مريم عبد الحي علي فراج
باحثة دكتوراه بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة
تمهيد:
يشهد العالم في العام الحالي 2025م حالةً غير مسبوقة من التحديات المرتبطة بالأمن الغذائي والتغذية؛ حيث يتزايد عدد الأشخاص الذين يواجهون صعوبة في الحصول على غذاء كافٍ ومُغَذٍّ بشكل مستدام. فقد أدَّت الأزمات المتراكمة خلال السنوات الماضية –من الجائحة الصحية إلى الصراعات الدولية والتقلبات الاقتصادية والمناخية–، إلى تعميق الفجوات في إمكانية الوصول إلى الغذاء، خاصةً بين الفئات الأكثر ضعفًا.
وفي الوقت الذي تتوافر فيه التكنولوجيا والمعرفة والموارد القادرة على تحقيق الأمن الغذائي للجميع؛ لا تزال ملايين الأُسَر حول العالم تعيش تحت وطأة الجوع المزمن وسوء التغذية، وسط تفاوتات صارخة بين الدول والمناطق. ومع استمرار ارتفاع أسعار الأغذية الأساسية وتقلُّص القدرة الشرائية للأُسَر، باتت الأنظمة الغذائية العالمية أمام اختبار حقيقي يكشف هشاشتها، ويضع ضرورة التحوُّل نحو مسارات أكثر عدالة واستدامة على رأس الأولويات الدولية.
ويُسلِّط تقرير “حالة الأمن الغذائي والتغذية في العالم 2025م”([1])، الصادر عن منظمات الأمم المتحدة المعنية، الضوء على التحديات المتفاقمة التي تُواجه القارة الإفريقية، لا سيما دول إفريقيا جنوب الصحراء، في سعيها لتحقيق هدف القضاء على الجوع بحلول عام 2030م.
فرغم التحسُّن الطفيف على المستوى العالمي، تستمر المنطقة في تسجيل أعلى معدلات انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية؛ حيث تشير البيانات إلى أن نحو 58.9% من سكان القارة يعانون من انعدام أمن غذائي معتدل أو حادّ، في حين تجاوزت نسبة من يعانون من الجوع 20% من إجمالي السكان.
وتبرز إفريقيا جنوب الصحراء باعتبارها من أكثر المناطق تأثرًا بارتفاع أسعار الغذاء، وتدهور القدرة على تحمّل تكاليف نظام غذائي صحي، في ظل اتساع رقعة الفقر، وتزايد هشاشة الأنظمة الغذائية المحلية، وتداعيات الصدمات العالمية كالجائحة والحرب في أوكرانيا. ويؤكد التقرير أن التقدُّم في هذه المنطقة يتطلب استجابات سياساتية عاجلة، عادلة، ومستندة إلى البيانات، لتعزيز صمود المجتمعات، وضمان الأمن الغذائي والتغذية المستدامة للجميع.
وفي هذا السياق، فإن التقرير المعنون “حالة الأمن الغذائي والتغذية في العالم 2025م”، يهدف إلى تسليط الضوء على موقع إفريقيا جنوب الصحراء به، وذلك عبر المحاور الرئيسة التالية:
المحور الأول: الأمن الغذائي والتغذية حول العالم
يُقدِّم الفصل الثاني تحليلًا مُعمّقًا لمؤشرات الأمن الغذائي التي تكشف أن إفريقيا جنوب الصحراء لا تزال المنطقة الأكثر تضررًا عالميًّا؛ حيث تجاوزت نسبة السكان الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي المعتدل أو الحاد 58% في عام 2024م، وهو ما يُمثِّل ضعف المعدل العالمي تقريبًا. وتوضح البيانات أن التقدّم المحقّق في مناطق مثل جنوب آسيا وأمريكا اللاتينية لا ينعكس في إفريقيا؛ إذ شهدت معظم بلدانها ارتفاعًا في معدلات الجوع منذ عام 2015م. ويربط التقرير هذا الاتجاه بالتعقيدات البنيوية في الاقتصادات الإفريقية، مثل ضعف الإنتاجية الزراعية وغياب البنى التحتية الكفيلة بضمان تدفق الأغذية بشكل مستقر وبتكلفة معقولة، ما يفاقم الهشاشة الاجتماعية، ويزيد الفجوة بين الريف والحضر.
