تحليل العلاقة بين الأدب والتنقل بوصفه فعلًا إنسانيًّا معقدًا يتجاوز الفعل الجغرافي إلى البُعْد الرمزي والوجداني والسياسي.
من خلال مؤلفاتها ومقالاتها الأكاديمية، قدَّمت تويفانن إسهامًا واضحًا في فَهْم الأدب الفرانكفوني خارج الثنائية التقليدية “الاستعمار/ما بعد الاستعمار”، مُركّزة على أصوات الكُتّاب الأفارقة وهم يُعيدون سرد تجاربهم مع أوروبا بعيون متعددة الرؤى والتمزقات. وهي تسعى إلى زحزحة المركزية الأوروبية في النقد؛ من خلال تسليط الضوء على الفاعلين الثقافيين الأفارقة، لا بوصفهم ضحايا أو مهاجرين فقط، بل كمنتجين للمعنى وكتّاب للفضاء المتداخل.
ثانيًا: أهمية الكتاب: الأدب بوصفه مرآة لتحوُّلات الهوية والتنقل في عالم ما بعد الاستعمار
يكتسب كتاب “تنقلات أفروأوروبية في الأدب الإفريقي الفرانكفوني” أهميته من كونه يتناول موضوعًا لا يزال في أطواره المبكّرة ضمن الدراسات الأدبية والثقافية؛ ألا وهو “التنقل” ليس كمجرد فعل فيزيائي بين مكانين، بل كبنية سردية وثقافية تُعيد تشكيل الذات والمكان والانتماء. في زمن تتسارع فيه الهجرات وتتشابك فيه الهويات بفعل العولمة والتاريخ الكولونيالي الطويل، يصبح الأدب أحد أنجع الوسائط لفهم التجربة الإنسانية في حركتها، لا في استقرارها.
إن ما يجعل هذا الكتاب ذا أهمية مضاعفة هو انتماؤه إلى تقاطع معرفي حاد بين دراسات ما بعد الاستعمار ودراسات التنقل (Mobility Studies). فبدلاً من مقاربة الهجرة من منطلق سوسيولوجي أو اقتصادي، تقدّم المؤلفة مدخلاً جماليًّا وثقافيًّا يُحلّل الكيفية التي تُكتَب بها تجربة التنقل في المتن الأدبي الإفريقي الفرانكفوني. إنها تطرح سؤالًا محوريًّا: كيف تُعيد الكتابة الأدبية إنتاج تجربة العبور الأفروأوروبي؟ وما الذي تكشفه النصوص عن التوترات والآمال والخذلان الملازم لهذا العبور؟
تكمن أهمية الكتاب أيضًا في كونه يُعيد الاعتبار للأدب الإفريقي الفرانكفوني بوصفه أدبًا “عابرًا”، لا من حيث مواضيع الهجرة فقط، بل في لُغته وهويته ومواقعه الرمزية. فالكُتّاب الذين تتناولهم تويفانن –مثل فاطوماتا ديالو، ولاسانا سيسيه، وآخرين–، يُمثّلون جيلًا جديدًا من الأصوات التي تكتب انطلاقًا من مفترق الطرق بين الجنوب والشمال، بين التجذُّر في إفريقيا والرغبة أو الحاجة في العبور نحو أوروبا، بين الحنين إلى الوطن والأسى من واقع المنفى.
كما يُسلّط الكتاب الضوء على التنقل بوصفه تجربة طبقية ونوعية، لا تسير بنفس النسق لدى الجميع. فهو يُميِّز بين تنقلات النخبة الإفريقية المتعلمة، والتنقلات غير النظامية أو القسرية للمهاجرين غير الشرعيين، وبين تنقل سياحي وتَنقّل الضرورة. هذه التفرقة الدقيقة تُضْفِي على التحليل طابعًا إنسانيًّا ومعرفيًّا؛ إذ لا تذيب التنقل في كليشيهات “الهجرة” بل تُظهره في تعدُّده وتشظّيه.
أخيرًا، يُقدِّم الكتاب مساهمة حيوية في نقد التمثيلات السائدة عن “إفريقيا” و”أوروبا”، عبر فضح الصور النمطية التي يُرسِّخها كلّ طرف عن الآخر، وتفكيك الأوهام التي ترافق التنقل، سواء في خيال المهاجر أو في خطاب الدولة المُستقبِلة. بهذا المعنى، فإن أهمية الكتاب لا تكمن فقط في موضوعه، بل في جرأته على مساءلة السرديات الكبرى، وإعادة تركيب الهوية من داخل النص وليس من خارجه.
