ترَك المفكّر الإفريقي الراحل “نغوغي واثيونغو” (1938- 2025م)؛ إرثًا فكريًّا كبيرًا اتسم بالعمق والأصالة والاستدامة الملحوظة. وكان من أبرز إسهاماته: مجموعة دراسات مُوجَزة ضمَّنها كتابه Decolonising the Mind :The Politics of Language in African Literature (لندن- 1981م).
ورغم العنوان الأدبي للكتاب، وتكثيف فصوله الأربعة الضوء على قضايا الأدب الإفريقي (تحديدًا: لغة الأدب الإفريقي؛ ولغة المسرح الإفريقي؛ ولغة القصّ الإفريقي؛ ثم الفصل الختامي عن مجمل هذه القضايا)، فإنه لمَس عصَب مسألة بالغة الأهمية في تفكيك استعمار العقل الإفريقي من زاوية اللغة والأدب مثالًا.
في نقد العقل الاستعماري، والتحرُّر من “القبيلة”، واللغة:
طرَح “واثيونغو”، في مقدمة غنية للكتاب([1])، ضرورة تجاوز دراسة الوقائع الإفريقية التي ظلت ترزح تحت سيطرة فكرة “القبائل”. دون أن ينكر أن ما يحدث في كينيا أو أوغندا أو مالاوي (على سبيل المثال)، أنه يقع بسبب أن “القبيلة “أ” تكون مناهضة للقبيلة “ب”. وأن ما يندلع في زائير، ونيجيريا وليبيريا وزامبيا يقع بسبب العداء التقليدي بين القبيلة “د” والقبيلة “ج”.
وعلى نفس النسق؛ حيث لا ينقسم الناس إلى “قبائل”، هناك المسلم ضد المسيحي، أو الكاثوليكي ضد البروتستانتي. كما يتم تقييم الأدب في بعض الأحيان بحسب الجذور “القَبَلِيَّة” للمؤلفين أو الجذور والتكوين “القَبَلي” لشخصيات رواية أو مسرحية ما. وقد راج هذا التفسير المُضلّل للحقائق الإفريقية بفضل الميديا الغربية التي تميل لصَرْف الناس عن رؤية أن الإمبريالية لا تزال هي السبب الجذري لكثير من المشكلات في إفريقيا.
وللأسف، فإن بعض النُّخَب الإفريقية وقعت ضحيةً لهذا المشروع، وباتت عاجزة عن رؤية الجذور الاستعمارية لمنطق “فَرِّق تَسُد” في تفسير أيّ اختلافات ذات طابع فكري أو أيّ صدامات سياسية على الأُسُس الإثنية للفاعلين فيها. وقامت مقاربة “واثيونغو”، التي وصَفها بالمختلفة، لرؤية الحقائق الإفريقية على أنها تأثرت بصراع كبير بين القوتين المتناقضتين في إفريقيا اليوم؛ وهما: إرث إمبريالي من جهة، وإرث مقاومة من الجهة الأخرى.
وفي تفسير أقرب لمدرسة التبعية المعروفة؛ رأى “موديمبي” أن الإمبريالية في إفريقيا اليوم تحظى برعاية البورجوازية الدولية باستخدام الشركات متعددة الجنسيات، وبالطبع “الطبقات الحاكمة المحلية” الموالية لها بترحيبٍ تام.
وقد انعكست التبعية الاقتصادية والسياسية لتلك البورجوازية النيوكولونيالية الإفريقية في ثقافة التقليد والتفاهة التي تم فَرْضها على الأهالي بأحذية الشرطة، وفرض الأسلاك الشائكة، ورجال دين وقضاء بأردية متكلفة؛ وتنتشر أفكارهم عبر طائفة من مثقفي الدولة، والمبشرين الأكاديميين والصحفيين بمؤسسة الاستعمار الجديد. أما المقاومة فإن مَن يقوم عليها هم العاملون (الفلاحون والعمال) بمعاونة طلاب ومثقفين (أكاديميين وغير أكاديميين)، وجنود وعناصر تقدمية أخرى من الطبقة المتوسطة الصغيرة.
وتتجلى تلك المقاومة في دفاع هذه الفئات عن جذور الثقافات الوطنية، ودفاعها عن النضال الديمقراطي لجميع مَن يقيمون في نفس الإقليم (بغضّ النظر عن الانتماءات الإثنية أو القَبَلية). وتُمثّل أيّ ضربة ضد الإمبريالية، بغضّ النظر عن الأصول الإثنية والإقليمية لتلك الضربة، نصرًا لجميع العناصر المناهضة للإمبريالية في جميع القوميات.