يُركِّز التقرير على مسألة تكلفة النظام الغذائي الصحي التي ارتفعت بوتيرة أسرع في إفريقيا جنوب الصحراء مقارنةً بغيرها، لتصل إلى 4.41 دولار (تعادل القدرة الشرائية للفرد يوميًّا)، مع تسجيل أكثر من مليار شخص في القارة غير قادرين على تحمُّل هذه الكلفة. هذا الرقم يُمثّل زيادة كبيرة عن عام 2019م، ما يعكس عُمْق أزمة الوصول إلى الغذاء المغذي.
ويبيّن التقرير أن الفئات الأكثر تضررًا من هذه الأوضاع هم النساء والأطفال في البيئات الريفية؛ حيث يُجبر كثيرون على الاستغناء عن الوجبات المتنوعة لصالح أغذية منخفضة الجودة الغذائية. ومع الارتفاع المستمر في أسعار السلع الأساسية، تتراجع قدرة الأسر على شراء البروتينات والخضروات الضرورية للنمو السليم والصحة العامة.
تُظهر المعطيات في الفصل الثاني أن التفاوت في انعدام الأمن الغذائي بين النساء والرجال قد اتسع خلال السنوات الأخيرة في إفريقيا جنوب الصحراء، خصوصًا بعد جائحة كوفيد-19. فالنساء يتحملن العبء الأكبر بسبب أدوارهن التقليدية في توفير الغذاء ورعاية الأطفال، فضلًا عن محدودية فرص الدخل المستقر.
ويبرز التقرير كيف تزايدت الفجوة بين المناطق الريفية والحضرية أيضًا؛ إذ يعيش نحو 32% من سكان الريف في انعدام أمن غذائي شديد مقارنة بـ23.9% في المناطق الحضرية. هذه الفوارق العميقة تجعل استهداف السياسات الاجتماعية أكثر إلحاحًا لضمان وصول الدعم إلى الفئات الأكثر ضعفًا، والحد من دوامة الفقر وسوء التغذية.
يتناول التقرير التقدُّم المحدود في مؤشرات التغذية الأساسية، مثل التقزم والهزال لدى الأطفال دون سن الخامسة، ويؤكد أن إفريقيا جنوب الصحراء لا تزال تُسجّل معدلات مقلقة رغم بعض التحسن الطفيف. ففي حين انخفض معدل التقزم عالميًّا، لا تزال نسبته مرتفعة في هذه المنطقة، ما يُهدِّد فرص الأطفال في النمو السليم والنجاح التعليمي. كما تشير الفصول إلى أن تزايد أسعار الأغذية الغنية بالمغذيات وتراجُع دَخْل الأسر يفاقمان سوء التغذية المزمن ونقص العناصر الدقيقة الأساسية، مثل الحديد والزنك. ومع غياب التدخلات الشاملة، ستظل الأجيال القادمة عُرضة لمخاطر صحية وتنموية خطيرة مرتبطة بسوء التغذية.
يركّز التقرير على أهمية رَصْد قدرة السكان على تحمُّل تكاليف النظام الغذائي الصحي باعتبارها مؤشرًا حاسمًا للأمن الغذائي، ويُوضّح أن إفريقيا جنوب الصحراء سجَّلت أعلى نسبة للأشخاص غير القادرين على تحمُّل تلك التكاليف. وقد زاد عددهم بين عامي 2019 و2024م بشكل كبير، ما يعكس هشاشة اقتصادات المنطقة وتزايد الفجوة الاجتماعية بين الشرائح السكانية.