ثالثًا: تقسيم الكتاب:
الفصل الأول: التنقلات التعليمية في المدن الكبرى
يُركِّز هذا الفصل على فئة من الشخصيات الأدبية التي تُمثّل الطلبة الأفارقة المتوجهين إلى أوروبا من أجل التعليم، خاصةً إلى فرنسا وبلجيكا. تعالج “تويفانن” في هذا السياق ليس فقط لحظة السفر أو الوصول، بل ما هو أعمق من ذلك: الصدمة الثقافية، والخلخلة الهوياتية، والصراع بين قِيَم النشأة ومتطلبات الاندماج. تقدم الروايات المدروسة هنا –مثل روايات ألان مابانكو وفاطوماتا ديالو– صورًا مركّبة للطالب الذي لا يحظى فقط بفرصة للترقي الاجتماعي، بل يُواجه في المقابل انكشافًا وجوديًّا يجعله يقف على حافة التمزق بين عالمين. فالتعليم، وإن بدا وسيلة للتحرُّر، لا يخلو من تهميش رمزي وإحساس دفين بالدونية أو الانفصال عن الأصل. تنجح تويفانن في تحليل هذه الثنائيات المُعقَّدة، وتُظهر كيف أن “المدن الكبرى” لا تستوعَب كمكان للمعرفة فقط، بل كفضاء لإعادة إنتاج السلطة الكولونيالية في ثوب جديد.
الفصل الثاني: تنقلات المسافرين الترفيهيين الأفارقة والأفارقة الأوروبيين
في هذا الفصل، تطرح المؤلفة مسألة السفر الترفيهي كمدخل لفهم الطبقية داخل التجربة الأفروأوروبية. فالتنقل، حين لا يكون بدافع الضرورة، يكشف عن شرخ واضح بين من يمتلك حرية الحركة ومن يعيش مقيدًا بالحدود والجوازات والرفض البيروقراطي. تستعرض تويفانن كيف أن أدب المهجر يلتقط بحساسية هذه الفوارق من خلال شخصيات تقوم برحلات سياحية أو ثقافية إلى أماكن في أوروبا وإفريقيا، لكن هذه الرحلات لا تخلو من لحظات كشف رمزي؛ حيث تصطدم الذات بصور الآخر، أو تعيد النظر في سرديات الوطن والمنفى. تنقلات الترفيه هذه، وإن بدت سطحية، تضيء جوانب من التحيُّز العرقي، والنظرة المتعالية من بعض الأوروبيين، وأيضًا حنين بعض الشخصيات إلى نمط حياة لا يخلو من تناقضات. تنجح تويفانن في ربط هذه التنقلات بشبكة أوسع من العلاقات الاقتصادية والجغرافية والرمزية، مما يجعل السفر في هذه الروايات مساحةً للكشف والتفكيك.
الفصل الثالث: العودة المتنقّلة من أوروبا إلى إفريقيا
تتناول تويفانن في هذا الفصل تجربة “العودة” إلى إفريقيا، وهي لحظة درامية ومشحونة في كثير من الروايات التي تتناول الهجرة والتنقل. العودة هنا ليست مجرد حركة معكوسة، بل تجربة شعورية معقدة تجمع بين التوق إلى الجذور والخذلان من تغيُّر الأمكنة والناس. تُسلّط الباحثة الضوء على روايات مثل “أضواء بوانت نوار” لمابانكو، لتُبيِّن كيف أن العودة تكشف هشاشة فكرة “الوطن”، الذي لا يعود كما كان، ولا تستقبلك فيه كما كنت تأمل.
الشخصيات التي تعود من أوروبا كثيرًا ما تصطدم بتغيرات اجتماعية واقتصادية، وبنظرات شك أو ريبة من الآخرين، وكأنها “تغرّبت” في جسدها ولسانها. تُحلّل تويفانن بدقة كيفية معالجة هذا التوتر في البنية السردية، وتبرز كيف تتحوَّل العودة إلى اختبار مُؤلِم للهوية، وإلى مراجعة مؤلمة لأوهام الانتماء. هذا الفصل يضيف بُعدًا فلسفيًّا لمفهوم الحركة، بوصفها رحلة دائرية لا تعود أبدًا إلى نقطة البداية.
