مقدمة:
يُعدّ كتاب “أسطورة إفريقيا: الشيخ عثمان بن فودي”، من أفضل الكتب التي تناولت حركة الشيخ عثمان بن فودي الإصلاحية التي قامت على رُقْعة واسعة من مساحة غرب إفريقيا، واشتمل الكتاب على مقدّمة وأربعة فصول وخاتمة، وكلّ فصل بمثابة قطعة ذهبية منتظمة من حيث الموضوع والأفكار والعرض والتحليل لأهم الأحداث التي جعلت من الشيخ عثمان بن فودي أسطورة إفريقية بحقّ.
وقد تناول الفصل الثالث من الكتاب النظم السياسية والإدارية والأمنية لخلافة صكتو تناولًا مفصلًا بطريقة فريدة، ما جعله لفتة بارعة في ظل انعدام الأمن الذي تعاني منه أكثر الولايات الواقعة في شمال نيجيريا، والتي حظيت مِن قبل باحتضان نُظُم خلافة صكتو لمدة قرن من الزمن.
خلافة صكتو تأسيسًا وترسيخًا:
ساهمت عدة عوامل في قيام الدولة الصكتية خلال القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي)؛ حيث امتد نفوذها بين شمال دولتي نيجيريا وجنوب النيجير، وجزء من دولة الكاميرون، وعاشت تلك الدولة قرنًا واحدًا بين عامي 1219- 1321هـ الموافق 1804- 1903م، إلى أن استولى عليها الاستعمار الأوروبي.
وفي أثناء فترة قيامها، استطاعت الدولة الصكتية أن تُوحِّد حدود ثلاثين إمارةً متناحرة فيما بينها في بلاد الهوسا وما جاورها، وتُعيد مَجْد التعاليم الإسلامية، وتنشر روح العلم والمعرفة، وتَبُثّ روحًا جديدة في الحركات الإصلاحية التي قامت بعدها، وتُؤسِّس صرحًا حضاريًّا متفاعلًا مع معطيات ذلك الوقت، وتُرسِّخ نُظُمًا سياسية وإدارية وأمنية كفيلة بإعادة الاستقرار والهدوء في المنطقة.
يقول الهاجري مُعلِّقًا على عهد الشيخ عثمان بن فودي: “يعدّ عهد الشيخ عثمان من العهود الإفريقية النادرة في نشر هيبة الأمن، وتحقيق العدل، فهو العهد الذي مدحه المؤرخون، وأشادوا به، ووصفوه بالعهد الذي لا يُضاهيه عهد في الاستتباب الأمني وإقامة العدل في القارة الإفريقية” (الهاجري: ص13).
هيكلية النظم السياسية والإدارية في خلافة صكتو:
قام الهاجري بعرض هيكلية النظم السياسية التي تبنّتها دولة صكتو عرضًا هرميًّا فريدًا، وتنفذ إلى ترسيخ النظم الإدارية السلسلة الدقيقة، وتؤدي في نهاية المطاف إلى بَسْط الأمن، وتوفير الأمان داخل ثلاثين إمارةً برئاسة عاصمة خلافة صكتو.
كانت الشورى وفق التعليم الإسلامي هي المنطلق الرئيس الذي تأسَّست عليها النظم السياسية والإدارية في الدولة الصكتية منذ بداية حركة الشيخ عثمان بن فودي، كما أرسى دعائمها الشيخ بعد تولّيه الخلافة من خلال ممارساته الفعلية ومؤلفاته السياسية والإدارية معًا، حتى يتفادى نظام التوارث غير الكفؤ والذي يَضُرّ بنظام الخلافة فيما بعد، وتحقيقًا لهذه الرغبة المُلِحَّة، قام الشيخ عثمان بتكوين مجلس اختيار الخليفة من كبار قادة الدولة؛ حيث يشمل كلاً من الوزير، والقائد العام، وحاكم إمارة كبي، وممثلي الجماعات، وأمير الجيوش في مقاطعة كوني، وغيرهم (الهاجري: ص105).