ويؤكد التقرير أن تحسين الوضع الغذائي يتطلب إصلاحات عميقة تشمل دعم صغار المزارعين، الاستثمار في سلاسل الإمداد المحلية، وتطوير برامج حماية اجتماعية مَرِنَة قادرة على التصدي لصدمات الأسعار. وبدون استجابات منسَّقة، سيبقى تحقيق هدف القضاء على الجوع هدفًا بعيد المنال في هذه المنطقة.
المحور الثاني: معالجة تضخم أسعار الغذاء لتحقيق القضاء على الجوع
يؤكد التقرير أن إفريقيا جنوب الصحراء تُعدّ من أكثر المناطق هشاشة في مواجهة تضخم أسعار الغذاء، إذ تعتمد اقتصاداتها بشكل كبير على استيراد السلع الأساسية، في حين أن مستويات الدخل فيها منخفضة وهياكل الحماية الاجتماعية محدودة.
هذا الوضع يجعل حتى الزيادات الطفيفة في أسعار الأغذية الأساسية قادرة على دفع ملايين الأُسَر إلى براثن الجوع الحادّ. ويوضح التقرير أن موجات التضخم المتتالية بين عامي 2021 و2023م قد تسبَّبت في تآكل القدرة الشرائية للفئات الأشد فقرًا؛ حيث إن نسبة كبيرة من دَخْل الأُسَر تُنفق على الغذاء فقط، مما يَحُدّ من قدرتهم على الحصول على نظام غذائي صحي. هذا الأمر لا يُعمِّق انعدام الأمن الغذائي فحسب، بل يفاقم سوء التغذية المزمن، خصوصًا بين النساء والأطفال.
تتناول المقدمة في التقرير العلاقة المعقّدة بين الأزمات العالمية والتضخم الغذائي، مُبرزةً كيف أن إفريقيا جنوب الصحراء واجهت صدمات متعددة متزامنة، من جائحة كوفيد-19 التي أربكت سلاسل التوريد إلى الحرب في أوكرانيا التي رفعت أسعار الحبوب والزيوت بشكل غير مسبوق.
هذه العوامل، إلى جانب أزمات المناخ والجفاف المزمن، خلقت بيئة تتداخل فيها عوامل الخطر لتقويض الأمن الغذائي لملايين البشر. وتشير التقديرات الواردة في التقرير إلى أن معدلات الجوع ارتفعت في معظم دول المنطقة، على خلاف بعض المناطق الأخرى التي بدأت تتعافى تدريجيًّا. وهذا يعكس ضعف قدرة الاقتصادات الإفريقية على امتصاص الصدمات وافتقارها إلى شبكات أمان اجتماعي شاملة.
يشير التقرير إلى أن تضخم أسعار الغذاء يمثّل خطرًا إستراتيجيًّا على مستقبل التنمية في إفريقيا جنوب الصحراء؛ لأنه يُهدّد استقرار المجتمعات المحلية، ويزيد من حدة الفقر والتفاوت الاجتماعي. فالأسر التي تعجز عن تأمين غذاء كافٍ تجد نفسها مضطرة لتقليص وجبات الطعام أو اللجوء إلى أغذية منخفضة القيمة الغذائية، مما يؤدي إلى تفاقم ظاهرة التقزم وسوء التغذية لدى الأطفال. وتوضح المقدمة أن استجابات السياسات في العديد من البلدان الإفريقية كانت محدودة في نطاقها ومواردها، ما جعل الإجراءات الطارئة مثل إعفاء الضرائب أو دعم الأسعار محدودة الأثر. ويؤكد التقرير أن التضخم ليس مشكلة ظرفية، بل أزمة هيكلية تتطلب حلولًا طويلة الأمد.