الفصل الرابع: العمل والعمالة والتنقلات الأفرو-أوروبية
في هذا الفصل تفتح تويفانن ملفًا حيويًّا يتمثل في تجارب العمل والتنقل المرتبط به، خاصة بين المهاجرين من أصول إفريقية المقيمين في أوروبا. تُحلّل الروايات التي ترصد أشكال العمالة المتدنية، أو الأعمال الهامشية، التي توكل للمهاجرين، مثل التنظيف، البناء، أو خدمات التوصيل. وتكشف الكاتبة كيف أن هذا النوع من التنقل –المُقيَّد بطبيعة مهنة قسرية– لا يحمل بالضرورة دلالة الحرية أو الحراك الاجتماعي. بالعكس، فإن العمل يصبح أداة جديدة للضبط والرقابة؛ حيث تُحبَس الشخصيات في أدوار نمطية يصعب منها التحرر. تُبيِّن تويفانن كيف تنجح هذه الروايات في تفكيك خطاب النجاح الأوروبي، من خلال سرديات المقاومة الصامتة أو التمرد على نمط الحياة اليومي. العمل هنا ليس فقط معركة من أجل البقاء، بل هو أيضًا ساحة لإعادة صياغة الكرامة الإنسانية في وجه أشكال التهميش المعولم.
الفصل الخامس: رحلات أفرو-أوروبية سرية
تتناول تويفانن في هذا الفصل أكثر أشكال التنقل مأساوية: الهجرة غير النظامية. تستعرض الروايات التي تكتب عن “الرحلة السرية” كفعل محفوف بالمخاطر والخيبات؛ حيث تتحوَّل الأجساد إلى رهائن للعصابات، والحدود إلى متاهات من الموت، والأحلام إلى سراب. تكشف الكاتبة كيف تتعامل هذه الروايات مع الأسطورة القاتلة التي تقول بأن “أوروبا هي الفردوس”، وتُظْهِر بجلاء حجم المعاناة التي يَمُرّ بها المهاجر في رحلته المحفوفة بالخوف، والاستغلال، واللايقين. كما تلفت النظر إلى أن السرديات لا تكتفي بعرض الألم، بل تمنح الشخصيات المهاجرة نوعًا من الوكالة؛ إذ تسرد صراعها اليومي ضد اللامرئي، وتوثق أشكال التضامن الهشّة داخل مسارات التهريب.
تنجح تويفانن في تقديم قراءة أخلاقية لهذه الروايات، بوصفها صرخة ضد عنف الحدود، وضد عالم لا يعترف بالمساواة في الحق في الحركة.
رابعًا: أهم الإشكاليات التي يتناولها الكتاب:
الإشكالية الأولى: ثنائية “الحركة واللاانتماء” — عن التنقل كفعل تفكك لا توحُّد
يركز كتاب آنا-لينا تويفانن على مفهوم “الحركة” بوصفه تجربة وجودية في حياة الفرد الأفروأوروبي، لكنّها تتجاوز الفَهْم السطحي للسفر كتحرُّك جسدي من نقطة إلى أخرى، لتكشف عن بُعْد أعمق وأكثر إشكالية: الحركة بوصفها انكسارًا في الانتماء، ومضاعفة للهشاشة، لا بوابة نحو التحرُّر. في الأدبيات التي تدرسها تويفانن، يندر أن نجد الحركة مقرونة بالاستقرار أو الاندماج، بل ترتبط عادةً بحالة اللايقين، والاغتراب، وإعادة التشكل القلق للذات. فالهجرة، أو حتى التنقل المؤقت، يصبح معادلًا سرديًّا لفقدان التمركز الثقافي، ولانزياح مستمر عن الجذور، ما يُفرّغ الهوية من مضمونها الثابت ويجعلها في حالة مساءلة دائمة.
تنفتح هذه الإشكالية بشكل واضح في الفصول التي تتناول التعليم، والعودة، والعمل، والسفر الترفيهي؛ إذ توضع الشخصيات في حالة تشظٍ هوياتي: فهي لا تنتمي بالكامل إلى وطنها الأصلي، ولا تندمج حقًّا في الفضاء الأوروبي. تُرينا تويفانن أن الأدب هنا لا يتعامل مع أوروبا بوصفها “فضاء حلم”، بل كمساحة مقاومة صامتة: مقاومة تصدر عن ذات لا تزال معلقة بين ذاكرة الأصل وقسوة الواقع الجديد. هذه الثنائية تتجسد في سرديات الشخصيات التي، حتى وإن حصلت على التعليم أو العمل، تجد نفسها عاجزة عن إرساء موطئ قدم نفسي أو اجتماعي مستقر.