وانتقل “واثيونغو” في تحليله، -بطابعه الماركسي الواضح-، إلى رؤية أن ردّ الفعل الإمبريالي (في مرحلة ما بعد الاستقلال) لمواجهة تطلُّعات الشعوب المقهورة والمُستغَلَّة في التحرُّر يتمثل في سلاح “القنبلة الثقافية” Cultural Bomb، والذي ساواه باللغة التي يفرضها المستعمر، ورأى في ذلك أن “الهدف الحقيقي للاستعمار هو السيطرة على ثروات الشعوب.. لكن لا يمكن إطلاقًا فرض سيطرة اقتصادية وسياسية كاملة أو فعَّالة دون سيطرة ذهنية mental control. وتمثل السيطرة على ثقافة الناس سيطرة على أدواتهم في تعريف الذات مع الآخرين”([2]).
وهكذا فقد ارتبط التحرُّر من أَسْر “القبيلة” (حقيقةً ومجازًا) لدى “واثيونغو” بتبنّيه مجموعة من مبادئ القومية والتسامح الإثني والمقاومة (على النحو الذي أشار له في المقدّمة السابقة). ويمكن إرجاع هذا الاتساق إلى قناعات “واثيونغو” الشخصية بضرورة التعبير عن آرائه بأمانة وصدق كبيرين؛ كما يتضح ذلك –بشكل عملي-، فيما كتبه عقب تجربة اعتقاله في العام 1977م (على خلفية كتاباته الأدبية والفكرية الناقدة للأوضاع في بلاده وسيادة الخطاب القَبَلي بمستويات سياسية واجتماعية متعددة). فقد وثَّق “واثيونغو” نفسه هذا التحوُّل الجذري في حياته في مؤلف شهير يمزج بين السيرة الذاتية والسرد الروائي؛ وجاء بعنوان “معتقل: يوميات كاتب في السجن (1981م)”، استهله باقتباس شهير نقله ماركس في مقالٍ نُشِرَ في جريدة “نيويورك ديلي تريبون” (25 أغسطس 1852م) يشير فيه إلى دفاعه عن حريات جموع مواطنيه، وأن النتيجة كانت تحجيم حريته: “لأنني حاولت حمل معبد الحرية من أجلكم جميعًا، زُجَّ بي في غياهب السجن ظلمًا…”.
وفي ضوء ما سبق، يمكن قراءة عمل واثيونغو “تحرير العقل من الاستعمار: سياسة اللغة في الأدب الإفريقي” (الصادر 1981م) على أنه صياغة فكرية لمجمل توجهات واثيونغو في اللغة والاستعمار الجديد، والقبلية فيما بينهما.
مثقف في مواجهة السلطة: تقرير علي مزروعي
عقب اعتقال “نغوغي” على خلفية نشاطاته المسرحية بلغة الجيكويو (نهاية العام 1977م)، وما أثارته خطوة الاعتقال من احتجاجات كاسحة في الدوائر الفكرية النخبوية في الغرب (مع صمت مطبق في كينيا)، توجَّه البروفيسور علي مزروعي لزيارة واثيونغو عقب ما أعلنه عن بذل جهود كبيرة للإفراج عن الأخير؛ وقدَّم “مزروعي” ورقتين غير منشورتين حول تلك الجهود([3]). وحول انطباعات واثيونغو نفسه عن الأزمة ومآله في السجن/ الاعتقال. ومثَّلت الورقة الثانية جزءًا كان مرفقًا بخطاب مُطوَّل رفَعه مرزوعي للرئيس كينياتا في 16 يناير 1978م بشأن واثيونغو، وأرسل نسخة منه إلى هيلاري نجوينو H. Ng’weno محررة دورية “ويكلي ريفيو” Weekly Review التي لم تنشر الخطاب بحجة وجودها حينذاك في الولايات المتحدة.
تضمن “تقرير” مزروعي إشارات مهمة؛ منها أن دعم نغوغي المعروف وقتها للاتحاد السوفييتي، كما يتضح في كتابته الناقدة لتكوين الاقتصاد الكيني، “ربما قد لعب دورًا أكبر في (صدور قرار) اعتقاله على نحوٍ يفوق المتصوَّر بالفعل مِن قِبَل كثيرين”، ويضرب “مزروعي” مثالًا بأن عددًا من الزملاء في جامعة نيروبي ممن توجهوا للسفارة السوفييتية في نيروبي لأغراض تعليمية، مثل الحصول على نسخ زهيدة الثمن من أعمال ماركس ولينين، سرعان ما تم التحقيق معهم مِن قِبَل الفرع الخاص بقوة الأمن الكينية؛ مما حدا بعددٍ كبير من الأكاديميين في جامعة نيروبي بالامتناع عن التواصل مع السفارة السوفييتية، وكذلك مع عدد من سفارات الدول الاشتراكية، مما يعكس حجم الرقابة السلطوية التي طالت واثيونغو ورفاقه.