يبرز التقرير أن التضخم الغذائي في إفريقيا جنوب الصحراء يتقاطع مع قضايا أخرى مثل الصراعات المسلحة وعدم الاستقرار السياسي وتغيُّر المناخ، وهو ما يُعقّد قدرة الحكومات على التدخل الفعّال. ففي الدول الهشَّة والمتأثرة بالنزاعات، تتضاعف المخاطر مع تقييد حركة السلع وإضعاف القدرات اللوجستية لتوصيل المواد الغذائية. وتوضّح المقدمة أن هذه البيئة شديدة التعقيد تجعل من تحقيق الهدف الثاني للتنمية المستدامة المتمثل في القضاء على الجوع مهمة شاقة. كما يُشدّد التقرير على أن بناء أنظمة غذائية resilient قادرة على الصمود أمام الأزمات يتطلب استثمارات ضخمة وسياسات منسَّقة دوليًّا وإقليميًّا.
تشير المقدمة إلى أن إفريقيا جنوب الصحراء قد أصبحت مركزًا للقلق العالمي بشأن الأمن الغذائي؛ إذ أن ما يقارب 60% من الأشخاص المتوقع استمرار معاناتهم من الجوع المزمن بحلول عام 2030م يعيشون في القارة. وتربط المقدمة بين التضخم الغذائي وتدهور مؤشرات التنمية البشرية، مبرزةً أن الارتفاع المتواصل في الأسعار قلَّل من جدوى الجهود المبذولة على مدار سنوات لتوسيع فرص الحصول على غذاء مُغذٍّ وآمِن.
وفي ظل هذه التحديات، يدعو التقرير إلى شراكات قوية بين الحكومات والجهات المانحة والمنظمات الدولية، لضمان وصول المساعدات إلى مَن هم في أمسّ الحاجة إليها وتطوير برامج حماية اجتماعية تستجيب للتقلبات في أسعار الغذاء على نحو سريع وفعّال.
المحور الثالث: فهم موجة تضخم أسعار الغذاء بين 2021 و2023م: الأسباب والآثار على الأمن الغذائي والتغذية
يكشف التقرير أن موجة التضخم الغذائي بين عامي 2021 و2023م كانت الأعنف منذ عقود؛ حيث تأثرت بها معظم مناطق العالم، ولكن إفريقيا جنوب الصحراء كانت من بين الأشد تضررًا. فقد أدى ارتفاع أسعار السلع الأساسية مثل الحبوب والزيوت إلى تقليص قدرة ملايين الأُسَر على الحصول على الحد الأدنى من احتياجاتها الغذائية اليومية. وتكمن خطورة هذه الموجة في تراكم الأزمات؛ إذ واجهت دول المنطقة تداعيات جائحة كوفيد-19، وصدمات مناخية متكررة، ثم الحرب في أوكرانيا، وكلها ساهمت في اضطراب سلاسل الإمداد ورفع تكلفة الغذاء بشكل جنوني. ومع اعتماد العديد من الدول الإفريقية على الاستيراد لتغطية احتياجاتها الغذائية، كانت النتيجة تفاقم معدلات الجوع والفقر الغذائي على نطاق واسع.
تشير البيانات التي يعرضها الفصل الثالث إلى أن أسعار الغذاء في إفريقيا جنوب الصحراء ارتفعت بوتيرة غير مسبوقة خلال الفترة بين 2021 و2023م؛ إذ سجَّلت بعض البلدان تضخمًا تجاوز 30% في أسعار الأغذية الأساسية. وقد كان لهذا الارتفاع أثر مباشر على الأنماط الاستهلاكية للأسر الفقيرة؛ حيث اضطرت إلى خفض الكميات المستهلكة أو الاستغناء عن عناصر غذائية غنية بالمغذيات مثل اللحوم والخضروات والفواكه. وتسبَّبت هذه التغيُّرات في تدهور مؤشرات التغذية، خاصةً بين الأطفال دون سن الخامسة والنساء الحوامل، مما أدَّى إلى زيادة معدلات التقزم وفقر الدم. كما أشار التقرير إلى أن هذه الأوضاع تُهدّد بتقويض سنوات من التقدم المحدود في مكافحة الجوع وسوء التغذية في المنطقة.