وتكمن جمالية المعالجة في الكتاب في قدرة المؤلفة على توضيح أن الانتماء لا يُفقَد فقط نتيجة السياسة أو الاقتصاد، بل يُفقد أيضًا عبر اللغة والسرد. الشخصيات غالبًا ما تكون مسكونة بصوت مزدوج، تائهة بين لغتين أو ثقافتين، أو عاجزة عن التعبير عن تجربتها داخل بنى اللغة المهيمنة. هذا التمزق اللغوي يتحوَّل بدوره إلى انعكاس لمأزق أعمق: كيف تروي ذاتك وأنت محكوم بسرديات لا تشبهك؟ وهنا يبرز دور الرواية بوصفها أداة مقاومة، لكنها مقاومة مشروطة وناقصة، تنبع من إدراك عميق بالهامشية.
الرؤية النقدية لتويفانن لا تقف عند حدود التشخيص، بل تُسلّط الضوء على إستراتيجيات السرد الأدبي التي تحاول عبرها الشخصيات أن تبني معنى لحركتها القسرية. إذ نجد أن الحركة نفسها تتحول من تجربة سلبية إلى شكل من أشكال التفكير في الذات؛ فالشخصية لا تسافر فقط بالجسد، بل تُعيد تعريف علاقاتها بالمكان، بالزمن، وبالآخر. ومع ذلك، فإن اللاانتماء يظل قاسمًا مشتركًا، كأنما الروايات تدور في فضاء أفقي لا يسمح بالرسو ولا بالتجذر، بل يجعل كل محاولة للاستقرار شبيهة بالمقامرة. وهنا يلتقي الأدب مع الجغرافيا السياسية الحديثة التي تسجن “الحركة” داخل دوائر التفاوت والتمييز.
خلاصة القول: إن الإشكالية الأولى التي يتناولها الكتاب –ثنائية الحركة واللاانتماء– تكشف لنا أن التنقل ليس دائمًا خيارًا، بل قد يكون قدرًا وجوديًّا مفروضًا، وأن الروايات الفرانكفونية الإفريقية لا تتعامل معه كفعل تحرري، بل كمجال للكشف عن التمزق الإنساني الحديث، وعن عطب “الهوية” في زمن ما بعد الكولونيالية.
الإشكالية الثانية: انكشاف وهم أوروبا: من الخيال الاستعماري إلى الواقع المُركَّب
إحدى أكثر الإشكاليات عمقًا التي يكشف عنها الكتاب هي انهيار الصورة المثالية عن أوروبا في الخيال الأدبي والشعبي الإفريقي. لقد شكّلت أوروبا، وخاصةً فرنسا، لفترة طويلة، في أذهان كثير من الأفارقة، رمزًا للحداثة، للعلم، وللفرص، بفعل الامتدادات الرمزية والسياسية التي خلَّفها الإرث الاستعماري. ومع ذلك، تفكك النصوص الروائية التي تُحللها تويفانن هذا التصور تباعًا، لتكشف أن أوروبا -التي كانت تُرسم في الأذهان بوصفها جغرافيا الخلاص- ليست إلا مسرحًا جديدًا للتمييز، والخذلان، والصدمة.
في روايات مثل أعمال ألان مابانكو أو فاطوماتا ديالو، تسير الشخصيات نحو “الحلم الأوروبي” لكنها تصطدم بواقع بارد، بيروقراطي، وعنصري أحيانًا. أوروبا التي كانت تمثل «الآخر المتفوق» في سرديات ما بعد الاستعمار، تتكشف الآن كفضاء هشّ، غير مرحّب، ومفتقر إلى القدرة على الاستيعاب الثقافي أو الإنساني. وهنا، لا تكون الصدمة فقط في الممارسات اليومية -كالعنصرية أو العزلة الاجتماعية-، بل في انكسار البنية العميقة للخيال، في سقوط السردية التاريخية التي جعلت من الغرب مركزًا. وكأن الروايات تُعيد كتابة علاقة الجنوب بالشمال من موقع الخيبة لا من موقع التبعية، ومن موقع التجريب لا من موقع الاستلاب.