ثم إن اختيار الخليفة يخضع لمواصفات ذات الصلة بالإيمان والصلاحة، وسعة العلم والاطلاع، والتمكن في معرفة الشؤون السياسية، وإدارة الرعية، وغيرها من المواصفات القيادية الناجحة (انظر بن فودي: ص 558-579).
يأتي منصب الوزارة بعد منصب الخلافة مباشرة، وتكوَّنت مهام الوزارة متمحورة حول تنفيذ القرارات الصادرة من مكتب الخليفة بعد التشاور الجماعي، وتتخذ الوزارة هنا نظام المجلس التنفيذي بكل قسماتها، بناءً على ما تَعرَّض له الهاجري، وعليه، تم تقسيم الوزارة إلى ثلاثة أقسام اعتمادًا على مهامها على النحو التالي:
1-وزارة التفويض: يُشترط فيمن يتولى هذا المنصب أن يكون مُلِمًّا بالعلوم العسكرية وشروط الإمامة العامة.
2-وزارة التنفيذ: يُشترط فيمن يتولى هذه الوزارة أن يكون مُلمًّا بالشؤون الداخلية للدولة؛ لأنها ذات الصلة بشؤون الشرطة والحسبة.
3-وزارة الاستشارة: يُشترط فيمَن يتولى هذا المنصب أن يكون مُلِمًّا بأمور العقل والفكر والدين والسياسة والإدارة وغيرها، ويكون المسؤول عن وزارة الاستشارة رئيسًا لمجلس الوزارة لإلمامه التام بشؤون الإدارة والمال وأحوال الإمارات، (انظر: الهاجري: ص 110-111).
وتندرج تحت مهام الوزارة: الكتابة والحجابة. وذكر الهاجري أن “ظهور وظيفة الكتابة، بصورة أوسع في غربي إفريقيا، كان في القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي)، في عصر الخلافة الصكتية، فقد عهد الشيخ عثمان لبعض الكُتّاب بكتابة الرسائل إلى بعض الملوك في فترة الجهاد، إلى الملوك والأمراء والقادة والعلماء مثل ملوك غوبر، وسلطان مراكش، والشيخ محمد الأمين الكانمي، وأمير أهير، بالإضافة إلى الرسائل الإدارية داخل رقعة الدولة” (انظر الهاجري: 112).
ويدخل في النظم السياسية والإدارية كذلك، إمارة الأقاليم الخاضعة لخلافة صكتو؛ حيث تم تقسيم ثلاثين إمارة إلى القسمين؛ قسم تابع للمنطقة الشرقية برئاسة إمارة غوندو، وقسم تابع للمنطقة الشرقية برئاسة عاصمة الخلافة. ويُشترط فيمن يتولَّى إمارة مِن تلك الإمارات، أن ينتسب لوزارة التفويض مُؤهَّلًا في العلم الشرعي القضائي ومعرفة طرق إدارة شوؤن الرعية وتدبير الجيوش وتقسيم الغنائم، وغيرها من المواصفات التي تجعله أهلًا لوظيفته، لهذا السبب كان الأمراء الذين يرأسون تلك الإمارات الثلاثين فطاحلَ من العلماء الأفذاذ حتى بعد استقلال نيجيريا من الاستعمار البريطاني.
خلاصة القول: إن الدولة الصكتية، قد أسَّست نظمًا سياسية وإدارية، تنطلق من أصغر وحدة مجتمعية متمثلة في الأحياء والقرى الصغيرة، ثم المقاطعات، ثم عواصم الإمارات، ثم عاصمة الخلافة الصكتية، بحيث يكون كل شيء تحت المراقبة التامة. وفي هذا السياق، يقول الهاجري معلقًا: “لقد غيَّر الشيخ عثمان أنماط الحياة السياسية السائدة في بلاد الهوسا، وأبرز مجتمعًا جديدًا تحكمه طبقة جديدة من رجال الدين والعلماء الذين لم يكونوا من أصول ملكية… ومِن ثَمَّ اختلف طابع الحياة السياسية عما كان عليه في السابق، فبدلًا من سيطرة الحكام المحليين على أمور البلاد وراثيًّا، ظهرت طبقة جديدة تُسَيِّر شؤون البلاد على وفق أنماط جديدة، تختلف عما كان سائدًا من نُظُم وتقاليد” (الهاجري: ص113).