يبرز التقرير الدور الكبير الذي لعبه ضَعْف العملات المحلية أمام الدولار الأمريكي في تعميق آثار التضخم الغذائي في إفريقيا جنوب الصحراء؛ حيث ساهم انخفاض قيمة العملة في رفع أسعار السلع المستوردة، ما زاد من عبء التكاليف على الحكومات والمستهلكين على حدّ سواء. ورغم محاولات بعض الدول دعم أسعار بعض السلع، إلا أن الإمكانيات المالية المحدودة جعلت من هذه التدخلات مؤقتة وغير فعَّالة. كما أدَّت المخاوف من استمرار التضخم إلى موجات تخزين واحتكار غذائي مِن قِبَل بعض التجار، ما ساهم في تفاقم الأزمة.
ويؤكد التقرير أن هشاشة الأسواق الداخلية وانعدام الشفافية زادا من تعقيد الاستجابة للأزمة، خاصةً في الدول التي تفتقر إلى أنظمة رقابة فعّالة.
يركز التقرير على التباين الحادّ في تأثير التضخم الغذائي بين المجتمعات الحضرية والريفية في إفريقيا جنوب الصحراء. فبينما تأثرت المدن بارتفاع أسعار الأغذية المعلبة والمستوردة، عانت المناطق الريفية من تراجع الإنتاج المحلي بسبب ارتفاع أسعار المدخلات الزراعية مثل الأسمدة والبذور. ونتيجة لذلك، تقلصت قُدْرة الأُسَر الريفية على إنتاج ما يكفي من الغذاء للاستهلاك الذاتي أو للبيع، ما أدَّى إلى مضاعفة معاناتها من الجوع والفقر. كما أن ضعف البنية التحتية للنقل والتوزيع ساهم في تعميق الفوارق بين المناطق؛ إذ واجهت المجتمعات النائية صعوبات إضافية في الوصول إلى الأسواق والغذاء. ويخلص التقرير إلى أن التفاوتات الجغرافية ساهمت في جعل الأزمة أكثر تعقيدًا وتفاوتًا في آثارها.
ويشير التقرير إلى أن موجة التضخم الأخيرة أثارت تساؤلات جوهرية حول استدامة أنظمة الغذاء في إفريقيا جنوب الصحراء، ومدى قدرتها على التكيُّف مع الأزمات. فقد أظهرت الأزمة هشاشة الاعتماد المفرط على الواردات، وغياب سياسات غذائية مرنة تستجيب للصدمات في الوقت المناسب. ويؤكد التقرير أن الأزمة لا يجب أن تُقرَأ فقط كمشكلة ظرفية، بل كمؤشر واضح على اختلالات هيكلية تتطلب إصلاحات عميقة، تبدأ من دعم الإنتاج المحلي، وتعزيز سلاسل القيمة الزراعية، وصولًا إلى بناء شبكات أمان اجتماعي فعَّالة. كما يُشدّد التقرير على ضرورة تعزيز التنسيق الإقليمي بين الدول الإفريقية لبناء قدرات جماعية في مواجهة أزمات الغذاء المقبلة، خاصةً في ظل التغيرات المناخية والتقلبات الجيوسياسية العالمية.
المحور الرابع: كيفية استجابة البلدان للعاصفة المثالية: السياسات المالية والنقدية والتجارية وآثارها على الأمن الغذائي والتغذية
يشير التقرير إلى أن استجابات الدول الإفريقية للعاصفة المثالية المتمثلة في تضخُّم أسعار الغذاء كانت متفاوتة في الفاعلية والتأثير. ففي إفريقيا جنوب الصحراء، لجأت حكومات عدة إلى إعفاءات ضريبية مؤقتة وخفض الرسوم الجمركية على واردات الغذاء؛ بهدف تخفيف الأعباء عن المستهلكين، لكن هذه الإجراءات ظلت محدودة النطاق؛ نظرًا لضيق الحيز المالي وعجز الميزانيات. كما واجهت الحكومات تحديًا كبيرًا في ضمان وصول هذه الإعفاءات إلى الأُسَر الفقيرة فعلًا؛ إذ غالبًا ما استفاد منها الوسطاء والتجار أكثر من المستهلكين النهائيين.