تُظهر تويفانن كيف أن هذه الإشكالية تتجلى ليس فقط على مستوى الوقائع السردية، بل أيضًا عبر البنية الرمزية للنصوص. فالأمكنة الأوروبية تُصوّر غالبًا بأنها باردة، رمادية، فاقدة للحياة، بعكس الصور الحيّة للمدن أو القرى الإفريقية التي تحمل طيفًا من الدفء، حتى وسط الفقر أو الاضطراب السياسي. يتم بذلك قلب المعادلة: أوروبا لا تعود “المركز”، بل تصبح “الهامش الرمزي” الذي تفقد فيه الذات توازنها. يبرز هذا في مشاهد محطة القطار، الشقق الضيقة، المؤسسات الرسمية، التي تتحول إلى علامات للاغتراب بدلًا من أن تكون رموزًا للترقي.
ولا يقتصر التحليل على الجانب المكاني، بل يشمل الشخصيات الأوروبية نفسها. ففي كثير من النصوص، لا تظهر أوروبا بوصفها “الآخر الأبيض المتفوّق”، بل بوصفها أيضًا كيانًا مهتزًا، مأزومًا، تتسرب منه القوة التي كان يستعرضها. بعض الأوروبيين الذين تظهرهم الروايات ليسوا أعداء مباشرين، لكنهم غارقون في جهل عميق عن الآخر، في عنصرية بنيوية غير واعية، أو في شفقة زائفة. ويُطرح السؤال ضمنيًّا: ماذا بقي من أوروبا بعد تفكُّك صورتها في عين القادم من الجنوب؟ هل هي فقط سوق عمل؟ ماضٍ استعماري؟ واجهة للهيمنة المعاصرة؟
أهمية هذه الإشكالية أنها تعيد تركيب العلاقة بين الجغرافيا والسرد، بين الواقع والخيال. فهي لا تقدم فقط نقدًا للغرب من منظور ما بعد كولونيالي، بل تذهب أبعد من ذلك: إنها تتساءل عن طبيعة الأمل نفسه، وتسحب البساط من تحت الرؤية التبجيلية لأوروبا. الشخصيات لا تَرفض الغرب صراحة، لكنها تمرّ عبره، لتكتشف فراغه، ولتعود مشروخة أو متحوّلة. وفي هذا التمزق، تكمن لحظة وعي جديدة، لحظة ينهار فيها «الآخر» بوصفه مرآة، وتبدأ الذات في بناء وعي أكثر هشاشة، لكنه أكثر صدقًا.
الإشكالية الثالثة: التوتر بين الجغرافيا والهوية – هل الانتماء مسألة مكان أم سرد؟
من الإشكاليات المفصلية التي يعالجها الكتاب هي علاقة الهوية بالمكان، أو بتعبير أدق: أزمة تشكُّل الذات بين جغرافيتين متصارعتين. لا تطرح الروايات المدروسة مجرد سرد لتجارب عبور أو هجرة، بل تتساءل عن العلاقات العميقة التي تربط الإنسان بالمكان بوصفه وعاءً للانتماء، للذاكرة، وللسرد الذاتي. وهنا يظهر التوتر جليًّا: فالشخصيات في كثير من هذه النصوص ليست قادرة على تعريف ذاتها من خلال الجغرافيا وحدها، سواء أكانت إفريقيا الأصلية أم أوروبا المستقبَلة. كلا المكانين يقدّم إمكانية، لكنه يفرض حدودًا، فيُترك الفرد معلقًا، بلا مركز صلب للهوية.
تُبيّن تويفانن بمهارة كيف أن الشخصيات ليست فقط في “عبور مادي”، بل في حالة “تحوُّل سردي” مستمرة: كلما حاولت أن تُعيد بناء ذاتها عبر موقع جديد، أو عبر لغة جديدة، تجد نفسها تصطدم بسقف رمزي أو سياسي. إفريقيا، رغم عمقها الثقافي والعاطفي، لا تمنح دائمًا شرعية كاملة للذات المهاجرة، التي تُتَّهم أحيانًا بالخيانة أو الاستلاب. في المقابل، لا تقدم أوروبا سوى انتماء مشروط، قانوني أو اقتصادي، يخلو من الاعتراف الثقافي الحقيقي. وهكذا تُدفَع الذات إلى بناء هويتها خارج المكان، في الفضاء السردي نفسه، حيث تصبح الرواية ملاذًا لاسترداد شكل ما من التماسك.