انعكاسات النظم السياسية والإدارية على القطاع الأمني:
أفضت النظم السياسية والإدارية في خلافة صكتو إلى إيجاد نظم عسكرية قوية تمتد من عاصمة الخلافة إلى الإمارات الثلاثين عبر تنسيق مُوحَّد دقيق، رغم حرية هذه الإمارات في التصرف في شؤون إدارة مقاطعاتها الإدارية، وهذا النظام أسهم في الدفاع عن حدود الدولة، ومواجهة القلاقل الداخلية، وحسم الخلافات بين حدود الإمارات؛ حيث أصبح جيش الدولة الصكتية نموذجًا متطورًا للجيش المنظم الذي يشمل البنية القوية الهجومية المؤلفة من الفرسان والمشاة. (انظر الهاجري: ص125).
وبما أن النظام الأمني الداخلي بحاجة إلى الشرطة، فقد اهتم الشيخ عثمان بوظائف الشرطة؛ إذ جعلها من الوظائف الرئيسة في نظامه الإداري والأمني، ووفقًا لهذا، فقد تم تحديد وظيفة جهاز الشرطة في تمكين الحكام من أصحاب المظالم وأصحاب الدواوين، وفي حَبْس مَن أمر بحبسه، وإطلاق من أمر بإطلاقه، وغيرها من الوظائف الهامة التي تُوفّر الاستقرار الداخلي للمجتمعات (انظر: بلو ص: 38).
الخاتمة:
إن دقة هرمية النظم السياسية والإدارية في خلافة صكتو، قد أدَّت إلى إيجاد نُظُم أمنية داخليًّا وخارجيًّا في كل أنحاء الإمارات التابعة للدولة الصكتية؛ حيث ساد الاستقرار، واستتب الأمن، وانتشر الأمان، بفضل النظم السياسية التي أحسنت اختيار الكفاءات السياسية، وفق لوائح إدارية ثاقبة.
ومما يؤكد على متانة تلك النظم، أن المستعمر الأوروبي، لما استولى على المنطقة، استعان بها وبقادة الدولة الصكتية في إرساء الشؤون الأمنية والمحافظة على الاستقرار في شمال نيجيريا، وإلى اليوم ما يزال كثير من الباحثين يلفتون أنظار الحكومة النيجيرية إلى الاستعانة بها نتيجة انعدام الأمن وانفلاته في بعض مناطق شمال نيجيريا تماشيًا مع ما تعرَّض له الدكتور علي بن غانم في هذا الكتاب الفريد عن الشيخ عثمان بن فودي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر والمراجع:
- الدكتور علي بن غانم الهاجري، أسطورة إفريقيا وعالمها: الشيخ عثمان بن فودي، منشورات الضفاف، ط، 1، 1443- 2022م.
- أبو بكر إسماعيل بلا مرنا، تطييب الجنان بذكر حياة الشيخ عثمان، مطبعة عثمانية، صكتو، طا، 1، 1435-2013م.
- عبد الله بن فودي، الشيخ، تزيين الورقات بجمع بعض مالي من الأبيات، مطبعة كنو، عام 2007م.
- الشيخ محمد بلو، إنفاق الميسور في تاريخ بلاد التكرور، دار الأمة، ط/2، 2008م.
- الشيخ عثمان بن فودي، أصول العدل لولاة الأمور وأهل الفضل، تحقيق: ثاني يوسف يرتن، مخطوط مطبوع ضمن كتاب: مختارات من مؤلفات عثمان بن فودي، دار إقراء-غدايبو نيجيريا، مج 2، 2013م.