ويوضح التقرير أن غياب أنظمة حماية اجتماعية قوية وتغطية شاملة للدعم النقدي حال دون بناء استجابات فعَّالة تكفل الأمن الغذائي على المديين القصير والطويل.
من جهة أخرى، يُبْرِز التقرير أن التداخل بين السياسات النقدية والمالية في إفريقيا جنوب الصحراء لم يكن دائمًا متناغمًا، ما ساهم في إضعاف الأثر الإيجابي للتدخلات الحكومية. ففي ظل ارتفاع أسعار الفائدة المحلية لمحاولة كبح التضخم العام، تراجع التمويل الميسر للقطاع الزراعي، وهو ما حدَّ من قدرة المنتجين على التوسع في الإنتاج لتعويض نقص المعروض. في المقابل، حاولت بعض الحكومات تفعيل برامج التحويلات النقدية، لكنها اصطدمت بمشاكل التمويل والتوزيع وضعف قواعد البيانات اللازمة لتحديد المستفيدين. هذا التناقض بين السياسات المالية التي تسعى لتخفيف الضغط على الأسر والسياسات النقدية التي رفعت تكاليف الاقتراض جعل الاستجابة شديدة التعقيد ومحدودة الأثر في معظم البلدان.
يؤكد التقرير أن التجارة كانت سلاحًا ذا حدين في استجابة إفريقيا جنوب الصحراء للأزمة؛ حيث أدَّت بعض القيود المؤقتة على الصادرات للحفاظ على إمدادات السوق المحلي إلى اضطراب سلاسل الإمداد وزيادة الأسعار في الدول المجاورة. كما أن عدم التنسيق الإقليمي في سياسات التجارة والغذاء أضعف قدرة المنطقة على مواجهة الأزمة بشكل جماعي. وبينما لجأت بعض الدول إلى توقيع اتفاقيات شراء مباشر للسلع الأساسية، بقيت هذه الحلول مكلفة ومعرَّضة للتقلُّبات السياسية والدبلوماسية. ويُشدّد التقرير على أن بناء أسواق إقليمية منسَّقة وشفَّافة سيكون ضروريًّا لتقليل الاعتماد المفرط على الاستيراد وتحسين القدرة على التفاوض في أوقات الأزمات.
يلفت التقرير إلى أن السياسات الاجتماعية لحماية الفئات الضعيفة خلال الأزمة في إفريقيا جنوب الصحراء واجهت عوائق هيكلية كبيرة، منها: ضعف شبكات الأمان الاجتماعي ونقص التمويل المستدام. ففي دول مثل النيجر وجنوب السودان، اقتصر الدعم على برامج مساعدات غذائية طارئة لم تتمكن من مواكبة ارتفاع الأسعار لفترات طويلة. كما أدَّى تضخم الأسعار إلى تآكل قيمة التحويلات النقدية بسرعة، ما جعل كثيرًا من الأُسَر بحاجة إلى دعم إضافي متواصل.
ويُوصي التقرير بضرورة ربط الحماية الاجتماعية بأنظمة إنذار مبكّر، ورصد الأسعار لضمان سرعة التدخل، مع تصميم برامج مرنة قابلة للتعديل مع تقلُّب الأسعار والأزمات الاقتصادية.