تتجلى هذه الإشكالية في النصوص من خلال كثافة استخدام الرمز المكاني: المطار، السفارة، المقهى، الشقة، الفندق، الحدود. كلها ليست أماكن عادية، بل مواقع مشحونة، تعكس حالة عبور داخلي ومساءلة للذات. وعبر هذه المواقع، تبني الشخصيات سردًا يحاول تجاوز الثنائية الكلاسيكية: الأصل/المنفى، الجنوب/الشمال، الداخل/الخارج. الرواية تتحول هنا إلى مختبر وجودي؛ حيث يُعاد تشكيل مفهوم الانتماء لا بوصفه ثباتًا، بل كفعل سردي، يتم تجديده مع كلّ تجربة، وكل فقد، وكل تعبير عن الاغتراب.
ما تقترحه تويفانن، من خلال قراءتها لهذه النصوص، هو أن الهوية لم تَعُد تُبنَى على الجغرافيا، بل على قابلية الذات لإعادة سرد موقعها في العالم. وهذا لا يعني تجاوز المكان أو نفي الجذور، بل الإقرار بأن الانتماء الحديث للفرد الأفروأوروبي لم يَعُد قابلاً للاختزال في أرض أو عِلْم أو جواز سفر. إنه انتماء مفتوح، مُهدّد، لكنه حيوي؛ فهو انتماء يُبنَى بالنص، لا بالخريطة. وتلك، بحد ذاتها، لحظة تحوّل كبرى في أدب ما بعد الهجرة، وفي نظرتنا لمفهوم “البيت” في زمن التنقل، والحدود، والشتات.
الإشكالية الرابعة: التعليم بوصفه عبورًا طبقيًّا مؤجلًا– المعرفة كأداة صعود أم كآلية ترويض؟
تُظهر آنا-لينا تويفانن، في تناولها للأدب الفرانكفوني الإفريقي، أن التعليم ليس مجرد أداة للترقي أو وسيلة للهروب من الفقر، كما جرت العادة في الخيال الاجتماعي، بل هو مجال معقَّد تُعاد داخله صياغة العلاقة بين الذات والسلطة، بين المعرفة والانتماء، وبين الطموح والهزيمة. في الروايات التي تُحلّلها، لا يأتي التعليم بوصفه مسارًا خطيًّا للنجاح، بل يُصوَّر غالبًا كعبور هشّ، غير مكتمل، مليء بالخيبات والانقطاعات. إنه لا يفتح بالضرورة أبواب العالم الأوروبي، بل يكشف أحيانًا عمق الفجوة بين “المعرفة المكتسبة”، و”الواقع المعاش”.
تكشف الروايات، كما تشرح تويفانن، أن التعليم الذي يتلقاه المهاجر الإفريقي -سواء في المدارس الفرنسية أو في الجامعات الأوروبية-، غالبًا ما يكون مُشبَّعًا بقِيَم المركزية الأوروبية، ويُقَدَّم بوصفه الأفق الأوحد للمعرفة. وهو ما يجعل الشخصية تدخل في صراع خفي: كيف تستبطن منظومة معرفية لا تُشبه تجربتها، بل وتُقصيها في كثير من الأحيان؟ تُطرَح إشكالية الازدواجية هنا بحدة: فالشخصية “تعرف” بلغة المركز، لكنها “تعيش” على هامش تلك المعرفة. وهكذا يتحول التعليم من كونه سُلَّمًا إلى طبقة جديدة، إلى أداة يُعاد بها ترويض الذات وفق منطق الهيمنة الرمزية، بلغة بيير بورديو.
والأهم من ذلك أن تويفانن لا تكتفي بتوصيف التعليم كأداة إقصاء ضمني، بل تكشف كيف أن الأدب نفسه يُصبح فعلًا مقاومًا لهذا الترويض. فالشخصيات المتعلمة لا تَقْبَل بسهولة بالصورة التي ترسمها لها المؤسسات الأوروبية، بل تُعيد مساءلتها، وتوظّف المعرفة نفسها لكشف حدودها وتناقضاتها. التعليم هنا لا يؤدي فقط إلى الاغتراب، بل يصبح أحيانًا مُحفّزًا للوعي النقدي، ومنبعًا للسخرية اللاذعة من المعايير الأكاديمية أو الثقافية الغربية. بعض الشخصيات تنخرط في “ازدواج لغوي”، تكتب بلغة المركز لكنها تحتفظ بمخزونها الثقافي الإفريقي، في محاولة للتفاوض مع الهجنة بدلًا من الخضوع لها.