ما يهمنا في السياق الحالي أن “تقرير مزروعي” كشف عن حجم تمكُّن العقل الاستعماري من النخب الإفريقية الحاكمة، وهي هنا حالة كينيا- كينياتا، وكذلك حجم التخويف الذي تتم ممارسته ضدّ أيّ أفكار خارج “السياق العام” لهذه النخبة الحاكمة وأدواتها؛ فقد أحجَم كثيرون عن دعم “مزروعي” في مطالبته بالإفراج عن “واثيونغو”، كما أكد مزروعي نفسه أن جهده المبذول بصفته مواطنًا كينيًّا، وتربطه صلة أكاديمية خاصة بواثيونغو لا سيما منذ اقتراحهما في العام 1967م تأليف عمل عن السيرة الذاتية للزعيم جومو كينياتا، والذي رفضه بيت الدولة State House في كينيا في نهاية الأمر؛ باعتبار المقترح “غير ناضج”.
كما دفع مزروعي بحجة أن اعتقال واثيونغو يُؤثّر على “صورة كينيا كمجتمع متسامح”، وأضاف في مقابلة مع صحيفة كينية “أنه قد يكون لدى السلطات الكينية أسباب وجيهة للتحرك الذي قامت به (اعتقال واثيونغو)، لكن يجب أن يتم إعلان تلك الأسباب على الأقل في شكل خطوط عامة”.
وبشكل عام، فإن تمترس النخبة الحاكمة خلف تصورات “الاستعمار الجديد”، واستباق أيّ أفكار مخالفة بضربات منهجية من القمع، بحق واثيونغو كمثال هنا، بدا متسقًا مع مصالحها وعلاقاتها الخارجية مع القوى المُكرّسة للهيمنة واستمرار روابط الاستعمار بشكل مغاير (neo-colonialism)، يحتفظ بصورة ذهنية عن الاستقلال الوطني بغضّ النظر عن مدى شكليته أو حقيقته على حدّ سواء. كما تكشف قراءة تقرير مزروعي وسياقاته هشاشة المقاومة وقدراتها وجماعيتها في مواجهة قمع النخبة الحاكمة. وأنه لم يتبقَّ أمام واثيونغو سوى أن يكون “صوتًا صارخًا في البرية”، يدافع عن أفكاره وروءاه بشكل فردي تمامًا، وبحسب المساحات التي أُتيحت له لاحقًا حتى وفاته في العام 2025م.
على أيّ حال؛ جاء كتاب “تحرير العقل من الاستعمار”، على صفحاته الوجيزة التي لم تتجاوز 130 صفحة، ليُلخِّص تجربة “واثيونغو” على مدار عشرين عامًا سابقة في كتاباته للقصة والمسرح والنقد وتدريس الأدب في الجامعات؛ وما اعتبره في مقدّمة العمل سعيًا لدراسة الحقائق الإفريقية “بمنأى عن النظرة أو التصور القبلي”. وكما طابع الأعمال الأصيلة، يظل الكتاب فاعلًا في أيّ جدل دائر “حول مصير القارة الإفريقية نفسها”.
وعلى مدار الفصول الأربعة الرئيسة للكتاب قدّم واثيونغو رؤيته بتكثيف دالّ للغاية؛ فقد أكد بداية، في الفصل الأول حول “لغة الأدب الإفريقي”، على استحالة دراسة هذه المسألة على نحو دالّ “خارج سياق القوى الاجتماعية التي تصنعه”، أخذًا في الاعتبار أن الإمبريالية “في مرحلتيها الكولونيالية وما بعد الكولونيالية” ظلت تضغط بقوة على الإفريقي لينظر للعالم ومستقبله كما حدَّدته الأولى تمامًا، عبر السيد “المسلح بالكتاب المقدس والسيف”، في إشارة إلى سيرة واثيونغو نفسه ومشروع تحرير العقل الإفريقي من الاستعمار.
……………………………….
[1] Wa Thiong’o, Ngugi, Decolonising the Mind: The Politics of Language in African Literature, James Currey, London, 1981, pp. 1-3.
[2] Ngũgĩ wa Thiong’o : « The colonial language is a cultural bomb », Africa News Agency, June 3, 2025 https://africa-news-agency.com/ngugi-wa-thiongo-the-colonial-language-is-a-cultural-bomb/
[3] Sicherman, Carol, Ngugi wa Thiong’o: The Making of a Rebel: A source Book on Kenyan Literature and Resistance, Hanz Zell Publishers, London, pp. 33-7.