من ناحية أخرى، يُوضّح التقرير أن تعزيز القدرة على الصمود في وجه الصدمات يتطلب استثمارات طويلة الأجل في البنية التحتية الزراعية والأسواق المحلية، وهي نقطة ضعف مزمنة في إفريقيا جنوب الصحراء. فغياب التخزين الكافي والتكنولوجيا الحديثة لخفض الفاقد الغذائي يزيد من حساسية أسعار السوق لأيّ اضطراب. كما يُشدّد التقرير على أن المعلومات السوقية الشفافة أمر حيوي لتجنُّب المضاربة والاحتكار خلال الأزمات. ومع أن بعض الدول بدأت في بناء أنظمة معلومات السوق، وتحديث قواعد البيانات؛ إلا أنه لا تزال هذه الجهود محدودة الانتشار والتأثير. لذلك يُوصي التقرير بالتركيز على إستراتيجيات شاملة تربط بين السياسات المالية والنقدية والتجارية لإرساء أسس الأمن الغذائي المستدام في المنطقة.
في الختام، يؤكد تقرير “حالة الأمن الغذائي والتغذية في العالم 2025م” أن العالم يُواجه مفترق طرق حاسم فيما يتعلق بمسألة القضاء على الجوع وسوء التغذية؛ إذ لم يَعُد كافيًا الحديث عن معدلات الفقر أو كلفة الغذاء فحسب، بل أصبح من الضروري معالجة الأسباب الجذرية للهشاشة الغذائية عالميًّا. فقد بيَّنت موجات التضخم بين 2021 و2023م أن الأنظمة الغذائية العالمية مترابطة لكنّها غير متوازنة؛ حيث تُظهر قدرة هشَّة على التكيُّف مع الأزمات المتعددة مثل الصراعات، الجوائح، وتقلبات الأسواق.
ويُبرز التقرير أن السياسات قصيرة الأمد لم تَعُد مُجْدِية ما لم تُدمَج ضمن مقاربات شاملة تقوم على العدالة، والاستدامة، وحقوق الإنسان. كما يُشدّد على أن الأمن الغذائي لم يَعُد مجرد قضية إنسانية، بل تحوَّل إلى أولوية إستراتيجية ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للدول. ولذلك، فإن إعادة بناء الأنظمة الغذائية يتطلب إرادة سياسية جادة، واستثمارًا في الزراعة المستدامة، وتوسيع شبكات الأمان الاجتماعي، بالإضافة إلى تعاون دولي فعَّال لمواجهة التحديات المقبلة.
بالنسبة لإفريقيا، وتحديدًا إفريقيا جنوب الصحراء، فإن التقرير يُطلق جرس إنذار واضح بشأن المستقبل الغذائي لمئات الملايين من السكان الذين يواجهون أزمات مُركَّبة تجعل الجوع أكثر من مجرد ظاهرة اقتصادية. إنها نتيجة تراكمات ممتدة من ضعف الإنتاج الزراعي، واعتماد مفرط على الاستيراد، وبنى تحتية هشَّة، وسياسات مالية غير مستدامة. ولعل أكثر ما يبعث على القلق هو أن التوقُّعات تُظهر أن المنطقة ستكون موطنًا لنحو 60% من الجوعى في العالم بحلول عام 2030م إذا استمرت الاتجاهات الحالية دون تدخُّل جذري.
ويُبرز التقرير حاجة ملحَّة لإحداث تحوُّل نوعي في النهج المتَّبع، يبدأ من الاستثمار في الزراعة المحلية، وتعزيز القدرة على الوصول إلى نُظم غذائية صحية ومغذية، ويَمُرّ عبر إصلاح السياسات التجارية والدعم المُوجّه للفئات الضعيفة، خاصةً النساء والمزارعين الصغار.
إن إفريقيا جنوب الصحراء لا تفتقر إلى الإمكانات، بل إلى الإرادة السياسية والتنسيق الإقليمي والدولي الذي يضع الأمن الغذائي في قلب خطط التنمية لا في هامشها.
………………………………………………
[1] The State of Food Security and Nutrition in the World, Food and Agriculture Organization of the United Nations. https://www.fao.org/publications/fao-flagship-publications/the-state-of-food-security-and-nutrition-in-the-world/en