في النهاية، لا يُقدّم الكتاب صورة مثالية أو ساذجة عن “التعليم كمفتاح للنجاح”، بل يُظهر بعمق كيف أن النظام المعرفي العالمي، كما يتجلى في الأدب، ليس محايدًا، بل مشحونًا بالسلطة، والانحياز، والنسيان المُتعمد لتجارب الجنوب. ومع ذلك، فإن الوعي بهذه التحيزات لا يقود بالضرورة إلى الانكفاء، بل إلى الكتابة المضادة، إلى الأدب الذي يُعيد تشكيل العلاقة بين الهوية والمعرفة، لا من خلال التماهي، بل عبر المساءلة والتهجين والمقاومة السردية.
الإشكالية الخامسة: اللغة بوصفها ساحة صراع– من التبنّي الأدبي إلى المقاومة الرمزية
من أعمق الإشكاليات التي تتغلغل في ثنايا الكتاب هي إشكالية اللغة، لا بوصفها أداة للتواصل فحسب، بل كفضاء معقّد للتوترات التاريخية، والهيمنة الرمزية، والتمزق الهوياتي. فالكُتّاب الأفارقة الناطقون بالفرنسية لا يكتبون بلغتهم الأم، بل بلغة الآخر، لغة المستعمِر السابق، التي باتت في آنٍ معًا أداة للتحرر والتعبير، ومجالًا للمراقبة وإعادة الإنتاج الثقافي. هذه الازدواجية تطرح سؤالًا وجوديًّا وأدبيًّا شديد الحساسية: هل الكتابة بالفرنسية فعل انتماء إلى فضاء كوني مفتوح؟ أم أنها خضوع مضمر لمنظومة لغوية تستبطن مركزية ثقافية لا تزال فاعلة؟
تُبرز تويفانن أن كثيرًا من الكُتّاب الذين تُحلّل أعمالهم لا يتعاملون مع الفرنسية بوصفها “أمرًا مُسلَّمًا”، بل كساحة نضال يومي. اللغة تُخضع، نعم، لكنها قابلة للانتهاك، للتشويش، ولإعادة التشكيل. ولهذا، كثير من الروايات تلجأ إلى تقنيات لغوية هجينة: إدخال مفردات من اللغات المحلية، تفكيك البنية النحوية التقليدية، استدعاء الأمثال، والأصوات، والنبرات الثقافية الإفريقية، حتى ضمن الجملة الفرنسية. والنتيجة ليست فقط كتابة مختلفة، بل كتابة تُفجّر اللغة من الداخل، وتجعل من فعل التعبير ذاته مساحة مقاومة رمزية، تفكك “الفرنسية”، وتعيد تشكيلها بملامح جنوبية.
هذا التوتر اللغوي يُصبح، كما تلاحظ تويفانن، مرآة لصراع أوسع: بين الهوية الكولونيالية المتوارثة والهوية ما بعد الكولونيالية المتطلعة إلى الاعتراف. اللغة ليست فقط وسيلة للحكي، بل هي مادة الصراع، وهي المكان الذي يُعاد فيه إنتاج العلاقة بين الذات والأصل، بين الداخل والخارج. ويصبح السؤال المركزي: لمن تُكتَب هذه النصوص؟ هل تخاطب القارئ الأوروبي أم الإفريقي؟ هل هي محاولة للاعتراف من المركز، أم لبناء خطاب جديد في الهوامش؟ وهنا تتجلّى عبقرية بعض هذه النصوص؛ إذ لا تقف عند حدود اللغة الواحدة، بل تُكتَب في فضاء تعدُّدي يتجاوز الثنائية الفرنسية/الإفريقية، نحو أفق سردي معولم، مائع، وغير قابل للضبط.
وفي العمق، تكشف الإشكالية اللغوية عن معضلة أوسع تتجاوز الأدب: إنها أزمة الاعتراف في عالم متعدد لكنه غير متكافئ. ما يبدو في الظاهر اختيارًا أدبيًّا -الكتابة بالفرنسية- هو في الحقيقة نتيجة لتاريخ طويل من التهجين القسري، والسياسات التعليمية، والتبعية الثقافية. ومع ذلك، لا تنحاز تويفانن إلى الحنين اللغوي، بل تحتفي بالقدرة الإبداعية الكامنة في تحويل لغة الغير إلى صوت خاص، إلى أداة تُعيد عبرها الذات سرد وجودها، بشروطها هي لا بشروط الآخر.
بهذا، تغدو اللغة في هذه النصوص ليست جسرًا بين ضفتين، بل ساحة يتصارع فيها المعنى، وتُستعاد فيها السيادة، لا بالرفض المطلق، ولا بالتبنّي الكامل، بل عبر مفاوضة دؤوبة، وجمالية هجينة، تُعيد الاعتبار للهامش بوصفه مركزًا سرديًّا جديدًا.
خاتمة: الأدب كترجمة للحركة، والخيال كمجال للمقاومة
يمثل كتاب إضافة نوعية إلى حقل دراسات ما بعد الاستعمار، ليس فقط لأنه يُعيد الاعتبار لأدب الهجرة كأرشيف للانتقال والعبور، بل لأنه ينحت داخل هذا الأدب فضاءً نقديًّا يفتح إمكانيات جديدة لفهم الذات الأفروأوروبية بوصفها ذاتًا مُتعددة، وممزقة، ومبدعة في آنٍ. فالكتاب لا يكتفي بتحليل النصوص الأدبية بوصفها وحدات سردية، بل يتعامل معها كمختبرات للهوية، وكأدوات فلسفية تستبطن تجارب التوتر بين الجغرافيا واللغة والانتماء، وتُعيد تأطير العلاقة بين الجنوب العالمي والمركز الأوروبي من موقع لغوي وجمالي مُغاير.
لقد بيَّنت تويفانن أن التنقل -سواء كان قسريًّا أو اختياريًّا، مادّيًّا أو رمزيًّا- ليس مجرد تجربة فيزيائية، بل حدث وجودي يُعيد تشكيل وعي الإنسان بالعالم، بالآخر، وبذاته. والمثير في أطروحتها أن هذا التنقل لا يُختزل في سردية الفقد أو الحنين، بل يتحول إلى ممارسة نقدية تُفكّك مفاهيم ثابتة مثل “البيت”، “الوطن”، “الهوية”، و”المركز”. فالشخصيات الروائية التي تناولتها الدراسة ليست نماذج للنجاح أو الفشل في الاندماج، بل تمثيلات لذات تُعيد التفاوض مع العالم على نحو سردي، لا نهائي، ومفتوح.
كما أن الكتاب يكشف عن دور الأدب في زعزعة القواعد الثقافية السائدة. فالأدب الفرانكفوني الإفريقي، كما تقرأه تويفانن، لا يتبنَّى اللغة الفرنسية كمعطى جاهز، بل يُخْضِعها للتفكيك، ويُعيد صوغها بروح هجينة تعكس المعيش اليومي للمهاجر، وما يحمله من اشتباكات طبقية، ورمزية، ولسانية. وهو ما يُحوّل اللغة إلى فضاء للانتهاك الخلاق، والمخيلة إلى وسيلة للمقاومة؛ حيث لا تُصاغ الذات وفق شروط الدولة، أو الجغرافيا، أو الجنسية، بل وفق ما تملكه من قدرة على إنتاج سرديتها الخاصة، بأصواتها، وشروخها، وتناقضاتها.
لقد كان لافتًا كيف ربطت تويفانن بين الحراك الجغرافي والحراك الرمزي، وبين العبور الجسدي والتحول المعرفي. فهي لا تقرأ الروايات بوصفها مرآة لتجربة اجتماعية فحسب، بل كأفعال تأويلية تبني عوالم بديلة، وتُحرّر اللغة من تواطؤها مع السلطة، وتُعيد الاعتبار للفرد المُهمَّش كفاعل معرفي وجمالي. وهذا ما يمنح الكتاب طابعه التجديدي: ليس في مادته فقط، بل في منهجه؛ حيث يجمع بين التحليل السردي، والنقد الثقافي، ووعي نقدي عميق بمزالق التمثيل.
في ضوء ذلك، يمكن القول: إن هذا الكتاب لا يُعيد فقط صياغة النقاش حول الأدب الفرنكفوني والهجرة، بل يطرح نموذجًا تأويليًّا يتجاوز الثنائية القديمة بين “الأنا” و”الآخر”، بين “الجنوب” و”الشمال”، ليقترح بدلًا من ذلك تصورًا أكثر دينامية وانفتاحًا للهوية؛ هوية تُكتب بالحركة، وتتجسد في التوتر، وتُصاغ بالمخيلة.